من هم أصدقاؤك

{… وَالسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى}       سورة طه آية ٤۷

من أخطر العلاقات الإجتماعية في ظل عبادة الإنسان لربه ، مفهوم الصداقة ، أو الخلة . لأن الله سبحانه جعل لها مفهوماً مميزاً وتعاليم ، من تجاوزها أو أهملها  أو أعرض عنها واتبع هواه ، خسر مقعد الصدق عند ربه ، وسقط إلى حيث لا تحمد عقباه .

          من هذه التعاليم أو الإنذارات ، وبالكلام الإلـهي المكثف الجميل ، قوله تبارك وتعالى : { الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ . سورة الزخرف الآية 67 } .

          هؤلاء الأخلاء أو الأصدقاء ، { يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة ، { بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} يتحولون إلى أعداء متباغضين متجافين ، يتمنى بعضهم لبعض السحق والدمار ، بعد إذ كانوا في الحياة الدنيا متحابين  متصافين ، متضامنين  في المواقف يسعد بعضهم بعضاً ، فلماذا  هذا الإنقلاب العجب الذي يحل بهم يوم القيامة ، يوم الفصل إما إلى جنة إما إلى نار ، ثم يكونون هم من أهل النار . { إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } .

          هذه العبارة في الآية ، قوله تعالى : { إِلاَّ الْمُتَّقِينَ } هي مفتاح الإجابة ، ومفتاح الصداقة الحقيقية المرجوَّة . إذ  نفهم منها كاستثناءٍ في الآية أن الأخلاء أو الأصدقاء الذين كانوا متحابين في الدنيا ، ما صاروا أعداءً في الآخرة ، إلا لأنهم كانوا من غير المتقين ،  والمتقون  ، معلوم أنهم  يتحابون في الله ، وأن المؤمن الصالح  التقي  لا يتخذ صديقاً من الناس إلا إذا  كان مؤمناً بالله وبدين الله عاملاً صالحاً تقياً مثله ، ويفهم من الآية  كذلك ، أنه من غير المقبول  لمؤمن ٍ تقي ٍ أن يتخذ صديقاً فاسقاً أو فاسداً أو ملحداً ، أو جاحداً بالله وبتعاليمه ، أو أنه لا يقيم صـلاة ولا يؤتي زكاةً ولا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر . ومن دعاة المنكر كما هو معلوم ، أناس يقيمون فيما بينهم ـ رجالاً ونساءً ـ صداقات حميمة يوجَّه فيها الطموح إلى كل شيء إلا إلى ذكر الله وإلى درجة عند الله ، تقيهم ضلالات الدنيا وحيرتها والخلود في عذاب الآخرة .

          وقد تبلغ درجة الحميمية بين أصدقاء العلمنة أو التحلل من الدين ، إلى درجة التعبُّد ولاءً للصديق أو الصديقة  أو لمجموعة الأصدقاء ، وقد وصف الله تبارك وتعالى مثل هذه الخلة أو الصداقة أو العلاقات  بأنها حالة وثنية ، حُكْمُ عناصرها عنده حُكْمُ عبدة الأوثان ، بقوله سبحانه :

          { وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن نَّاصِرِينَ . سورة العنكبوت آية ۲۵ } .

          والمعنى أن المودة أو المحبة التي كنتم تكنونها لبعضكم البعض من دون أن يكون فيها نيَّة التقرب إلى الله ، أو من دون  أن يكون من دوافعها الحب في الله ، وموالاة المؤمنين بعضهم لبعض عملاً بأمر الله ، هي عند الله حالة وثنية . أنواع  المودة التي بينكم دون أن يكون الرابط فيها هو دين الله ، هي أوثان تعبد في الدنيا  باسم الصداقة ، التي ليس فيها شيء لله ولا لدينه ، ولا لعباده وأنصاره  الورعين الصالحين . قال تبارك وتعالى :

          { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . سورة المائدة الآية ۵٤ } .

