البدو الحفاة يكتسحون العالم

بسم الله الرحمن الرحيم

 

البدو الحفاة يكتسحون العالم

     ليس جديداً هذا الذي سأكتبه ، وإنما لشدة ما يؤرقني ، ولكثرة ما يفعل في أعماقي ، وربما حتى في عظامي ، أحسبه جديداً جداً في كل مرة أتذكره ، وما أكثر ما أتذكره .

        الكلام هو عن هذا النبي الأمّـي ، الذي جمع حوله أقل قوة ضاربة في التاريخ ، ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، أكثرهم حفاة ، وأكثرهم سلاحهم دون مستوى حروبهم ، وكلهم أو معظمهم فقراء جياع ، شبه عراة ، قادهم هذا الذي اسمه محمّد (ص)  فضرب بهم أول ما ضرب  ، وكأنما في مركز الكرة الأرضية ، فزلزل المركز ، وأخذت تتسع به وبهم ثم بالذين اتبعوه بإحسان ، دوائر الزلزال . حتى أخضع الأرض كلها لسلطان السماء .

        هذا المشهد الظاهري ، يفهمه كوصف وموصوفين كل الناس وإنما فهماً سطحياً .

        هذا المشهد ، في هذه الكلمات المطلة كأنما من رأس جبل لعله عرفات ، تختصر تاريخاً ضخماً  يقدر بأكثر من سبعة قرون من عمر الزمان .سبعة قرون خضراء حمراء … حمراء خضراء … دائبة ناشطة تطبعها البطولات والفروسية ، وشهامة الرجال ، وعنفوان المغاوير ، ورهج السيوف وتصهال الخيل . حتى لم يبق مكان في الأرض معروف آنذاك ، إلاَّ وكان له نصيب من وشم  السنابك وخفـق

الرايات وطيران الأسنة .

        هذا الكلام موقف ، هو موقف تاريخي بصري ، شهوده الكتب وأقلام الخلق.

أما المشهد الباطني الذي تغطيه هذه الكلمات ، فهو غير ذلك . المشهد الباطني ، هو أن هؤلاء القوم ، بقوتهم الصغيرة العالمية الضاربة ، اعتقدوا شيئاً ، اعتنقوا شيئاً ، وهذا الذي اعتقدوه واعتنقوه ، هو الذي فتح لهم أبواب السماوات وسلّطهم على الأرض ، وجعلهم بحق أساتذة أهلها . هذا الذي اعتقدوه وأعتنقوه ، إسمه الإسلام .

وهذا الكلام موقف، هو موقف واقعي قلبي، شهوده الجوارح وأقلام الحق.

فما هو هذا النبي (ص) ؟ وما هو هذا الإسلام ؟ وما هو هذا السلاح الذي هزوا به العالم حتى استيقظ من غفوته ، وقلبوا به وجه الأرض الجدب الكالح يومذاك ، وزرعوه بالسندس والبركات وشقائق النعمان .

أما عن محمّد * فلن أتكلم وأطيل ، فبحسب محمّد *  قول الله فيه من فوق سابع سماء :

{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ . مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ . وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ . وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } . [ ( 1 ـ 4 ) : القلم ] .

وعن الإسلام كذلك لن أتكلم وأطيل . فبحسب الإسلام كذلك قول الله فيه :

{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ } .[19 : آل عمران ] و{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } . [ 85 : آل عمران ] .

وقوله جلَّت عزّته :

{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } . [ 32 : التوبة ] .

وقوله عزّ شأنه :

{ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } . [ 33 : التوبة ] .

أما السلاح الذي جلوا به الظلام وأطلقوا به فجر الحق ، وحطموا به أنياب الوحوش والأفاعي ، وأسقطوا به عروش الظلم والبغي والطغيان ، وحرروا به إنسانية الإنسان من عبادة الحجر وعبادة البشر ، فهو مذهب الإسلام ، نهج محمّد (ص)  وأتباع  محمّد (ص) ، عنيت به التوحيد الحق ، الذي عرشه  القلب والعقل، والنفس والروح ، والسمع والبصر ، وتفان في حب الله وسبيل الله والشوق إلى الله .

ذلك سلاح  أنصار الله  الذي فتح الله لهم به الممالك ، وضمن لهم شرف الدارين ، الدنيا والآخرة .

فعن هذا السلاح المقدس ، بل السلاح الأقدس ، عن التوحيد ، مذهب محمّد (ص) ، وأتباع محمّد (ص) أتباع الله عزَّت عظمته ، عن هذا المذهب  ، مذهب الفتوحات الإسلامية ، والجهاد الإسلامي ، بإذن الله تعالى  سأكتب ( عبراً تراثية ) ، صوراً ووقائع  ومواقف ، من التي في سبيل الله وحده ، وهي التي أذن الله أن تقوم على أساسها  أمة عظيمة ، ودولة عظيمة ، صهرت الأجناس  وأزالت الفوارق وقضت على العصبيات المنكرة . ولم يسبقها من قبل ولم يلحقها من بعد ، أمة بنيت على أساس  دين التوحيد ، ولا دولة .

فاليهود ما فتحـوا فتحاً ، لا على اسم الله ولا في سبيل الله  ، ولا بنوا دولة ، سوى هذه التي هي على كفِّ عفريت ، لأنها لا على اسم الله ولا في سبيل الله . ما بنوا وما فتحوا وهم اليوم على كف عفريت ، لأنهم تحكمت بهم العنصرية والعرقية والإنغلاق .

والنصارى ، ما فتحوا باسم الله لا فتحاً ولا بنوا دولة ، بل تلقفتهم منذ البداية دولة وثنية ، ثم دول وثنية ، استظلوا بظلها واحتكموا لقوانينها ، وما زالوا لتاريخه يستظلون ويحتكمون إلى أنظمة وقوانين وضعية ، يعني غير إلـهية .

والملل السماوية البارزة في الأرض اليوم  هي هذه : اليهودية والمسيحية والإسلام . فالإسلام وحده شكل أمة كانت لله وحده ، وبنى دولة  عظيمة على تعاليم  الله وحده . فرفع الله إلى السماء راياتها ، وأعلى قبابها  ، ونصرها بنصره  وأعزّها بعزته ، وقهر أعداءه وأعداءها بسلطانه . وامتد  ذلك بضعة قرون ، حتى دبّ الفسوق في الملوك ، وغلبت على أمرها الرعية ، وإنما بقيت  خزاناً للجهاد العبقري  كشف عنه بعد هذا النوم الطويل ، العدوان الصليبي على بلدان المشرق وبلاد المسلمين . وقبله غزو الوثنيين من البرابرة والتتار ، ويسَّر الله عزَّ وجل ، تأكيداً لوعده بحفظ هذه الأمة ، وإظهار دينه على الدين كله ، قوله سبحانه :

{ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . [ 55 : النور ]  .

واستجابة لدعاء الداعين ، وابتهالات المبتهلين ، وإخلاص الموحدين ، يسَّر الله عزَّ وجل ، بين عربي وفارسي وكردي وتركي ، وغير ذلك من الأجناس والأعراق ، رجالاً أبطالاً مسلمين ، ذادوا عن شرف الإسلام ومقدسات الإسلام ، كذلك على اسم الله وحده ، وفي سبيل الله وحده .

إنما سقطت الدولة  ، وأصبحت دولاً تكاد تكون اليوم أصفاراً .

سقطت الدولة الإسلامية ، هذا صحيح ، لأنه واضح كعين الشمس ، ولكن لم تسقط الأمة . فالأمة الإسلامية ، ما زالت ذلك الخزان العظيم ، الكامن فيه الجهاد العبقري ، على اسم الله وفي سبيل الله .

الأمة الإسلامية ما زالت مشروع الدولة العالمية الموعودة ، التي سترسي أسس العدالة الإلـهية وتحفظ كرامة الإنسان . ولذلك حوربت من طواغيت الأرض ، وما زالت تحارب وستبقى تحارب ، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .

{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . [ 55 : الذاريات ] .

نذكر من له حول وطول ، بالعمل بحوله وطوله في حدوده القصوى . ومن ليس له حول وطول ، بالصبر الجميل ، والتبتل والدعاء ، دعاء المضطرين :

{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ }. [ 62 : النمل ] .

