وجهان للحضارة : جميل وقبيح

 

        مما لا شك فيه  أن الحضارة ، بما تعنيه من تقدم وتطور مذهل في شتى مجالات العقل والكون ، قد جعلت الإنسان أغنى بالمعاني ، وأقدر على التحكم بمعطيات الوجود ، وبالتالي أرفع مستوى ثقافياً مما كان عليه الأسلاف من عوام البشر .

        نستثني من ذلك الملهمين ، كما نستثني إحتمال حضارة أو أكثر ، يقال أنها فاقت حضارتنا هذه . ولعلها هي التي أشار إليها الله عز وجل بقوله :

     { أتَبْنُونَ  بكُلِّ ريْع ٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ . وتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ . سورة الشعراء الآيات 128 ـ 129 } .

ودمرها لما أن انحرفت عن طاعته وتعاليمه .

        أما من الوجهة الإيجابية للحضارة ، فجميل جداً أن تضغط زراً لتضيء المنزل ، أو الشارع أو المدينة بنور مريح ، بدلاً من الشمعة  أو قنديل الزيت ، مع الفارق الكبير ، العملي والنوعي والإقتصادي .

        والأجمل منه ، أن  تطير إلى مكة ، أو تكرج على الدولاب  ، حاجاً ، فتصل إليها  في بضع ساعات أو بضعـة أيام . وكذلك إلى أي مكان على هذا الكوكب . وأن تسعد بصحبة عيالك أو إخوانك إن صحبتهم . أو تعود إليهم على جناح الشوق ، دون طول غربة  وطول فراق .

        ويتكامل الجمال  في عينيك ، ويصبح رافداً للسعادة في قلبك ، عندما تشكر الله .. وتقول عندما تقلع بك الطائرة ، أو تندفع بك السيارة :

{.. سُبْحَـاـنَ الَّذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنّا لَه مُقْرنينَ . وإنَّا إلَىا رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ . سورة الزخرف الآيات 13 ـ 14} .

        صدق الله العظيم  . كل ذلك بدلا من الوسائل البدائية ، وما كان فيها من كلفة البدن وكلفة الزمن ، وهدر ما بينهما من الطاقات .

        وجميل أن يكون لبيتك سقف ، تنزلق عليه مياه المطر ، بدلاً من أن تتسرب عبر السقف الترابي إلى الداخل ، فتختلط بدخان الموقد العتيق ، وتمتزج بالدموع .. التي توشك أن تكون بكاءً ، فتنغص بركة الشتاء وبركة الحياة . ولو كان لا يجرح في ذلك قول ميسون الكلبية زوجة معاوية :

  َلبَيْتٌ تَعْصِفُ الأرياح  فيه      أحـبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيف ِ

  ولبسُ عباءة ٍ  وتَقَرُّ  عَيْني      أحبُّ إليَّ من  لُبْس الشُّفُوفِ

  وشهم ٍمن بَني عَمِّي نحيفٍ    أحبُّ إليَّ من عِلْج ٍ مُخيـفِ

        إذ أنها لا تلام في ذلك ، وهذا الموقف شبيه ، ولو من طرف الزوج ، بموقف زوجة فرعون التي أخبر الله  سبحانه  أنها  قالت ـ  وقد شاهدت فساد القصر وكفر من في القصر :

{ .. رَبِّ ابْن ِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ .. سورة التحريم الآية 11} .

        وجميل في الحضارة أن تدير مفتاح الكهرباء أو الغاز  ، لتطبخ أو تهيء بالسرعة ، ما تشاء  من طعام وشراب  ، بدلاً من النفخ على الحطب ، الذي يذكرنا  بإزعاجه ، جانباً من معنى قول حاتم الطائي لعبده :

        أوْقِدْ فَإنَّ الليْلَ لَيْلٌ قَرُّ         والريحُ يا واقِدُ ريحٌ صَرُّ

                         إنْ جَلَبَتْ ضَيْفاً فأنتَ حُرُّ

        وجميل في الحضارة أن تنقل أصابعك على لوحة صغيرة لتحسب في عمليات رقمية معقدة ، فتحصل على نتائج ، نادراً ما تحتاج إلى مراجعة ، وذلك في ثوان كان يقتضي الحصول عليها في الماضي ساعات طوالاً ، مع إعنات للدماغ ، وإرهاق للجهاز العصبي ، وهدر لوقت يمكن أن تقدّم فيه للعقل وتوابعه ، وجبات علم  ودراية ، ومنقول ومعقول ، وما بينهما من فتح لمغاليق الأسرار .