          فصفات الأخلاَّء أو  الأصدقاء  الذين يظلون كذلك أخلاَّء وأصدقاء يوم الفصل يوم القيامة ، هي هذه : يحبهم الله ويحبونه أذلة ٍ على المؤمنين  متحابين بينهم ، متواضعين لهم ، متعاونين معهم على البر والتقوى ، أعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله حقَّ الجهادين : الأكبر الذي هو جهاد النفس ، والأصغر الذي هو جهاد أعداء الله . ولا يخافون لومة لائم ، ولا يخشون أحداً إلا الله سبحانه . أما إذا كانوا أصدقاء في الدنيا ليست فيهم هذه الصفات ، كانت صداقتهم وثنية ، ثم يوم القيامة يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضاً ومأواهم النار  وما لهم من ناصرين ، كما جاء في الآية الكريمة .

          إن أكثر  الناس يميلون في صداقاتهم إلى المظاهر الدنيوية ، المتمثلة  عادة بالجاه أو المال  أو أي نوع ٍ من أنواع النجاح  السياسي أو الإجتماعي أو حتى العلمي ، المبني على غير الإيمان  بالله سبحانه وبتعاليمه ، ولا سيما حملة  الألقاب في جميع النشاطات الإجتماعية : سياسية أو عسكرية  أو علمية أو مالية ، وباختصار ما يخيل إلى أهل النظر السطحي ، أنهم مراكز القوى التي لا تقوم الحياة ولا تستقيم إلا بوجودهم .

          إلاَّ أنَّ الله سبحانه أوصى محمَّداً (ص) بغير هذا النمط من الناس ،  أوصاه بالذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه . وأوصاه بعدم الإهتمام بالمسرفين  ،  وبعدم الإنصياع لمطالبهم  وآرائهم  .  قال  تبارك وتعالى :

{ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا . سورة الكهف الآية ۲۸ } .

          ففي قوله تعالى : { .. وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..} أولاً أمر بعدم تجاوزهم  إلى غيرهم ، ثانياً ، إشارة إلى أن هذا الغير  يمثل زينة الحياة الدنيا ، إما بجاهه أو ماله أو مركزه السياسي أو العلمي  المبني على غير دين الله ، وبالتالي  يمثل حالة عدائية  فيها الكثير من التكبر والتجبر  والاستخفاف  بفقراء المؤمنين الذين  ليس لهم بريق مال أو بريق جاه أو أي بريق دنيوي آخر .

          وأما قوله تبارك  وتعالى في ختام  الآية الكريمة : { .. وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا .} هم الأقوام الذين لا يذكرون الله في مجالسهم ولا يتدبرون  قرآنه الكريم  ولا يتداولون بآياته ولا يهتمون بأمور دينه ، ولا بشؤون المؤمنين من عباده ، وتراهم واقعين دائماً  تحت وطأة  ما لن  يغفره  الله لهم  أبداً ،  تحت وطأة الشرك الظاهر أو الشرك الخفيّ أو كلاهما معا.

          أما قوله {.. وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا ..} فإن الله سبحانه  لا يغفل قلب أحد عن ذكره بدون سبب يستوجب هذا الإغفال . ويوضح هذا الأمر قوله تبارك وتعالى :

          { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَـى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا .  سورة الكهف الآية ۵۷ } .

والمعادلة واضحة تماماً ، وهي أنهم  ذكِّروا  بآيات ربهم  إما  قراءة  وإما  سماعاً  تدعوهم  للنجاة  من  الجحيم ، فأعرضوا عنها ، أي لم  يكترثوا بها  ونسوا ما قدمت أيديهم من ذنوب هم بأمس الحاجة لأن  يغفرها الله لهم ، ومع ذلك أمعنوا في غيِّهم وضلالاتهم ، عتواً وجحوداً ، وعمىً وصمما ، فالله سبحانه أمضى لهم  ما حزموا هم  أمرهم عليه ،  فحرمهم من بركة القرآن  وكرامة القرآن وعظمة القرآن ، بأن جعل على قلوبهم أكنة تمنع عنها نور الله وهداية الله ورحمة الله . وسدَّ آذانهم عن سماعه ، حتى إذا دعاهم أحد إلى الهدى فلن يهتدوا إذن أبدا .