فعسى الله  العزيز الرحيم  أن يمنَّ على المسلمين بفتح هذا الخزان ، خزان  البطولات العبقرية ، التي سنرى إن شاء الله صوراً منها ومواقف ، على يد قائد موعود ، موحد غير مشرك ، يعضده قادة موحدون قرآنيون ، موحدون غير مشركين . فإن وعد الله حق  ، ولينصرن الله من ينصره فلا إلـه إلاَّ هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبَّار  المتكبر سبحان الله عمّأ يشركون .  

الله يريد الأرض مجتمعاً يعمل بتعاليمه

        قال عزَّت عظمته :

       {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}. [ 41 : يس ].

        كم عدد الذين حملتهم السفينة بعد الطوفان ؟

        إستناداً إلى قوله عزَّ وجل :

       { حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } . [40 : هود ] .

        هذا من جهة ، ومن جهة أخرى سعة السفينة عقلاً ، ولو كانت بحجم بلدة متوسطة ، فإنه لا يمكن أن يتجاوز عددهم بضع عشرات من الناس على أكثر تقدير .

        وهذا يعني  أن الله عزّ وجل ، أهلك  البشرية كلها بالطوفان آنذاك ، وأبقى على بضع عشرات من الناس استخلفهم في الأرض  ليقيموا عدالة الله ويحتكموا بشريعته .

         أهلك الله  جميع أهل الأرض آنذاك ، لأنهم لم يقبلوا ولم يتعاونوا مع الداعية إلى الله نوح عليه السلام على إقامة حكم الله في الأرض .

        إذن يريد الله إقامة مجتمع يعمل بتعاليمه سبحانه ، ويريده على مستوى العالم . وإلاَّ فهو الإجتثاث أو الإبادة ، والإبقاء ولو على بضـع عشرات من الناس ، نواة للمجتمع المراد : المجتمع المسلم لله ، المؤمن ، الموحد ، المحتكم إلى ما أنزل سبحانه :

       {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}.[44: المائدة]

        وهؤلاء الكافرون مهددون أبداً ، بالإهلاك ، أفراداً ، أو بالإبادة جماعات ،  

أو مجتمعات . يقول سبحانه وتعالى : {لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } . [ 22 : الإسراء ] .

        إن أيما قوة في الأرض أو في الكون بأسره يعتمدها الإنسان  من دون الله ، ويرتكز  عليها نفسياً ومادياً  ومعنوياً ، فقد ،  بذلك اتخذ إلـهاً .  فإن كان مؤمناً  بالله فقد أشرك و{ إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء } . [ 116 : النساء ] .  وإن كان كافراً  بالله ، فقد ألحد ، والكافر والمشرك عند الله سيان ، عدوَّان له سبحانه في الدنيا والآخرة .

        وقد  تكون القوة المعتمدة من دون الله سلطاناً  ، أو علماً ، أو تكنولوجياً، أو مالاً ، أو عسكراً ، أو أي شكل من أشكال النفوذ ومراكز القوى . فمن يعتمدها من دون الله ، فقد جعـل مع الله إلـهاً آخر . وإذا قد فعـل ، فسيقعد ( مذموماً مخذولاً ) .

        والذم : اللعن والتقبيح . والخذلان  : الإسقاط والإهلاك والذم والخذلان للمشرك ، سيكونان من الله عزَّت عظمته ، وإذا كانا كذلك فلن يشفع بالمشرك شافع ، ولو نبي ولو إمام ولو جيش لجب ، ولن يعصمه ملجأ في الأرض أو في السماء .

        هذا من معاني قوله تبارك وتعالى ، على أساس مخاطبة الإنسان الفرد :

{ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } .

        ولكن كلام الله عزَّ وجل ، أوسع وأشمل ، فكما أن التبادر في قراءة هذه  الآية أو سماعها هو كونها خطاباً للإنسان الفرد  ، كذلك ينبغي فهمها أنها خطاب للإنسان النوع ، وأنها كذلك للمجتمع  الصغير ، وأنها كذلك للمجتمع العالمي . ثم تنطبق نفس المعاني التي فيها على كل مخاطب ، قلَّ عدداً أو كثر ، وصولاً إلى الإطلاق ، ونقرأها الآن بعد هذه الدلالات  :

{ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَـهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً } .

        فنفهمها حكماً ، فهماً أوسع وأشمل ، وكذلك القرآن لأنه كلام الله الحق المبين .

        وإذا كانت هذه إرادة الله عزّ وجل : أن يقوم مجتمع عالمي يعمل بتعاليم الله

سبحانه ، فهل بالإمكان عقلاً ، إقامة هذا المجتمع بدون دولة ؟ دولة بالمعنى المعاصر، يعني : حاكم وسلطات عسكرية ومدنية ومؤسسات ؟

        والإجابة عن ذلك ، نجدها في دولة محمّد ( ص ) والراشدين من بعده ، حيث عاصمتها المدينة المنورة ، وأطرافها  أطراف الكوكب الأرضي المعروف آنذاك ، إن لم يكن بالفعل  ، فبالقوة  ، أعني قوة الفكرة ، وقوة الإعتقاد ، يعني قوة النصر الذي هو من عند الله وحده لا شريك له .

        وتنبيهاً  إلى أننا ما زلنا في معرض موضوعنا الأساسي  : ( عبر تراثية ) ،  نذكر من كلام الله عزَّ وجل ، في الذين  قادوها في سبيل الله وحده ، والذين خاضوها في سبيل الله وحده ، آية تعنيهم كما تعني شتى أصناف المؤمنين  والتوابين  والمجاهدين  أنفسهم  والمجاهدين عدوَّهم ، قوله عزَّ شأنه :

        { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } .[16: الأحقاف].

        وتمهيداً لهذه الدولة الموعودة في قوله عزَّ وجل :

       { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } . [ 55 : النور ] .

        وبشرى للمجاهدين التواقين للإنعتاق من سجن هذه الأرض الدنيا ، المشتاقين إلى ربهم والدار الآخرة ، دار البقاء والخلود في نعيم الله وجنانه ، ورضاه ورضوانه ، أكتب بإذنه تعالى وبعونه وتأييده ، هذه ( العبر التراثية ) ، راجياً أن ينتفع بها عباده ، وأن تكون لهم مواقف مثل مواقف أبطالها وجهاد مثل جهادهم . فقد مدح الله السابقين ، وليسير سيرهم اللاحقون  وهو بكل شيء عليم وهو اللطيف الخبير . راجياً بذلك وجهه الكريم  وحده ، ورضاه وحبه  ورضوانه ، لا أريد بذلك عرض الدنيا وإنما أريد الآخرة ، فأكتب تقرباً إليه وتحبباً ، فهو الحبيب الأعظم ، له روحي وقلبي ، وله كياني وحبي ، عليه توكلت ، بأمره ، وإليه أنيب ، وهو حسبي  وإليه المصير . قال سبحانه وتبارك وتعالى :

       { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا . مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } . [ ( 3 ـ 4 ) : الأحزاب ] .

        فسمعاً وطاعة يا أكرم  الأكرمين  ويا أرحم الراحمين ، بك حولي  وبك قوتي  وأنت المستعان ، وحدك لا شريك لك .

من الناصر والكافي  ؟القائد النَّبويُّ أم العسكريُّ أم الله ؟

    للإجابة المقنعة المشبعة ،اخترنا ثلاثة مواضيع  لثلاث آيات هنَّ منارات هداية  لمن يتدبرهن ، إذ يلخصن مضامين العقيدة في الكلمة الأزلية الأبدية التي هي : لا إلـه إلاَّ الله . حيث  يتبدى الكون وضمنه الإنسان ، محكوماً  بأسمائه الحسنى . ولك  أن تواليه فتكون في رعايته ورحمته وحبه ، أي مع الرحمن الرحيم . ولك أن تعاديه أو تعرض عنه سبحانه ، فتكون موكولاً  إلى من لا يغني عنك من الله شيئاً ، وفي غضب الله وسخطه ولعنه ، أما أسماؤه الحسنى فيكون لك منها ظلال المنتقم الجبار . أما المواضيع  أو النماذج الثلاثة ، فهي : وقعة الأحزاب ، ووقعة أحـد ،ووقعة حنين .