        وكم تشعر بالحيوية والنشاط والسعادة وأنت تشكر الله .. متمتما أمام كل جهاز ، أو نتيجة كل عملية يسّرها سبحانه :

{ عَلَّمَ الإنسَـاـنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . سورة العلق الآيـة 5 . صدق الله العظيم } .

او :          { .. الْحَمْدُ للهِ الّذي هَدَاناَ لِهَـاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاَ أنْ هَدَاناَ اللهُ … . سورة الأعراف الآية 43 . صدق الله العظيم } .

وعندما تشعر بالفرحة بنعمة الله ، تتلو قوله تعالى :

{ قُلْ بفَضْل ِ اللهِ وَبرَحْمَتِهِ فَبذَالِكَ  فَلْيَفْرَحُواْ  هُوَ  خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ . سورة يونس الآية 58 } .

        ثم تبتسم إبتسامة المشفق الحزين ، على الذين حرموا أنفسهم نعمة الإيمان  .

{ .. الّذينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً .. سورة إبراهيم الآية  28 } .

        فحرموا السعادة الحقيقية ، ولذلك ادّعوا أنها من المستحيلات .

        وجميلة في الحضارة ، الثلاجة والغسالة الأوتوماتيكية ، وأنواع المنظفات .. والحمامات وتسريب الأوساخ في باطن الأرض ، ولا عين رأت ولا أنف شم .. من الفلوات والغيطان والحواكير . جميلة النظافة الأكثر والأروع ، في البيـت والشارع ، والمدن والأرياف ، نحصل عليها بدون كبير عناء .

        جميلة الحضارة ، وجميلة معها الإدارة المتقدمة بتقنيتها ، والقوانين الإيجابية ، وأنظمة السير ، وما أكثر وجوه الجمال في الحضارة ، ولو شئنا أن نعدّد لاقتضى الأمر منا مجلدات : في مجال ذات الإنسان ، وفي كوكبه السوّاح حول الشمس ، وفي الفضاء وفي الفلك .

        والأجمل من ذلك كله إرتقاء القمر ، والتنقل عليه بخفة توازي ثمن (8/1) وزن الإنسان على الأرض ، بما يشبه الطيران فوق تلاله وآكامه ، ثم التطلع منه ـ عبر العلم الذي أوصل إليه ـ نحو جيران أرضنا  : المريخ الأحمر بأقماره ، وزحل بهالاته الشاعرية ، والمشتري عملاق الكواكب . هذه وبقية مجموعتنا التي تقودها شمسنا كراع يقود قطيعه ، ولا أحد غير الله يعرف إلى أين ، والراسخون في العلم . والأجمـل أيضاً ، الحلم بإرتقائها ،  بعضاً أو جميعاً . وأخذ فكرة عن من حولها ، أو منها ، أو عبرها ، عن الجنة والنار .. أفي مجموعتنا الكوكبية هما ، أم في مجرتنا درب التبانة . أم  في مجرة أخرى معروفة ، أم في مجرة من اللواتي تراهُنَّ المراصد مرة واحدة ، ثم لا تعود تراهنّ أبدا ؟! النعيم والجحيم ، هل هما في كوننا المرئي ، أم في كوننا غير المرئي من دنيانا هذه ؟! .

        جميلة التلسكوبات ، وأجهزة الرادار ، والمراصد ، والجالسون أمام عدساتها  ولوحاتها الألكترونية : يراقبون .. يدرسون .. يسجلون .. ينبهرون وينبهر معهم العالم بما في هذا الكون من أسرار وجمال ، وحسن وروعة ، ومفتحـات ومغلقات .. تارة تشعرنا بالسعادة والشوق إلى ما وعد الله به الأبرار ، وتارة تشعرنا بالرهبة  والفزع ، وتغرقنا في التأمل عن النفخ بالصور ، والقيامة وأهوال القيامة والإنبعاث . من ذلك الذي هو في مفكرة العلماء اليوم : طواحين الشموس والكواكب ، وهي ما أسماه العلم بالثقوب السوداء ، ووصفها بأن بعضها تهوي فيه مجموعات كوكبية بشموسها ، فتطحنها طحناً ، وهو أمر إستنتاجي عندهم ، ولنا نحن أن نستنتج معهم ، أنها أمثلة يضربها الله لنا عن القيامة الكبيرة الكلية الشاملة ، التي عناها بقوله عز وجل :

{ وَيَوْمَ  يُنفَخُ فِي الصُّور فَفَزعَ مَن فِي السَّمَـاـواتِ وَمَن فِي الأرْض ِ إلاّ مَن شَـآءَ اللهُ وَكُلٌ أتَوْهُ داخرينَ . سورة النمل الآية 87 } .