          فأصبح واضحاً في ضوء هذه الآية الكريمة  ، معنى قوله تعالى : { .. وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا .} أما عبارة : { .. وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا .} أي كان من المسرفين المتجاوزين لحدود الله جلت عظمته .

          طبعاً هذه الآية { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ .. } هي بموجب علوم القرآن ملزمة  لكل مسلم ومسلمة  ومؤمن ومؤمنة وإلى قيام الساعة ، وقد ضرب الله للناس مثلاً عن مصداقيتها ، أنها عهد محمَّد (ص) نزلت في سلمان وأبي ذر  وصهيب وعمَّار وحبَّاب وعبد الله بن مسعود وبلال الحبشي وغيرهم من فقراء أصحاب النبي (ص) ، وكان بعضهم خدماً وبعضهم رعاة غنم عند أثرياء  قريش ووجهـائها . وذلك أن الأقرع بن حابس  وعيينة بن الحصين  وغيرهما من المؤلفة قلوبهم  ، جاؤوا إلى رسول الله  (ص)  فقالوا : يا رسول الله  إن جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء  وروائح صنانهم ، وكانت عليهم جبات الصوف ، جلسنا نحن إليك وأخذنا عنك ، فلا يمنعنا  من الدخول عليك  إلا هؤلاء ، فلما نزلت  الآية قام النبي (ص)  يلتمسهم فأصابهم في آخر  المسجد يذكرون الله عز وجل ، فقال الحمد لله  الذي لم  يمتني حتـى أمرنـي  أن أصبـر نفسـي  مع رجال من أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات (*) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)  أنظر  مجمع  البيان للطبرسي المجلد الرابع  ج ۱۵ في تفسير الآية الكريمة .

          في الحقيقـة ، إن  طبائـع  البشر ،  ما  لم  تكن  مهذبـة  بالأخـلاق الدينية والتعاليم الإلـهية ، فإنه يغلب عليها الميل عن الحق وعن العدل ، وعن جواهر  الأمور إلى مظاهرها وأعراضها ، فتُفضِّل الأغنياء بمالهم ، على الأغنياء بربهم ، وتفضل  الثوب  أو  المظهر  الذي  يحكي  الوجاهة أو الثراء  أو المكانة الإجتماعية  المرموقة ، ولو كان أصحاب هذه الثياب  أو المظاهر من الفساق أو المنحرفين أو الجاهلين  ، تفضلهم على  فقراء المال  والأثاث والثياب ، ولو كانوا من أصفى الناس جوهراً وأكثرهم قرباً من رحمة الله ورضاه ورضوانه  .

          هذه الظاهرة تتكرر  في تواريخ البشر  ، مهما توسعت الثقافات وتقدمت الحضارات ، ما دامت  لا تحتكم  إلى التعاليم الإلـهية . وما حصل في عهد محمَّد (ص)  سيد الرسل وخاتم النبيين . حصل ما يشبهه تماماً  قبل بضعة آلاف من السنين  على عهد نبي الله  نوح عليه السلام .  وقد حكى الله قصته في القرآن الكريم ، محيطاً  بكل جوانب دعوته إلى الله تبارك وتعالى ورسالته  التي حمَّله إلى الناس على مستوى  الأرض آنذاك .