العبرة الأُولى ، الأحزاب :

        وقد وقعت بين أنصارٍ لله يقودهم نبيهم محمّد ( ص ) وبين أهل شرك يقودهم طواغيتهم ، وإبتداءً من هنا ، لن أتعرض لكثير من الأسماء  البارزة ، في تاريخ هذه الوقعة ، أو غيرها من الغزوات ، لأن الهدف هو التحوُّل  إلى ذكر الله ، بعد أن كاد ذكر غير الله يطغى على ذكره سبحانه ، ولعل ذكر غيره سبحانه طغى، وأصبح كثير من المسلمين ، على سنّة أسلافهم النصارى ، يؤلهون مع الله غيره وهم لا يشعرون . وإذا ووجهوا  بهذه الحقيقة ، لفُّوا وداروا ، وتذرَّعوا بالذرائع التي ما أنزل الله بها في قرآنه نصاً ولا سلطاناً ، وتدفَّقوا  يحتجون بروايات مزورة يحسبونها قرآناً مبيناً .

        أما الآية التي هي بمثابة عنوان لهذه الواقعة ، يستقطب جميع تفاصيلها ، ويغمرها غمراً  بالنور الناصر لأولياء الله من جهة ، والخاذل المخزي لأعداء الله وأعداء أنصار الله من جهة ثانية ، فهي قوله تبارك وتعالى :

       { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا } . [ 25 : الأحزاب ] .

        قوله تعالى : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ } : قبل أن نشرح المفردات والعبارات والمضمون العام ، ننبِّه إلى أنَّ الآية كمعظم آيات القرآن الكريم  ليست حكراً على الواقعة التي نزلت بها  ، أي وقعة الأحزاب ، كما سميت في القرآن المجيد ، وإنما هي ، تعليم وإعلام وإقرار حقيقة  ثابتة ودائمة ، وهي سنة من سنن الله تعالى ، إضافة إلى الإطلاق الذي في قوله  سبحانه { وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا }. وعلى هذا ، فإن قوله تعالى : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } والردُّ الصدُّ والردع والإرجاع بعض معانيها ، وكل هذه المعاني هنا في الآية ، والله سبحانه ، هو وحده الذي فعل ، ما ساعده مساعد ، ولا أغنى عنه أحد  ، وإذا كانت هناك أسباب إيجابية ، كضربة خارقة من النبي ( ص ) أو من غيره ، أو موقف بطولي تاريخي ، فرديٍ كأن يكون عجباً من الأعاجيب ، أو جماعيٍّ يبدو  فيه التعاون والفداء والأريحية ، والصدق والإيثار إلى آخر ما  هنالك من المناقـب ، فإنَّ ذلك جميعـه

بالنتيجة ، هو عطاءات من الله عزّ وجل ، الرقيب الحسيب ، والسميع المجيب . فتلك الإيجابيات الفذَّة ، والمواقف الخارقة ، ما هي إلاَّ أسباب ، والله سبحانه هو خالق الأسباب ومسبب الأسباب . فالفضل جميعه هو لله سبحانه . فإذا آتى منه أحداً ، فبنعمة وبرحمة وتفضل منه تبارك وتعالى {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } . [ 4 : الجمعة ] ، { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء  وَاللّهُ  وَاسِعٌ عَلِيمٌ . يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَـاء وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } .

[ 73 ـ 74 : آل عمران ] .

        وكذلك تفضيل الرسل بعضهم على بعض ، وتفضيل الناس بعضهم على بعض فمن نفس المصدر المقدس الذي هو فضل الله تبارك وتعالى عما يشركون . وبموجب أسباب ودوافع ، واختيارات وتصاميم ، تتجلى في شخصية الإنسان تجلياً إيجابياً أو سلبياً ، وبينهما درجات يكون على أساسها ، حب الله وتأييده أو بغضه وعداوته ، لفردٍ أو لمجموع من العالمين .

        وكما رأينا ، فقوله تعالى : { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فيه استبعاد واستعداء وبغض وهزيمة ، لهذا النوع من البشر ، هم الذين كفروا بالله وبدينه ، وبرسوله ( ص ) وبتعاليمه ، ودعوته إلى الحقيقة العليا ، وإلى الحق المبين ، إلى توحيد  رب العالمين ، إلى كلمة الإخلاص ، كلمة لا إلـه إلاَّ الله .  وكيف ردَّهم سبحانه ؟ ردَّهم { بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} ردَّهم بحنقهم المرير ، وحقدهم الدفين ، وغرورهم الجريح ، وكراماتهم  المطعونة  بالهزيمة والرجوع الذليل ، والعنفوان المحطم ، وجرجرة الخيبة ، وخسارة الهيبة والرجولة والأموال ، وكل هذه الأمور والمشاعر التي تحركها وتتفاعل معها ، إذا تجمعت على قلب غير مؤمن سحقته سحقاً ، حيث لا بديل  ولا استنارة بنور الله ولا أمن يدخله الله على قلبه ولا سكينة .

        { لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} لم ينالوا ما كانوا  أتوا من أجل حصاده : النصر المبين ، واستئصال أنصار الله الموحدين ، الذين أفسدوا عليهم  غوغائيتهم وشركهم بالله ، وجاهليتهم الجهلاء وعاداتهم البهيمية ، وقوانينهم الظالمة الجائرة . فأتوا لينتقموا ويرتاحوا أبد الدهر ، مع طمع  بالغنائم  من مال وسلاح وسبي  نساءٍ  واستعبـاد

عبيد بعد قتل  المسلمين وإبادتهم . بهذا التوجه أتوا . وهم سيظلون يأتون هكذا ، وبنفس هذه الأطماع والأفكار ، ما داموا هم كفرة ومشركين ، وما دام في الأرض أنصار لله حقيقيون ، ومؤمنون ومسلمون . وسيستمر الله سبحانه بردهم ما تشابهت الظروف ، وهي غالباً ما تتشابه ، إلاَّ إذا تراجع فكر التوحيد وتحول الولاء لله سبحانه إلى ولاء أو ولاءات لغير الله ، وتحوَّل الذكر ، ذكر الله ، إلى ذكر المخلوقين وأمجادهم وبطولاتهم ، تحت دعوى كاذبة يدَّعيها الغلاة عندما يواجَهون بحقيقة أنهم نسوا الله، ونسوا ذكره ، أو زايدوا عليه سبحانه بذكر غيره،

وبالحماس الطاغي لهذا الغير ، طغياناً طمس في أعينهم آيات القرآن ، حيث أسقطوها أو كادوا ، من كتاباتهم  وخطبهم وأحاديثهم ، واستبدلوا بها الروايات التي بدون تحقيق ولا تمحيص ، والتي غالباً ما يكون فيها الكذب على الله وعلى رسوله وعلى آل بيت رسوله سلام الله عليهم أجمعين .

       { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } . [ 25:الأحزاب].

        في اللغة : كفى فلاناً كفاية ، أي أغناه عن سواه ، فهو كافٍ وكَفيّ ، وقد تزاد الباء على كافٍ وعلى فاعل كفى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } . [ 36 : الزمر ]  و { وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً } . [ 79 و 166 : النساء ]  وكفى الله فلاناً شر فلان ، أي حفظـه من كيـده . { فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . [ 137 : البقرة ]  وكفى الله فلاناً ، أي أغناه عن غيره في جميع وجوه الحياة والحاجات . والله سبحانه هو الكافي ، والكافي من أسماء الله الحسنى .

        { وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } أغناهم عن القتال ، ولم يكلفهم مؤونته ومشقته ، ووفَّر لهم النصر على أعدائهم كاملاً ، بأن هزمهم هزيمة منكرة وردَّهم وحده سبحانه على أعقابهم مغتاظين يحملون الخيبة والحسرة والندامة .

        ولماذا كفى الله المؤمنين القتال ، والقاعدة التي تكاد  تكون عامة عنده سبحانه ، هي أن  يبلُوَ المؤمنين بالكافرين ، ليجاهد المؤمنون في سبيله عزَّ شأنه فيأجرهم ، وليلقي الحجة على الكافرين  فيهزمهم ويخزيهم ، وليكون من المؤمنين شهداء ، والشهادة منـزلة عند الله مرموقة ، وليكون من الكافرين قتلى ينالون جزاء عنادهم  وعداوتهم لله خزياً في الدنيا والآخرة . وهو قال سبحانه :

{ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ} . [ 4 : محمّد ] .

