تحت هذه السماء الإضاءات الكاشفة الأولى

1

دعوة إلى الله

تحت هذه السماء

الإضاءات الكاشفة الأولى

   {وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }

                 [ 60 : العنكبوت ]

 

 

تحت هذه السماء

         غابات وبحار ، ونجوم عملاقة ، وشموس بالمليارات ، ومجتمعات مدنية  وقليل منها ما زال بدوياً وربما بدائياً . كل ذلك على هذه الأرض الكروية ـ بمقياس الكون ـ  وتحت هذه السماء الرمادية واللازوردية حيناً والمجمَّلة بحلى النجوم وثريات الأنوار السبعة وربما السبعين حيناً آخر .

        العجب العجاب في الغابات والبحار والفيافي والقفار ، أما الغرائب  وعلامات الاستفهام الاستنكارية  ، ففي المجتمعات الإنسانية  ، المدنيـة  بشكـل خاص .

كيف ؟

        هذا ما تلقي عليه ضوءاً مخبرياً ، الآية الكريمة التي من كتاب الله المجيد ،  قوله تبارك وتعالى  :

 

       { وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . [ 60 : العنكبوت ] .

 

        ففي الأرض دواب ، بين الأدق حجماً وتركيباً ، كالخلية الواحدة البرية  البسيطة  ، مروراً بالذر والنمل الدَّبَّاب والمجنح بجيوشه الجرارة ، وصعوداً حجماً حجماً إلى الأفاعي والنسور والحمائم والصقور ، إلى النمور قطاع الطرق ، فالدببة فالفيلة فقطعان وحيد القرن التي لا يكفي الواحد منها ليشبع ، وجبة قبيلة بشرية من أكلة اللحوم ، ومن ينسى الملوك ذوي اللبد ، الأسود واللبوءات وأشبالها الوردية .

        هذه الفرق والطوائف  مما ذكرنا ، ومما إذا شئنا أن نستوعبه من الأصناف وأوصافها لاقتضى من مجلدات مصورة ملونة بأزهى وأجمل الألـوان ، هذه  القطعان  الحيوانية  ومجتمعاتها في غاباتها التي كانت عبر ملايين السنين تغطي أكثر من ثلثي اليابسة  هذه الأفـواه والأشـداق بمختلـف أحجامهـا والتي هي بالمليارات . من أين تأتي بألوف الأطنان يومياً من اللحـوم والحبوب والنبات العَصِيِّ أو الطريِّ  الطازج . علماً أنه على تعدد أصنافها وأجناسها وأمزجتها ، ليس فيها جنس يأكل جنسه ، فلا الأسد يأكل الأسد ، ولا الصقر يأكل صقراً ، ولا النمل يأكل نملاً . ومع ذلك يأتيها جميعاً رزقها قدر الحاجة ، وحسب شريعـة الغاب .

شريعة الغاب ، أم شريعة الله في الغاب  :

    في الحقيقة ، ليست هي شريعة الغاب ، وإنما هو تنظيم رب العالمين المعجـز ، المحكم ،  الذي ، لولا  ضراوة  الإنسان ، ومعاصي الإنسان ـ أعني منه الظلماني وليس النوراني ـ لبقيت الغابات وشرائعها ، نموذجاً للبقاء المعتدل ، لا يطغى فيه التكاثر  ، ولا يجحف به الإنقراض  ، ونموذجاً للجمـال والحكمـة  المتعالية ، ولاستطاع الإنسان  ، لو كفَّ عدوانيته عنها أن يؤاخي أشدَّها عتـواً وأكثرها وحشية . ولنظر إليها كيف ترتزق  ، فتعلَّم منها حسن التوكل لا التواكل ، وشهامة  القناعة ،  والكف عن طلب المزيد عند الشبع ، وعدم التخزين والاحتكار المخلِّ باقتصاد الغابات ونواميسها ونظامها الرائع ، وعدم  الخوف من المستقبل  ، الذي يدبره الله  سبحانه ، كما دبَّر الماضي وكما هو يدبِّر الحاضر ، بقدرته ، وكرمه ، ورحمته ، وقيوميته ، وعينه التي لا تنام ، عن خلقه  في الغابات والصحارى ، والبحار والأجواء ، فهل يا ترى ، هذه الفصائل من  الخلـق ، أكرم عليه من هذا الإنسان ؟ هو سبحانه يقول لا ، في الآيات كأنما اختص بتكريمه بني آدم وحدهم تحت هذه السماء . قوله عز وجـل وتبارك وتعالى:{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } . [ 70 : الإسراء ] .

