وسوسات النفس الأمّارة

وسوسات النفس الأمّارة :

        في خواطر كثرة من المؤمنين وعلى ألسنتهم  أسئلة كثيرة  يتطارحونها  هنا وهناك ، من مثل  : لماذا القرآن ؟ ألا يكفي ـ بدون القرآن ـ الإيمان بالله والعرفان بالله وتوحيد الله والخلوص من أنواع الشرك ما ظهر منها وما بطن ؟ وألا يكفي  مع ذلك ، الإنتصار على الشياطين ، وهذا ممكن  جدا مع ذكر الله بدون القرآن الكريم ، ومع اللجوء  الدائم إليه سبحانه في ليل  الإنسان ونهاره ، وحركاته  وسكناته .

        هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، لماذا لا يكون  القرآن كتاب تشريع وأحكام ، يعتمده  أهل الحكم  وأهل الحل والربط ،  وأهل الإختصاص ، فيوفر على الناس  ، قراءاته  وتلاوته  والتعبد بذلك كله ؟

        هذا ، إلى أسئلة  كثيرة حول موضوع  القرآن وقضية الإلزام بذكر الله .

        والجواب على كل ذلك ، هو أنه بالرغم من كون القرآن المجيد ، هو دستور لكل فرد  على حدة ، وهو دستور لكل  أسرة على حدة ، وهو دستور لكل دولة مسلمة لله بالحقيقة ، ومن ثم يفترض أن يكون  دستور العالم  برمته .  فهو فضلاً عن ذلك كله  كنز أسرار  يتفتّق عنها حسب الحاجة لدى الفرد  أو المجموع ، وهو  خزانة تعليم ، تسبر أغوار النفس البشرية مفردة ، والنفوس مجتمعة ، وتكشف مكامن  غيب أو شهادة ، في حاضر الإنسان الفرد ومستقبله ، كما وحاضر الجماعة ومستقبلها  ، كما وحاضر العالم ومستقبله  ، في الصراع الدائم الدائر  بين الفريقين العالميين : أهل الإيمان وأهل الكفران .

        قلنا في بعض حديثنا آنفاً ، أن هناك أمر جد حساس ، وجد خطير ، هو الشيطان الذاتي ، أو الطاغوت الذاتي ، وهو تسمية حقيقية قرآنية ،  للنفس الأمارة كما أسلفنا .

        والنفس الأمارة بالسوء عند الفرد ، تصبح إذا تعددت ، نفوساً  أمارة عند  الجماعة ، فتصبح الجماعة  أو في الجماعة ، مجموعة شياطين . تبقى حيناً يطول أو يقصر ، حتى تنقذ بذكر الله عز وجل وبالركون إليه سبحانه ، فإذا لم تركن  إلى الله ، بقيت مجموعة شياطين ، وقد تحكم دولاً ، وقد تحكم أمماً ، وقد يطول بها الزمان ، حتى يقضيَ الله أمرا كان مفعولا .

        ووحده القرآن الكريم وتعاليمه وآياته ، يهدي الأنفس الأمارة أو الشياطين الذاتية ، إذ بدونه وبدون تعاليمه ، تبقى النفوس في حيرة  وارتباك وتردد ، بصدد ما يجب أن تفعل ، وهي دائماً أميل للجريمة والمعصية ، والإنفعال مع الشهوات ، شهوات القوة ،  والسلطة ، والسيطرة ، والظلم ، والجنس ، إلى آخر ما هنالك من إغراءات شيطانية وإنحرافات أخلاقية وإجتماعية .

        وعلى مدى ضبط القرآن الكريم ، وفوز المؤمنين بالإلتزام بتعاليمه ، نضرب مثلاً آية كريمة ، من مئات الآيات الموجهة والضابطة لسلوك الفرد وسلوك الجماعة ، قوله تعالى :

       { يَسئَلوُنَكَ عَنِ الشَّهْر ِ الحَرام ِ  قِتَال ٍ  فِيهِ  قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبيل ِ اللهِ  وَكُفْرٌ بهِ والمَسْجِدِ الحَرَام ِ  وَإخْرَاجُ  أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللهِ والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْل ِ ، وَلاَ  يَزَالُونَ  يُقَـاـتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينكُمْ إنِ اسْتَطَـَاـعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولـَائِكَ حَبطَتْ أعْمَـاـلُهُمْ فِي الدُنْيَا والآخِرَةِ وأولـَائِكَ أصْحَـاـبُ النَّار ِهُمْ فِيهَا خَـاـلِدُونَ . سورة البقرة الآية 217 } .