        وقال عزّ وجل : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }. [ 14 ـ 15 : التوبة ] .

        وما دام الأمـركذلك ، فنعـود إلى السـؤال الذي طرحناه ، لماذا إذَنْ  { كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } بأن هزم هو وحده سبحانه الأحزاب وردَّهم بغيظهم خائفين أذلاء ؟

        والجواب أن الله سبحانه ، إنما يريد من عباده ، توحيده ، والتصديق بوعده ووعيده ، وطاعته ، وتوطين النفس على الجهاد في سبيله ، وبذلهـا دون ذلك مختارةً ، حباً به سبحانه وشوقاً إليه ، ولتكون كلمته في الأرض هي العليا .

        فإذا وطَّن  الإنسان نفسه على كل ذلك ، وعزم على طاعة الله عزيمة صادقة ونجح في الإمتحانات والبلاءات التي سيفتنه الله بها ، ليجعل الله عليه عَلامَةً إذا صدق وعلامة إذا كذب ، أو أشرك ، أو خان ، أو شكّ أو تردد ، ليعرِّفه بإحدى هاتين العلامتين لملائكته ولبقية خلقه . وذلك قوله سبحانه { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } . [ 29 : الفتح ] . وقوله تبارك وتعالى : { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَـالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ . سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ } . [  15ـ 16  : القلم ] . أي يُعْلِمُه ، أي يجعله  مُعْلَماً ، والمُعْلَمُ ، الذي يُعرَف بعلامة ما ، والمقصود في الآية أنه يضع له علامة على وجهه من علمه المكنون سبحانه ، والخرطوم  الأنف ، والمقصود صفحة وجهه ، وكنَّى عن ذلك بالخرطوم ، تعبيراً بالجزء  عن الكل . وقد قال تبارك وتعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلِيُعْلِمَنَّ الْكَاذِبِين } . [ 2 ـ 3 : العنكبوت ] . وهذه هي القراءة الصحيحة لكلمة { ليُعْلِمَنَّ } بضم الياء ، من أعْلَمَ ، وليست { ليَعْلَمَنَّ } كما هو المشهور في القراءة ، والتي هي من عَلِمَ  . وذلك ، أن الله سبحانه ، ليس بحاجة إلى إجراء تجارب  لِيَعْلَمَ هو سبحانه ، فعلمه سابق (*)  على الوقائع والحوادث والنوايا ، وعلى ما كان وعلى ما سيكون . قال سبحانه وتعالى  : { وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } . [ 10 : يس ] . وقال تبارك وتعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُـون }. [ 49 : المائدة ] . ففي الآية الأولى  { سَوَاء عَلَيْهِمْ …} هو سبحانه ليس بحاجة إلى امتحانهم ليعلم أنه : { وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } فعلمه سابق عن حالهم ماضياً يترتب عليه مستقبل من حيث المبدأ ، لا من حيث الإستفادة  من الدرجات ، علواً أو تسافلاً . وفي الآية الثانية { فَإِن تَوَلَّوْاْ…} أي إن أعرضوا ، فيها إشارةً أولاً ، أنه سبحانه لم يمنعهم عن الإعراض ، ولو شـاء لفعل ، لأنهم لو كانوا من أهل  الزلفى لحال بينهم وبين هذا التولي أو الإعراض ، ولكن خلَّى بينهم وبين الإعراض لأنه يريد {أن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } ثم يقرر في آخر الآية ، ملمحاً إلى فسوقهم بقوله تبارك وتعالى : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُون } وهو تقرير لواقعٍ قائم لدى كثير من الناس ، يعلم الله فسوقهم ، أي خروجهم من الدين ، وهو تعالى ليس بحاجة كذلك لإجراء امتحانات جديدة لهم لكي يحيط بهذا الذي هم عليه . ونماذج هاتين الآيتين ، من البشر ، رغم علم الله بأن  إنذارهم  لن يغير من كفرهم ولا من فسوقهم ، فهم من مصاديق قوله سبحانه { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُون . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيُعْلِمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلِيُعْلِمَنَّ الْكَاذِبِين } . لأن هؤلاء وهؤلاء طالما تظاهروا بالإيمان ، وهم قد يزايدون على المؤمنين الحقيقين ، ابتغاء مكسب دنيوي ، وهم كاذبون .

وقد عقد الله لهم سورة كاملة  يذكر فيها أبرز صفاتهم  الظاهرة والمستبطنة ، وقد أسـماها سبحانـه باسمهم ، وهـي سـورة { المنافقون}

        وقبل أن نختم كلامنا عن علم الله السابق على ما كان وعلى ما سيكون ،  نذكر قوله تبارك وتعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ } .[ 13: الممتحنة].. فهؤلاء الذين هم في علم  الله  قد  يئسوا  من الآخرة يأساً فيه الإبلاس والقنوط من رحمة الله سبحانه ، كذلك هم عرضة لأن  يفتنهم الله  تعالى في جملة من يفتن ـــــــــــــــــــــــ

(*)راجع كتاب(العقل الإسلامي_الفصل الخامس).

من الناس ، لا ليعلم سوء نواياهم وبالتالي  قنوطهم وإبلاسهم من رحمته ، فهو سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، وإنما ليظهر حقيقتهم لملائكته ومن يشاء من خلقه ، مُعْلِماً إياهم بسمات تميزهم في الدارين ، وتيسر لملائكته المكرمين ولغيرهم ، كيفية معاملتهم في الدنيا والآخرة ، من حيث حفظهم  ودرجته وكيفيته ، وكذلك حفظ الآخرين منهم ومن شرورهم . فضلاً عن إلقاء الحجة عليهم ، بالصوت والصورة:

{ اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }.[ 14: الإسراء ] .

        أما الآن ، فقد بات واضحاً الجواب على السؤال : لماذا { كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ } بأن هزم الأحزاب وأرسل عليهم عواصف وأعاصير لم يقم لها من قوتهم  وهيبتهم شيء ، وجعلهم يولون الأدبار خائبين خاسئين .

        هو أولاً ، امتحن المسلمين سبحانه ، ، فقد جعل للبعض  { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } .[ 29 : الفتح ]  أي الطاعة بشكل عام ، ومنها السجود بالقلب، ثباتاً في الأهوال وأقلها السجود بالجبين . وجعل للبعض الآخر، مضمون  قوله تعالى { سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ }  وهو عزَّ شأنه ، فصَّل القول في ذلك  ، بآيات بينات ، جرت أحداثها ورموزها يوم الأحزاب ، ثم في غيره من الأيام واللقاءات الحربية . كما أنها تجري في أيامنا هذه ، ونحن محاصرون ، بأنواع الأعداء السياسيين والعسكريين ، كما أنها ستبقى في مواجهة كل مؤمن ، ما دام في الأرض أعداء لله العزيز الحكيم ولدينه الحنيف . ومن هذه الآيات التي وصف سبحانه فيها بعض أحوال المسلمين ، وهم محاصرون بالألوف المؤلفة من أهل الشرك الحاقدين وحلفائهم  من اليهود الذين خانوا عهد الله  سبحانه وعهد رسوله  (ص) ، قوله عزَّ وجل ، في سورة الأحزاب  ، وقد سميت باسم هذه الوقعة الحربية، لجليل ما فيها من علم النفس الذي لا يدركه إلاَّ الله ولا يكشفه إلاَّ هـو سبحانه وما فيها من عظائم الدروس وبليغ العبر :

        { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا . إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا . هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا . وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا . وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا . وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا . وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا . قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا . قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا.  أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا . يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا . لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً . وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا . مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا . لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا . وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا . وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا . وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } . [ 9 ـ 27 : الأحزاب ) .