        فالغابات والبحار ، والأجواء والقفار سخرها الله سبحانه لبني آدم وخلق لهم فيها الأنعام ، وعلَّمهم فدجَّنوها ، وهي لتاريخه وإلى قيام الساعة مصدر  أغنـى  غذاء  لهذا الإنسان المكرَّم عند ربه العظيم ، الحكيم الكريم ، وإضافة إلى ما فيها من فوائد جلى ومتع للنفس والعين  :

       { وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ . وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ . وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . [ ( 5 ـ 8 ) : النحل  ] .

        وما أجمل هذه اللغة ، وما أبلغ حقائقها ، وإضافة إلى ذلك كله ، ينبغي الإلتفات إلى آخر الآيات هذه ، قوله تعالى : { وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وفي ذلك وعد لأن يخلق سبحانه خلقاً له صلة وثيقة بموضوع هذه الآيات ، خلقاً ليس لأولئك المخاطبين الأوائل بالقرآن الكريـم ، بل هو لأواخرهم ، نعني بـه  السيارات والقطارات والطائرات ، حيث يقال فيها كذلك : لكم فيها دفء  ومنافـع … ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحـون … وتحمـل أثقالكم…  إلى آخر المعاني  في الآيات الكريمة .

        ثم شجر الغابات التي فيها كذلك شريعته ، الشجر الذي كان رفيق الإنسان منذ القدم  وما زال وسيبقى من ضرورات الإنسان الأساسية ، وما أروع اختصار حقيقته ، حقيقة هذا الشجر الذي هو من أجمل وأبهج وأنفع عناوين  الأرض ، في آيتين  كريمتين ، قوله تبارك وتعالى :

       { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ . يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . [ ( 10 ـ 11 ) : النحل ] .

        نعم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .

       ومن يتفكر يؤمن ويوقن ويمجد الله في عظمته وجلاله وجماله وقدرته المعجزة المطلقة  التي بغير حدود : أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم … ومن  هذا  الماء 

كانت الغابات والبساتين و{ ..حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } . [ 60 : النمل ] . من هذا الماء كان الشجر والثمر والخضرة والظلال والجمال والحقول والوديان ، والهضاب والجبال المكسوَّة بالسندس المطعَّم والموشى بما لم يستطع أن يلبس مثله لا الأكاسرة ولا القياصرة ولا أغنياء العالم : من الأحمر والأزرق والأصفر وعدَّ ما راق لك من عشرات الألوان والأنوار لنجوم الأرض على مطارح السندس . نعم ، سبحانه وحده وتبارك وتعالى ، ما أجمله وما أحلمه ، وما أغفره وما أرحمه ، فبرغم  كثرة ما فيكم من متجبرين  ومتكبرين  وأهل عمىً وضلالات وجرائم لا تغتفر ،  فقد {  أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاءً لَّكُم …}  منه شراب … ومنه شجر … ومنه إضافة  إلى ما ذكرنا  ما تعجز عنه الأقلام وعبقريات الرسامين .

