وحقق الله وعيده ، فأسقط أحد الطاغوتين العالميين :

الإتحاد السوفياتي

 

        كان في العالم بالأمس القريب ، نـمطان من  المجتمعات الوضعية، وكل ما دونهما من الأنظمة في العالم ، غدا إما متفرعاً عن أحدهما تابعاً له ، أو متشبِّهاً به .

 

وهذان القطبان ، هما المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي.

         أما الأول فيقول منظروه ، إن الغاية القصوى فيه ، سعادة الفرد ، وتبعاً لذلك فقد أطلق الحرية للأفراد بشكل مخيف ، وفي مسلكية عجيبة ، القوة الوحيدة الفاعلة فيها ، هي قوة رأس المال  .

         ولن نتعرض بالنقد الآن لهذا المجتمع ، من حيث تميزه بالطبيعة الإستعمارية  ، على النيوترون والهيدروجين ، وتمزق الأسرة  والتمييز العنصري .. من حيث أن الحاكم  لا يصل فيه إلى الحكم إلاَّ عبر إنفاق المافيا وجسور الدولارات . هذا فضلاً عن تعامل هذا المجتمع ، مع بقية الشعوب المستضعفة ، إستعباداً أو قهراً ، وامتصاصاً للدماء .  لن نتعرض بالتفصيل لكل هذا ، إذ  إننا سنشير إلى كثير من خصائصه السلبية في فصول لاحقة إن شاء الله .

        وإنما ينبغي أن نتذكر ، أن هذا المجتمع يزعم أنه يدين بدين المسيح عليه السلام ، وفي الحقيقة أن المسيح ودين المسيح منه براء . ونبحث عن إلهه الحقيقي ، فلا نجد له معبوداً غير المال وحب السيطرة وشهوة التسلط . ونسأل عن آخرته ونبحث حتى عن دنياه ، عن سعادة أفراده المدعاة ، فلا  نجد غير اللهاث الدائب ، والزيف ، والمظاهر التي هي كالطبـول ، لهـا زينة وصدى يصم الآذان ، بينما هي جوفاء  :

       { .. لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء }(سورة إبراهيم ، الآية 43) .

       أما المجتمع الآخر ، أي الشيوعي أو الإشتراكي ، فكان قد عكس النظرية واعتبر المجتمع هو الغاية ، والفرد فيه ما هو إلاّ قطرة في محيط الشعب ، أنـّى سار به الموج يسير ، أو هو سِنٌّ في هذا الدولاب الضخم ، وكيفما دار الدولاب يدور السن فيه ، دون أيـّما اختيار .

        وهذا المجتمع بالنسبة للدين ولرب العالمين ، كان أكثر صراحة من ذاك ، فقد حسم الموضوع كله أصلاً  ، فأنكر وجود َ الله عز وجل ، وبالتالي  ما يَتْبَعُ الإيمان  بوجوده من بعثٍ ونشورٍ ، وثوابٍ وعقاب ٍ  ، وأطلق شعاره المشهور  : الدين أفيون الشعوب .

        وأيضاً لن نتعرض لنقد هذا المجتمع من الداخل ، حتى أننا لن نناقش إلحادَهُ بمنطقنا الديني ، وإنما كونه أعلن غاياته الأساسية  في ” المنيفستو ” المشهور ، بما أسماه الثالوث ، وهو: ” تأمين المسكن والطعام والجنس لجميع أفراد المجتمع  ” فنكتفي على هذا الأساس أن نسأل ببساطة : ما الفرق إذن بين الإنسان والحيوان  ، فإن قال : إن الإنسان هو حيوان متطور ومتقدم ـ بحسب عقيدته ـ نقول ومع ذلك ـ ملزمين ” إيـّاه بما ألزم نفسه ـ ما الفرق بموجب هذا الثالوث بينه وبين أي حيوان غير متطور  ولا متقدم من الحيوانات التي نعرفها اليوم بشتى فصائلها ودرجاتها . فمن الواضح أن كل حيوان له مسكنه وطعامه وعلاقاته الجنسية بما يكفي حيوانيته .

         هنا يقولون ، الفارق هو العقل وكرامة العقل وعظمة العقل . فنقول هذا حق ولكن إذا كانت :

        الغاية تساوي بين الإنسان والحيوان في الحياة ( إذ كلاهما له الثالوث عينه ) .

       والنهاية تساوي بينهما بالموت  ( إذ كلاهما يتحلل ويغدو تراباً ولا شيء بعد ذلك ) .      

فأين يذهب الفارق ؟ أين تذهب ميزة الإنسان التي هي العقل وكرامة العقل ، وأين يذهب طموح الإنسان وتطلعاته ، وضحكه وبكاؤه ؟ … ثم إنه لو بنى المدائن زمرداً والمنازلَ يواقيتَ ، ومدّ جسوره إلى النجوم ، ثم مات وهو يلهث ، وأصبح تراباً ، وبقي تراباً ؟ .

        ونحن إذ نناقش هذه النظرية ولو بهذا المقدار ، فلأنه لم تزل هناك بعض البؤر الشيوعية في العالم ، بين أنظمة حاكمة تلفظ أنفاسها الأخيرة ، وبين أحزاب  مرتبكة مترددة بين الإستمرار على الباطل وبين الموقف الشجاع في الإعتراف بالخطأ ، ولزوم الإلتجاء لله والعمل بدينه الحنيف .

        هذا إضافة  ، إلى وجود الكثير من الإلحاديين في العالم  ، بين أحزاب وحركات منظمة وفلسفات ، كالوجوديين مثلاً ، وبين  أفراد  ، وجميعهم من الذين ضلوا  عن الحق الأعظم وبقية الحقائق ، وحرموا أنفسهم نعمة الإيمان وخسروا الخسران المبين  .

        ولولا بقاء هذه البؤر الشيوعية لكان أغنانا عن مناقشة نظرياتها الإلحادية ، سقوطها المدوّي في الاتحاد السوفياتي وبقية العالم ، هذا السقوط الذي كان زلزالاً عَتِيَّـاً مركزه الاتحاد السوفياتي ، وشعاعاته طالت جميع الدول والأنظمة التي كانت مرتبطة بشكل أو بآخر بهذا المركز ، فمنها دول زالت كليّاً ، ومنها أنظمة  أطيح بها بانفجارات غضب دموية ، لتقيم أنظمة جديدة مرتبكة على أشلاء آلاف القتلى وأشلاء الشيوعية  … ومنها أنظمة ما زالت تعاني من المفارقات المريرة في مواجهة الدول الرأسمالية ورعونتها وأباطيلها ، بعد أن خلت لها الأرض من أية قوة كبيرة تستطيع أن ترجعها إلى الله ، أو على الأقل إلى منطق العدل والعقل والشرف .

               هذا هو المنطق السائد اليوم ، على مستوى الأنظمة والشعـوب المقهورة ، التي لم تهتـدِ بعـدُ إلى الله ، ولا إلى توحيـده ، ولا إلـى دينـه الحنيف ، هذه الهداية التي هي وحدها تشكل المخـرج الكـريم من هـذا المأزق التاريخي والمصيري ، ومن جميع المآزق التي يتعرض لها البشر في حياتهم أفراداً ومجتمعات .