        فإذن لأجل القلة المؤمنة التي عانت من أهوال الحصار ، ساهرة ، عاملة ، جائعة ، مواجهة الذبح وسبي النساء والذرية بين اللحظة واللحظة ، طيلة أكثر من عشرين  يوماً ، في مواجهة جيش لجب ، حرِّ الحركة  في طول الصحراء وعرضها كثير المدد ، كثير العدد ، على حقدٍ وأطماع ، وقلوب وحشية قاسية ، وضمائر سوداء متحجرة أشبه ما تكون بأصنامهم  المعبودة . لأجل ذلك كله ، ولأن المسلمين ، يستحيل عليهم ، موضوعياً ، أن يواجهوا مثل هذا العدد وهذه العدة ، لذلك نصرهم الله سبحانه على عدوه وعدوهم  من مشركي مكة وحلفائهم من اليهود والقبائل .

        وثانياً ، ينبغي أن يفهم العقلاء ، من هذه الآية الكريمة { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ …} أبعاداً أعمق في معاني التوحيد وحاكمية الله وقدرته وهيمنته على الكون ، ومن هذا الكون هذا الإنسان . فهل يفقه هذا الإنسان ، ويعي ، أنه لا إلـه إلاَّ الله ، وأنه سبحانه وحده ، نصر عبده ، وأعزَّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده ، ولروعة الضربة القاصمة ، التي قصم  بها ظهر الأحزاب ، وزلزل بها جمعهم ، وشتت بها شملهم ، بقيت صورتها وأبعادها وصداها في ذاكرة الرسول الكريم محمّد (ص) ، حتى أنه يوم الفتح ، فتح مكة ، وتحقيق أعظم أمنية عند رسول الله (ص) ، ورغم ما أعطاه الله في هذا اليوم  من أمجاد وذخائر تبقى على الدهر ، ورغم ما أدان له سبحانه من طواغيت ، ومكَّنه من رقاب كانت عصية ، وأذلَّ له جبين  الجاهلية ، وأوطأه حَمِيَّتَها وعصبيتها ، ومع ذلك كله لم تنسه كل هاتيك المشاهد التاريخية التي ما زالت نديَّة في صفحات التاريخ ، لم تنسه يوم الأحزاب ومعجزة النصر الإلـهي في يوم الأحزاب .

 

ولذلك عندما دخل مكة المكرمة يوم الفتح ، توجه إلى بيت الله العتيق ، وحوله كانت الأصنام  التي طغت القوم ما زالت قائمة ، فكان من على ظهر ناقة ، كلما مرَّ بصنم ، وكزه بقضيب كان معه ، فيقلبه أمام أعين من كانوا بالأمس القريب يركعون ويسجدون له ، ويسترزقونه ، ويستنصرونه ، وكان محمّد (ص) في طوافه ذاك يردِّد ما كان يطوف في ذاكرته من يوم الأحزاب ، والمسلمون يسيرون خلفه ألوفاً مؤلفة ، وهو يقول :الحمد لله وحده ، نصر عبده ، وأعزَّ جنده ، وهزم الأحزاب وحده فيردِّد وراءه المسلمون الموحدون الأبطال : وحده وحده وحده  .

        فلهذا كله ، ولغيره من آلاء الله وآياته ، في أنفسنا نحن البشر ، وفي هذا الكون الرائع الجميل اللامتناهي ، ينبغي أن نشكر الله وحده ، ونحمده وحده ، ونذكره وحده ، إلاَّ ما أذن هو بشكره ، وما أذن بغير شكر الوالدين ، وإلاَّ ما أذن هو بذكره ، وما أذن بغير ذكر الذين دعوا ويدعون  إليه ، مقرونين بعبوديتهم له ، وسجودهم لذكره . وقطعاً لكل قول ، وحسماً لكل جدال ، نلجأ إليه سبحانه ، إذ لا يجوز اللجوء إلاَّ إليه وحده جلَّت عظمته ، وقد أمِن من لجأ إليه وحده سبحانه ، ولم يأمن من يلجأ إلى غيره ، ولو كان هذا الغير ، الأنبياء أو قبور الأنبياء ، والأولياء أو قبور الأولياء . وهو سبحانه قال مخاطباً رسوله محمّداً (ص):

{ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } .[ 22 : الجن ] .

أي لن أجد من دون الله ملجأ ، وكذلك جميع من خلق الله  لن يجدوا ملجأ غير الله  تبارك وتعالى عما يشركون : { فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ . وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } . [  50 ـ 51  : الذاريـات ] . إذن نلجأ إلى الله تبارك وتعالى . وبصدد الذكر ومن ينبغي أن نذكر ، نستنير بكتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ونسترشد بآياته البينات . وفي مواجهة الشرك الخفيّ ، سنلاحظ في الآيات معاني التفريد والتوحيد، والتركيز على ذكر وحده عزَّ وجل ، بأسمائه الحسنى ، وأمثاله العليا ، في جميع سور القـرآن الكريم ، وفي مئات الآيات النيرات .

 

 وكأمثلة على ذلك نذكر منها بعضها ، قوله تبارك وتعالى وله الحمد وله الشكر :

        { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } . [ 8 : المزمل ] .

        وقوله سبحانه :

        { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } . [ 25 : الإنسان ] .

        وقوله عزَّ وجل :

        { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيراً } . [ 41 : الأحزاب ] .

        وقوله عزَّ شأنه :

        {… وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . [ 10 : الجمعة ] .

        وقوله جلّت عظمته :

        { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } . [ 2 : الأنفال ] .

        وقوله لا إلـه إلاَّ هو :

        { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } . [ 45 : الزمر ] .

        وهذه الآية مقياس لكفرة الناس وفسوقهم  من جهة ، ولمؤمنيهم من جهة ثانية . وطالما رأينا ، وما زلنا نرى آثار مضامينها على وجوه  بعض من يستمع إلينا ونحن نذكر الله ونتلو آياته ، وندعو إلى رحمته وتوحيده . حتى أن بعض النـزقين كان يعلق على ذلك ، ويدعو صراحة إلى عدم الكلام  عن الله ، والإكتفاء بالكلام عن الأئمة رضي الله عنهم وأرضاهم ، مُفَنِّداً أقواله بادعاءَات ، حتى الغلاة أقلعوا عنها ، في هذا العصر ، عصر العلم  والكشوف في الآفاق وفي الأنفس . هذا فريق من الناس الضيقي الصدور ، الذين ما استطاعوا  بعد ، أن يفهموا ، لا التجريد ولا التوحيد .

وفريق آخر أضيق صدراً بالكلام عن الله سبحانه ، لا حرصاً على تأليه الأنبياء والأئمة والأولياء ، وإنما حباً بالنماذج الثورية ولو كانت وثنية أو ملحدة أو عدوة لله ولدين الله . هؤلاء وهؤلاء ، تراهم بأم عينك ، إن كنت تنظر بنـور الله سبحانـه ، تراهم تماماً كما قال فيهم ربنا المجيد ، له العزَّة وله الحمد: { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . [ 72 : الحج ] .

ثم بخصوص ذكره سبحانه  ، قوله تبارك وتعالى :

{… وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ …} . [ 40 : الحج ] .

وفيها إشارة إلى أن بيوت العبادة ، إنما تبنى وتشيَّد ، ليذكر فيها اسم الله وحده ، ويدعى فيها وحده ، ويدعى إليه فيها وحده . فما بال أهل الكتاب :  التوراة والإنجيل حولوها إلى عبادة الأشخاص والتماثيل ، وكاد أهل  الكتاب ـ القرآن ، كذلك يفعلون ، ففي كثير من جوامعهم ونواديهم ، يشطح بالعبادة شطحات مفزعة ، إما لبعدها عن الله وذكر الله وحده من جهة ، وإما لإدخال بدعٍ منكرة تحت عنوان العبادة ، ما أنزل الله بها من سلطان ، يذكر فيها غير الله ، وكثيراً ما ترافقها حركات هستيرية ، ما عرفت في كتاب ولا حديث صحيح ، ولا سنة ، ولا يقبلها عقل ، ولا عليها إجماع  حتى العامة ، التي قد تجمع  أحياناً على ألوانٍ من الشرك وتحسبها من التوحيد . أما الخاصة من أولياء الله العلماء الورعين الأتقياء ، فهم يذمون  هذه البدع ، ويتهمون أصحابها بالغلوِّ المخرج عن صراط الله المستقيم . إنما مشكلتهم معها ، أنهم يتكتمون بذلك ، ولا يجاهرون به ، إما خشية من جاهلية العوام  وتزمتهم وضيق آفاقهم ، وإما عملاً ليس بأقوى الإيمان وإنما بأضعفه  ، وعلى كل حال هم أدرى بأنفسهم وعلاقاتهم  مع ربهم وربنا العزيز الحكيم ، والحليم الكريم .