        فيا إنسان ،  يا أخي  ، كيف إذا كنت جانحاً  وعدواً لنفسك ، كيف تعادي  ربك الله وهو بهذا الجلال والجمال والقدرة التي لا تطاول ، وهو سميع لك إذا طلبت منه ما يصلحك ، عليم بك ، ولا أكثر من أن تسأله العون فيعينك ، والمغفرة فيغفر لك ، والنجاة فينجيك  من مستنقع الإنحراف والعداوة  له ولنفسك ويرفعك ما حلَّقت  بجناحي عقلك وقلبك ، وقلبك وجوارحك :  وصدق الله الحبيب :{ .. إنَّ فِيِ ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . [   3  :  الرعد  ]

{ .. فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } .     [ 46  :  الحج ] .

المدينة أم الغابات

التوازن الذي كان في الطبيعة ، لعقود خلت ، والذي دمَّره إنسان  البندقية  الأتوماتيكية ، إنسان المدنية المتحضر ،هذا التوازن، لو قيض له أن يبقى ، لاستطاع الفلاسفة والمنظرون والمفكرون بحياة أرقى وبمخرج من فخاخ الحضارة، لاستطاعوا أن ينسجوا على منواله تقليداً لشريعة الغاب،التي صحيح أنها يستحيل أن ترقى أو تتماثل مع الشرائع التي أنزلها الله سبحانه للناس ، لفارق العقل بينهم وبين الحيوان، إلاَّ أنها تبقى ـ أي الشريعة المنظمة للمجتمع الحيواني ـ أرقى وأسمى خلقاً من حضارة الزنا والفواحش والشذوذ الجنسي ، وقتل النفس التي حـرَّم  الله بالمئات والألوف ، وقرصنة الدول والإرهاب المنظم ، وديمقراطية الأقوياء المزيفة .

بعض العلماء اكتشفوا مؤخراً، ولكن بعد فوات الأوان،أن في الطبيعة  توازناً مدهشاً ، لو كان بقي بدون عدوان عليه من قبل الإنسان ،  لكانت سلمت البيئة من أخطار التلوث المفزع ،ولكانت سلمت الزراعة في جميع مستوياتها من حبوب وثمار وخضار .

        إلاَّ أن  علماء النبات والحشرات والمناخ ، بعد أن ساهم  فريق ما قبل الستينات منهم بتدمير هذا التوازن ، لا سيما بصيدلية الأدوية الزراعية التي تتضخم عاماً بعد عام  ، وتتكاثر معها الأمراض في سبـاق أتعـب العلمـاء والمختبرات، وأفقد الثمار طبيعتها الحلوة ، وروائحها الأصيلة  الزكية ، وكذلك الخضار بمختلف  أنواعها ، والبقر  والغنم والدجاج  ، كل  ذلك  أصبح  وكأنـه

يصنَّع في معامل كيماوية ، مما ينعكس حتماً على الإنسان  ـ إلاَّ من رحم ربك ـ بالضعـف وعـدم المناعـة والأمراض الكثيرة التي تفاجىء الحضارة بتحديات وصـراع لا نهاية له ، ما دام إنسان الحضارة مصراً على أن يكون هو الإلـه ، وهو لم يتوصل بعد  ، إلى أن يكون إنساناً حقيقياً كما اراد له الله عزَّ وجلّ ، الله الذي لا إلـه إلاَّ هو ، والذي وحده يجب أن يعبد ، أي أن يطاع ، لأنه الأقـدر بلا  قياس  ، والأعلم بلا قياس ،  والأحكم بلا قياس ، وله الأسمـاء الحسنى ، وهو سبحانه  قال في مثل ناس هذه الحضارة  المعاندين المغرورين :

       { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ . وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ . قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ . الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ . أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ  } .77]  _ 81 :يس[

        في الغابات ، يكفي  ساكنها أن يأكل ويشبع من غير جنسه ، ولو تركها الإنسان في أمان من ناره وعدوانه ،  وطمعه وجشعه ، فإن الرزق فيها وفير ، وحتى الأمن فيها أحسن ما يكون حالاً ، فالأسد آمن في عرينه ، والثعلب في وجاره ،والغزلان في مراتعها ، والطيور في أوكارها وعلى أغصانها،فلا موت جماعي، ولا تخمة ورفاه لملايين، ولا مجاعات وموت بطيء لملايين،ولا محاولة اجتثاث وإبادة لبعضها البعض، فلا الجنس الواحد يبيد جنسه، ولا هو يبيد أجناساً أخرى .

