الرحمة هي الغاية من خلق الإنسان وهو اختار نهايته

الرحمة هي الغاية من خلق الانسان ..

وهو اختار نهايته

       

كما رأينا من بعض التأمل في فكر التوحيد ، أن الله عز وجل ، هو الغني بذاته عن جميع مخلوقاته . وأنه هو وحده الخير المحض ، الذي لا يصدر عنه إلاّ الخير والحق والجمال .

فلماذا إذاً خلق الله هذا الإنسان الشقي المتعب ، المعذب ، كما هو ظاهر حاله في تاريخه الطويل ؟

ثم يا نوح ويا إبراهيم ، ويا موسى ، ويا عيسى ، ويا محمد ، سلام الله  عليكم ،  وعلى من سبقكم وعلى من لحق بكم من أنصار الله وأحبائه وأوليائه ، هل كنتم أشقياء متعبين معذبين ؟

وهل الشقاء حالة عامة ، تلازم جميع الناس ، وفي جميع مراحل حياتهم ؟ يبدو أن الأمر ليس كذلك .

فهنالك الذين غنوا ورقصوا وضحكوا .. وما زالوا يغنون ويرقصون ويضحكون .. ولو كان ورد في كتاب الله قوله عز وجل :

{ ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ  ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ .. }(سورة غافر ، الآية ( 75)) .

    

إلاّ أنه سبحانه لم يترك أهل الدنيا يهنأون كما يشاؤون بدنياهم . فلذلك كثيراً ما عبر الإنسان وما زال ، عن ضيقه وحزنه ومراراته ، شعراً ونثراً وما بين الشعر والنثر في حياته العملية ، بين زفرة وحنين ، وتوجع وأنين ، وكذلك عبَّر عن فرحه ومرحه ، بالكلمات والأصوات والحركات …

        ولكن هناك حالة ثالثة ، بين هاتين الحالتين ، هي حال أهل الإعتدال ، الذين هم مصاديق قوله تبارك وتعالى : { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ .. }(سورة الحديد ، الآية  23) .

       إلا أن خلاصة القول التي تكاد تكون  على كل لسان ، كلمة أبي العلاء المعري في داليته : تعب كلها الحياة …

        وهل الله سبحانه أقر بعض هذه المعاني ؟ قوله تعالى :

       { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى . فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى  وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى .وَمَا  يُغْنِي عَنْهُ  مَالُهُ  إِذَا  تَرَدَّى  }(سورة الليل  ، الآيات ( 4 ـ 11 )) .

       وهي آيات واضحات المعاني ، إن سعي الإنسان مختلف بين السلب والإيجاب ، فأهل الشمائل الحسنة والصدق مع الله ، ميسورو الحال ، وأهل البخل والأنانية ، وعدم الثقة بالله ، وبوعد الله ، وصنيع الله ، يلزمون السبيل الذي اختاروه . وهل يؤدي إلاّ إلى الشقاء . وهل فيه ما يغني عن رحمة الله سبحانه ؟ .

وفهمنا لقوله عز وجل :  { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى .. } وما بعدها ، يحُلُّ لنا الغموضَ الذي في الآية الكريمة :

{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ  إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ }(سورة هود  ، الآيه  ( 118 )).

مختلفين في الدين ، مختلفين في السبل السلبية ، يتعرض لهم الله سبحانه برحمته ، يلاحقهم  بها من البداية إلى النهاية ، فيعرضون عنها مستكبرين  . إلاّ فريق أقام وجهه للدين حنيفاً ، فكان حقيقاً بهذه الرحمة ، يستقبلها بعقله ووجهه وقلبه وكل جوارحه .

فالغاية من خلق الله سبحانه وتعالى للناس ، هي الرحمة .

أما ما يقال أيضاً عن أن الغاية إنما هي العبادة ، استفادة من قوله عزّ وجل :

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }(سورة الذاريات  ،  الآية  56).

فبأيهما نأخذ ؟ بكون الغاية من خلق الله تعالى للناس ، هي الرحمة من قوله عز وجل :

{ … إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } .

أم بكون الغاية من خلقه تعالى للناس ، هي عبودية الناس له ؟

الواقع أن الغاية واحدة . كيف ؟

أساس العبادة الحقة ، التوحيد ، وهنا سر  الرحمة :

{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَّجُلا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }(سورة الزمر ،  الآية  29) .

والمثل تصوير لطيف وبليغ لحالة رجل يتعامل مع مجموعة شركاء كلهم له عليه سلطان ، فهو مضطر لخدمة الجميع ، وإرضاء الجميع وطاعة الجميع ، وهذا محتمل نسبياً لو كان لهم مزاج واحد وشخصية واحدة ، إلاّ أن الواقـع غير ذلك ، فما دامـوا شـركاء ، فهـم  على إختـلاف أمزجتهم  وتطلعاتهـم ، سينـزع كل واحد منهم منـزعاً يؤدي بالضرورة  إلى التشاكس  ، وبالضرورة سيكون هذا الرجل بينهم ممزق النفس متحيراً فاقداً  لحقيقة الحرية ، إذا أحبًّ واحداً  غضب الباقون ، وإن أطاع واحداً ، اتهمه آخر بمعصيته ، وهكذا  إلى حالات من التباين معهم لا تنتهي  . فهل يستوي وضع هذا الرجل ، مع أخ له لا يتعامل مع مجموعة شركاء ، وإنما يتعامل مع رجل واحد ، تعاملاً فيه السلام والثقة والطمأنينة ..  والأمن والأمان والمحبة ، والسعة مدى  الحياة..   كذلك عبادة الله الحبيب الواحد الأحد .

        فالإسلام لله  وحده ، والعمل بتعاليمه وقوانينه ، يوصل الإنسان بقدر ما يؤمن ويجاهد ثم يوقن ويجاهد ، ثم يتقي ويجاهد  ، ثم يحب ويجاهد ، ويجعل حبه خالصاً لله وحده له الحمد ، بقدر ما يحظى برضى الله  ورضوانه . فلا غفلة ولا ألغاز ولا أسرار ، فإن بقي منها أشياء  ، فإنها ستكشف له يوم  القيامة ، يوم يقال له :

       { لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ }(سورة قَ  ،  الآية  22).

       فإذا كانت العبوديـة للخلاق العظيم ، عملاً بتعاليمه وقوانينه وقرآنه المجيد ، واقتداء بمحمد صلى الله عليه وآله  الذي هو رحمة للبشرية ، إذا كان كل ذلك الذي يوصل إلى الفوز المبين ، ليس رحمة ، فما هي الرحمة إذن ؟ هل الذلة والتمزق بين تحكم المخلوقين وأمزجتهم ، أم هي الفوضى والفلتان ، والإندفاع بدون كوابح نحو الهاوية .

        { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ }(سورة الروم  ، الآية  12).