 

ثم قوله تعالى : تعريضاً بمن ينكر الدعوة إلى الله وإلى توحيده وإلى ذكره سبحانه وإلى طاعته والإستجابة لتعاليمه وآياته :

{ قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ }.[ 19 : يس ].  

وقوله عزَّ وجل :

{… مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيـعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ }.[4:السجدة].

وقوله تبارك وتعالى :

{…لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكرَ اللهَ كَثِيراً }.[21:الأحزاب].  

وقوله عزَّ شأنه :

{ …  وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِـمْ نُفُورًا } . [ 46: الإسراء ] .

وبخصوص هذه الآية الكريمة ، عجيب أمر الكفار  والمشركين ، حتى في القرآن ، وهو كتاب الله ، والكون كله كتاب الله ، وهم في هذا الكتاب  يتحركون ، وعلى أرضه وفي بحاره يرتزقون ، وبسمائه يستظلون ، وفي نعمه التي أسبغها عليهم ظاهراً وباطناً يرتعون ، ومع كل ذلك ، { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } . والأعجب من هذا كله أن بعض  الناس يعتمدون  على أنه سبحانه رحمان رحيم ، ولا يحذرون ولا يتقون غضبه ونقمته وصدق وعده ووعيده : { كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّ . وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا . وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى . يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي . فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَـهُ أَحَدٌ . وَلَا يُوثِـقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } . [ 21 ـ 26  : الفجر ] .

وقوله له الحمد وله الشكر :

{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً… } . [ 227 : الشعراء ] .

 

{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } . [ 152 : البقرة ].

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ …} .[ 191 : آل عمران ] .

{… يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً } . [ 142 : النساء ] .

وفي هذه إشارة  إلى أنه حتى إذا ذكره الذاكر ، وإنما كان ذكره  له سبحانه فقط عند مصالحه وطلباته وأمور دنياه ، ثم ينساه طويلاً ، ثم يذكره طالباً ، فلا هو شكر ، ولا هو اعتبر ، ولا دعا إليه ، ولا جاهد في سبيله ، ولا تدبر كتابه ولا حرص على طاعاته . فهذا النوع من الذكر الذي ليس  فيه تقوى ولا إنابة ، ولا توقير لعزَّة الله ، هو ذكر غير مقبول عند الله سبحانه ، لأنه فيه دجل ومُراءَاة ، وكلتاهما من الصفات الذميمة والقبيحة .

ونمط آخر من الناس ، هم أدهى ، واشد عمىً وأكثر صمماً ، هم الذين قال فيهم سبحانه :

{ وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ } . [ 13 : الصافات ] .

وقال عزَّ وجل آمراً ، مسدداً ومرشداً رسوله (ص) وكلَّ عبد من عباده الأبرار الصالحين :

{… وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ } . [ 41: آل عمران].

{ وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً … } . [ 205 : الأعراف ] .

هنا خصص سبحانه حالة من الذكر وكيفيته . فمعلوم ، عادة ، أن الذكر إنما يكون باللسان وبالصوت إما جهراً وإما خفوتاً وإما سبيلاً بين ذلك . ويكون بين قراءة القرآن وفيه أشرف الذكر ، المثاني ، يليها كل آية فيها تنويه بأسماء الله وأفعاله ، ونعمه وكرمه ورحمته وأفضاله … يليها جميع ما في القرآن بين دفتيه من سور وآيات  هاديات مضيئات شافيات .

ومنها آيات الدعاء التي يسمعها سبحانه بدون وسيط ، لأنها كلامه ، وكلامه فوق كلام المخلوقين بدون قياس . ثم بعد القرآن ما كان مأخوذاً من القرآن ومرتباً ترتيباً خاصاً ، مثل التهليل والتكبير والبسملة والحمدلة والحوقلة وبقية أنواع الذكر والتسبيح . وقد يكـون هذا  الذكـر كما باللسان كذلك ببقية الجوارح : البصر والسمع والشم وتحسُّس الأشياء ، وكل جارحة عند المؤمنين الأصفياء يكون لها ردُّ فعل ، هو من الذكر ، ذكر الله ، إما إعجاباً بصنيعه سبحانه وإما إكباراً لآياته في تحركات الكون وسكناته ، وإما تنزيهاً لهذه الجوارح عما لا يرضي الله سبحانه ، وعما لا يليق بالأبرار الأطهار ، وكل ذلك من الذكر الظاهر ، أو القريب من الظاهر . أما مضمون الآية الكريمة  فهو غير ذلك ، هو ندب لشأن آخر من ذكر الله : { وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً } . وقوله تعالى : { وَاذْكُر رَّبَّكَ } ، فيها تحنن ورحمة ، وإشعار برعايته سبحانه وعنايته الخاصة بمن يخاطبه ، فهي غير قوله اذكر الله ، فالأولى ، فيها إشعار بالقرب ، وهذه الآية يتوقف عندها الأتقياء  ويتأملون فيها مستجيبين طائعين ، كل على قدر دعائه ومقدار وصوله وتحصيله ، ولله في خلقه شؤون وقوله تعالى : { فِي نَفْسِكَ } يعني ليس بلسانك ، هي دعوة للتفكر بآلاء الله وآثار عظمته ، والتأمل فيما خلق من أرضٍ وسماوات ، وأعاجيب وعبر ، في ذات هذا الإنسان ، وفيما يجري  له ، في داخله ، من أسرار وأحاسيس ، وعطاءات ، بعضها يحكى ، وبعضها إذا كان من أصحاب الكرامات ، لا يحكى . وكل تفكر وتأمل في آثار صنع الله تبارك وتعالى ، يترتب عليه إيمان جديد ، إيمان فوق إيمان ويقين فوق يقين ، وإعجاب وإكبار ، وإحساس عميق بصغر الإنسان ، وكل ما في السماء الدنيا وما تحتها ، مقارنة مع عظمة الله التي  يستحيل على لغات الأرض توصيفها ، ولا تكفي جميع مفردات اللغات التي في القواميس مع مزيداتها ومشتقاتها للثناء عليه سبحانه ولحمده وشكره كما ينبغي لكرم وجهه ، إلاَّ كما هو حمد نفسه وشكر نفسه .

لذلك أفضل حمده وشكره وتسبيحه ، ما كان بالنتيجة مأخوذاً من القرآن الكريم  بنصوصه ، وفيها المثاني ، وهي مناط أسرار ، قال تبارك وتعالى : { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } . [ 23 : الزمر ] .