        والعلماء يصورون هذه الثقوب على شكل أبواق ، الواحد منها يجذب المجموعة الكوكبيـة جذباً عنيفاً ، يبتلعها إبتلاعاً ، يسحقها سحقاً ، ثم تنبعث من جديد ، من طرفه الآخر ، من الثقب الأبيض  ، تنبعث وقد أعاد خلقها الذي يميت كل شيء ، ليبعثه حياً كما خلقه أول مرة ، قوله عز وجل :

{ إلَيْهِ مَرْجعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقَّاً إنَّهُ يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُُهُ لِيَجْزيَ الّذينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـاـلِحَـاـتِ بالْقِسْط ِ وَالَّذينَ كَفَرُواْ لَهُم شَرَابٌ مِّنْ حَميم ٍ وَعَذَابٌ أليمٌ بمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ . سورة يونس الآية 4 } .

        وإذا لم نفهم الثقوب السود فهماً قرآنياً ، كان في خروجنا من الثقوب  البيض إستحالات وإشكالات . ومن الإنذارات قولـه  عز شأنه  :

{ أفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءَانَ أمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا . إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أدْبَـاـرهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَـاـنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأمْلَى لَهُم . ذَلِكَ بأنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرهُواْ مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعَكُمْ فِي بَعْضِ الأمْر  .. سورة محمّد (ص) الآيات 24 ـ 26  } .

        جميلة الحضارة ومخيفة ، وجميل العلم ومخيف . يبقى أن الأجمل من هذا كله ، كما السعادة في كمالها واستمراريتها ، أو الأشد قبحاً وأشد إرهاباً ، هو عقل الإنسان ، فمن أين هذا العقل  وبالتالي هذا الإنسان ، وإلى أين ؟! .

        بليغ هذا السؤال ، والأبلغ منه الإجابة عليه . الإجابة التي تقول : { لا إلـه إلاّ الله } . الإجابة التي تضـع على الحقيقة ، العين والقلب وكل ذرة في الكيان . وقد وضعها ناس فسعدوا سعادة الأبد . وما زال ناس آخرون ، يمدون إصبعهم تارة في عتمة  ، وتارة  بين النور والعتمة ، وتارة في سراب ، وتارة تحت قنديل ديوجين ،  الذي كان يسير به في ضـوء النهار ، باحثاً عن الحقيقة . والحقيقة ما هي في عتمة ، ولا هي في الشك ، ولا هي في سراب ، ولا هي من ديوجين في مزحة أو خبال .

        هذه الحضارة الجميلة ، أرادها لنا الله تبارك وتعالى سعيدة مسعدة ، ولكن اشترط على الإنسان أن يعرف خالقه من آثار صنعه وكرمه وعظمته  ،  وأن  يحترم النعمة العظمى التي هي عقله ، فيغذيه بعلم وهداية وكتاب منير . اسمع قوله عز وجل :

{ ألَمْ تَرَواْ أنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَـاـواتِ وَمَا فِي الأرْض وَاسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـاـهرَةً وَبَاطِنَةً .. سورة لقمان الآية 20 } .

وقوله تبارك وتعالى  :

{ طه . مَآ أنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىا . سورة طه الآيات  1 ـ 2 } .

وقوله جل وعلا :

{ اقْرَأ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ . الّذي عَلَّمَ بالْقَلَم ِ . عَلَّمَ الإنسَـاـنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . سورة العلق الآيات 3 ـ 5 } .

وقوله عزّ شأنه :

{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَـاـواتِ وَمَا فِي الأرْض ِ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ فِي ذَالِك  لأَيَـاـتٍ لِقَوْم ٍ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الجاثية الآية 13 } .

وقوله وما أكرمه :

{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللهِ الَّتِى~ أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّّيبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ  .. سورة الأعراف الآية 32 } .

ثم تنهال التحذيرات من تشويه وجه الحضارة :

{ كُلُواْ مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاـكُمْ وَلاَ تَطْغَواْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبي فَقَدْ هَوَى . سورة طـه الآيـة 81 } .

ثم    :

{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيـزَانَ . ألاَّ تَطْغَواْ فِي الْمِيزَانِ . سورة الرحمن الآيات  7 ـ 8 } .

ثم      :

{ كَلاَّ إنَّ الإنسَـانَ لَيَطْغَىا . سورة العلق الآية 6}.

ثم قوله جلت عظمته  :

{ قَدْ مَكَرَ الَّذينَ مِن قَبْلِهمْ فَأتَىَ اللهُ بُنْيَـاـنَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدَ فَخَرَّ عَلَيْهمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهمْ وَأتَـاـهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ. سورة النحل الآية 26 } .