        وحده الإنسان الذي في غضب الله وفي لعنة الله ، والمدعي كاذباً أنه يعبد الله ، يحاول إبادة الإنسان الذي من غير ملته أو لونه أومشربه ، ويتفنن  في تعذيبه وقتله  والتمثيل به وارتكاب الفظائع بحق نسائه وأطفاله، وحده الإنسان الجاحد ربه، المتحجر قلبه .

    لا،لا يوجد  صنف  من الوحوش  الضارية  يفعل ولو شيئاً من ذلك كله .      

أما أن بعض الحيوانات  تنفق أو  تقتل في  آجال  معقولة ،  وبأعداد   معقولة  ، فهي سنّة الله في الخلائق ، هو الموت الذي لا مفر منه ، فحتى في المدينـة  الفاضلة، التي هي حلم الفلاسفة والناس الطيبيـن  ، لا بدَّ من المـوت . كل شيء في السمـاوات والأرض يميتـه الله ، يعني يحوِّلـه ويبعثـه من جديـد ، بموجـب سنن ونواميس إلهية ، عندما يدركها الإنسان بكليتها ، بعد أن يكون أسجد جبينه لعظمة الله ، يسجد قلبـه ، وإذا كان أسجـد قلبه ، يسجـد معه جوارحه ، وإذا كان أسجد  قلبـه وجوارحه ، يسجد كيانـه كله حتى الفناء ـ الذي بعده بفضل من الله ، الصحو بعد المحو ـ طاعة لله ، وتمجيداً لله ، وحبـاً بالله ، فيكون الله له العوض ، وما أكرم الله ، وما أعظم كرمه إذ يعوِّض علـى حبيب من خلقه  ، بذل  نفسه  ـ  وهي في الأصل ملك لله  ـ  في  سبيل عـزة الله وجلاله ، وحاكميته وهيمنته ،  ولطفه ورحمتـه ، وقربـه وحبـه ، سبحانه وتعالى عما يشركون .

        وما الله بحاجة لكل ذلك ، وإنما الإنسان هو المحتاج ، ولكن الله سبحانه يحب لعبده التكامل،والكمال،الكمال الإنساني ، ولا يكون ذلك إلاَّ بالمجاهدة والبذل والتضحيات:مجاهدة النفس، ومجاهدة الباطل ، وبذل وتضحية أعزّ ما يملك الإنسان ، حتى نفسه يبذلها خالصة لله ، وفي سبيله ، عرفاناً وشكراً ، وشوقاً إليه ، وحباً هو الأسمى والأصفى،والأشرف والأقدس،فيما عرف ويعرف قلب الإنسان وعقله ، وسمعه وبصره، من أنواع الحب .

هل تريد أن تكون من المرزوقين ؟

        من البديهي أن كل إنسان يريد أن يكون في سعة من الرزق ، ولكن على اختلاف في مفهوم الرزق وطرق الإرتزاق .

        فالإختلاف في مفهوم الرزق يكون بين المؤمن والكافر من جهة ، وبين المؤمن والموقن ، أو المؤمن والعارف من جهات أخرى .

        أما بين المؤمن والكافر ، فالمسألة واضحة ، هي أن المؤمن يعلم علماً نسبياً حسب درجة إيمانه أن الرزق من الله ، بينما  الكافر  يعتمد  على قـواه  الذاتيـة متعاملاً مع  ما يمكن  أن يتوصل إليه  من القوى والموجودات  الكونية  ليحصل رزقه ،  ظاناً بالنتيجة أن لا علاقة لله عزَّ وجلّ  بالرزق والتوفيق ، وهذا هو كفـر الجحود ، أو أن يكون  غير مؤمن بوجود الله  ، وذلك هو  كفر الإلحاد .