فإذن ذكر الله في النفس ، هو ذكر عقلي ـ قلبي ، ولكن ليس كما يتفكر المشتغل في الرياضيات ، أو المنطق ، أو الطب ، أو حتى الأدب العام غير الديني ، وكذلك بقية العلوم التي تتحرك ضمن حدود المواضيع ، ولا تتعداها ، لا نسبة ولا ربطاً بأصول خلقها وإيجادها . بل هو تفكر وتأمل يقتضي ـ كما ندب الله سبحانه ـ { تَضَرُّعاً وَخِيفَةً } والتضرُّع في اللغـة ، هو التذلل والخضوع والخشوع ، والابتهال ، وفيه معنى الرجاء  الذي هو بعكس اليأس والقنوط . والخيفة ، هي هيئة من خاف ، هي حالة الخائف . فمن نعم الله العظمى على الإنسان ، أن يذكر الله في نفسه ، تفكراً وتأملاً بآلائه ، وأرضه وسمائه ، فبذلك يجد الحوافز ، يجد الدافع القويَّ العَفْوِيَّ للخشوع لدى ذكر الله ، والشعور بالذلة أمام عظمته ، وعزته وجبروته وجلاله . حتى لدى تفضله سبحانه ، وصفحه وعفوه ، ورحمته وتكرمه . ويتداخل التضرع ـ وهو كما هو بيِّن ، حالة داخلية ـ بالخوف ، من أن  يخطىء الإنسان ، وبحق من ؟ بحق الله الملك القدوس  ، بعد أن يكون في تفكره وتأمله ، استشعر بعض معاني عظمة ربِّه ، وألوهيته ، وحاكميته المطلقة النافذة في لباب الأشياء وأسرارها وغيوبها ، ومنها هذا الإنسان ، من لحمه وعظمه ، إلى نفسه وعقله ، وما يعلم من ذلك كله وما لا يعلم . والخيفة تعبير خارجي ، عن حالة خوف داخلي ، هذه الحالة ، يعرفها جيداً من مرَّ أو مُرِّرَ في هذه الدروس والبلاءات ، وهي تتوالى ، وتتكاثر ، كلما زاد ، بفضل من الرحمان الرحيم ، فهم الإنسان ، وصفاؤه ، وخبرته النسبية ، بما يجري له ، في داخله ، وفي الخارج حوله ، من تسديد وهداية ، وإصلاح ، بل وإصلاحات في النفس والجوارح  وكلية البدن ، من مرض  وشفاء عَجَب ، وإخلال في التوجه ، وتقويم أعجب ، وزيادة في العقل ،وزيادة في العلم ،وزيادة في القرب ،وزيادة في الحب ويسجد لدى كل نعمة من هذه النعم ، بقلبه ودماغه ، ونفسه  وروحه ولحمه وعظمه ، ويشعر عميقاً ، أنه لم يؤد بعد ، الشكر لربه الحبيب كما ينبغي .

 

فيعطيه سبحانه وتعالى عما يشركون ، وله الحمد وله الشكر كما ينبغي لكرم وجهه ، يعطيه ما يُقرُّ به عَينَه ، ويُطَمئِنُ  به قلبه ، حتى من أساليب العبادة والذكر ، الذكر الأرقى ، والذكر الأسمى . لهذا كله ، ترى هذا النموذج من عباد الله ، إذا أتيح لك أن تراه ، كما تراه الملائكة ، كثيراً ما يغيب بفكره عمن حوله ، على أثر ، مشهد ، أو حركة ، أو صوت ، أو أمور يريه الله سبحانه فيها ما لا يُرِي عامة الناس ، ويُسمِعُه ما لا يسمعهم ، ويطلعه على ما لم يطلعهم  عليه . لذلك تجده ، أكثر ما يكون ذكر ربه الحبيب في نفسه ، متضرعاً ، خاشعاً ، خاضعاً ، خائفاً ، كثيراً ما يجمع بين كتفيه ، مقشعراً بدنه ، خافقاً قلبه ، خيفةً من أن يخطىء مع ربه العظيم ، ذي الجلال والإكرام ، فإن أخطأ ، ولو عن غير قصد ولا عمد ، فداهية دهياء ، وتقطيب وسهوم ، ومرارة في الحلق ، وخوف في القلب والعظام ، ولا يزيل ذلك ، ولا يشفيه ، ولا يشفـع به ، إلاَّ الحليم الكريم ، ربّه الله ، العفوُّ الغفور ، أرحم الراحمين ، رب العالمين .

أما وقد أشرفنا على الإطلاق من هذا الباب الذي فتحناه على وقائع حرب الأحزاب وعِبَرِها ، ومنه أشرفنا على ختام  ما اقتضانا من الحديث عن ذكر الله عزَّ وجل ، فقد بقي علينا أن نشير إلى بعض الآيات التي يندب الله سبحانه فيها رسوله محمّداً (ص) ، وكذلك كل مؤمن  ، إلى ذكر بعض  الأنبياء والمرسلين ، والأولياء والصديقين . غايته من ذلك ، أن يؤانس النبي بذكر أمثاله  من الأنبياء والرسل ، وذكر ما تحملوا في سبيل الله من معاناة ومشقات وأذىً من أقوامهم . ولأجل أن يتأسَّى رسول الله (ص) في إخلاصه العظيم لربِّه ، بإخلاصهم وثباتهم على طاعة الله ودعوة الناس إليه سبحانه ، وإلى تعاليمه وحده لا شريك له . وهو قد أنزل عليه قوله سبحانه : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَـرَ أُوْلُـوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ …} . [ 35 : الأحقاف ] . هذا من جهة ، ومن جهة ثانية  لتعليم الناس أن مهمة الأنبياء والرسل والأئمة والأولياء هي تبليغ الناس أوامر الله وتعاليمه . فإذا بلَّغوا ما عليهم انتهت مهمتهم . وبقي على الناس أن يقتدوا بهم في دعوتهم إلى الله ، يعني أن يدعوا هم إلى الله ، يعني أن يدعو كل إنسان إلى الله عزَّ وجل ، وإلى عبادته والعمل بتعاليمه ، والتفاني في خدمة دينه وشريعته ، مترسماً خطى هؤلاء الأخيار الأبرار في إخلاصهم لربهم رب العالمين ، وسلوكهم وسنتهم التي تفضل الله ربهم  بها عليهم . وبذلك يستطيع من يستن بسننهم ويسلك سلوكهم أن يكون مرضياً عند ربه العظيم ، ومن المقربين وأهل الزلفى لديه سبحانه ، { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِر ٍ } . [ 55 : القمر ] . ولذلك نبَّه رسوله محمّداً ، كما نبَّه كل مؤمن إلى ذكر مهمة هؤلاء الصديقين المخلصين ، والتأسي بهم ، وما الهداية إلاَّ من عند الله ، وما التوفيق إلاَّ به . وفي مجال التنبيه إلى ذكر مهماتهم وولائهم لله وحده ، نذكر بعض الآيات التي وعدنا بها آنفاً ، كنماذج عن هذا المطلب ، الذي تشير إليه كذلك آيات أخر ، تسمي بعض من نبَّه سبحانه إلى تذكرهم وتذكُّر مواقفهم.

القديسة الكبرى ـ والنخلة سرّ

قال تبارك وتعالى :

        { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَـابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْـلِهَا مَكَـانًا شَرْقِيّـاً } . [ 16 : مريم ] .

        أي واذكر يا محمّد ، في القرآن ، مريم عندما اعتزلت أهلها والناس في ناحية شرقية . اذكر هذا لنفسك وللعالمين . وفي ذكرى مريم أكثر من معجزة خارقة تدل على قدرة الله ووحدانيته ، وأن الأمور  في ناسها وأرضها وسمائها بيده وحده . هو مسبب الأسباب ، وهو مختصر الأسباب ، وهو مفردها بسبب واحد هو { كُن } أو هو إرادته  سبحانه  : خلق البشر من تراب وأمضى عليه زمناً ثم قال له { كُن } فكان إنساناً سوياً في أحسن تكوين . ثم نفخ فيه من روحه ، فعقل، ثم شاء أن يتناسل الأبناء من آباء وأمهات فكان ذلك ، ثم خرقاً لعرف طال وعادة امتدت ، شاء أن يهزّ العالم والتاريخ  بكلمة { كُن } جديدة ، ليفيق العالـم والتاريـخ  ، من غفوة  لا تنبغي لهما ، فأولد مريم بكرامة ، ورباها بمعجزة ، وصفَّاها وطهـرها ، وطهـرها وصفَّاها ثم اصطفاها على نساء العالمين ،

 

وأرسل إليها جبرائيل  في سـرب من الملائكة ، فتمثل لها بشراً سوياً ، استعاذت بالله منه  لأول وهلة  ثم أدخل الله السكينة  على قلبها بأمره  الذي هو واحدة كلمح بالبصـر ، وبلا وسائط ، وبنفخة نورانية  من روح الله  الملاك النوراني الأمين ، في فتحة من ثوبها ، وهي المحتشمة بسابغ  الثياب . كانت لها الهبة التاريخية  من رحمة  الله سبحانه  ومن معجزاته وخوارقه ، غلاماً زكياً . وتترادف معجزات الله  ، هو الإلـه ، ومن غيره إلـه ؟ أيها الخلق  ، أيها الناس ،  هو الله القادر وحده ، هو على كل شيء قدير . فمن غيره  من خلقه على كل شيء قدير . وتلد مريم ، في حفظ الله ورعايته ورأفته ورحمته ، وتخاف  خوفاً  شديداً ، فيطمئنها  هذه المرة سبحانه ، بلسان وليدها العتيد ، فور ولادته ، يتكلم ، ثم يتكلم  عندما تواجه به الناس للتوّ  ، يتكلم ويتحداهم ويتحدى العالمين ، مثبتاً شرف أمه : العذراء مريم عليها السلام  ثم ، يصمت عقوداً من السنين ، ليظهر باسم المسيح عيسى  ابن مريم ، رسولاً نبياً من أولي العزم  وأعاظم الرسل والأنبياء : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } يا رسول الله  يا محمّد ، اذكرها للعالمين  ، يعني اذكر صنيع الله بها وبإبنها وبالناس ، وبالكون ، ولا تنسوا حاكميته الدائمة ليل نهار  ، ولا تنسوا أنه الحي القيوم  ، القادر القاهر  ، السميع البصير  ، وأنه بكل شيء محيط ، وأنه على كل شيء قدير .

