وثنية حديثة
ما يقال عن أبطال الحب النّسوي ، كذلك القول عمن يسمونهم أبطالاً قوميين أو وطنيين ، وطبعاً حجتنا هنا على المنحرفين ، الذين عرفوا الأديان السماوية عموماً ، والإسلام بشكـل خاص ، ورغم ذلك أصـروا علـى انحرافهم ، إذ يبلغ عندهم الحبُّ لعنصريتهـم التي ما أنـزل الله بها من سلطان ، ولأوطانهم المحـددة على الأرض ، أو على خـارطة من ورق ، أو حتى ولاؤهم لطاغوت من طواغيت الأرض ، درجةً عبادية ً ، يبذلون معها ـ سعداء ـ عقولَهم وأعمارَهم وأنفسَهم . وإن اعْتُرِضَ على كلمة ( سعداء) نقـول بلى ـ وإن كانت السعادة المنقطعة ـ وإلاّ كيف ولماذا يحملون أنفسهم مشقات هم بغنى عنها . والغاية عندهم غيـر بيِّنة . فلو قيـل إن الغايـة هـي انتصار للعنصرية أو القوم وإرضاء لهما . فكيف ترضى العنصرية ، وما معنـى أن يرضى القوم على حساب اعتصار هؤلاء واستنـزافهم وموتهم ، علماً أنه ليس بعد الموت ( حسب اعتقادهم ) ، إلاّ الفناء النهائي . أوليست وقفة تأمل في أنفسهم أجدر بهم وأولى ؟!… ثم إنَّ الجميـع منقلبـون إلى مـوت محتّم ، جيلاً بعد جيل ، فهل تكون التضحيات من أجـل فسحة حياة قصيرة على الأرض ؟ أم هو الموت غاية ونهاية ؟ ولو قلنا ليرضى تراب الوطـن ، فيا حفنة من تراب ، حدثيني كيف ترضين وكيف تغضبين ، سقـاك الغيث ، إلا إذا كنت {.. كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا .. } كما يقول سبحانه في كتابه الكريم (سورة البقرة ، الآية 264) .
يبقى أن نسأل ، هل من مدّعٍ مِنْ هؤلاء استمراريةَ حبّه وسعادته بعد الموت ؟ هم أنفسهم يقولون ، لا ! ومن شذّ نطالبه بالبينة . فإن زعمها من دين منـزل ، فجهله مركب، وإن ادعاها من دين أرضي ، فدعواه مردودة عليه ، لأن الأديان الأرضية من وضع البشر ، الإنسان ما ادعى الإلوهة مرة أو معرفة الغيب إلاّ عاقبه الله بنسبة خطورة ما يدّعي . إلاّ أن تكون معرفة الغيب بتعليم من الله عزّ شأنه ، لأوليائه وموحديه ، من الأنبياء والصدِّيقين والشهداء المجاهدين في سبيله وحده .
أما لكي نفهم كيف تكون سعادةُ المحب متصلة ً أبدية ً ؟ فهذا رهن بمعرفة المحبوب . فإن كان المحبوب مما يغيب أو يفنى ، أو يفارق ، أو تعتريه الحوادث فهذا فقر فيه وجرح في كماله ، وإن كان المحبوب هو الإله الذي لا إله سواه ، تُفهم العقول فيما تُفهم ، أنه الأول والآخر ، فإن أحبّه المحبون ، كان حبهم أبدياً ، وسعادتهم كذلك ، فلا فراق حتى بالموت ، ولا إنقطاع .
خسران الحب الأقدس .. أم على قلوب أقفالها ؟
في العام 1405 هـ 1985 م صدر كتاب ( العرفان الإسلامي بين نظريات البشر وبصائر الوحي ) لمؤلفه العلامة السيد محمد تقي المدرسي ، وفيه ينكر على ( العرفانيين ) (1) أن يكون الله سبحانه يتولاهـم بعنايتـه وحبـه ،
(1) العرفانيون هم مؤمنون تفضل الله عليهم بعلم من لدنه بعد أن جاهدوا أنفسهم لتخليصها من ألوان الشرك الظاهر والخفي ، فأكرمهم بمعرفته وبتوحيده بالقدر الذي يتحملونه . وقد يختص سبحانه من يشاء منهم بفضله وبرحمته ، ويطلعهم على بعض أسرار كتابيه العظيمين : القرآن والكون . وباختصار هم الذين { .. هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ .. } .
وأن يكشف لهم من الأسرار ، ما يأذن لهم سبحانه بإذاعته أو يأمـرهم بكتمانه . ولا يزول عجبنا من ذلك ، إلاّ وهو ينكـر أيضاً على المؤمنين ، حبهم لله تقدست أسماؤه . ولقد أنكر على رابعـة العدويـة ذلك حيث قال :
” … لكن رابعة تخطتهم بعيداً ( المروجين لفكرة الحب الإلهي ) في حديثها العاطفي عن “حب” المؤمن لله . وهي في ذلك قد اتجهت اتجاهاً مغايراً للعرف الديني الإسلامي ، الذي يذهب إلى أن الإنسان لا يقوى على الإقتراب من الله إلاّ بروح التعبد والورع والرهبة (كتاب العرفان الإسلامي صفحة ، 161 ) .
هذا ، علماً أن أيما قارىء للقرآن من أنصاف الأميين ، يحفظ أكثر من آية قرآنية ، تشير بوضوح ، إلى مصداقية حب المؤمنين لله تبارك وتعالى ، وحبه هو سبحانه لهم ، ناهيك عن الأحاديث والروايات وآثار العارفين ، الذين تفضل الله عليهم بحبه وبرحمته .
على أننا حرصاً منا على توقير العلماء واحترامهم كما أمر سبحانه ، نعتبر هاتين الغفلتين بالنسبة إليه ، كبوة ونبوة ، عملاً بالقول المأثور : لكل جواد كبوة ولكل سيف نبوة. وبعد قليل سنقدم أمثلة من القرآن .
ونحن ما كنا نبهنا على ذلك ، وسمينا الكتاب وصاحبه ، إلاّ لخطورة هذا الأمر ، من حيث وجوب الحرص الشديد ، على تدبر معاني القـرآن ، وإرشاداته . وهكذا فإن مما يؤسف له شديد الأسف أن أكثر الحوزويين ، لم تكن دراساتهم في ظل القرآن وفي ضوء القرآن ، بل هم ما عرفوا القرآن إلاّ من خلال الدروس (أنظر الميزان في تفسير القرآن ص 276 ج /5 ) ، من هنا كان أكثر المؤمنين المقلدين ، لهم شغف كبير بالتهام الكتب الدينية المرقعة ، دون روية ومناقشة ، ومن ثم الأخذ بما يجدون فيها ، ولو كان مزاجياً ، وهذا أمر من الدواهي الدهياء ، ويا حبذا لو كان شغفهم بكتاب الله ، وتدبر آياته كما قال سبحانه :
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }(سورة محمد ، الآية 24) وقوله : { يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا }(سورة الفرقان ، الآية 30) .