        وفي الآية كما هو واضح :

أولاً    :       جهل بحلية القتال في الشهر الحرام  ـ أي شهر  من الأربعة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مفرد ـ أو بحرمته . وذلك بعد أن حرّم  النسيء الذي هو إبدال شهر مكان شهر … فكان التعليم : أن القتال فيه كبير ، أي إثم كبير. طبعاً  وفي ذلك استثناءات  يعتني بها الفقه الإسلامي ، أبرزها أنه لا حرمة لمن لا يعتقد بهذه الحرمة ، فيقاتَلُ في كل مكان .

ثانياً   :       ما لم يكن يعلم  المسلمون ولا المشركون ، أن الصدّ عن سبيل الله ، أي دينه  ، والكفر به سبحانه أو بسبيله ، وكذلك الصد عن المسجد الحرام وعـن الحج إليه ، وكذلك إخراج أهله منه ، وهم رسول الله (ص) وأصحابه والتابعون لهم  بمعروف إلى يوم يبعثون ، كل ذلك هو أكبر عند الله وأعظم إثماً من القتال والقتل في الشهر  الحرام .

ثالثاً    :       هذه القاعدة الرائعة  ، ذات الأبعاد العميقة ، والتي تدعو إلى التأمل  والإعجاب الشديد  الممزوج بالخشوع والخشية ، وهي  قوله عزت عظمته : { والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْل ِ } . أي أن  يُرَدَّ الإنسان فيرتد عن إيمانه بعد إذ آمن بالله ورسوله  وكتابه ، فذلك أشد من أن يقتل ، يعني أن يقتل هذا الإنسان  وهو على إيمانه فيخلّد في نعيم الله الأبدي ، أفضل له بما لا يقاس ، من أن يُفتَنَ ويردَّ أو يرتدَّ عن دينه  ، نتيجةً لأنواع الضغوط الخارجية والذاتية ، فيخلَّد في نار جهنم .

رابعاً   :       سبر أغوار نفوس المشركين والكفرة وأعداء الإسلام والمسلمين هؤلاء الأعداء لن ينفكوا عن قتال المسلمين حتى يردّوهم  عن دينهم ، وذلك ثابت  حتى يحكم  الإسلام  العالم  إن شاء الله العزيز الحكيم .

خامساً :       هذا الحكم الساري المفعول عند الله  سبحانه ، والذي لا يقبل  الإستئناف ولا الإعتراض ولا المناقشة ، وهو أن { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ  فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ … } دون توبة ولا رجوع عن ارتداده ، فذلك يحبط عمله ، أي تعتبر أعماله  صفراً ، عدماً ، ولو كانت جبالاً من النفع والخير  والصالحات . ثم يدخل النار  مع أصحاب النار ، ويكون فيها من المخلدين .

وهكذا .. { طَاعَةٌ وَقوْلٌ مَعْرُوفٌ فإذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ . سورة محمد الآية 21} .

        وهكذا .. لولا هذه الآية { يَسْئَلوُنَكَ عَنِ الْشَّهْرِ الْحَرَامِ  قِتَالٍ فيهِ … }  لاضطرب  المؤمنون وتنابزوا وفشلوا  فيما بينهم من جهة ، وفي مقابل أعدائهم  من جهة ثانية ، إضافة إلى ما يلحقهم من آثام فردية وآثام عامة ، قد تستدعي  ـ كما نعلم من القرآن الكريم إذا كثرت وكثر أصحابها  ـ غضب الله وسخطه ، يعني عقوباته النسبية ، التي أدناها قحط وغلاء ، وحروب أهلية وحروب عامة ، وخوف وفوضى وفلتان ، وضمن ذلك كله العقوبات الفردية في الأنفس والأبدان والمتعلقات من مال وأهل وولد وأحباب وخلان .