        أما الإختلاف بين أهل الإيمان وأهل اليقين  فيكون في مفهوم الرزق أولاً وثانياً في السبل والأسباب .

        ففي الدرجة الدنيا من الإيمان كلمة الرزق تعني للمؤمن المال والقوت  والملبس والمسكن ورفاه العيش .

        وفي الدرجة العليا يدخل مع المال العافية في الدين والنفس والأهل والولد وسعادة الدارين . واعتماد الأسباب ، وصولاً إلى مسبب الأسباب  .

        أما أهل اليقين ، أولياء الله ، فلهم كذلك مراتب ودرجات ، ومفاهيم  أعلاها أن يسألوا  الله سبحانه بصدق نية وسلامة طوية ، وصفاء نفس  أن يقطع  عنهم سبحانه كل شيء يقطعهم عنه ، وأن يكونوا أهلاً للإجابة . فإذا استجاب تبارك وتعالى ،  كان هو سبحانه  همهم الأوحد .

        أما بخصوص الرزق  واختلاف المفاهيم فيه ، فلهؤلاء وللآخرين ، مؤمنين وغير مؤمنين  ، معانٍ  بين آيتين كريمتين ، الأولى قوله تبارك وتعالى :

       { وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . [ 60 : العنكبوت ] .

        والثانية قوله عزَّ شأنه :

       { اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }. [ 62 : العنكبوت ] .

        وتتراوح الإفادة من هاتين الآيتين ـ والله الهادي ـ بين إشارتين  في تعاليم الله في قرآنه المجيد :

        الأولى ، قوله تعالى  في كلامه عن مريم عليها السلام :

       { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ } . [ 37 : آل عمران ]  

        والثانية قوله تعالى :

       {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} 6]:الإنشقاق[ 

       والناتج  { إِنَّ فِيِ ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . [ (3 : الرعد )  ـ (1 : الروم ) ـ (42 : الزمر ) ـ (13 : الجاثية ) 2] .

        والخلاصة أن الإنسان  المؤمن مدعوٌّ لفهم الرازق والإرتزاق ، ولفهم ذلك ينبغي أن يحيط علماً بالآية الكريمة ، قوله سبحانه وتبارك وتعالى :

       { أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . [ 64 : النمل  ] .

        أمَّن يبدأ الخلق ثم يعيده مرَّة أو اثنتين أو ثلاثاً أو سبعاً أو سبعمائة أو أقل أو أكثر أو إلى قيام الساعة .

        وهذا الرزق المنوّه عنه في الآية الكريمة في قوله تعالى { وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ } مطراً من السمـاء ونتاجـاً من الأرض ، للنـاس ، للجماعات ، وكما للجماعـات كذلك للأفراد ، يؤتيه الله سبحانه بعلمـه  ومشيئته وتقديره وقضائه وتسخيره من السماء والأرض .

        وأن هذا الأمر من حيث العلم فالمشيئة فالتقدير فالقضاء والتسخير ، وفي  شمولية ، والإجمال والتفصيل ، لا يقدر  عليه خلق ولو اجتمعوا  له .

        هذا فعل مهيمن .

        ومهيمن إسم ، هو معنى من معاني الإلـه ، ولا إله إلاَّ الله . هذا برهاننا . فإن لم يكن الأمر كذلك  ، فهاتوا برهانكم  إن كنتم صادقين . برهانكم على أن أحداً غير الله مهيمناً يبدأ الخلق ثم يعيده منذ عمر الكون ، ويرزق بعلم ومشيئة وتقدير وقضاء ، مسخراً من وما في السماوات والأرض وعلى صعيد الكـون كله ، وعلى صعيد كل فردٍ مما دق وعظم من جميع ما خلق الله .