        فإذن هذه هي الغاية  من قول الله  عزَّ وجل : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ } ثم قوله تبارك وتعالى في نفس السورة والسياق  :

        {  وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا } . [ 41 : مريم ] .

        أي واذكر في القرآن خبر إبراهيم وفضل الله عليه ، لما تقدَّم له من  الهداية والإخلاص .

        وقبل أن نتحدث عن صدق إبراهيم عليه السلام وفضل الله تعالى عليه ، نلاحظ أن الله سبحانه  ، لم يعظِّم أحداً من خلقه من الجن والإنس والملائكة ولم يطلب من العباد تعظيم أحد ، ولو كان رسولاً أو نبياً .

 

بلى ، نسب العظمة إلى نفسه تبارك وتعالى :  {… وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } . [ 255 : البقرة ] . وفي آية ثانية  : {  لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ  } . [ 4 : الشورى ] . وجعل من العبادة تقوى القلوب ، تعظيم شعائره ، وحرماته : {..وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ .. } { .. وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ..} . ووصف سبحانه  بالعظمة قرآنه وعرشه ، وبعض المعاني المصيرية وما شابه ذلك ، قوله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } . [ 87 : الحجر ] . وقوله سبحانه : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } . [ 26  : النمل] . وقوله تعالى : { .. إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ  }  {.. وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ  } {..  وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ  } إلى عشرات  الآيات التي فيها كلمة  ( عظيم ) معرَّفة ومنكَّرة  وكذلك مشتقاتها . وقد خصص سبحانه ، رسوله محمّداً (ص) بوصف خلقه بأنه عظيم قوله تبارك وتعالى : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } . [ 4 : القلم ]  ، ولكن في الحقيقة ، أن الله سبحانه هو الذي أعانه وسدَّده وثبته على الإخلاص والصدق في المواقف والإبتلاءات والمصاعب ، ففي واحدة منها مثلاً ، قال تبارك وتعالى مخاطباً نبيَّه (ص) : { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَـاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً } . [ 74 : الإسراء ] . وهو تبارك  وتعالى ما إن أعانه وسدَّده ، ورقَّاه إلى أعلى درجات الخلق الإنسان ، ومحمّد (ص) يزداد صدقاً ، وصبراً ، وحماساً ، للدعوة إلى ربه العظيم ، ودينه الحنيف ، وما إن هنَّأه بهذه الصفة التي هي قمة الكمال  في الأخلاق الإنسانية ، حتى أردف سبحانه يكشف عن كمال الحقيقة ، في أن الفضـل في ذلك هـو فضـل الله ، أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً . فقال سبحانه : { وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } . [ 113 : النساء ] .

        ونعود إلى قول الله سبحانه لرسوله محمّد : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ…}  فكذلك المطلوب  ، هو إظهار  فضل الله ، وهيمنته وحاكميته ، وإحاطته بالأمور  . فكما صـدق إبراهيم صـدق محمّد ، وكما صدق محمّد صدق إبراهيم عليهما السلام ، إنما الموفِّق والمسدِّد ، والمثبِّت والناصر ، هو الله وحده لا شريك  له ، فهما ليسا شيئاً بدون الله عزَّ شأنه وجلَّ جلاله ، وكذلك الكون كله بمن وما فيه . أفليس من العمى المخزي ، أن يقف كثير من الناس ، عند إبراهيم  أو موسى ، أو عيسى ابن مريم ، أو محمّد ، أو أئمـة الحق  ، أو أولياء الله الصالحين ، صلوات الله عليهم جميعاً ، يقف كثير من الناس  عندهم يمجِّدونهم  ويعظمونهم في المواقف والمواسم  ، وفي الأفكار  والقلوب  والمعتقدات، وينسون أنهم  لا شيء بدون الله جلَّت عظمته ، وينسون أن الله هو الغاية ، منه البداية  ، وإليه النهاية ، وها محمّد (ص) يختصر مهمة الجميع ، أنبياء ورسل وأئمة حقٍ وأولياء ، بالإستجابة  لأمر ربه  الحبيب ، إذ أمره ، بعد أن أخبره من أعماق غيب المستقبل ، خبر تخاصم أهل النار : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ . قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ  . أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ . مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ . إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ } . [  65 ـ 70  : ص ] .

        صحيح أن الكلام يطيب عن محمّد (ص) وخلقه العظيم الذي أتحفـه الله به ، وكان معه نعم المتفاعل ونعم العامل ، عزماً وحزماً ، وولاءً وحباً ، وقيادة فذة ورحمة للعالمين ، كما يطيب الكلام عن كل نبي في طاعته وحبه لربه وربنا المجيد ، إلاَّ أننا نبقى الآن قليلاً ، مع أبينا إبراهيم عليه السلام . بين يدي الآية الكريمة ، قول الله عزَّ وجل  : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ … } ولكم  يطيب الكلام عن إبراهيم خليل الله  ، عن حبـه لربـه ، وتفانيه في طاعته ، ونجاحه في الإمتحانات التاريخية الصعبة التي امتحنه بها سبحانه ، حتى جعل منه ذلك الجوهر الفذ المتألق ، منارةً للناس وإماماً للبشرية . قال تبارك وتعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَـالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } . [124 : البقرة ] . في هذه الآية الكريمة ، إختصر سبحانه جميع ما ابتلى به عبده ونبيَّه إبراهيم من إبتلاءات تاريخية بقوله : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } ثم أخبر تبارك وتعالى أن إبراهيم نجح فيها جميعاً ، ولذلك جعله للناس إماماً . أما الظالمون فلن ينالوا هذا العهد من الله عزَّ وجل بإمامة الناس ، ولو كانوا من ذرية إبراهيم عليه السلام . إنما ينالها الموحدون الصادقون المجاهدون الذين لا يخافون في الله لومة لائم .

        أما بخصوص امتحانات إبراهيم التي أفلح فيها ونجح ، وكذلك جملة مواقفه وحكاياه ، فمعروفة عند الخاصة والعامة . والعرف والعادة  ، فيما يكتب عن إبراهيم وغيره من الأنبياء والأئمة ، أن يركَّز على أعمالهم ومواقفهم كرجال عظام، مظهراً الكاتب أو المتكلم عظمة إبراهيم مثلاً ، ما دام الكلام عنه عليه  السلام كشخصية مستقلة : فعل إبراهيم وكان إبراهيم … بينما العظمة أولاً وآخراً هي لله عزَّ وجل ، الذي بين يدي طاعته ، آمن إبراهيم وصدق ، فزاده الله طاقةً وصفاءً وقوةً ، ثم أيقن إبراهيم وازداد صدقاً ، فزاده الله مفيضـاً عليه من نعمه وكرمه …وهكذا في تربيته سبحانه لأي عبد من عبـاده ، يبتليه بقـدر تحمله فإذا صدق ونجح ، زاده من فضله ، وغالباً ما يعطي على صدق النية ، فكيف إذا قرن العمل بالنية صدقاً وجهاداً وتضحيات ، فعند ذلك تكون العطاءات من الله عزَّ شأنه موسومة بسعة رحمته وعظيم جوده وكرمه ، وفوق ذلك كله رضاه وحبه ورضوانه ، { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . [ 19 : الأحقاف ] سواء ذلك في الدنيا وفي الآخرة  .