          وحيث أنه وكالعادة مع الرسل والأنبياء ، استجاب لنوح ٍ الفقراء والمستضعفون  والمسحوقون من العبيد  والرعاة والخدم ، فقد أبرز  الله كذلك  ، موقف  الناس  من هؤلاء ، وهذه  الظاهرة هي من الجوانب  المهمة  في  كل دعوة إلى الله ، فقال سبحانـه وتبارك وتعالى  في كلام عن نبيه  نوح عليه السلام  ، وموقـف قومه منه  ومن أتباعه :

 { فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ . سورة هود  الآية ۲۷ } .

          جاء في لسان العرب لابن منظور : الرذل  والرذيل والأرذل : الدون من الناس ،  وقيل الدون  في منظره  وحالاته ، وتجمع على أراذل ورذلاء ورذول ورذال وأرذلون .

        فإذن تلك هي طبائع البشر إذا لم تتخلق بدين الله وإذا لم تتهذب بتعاليمه . ويبدو بوضوح أن الله سبحانه في تربيته للمؤمنين ، هذه التربية  الفذَّة التي رفعتهم وما زالت ترفعهم من مستوى البهيمية  والحيرة وظلام  الأنفس  والكفر المؤدي إلى الجحيم ، إلى مستوى الإنسانية الحقيقية  التي أرادها الله نورانية عاقلة مؤمنة برب هذا الكون العظيم وبوعده ووعيده ، وعدله ورحمته . هذه التربية الفذة ، من  أبرز عناصرها  ومراحلها ، أنه أمر فيها سبحانه بالانحياز الكلي إلى المؤمنين الصديقين من أهل طاعته ، ومعاداة الكفار الرافضين لدينه ورسالته من أهل الوثنية أو العناد أو الإلحاد . وواضح أنه سبحانه  ما تشدد معهم هذا التشدد إلا إغراءً برحمته ، وما جعل ذلك إلا وسيلة من وسائـل الضغط التربوي  المرشد والموجه إلى ما فيه النجاة من الضلالات . قال سبحانه مخاطباً المؤمنين :

         

          { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاؤُا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ .. . سورة الممتحنة الآية ٤ } .

          هكذا بهذا القول الفصل والموقف الفصل ، وقف إبراهيم والذين معه من قومهم يكنُّون لهم العداوة والبغضاء ، ما داموا يشركون مع الله غيره ، سواء كان هذا الغير أوثاناً مجسمة ، أو  أوثاناً معنوية ، كما رأينا في الآية { .. إِنَّمَا اتَّخَذْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ ..} أو أنهم يدعون الله ويدعون  غير الله  من خلقه ولو كانوا من الصالحين ، أو أنهم يسترزقون  الله ويسترزقون غيره ، من الأنبياء أو الأولياء الماضين الذين أقاموا  لهم  أنصاباً  وتماثيل . لقد عرف إبراهيم من ربه  ، أن كل هذا من الشرك العظيم الذي هو الظلم العظيم ، لذلك اشترط ومن معه على قومهم ، أن لا يوادوهم  ولا يوادعوهم إلا إذا آمنوا بالله وحده لا شريك له ، سواء كان الشريـك معنويـاً ، كالمودة بين الأصدقاء الدنيويين  ، أو مادياً كالبشر المميزين أو الحجر أو غير ذلك من أنواع الشرك الظاهر  والشرك الخفي .

          هذه الأسوة ، موقف  إبراهيم ومن معه من قومهم ، والتي أمر الله المؤمنين  أن يتأسوا بها ، يعني أن يقفوا من أقوامهم  مثل موقف إبراهيم وصحبه ، هي أسوة في الحقيقة  ذات حدين : حد فيه تنبيه  عقلي وضغط أدبي  ومعنوي على غير المؤمنين ، ليعودوا عن غيهم واستكبارهم ويفوزوا بالنجاة من الضلالات ومن عذاب الله . وحدٌّ فيه تمحيص للمؤمنين : هل يطيعون الله ربهم وهل يثبتون على أمره ولا يخافون لومة لائم ، فإن فعلوا كانوا من الناجحين في هذا الإمتحان وكانوا من الصديقين . وكانوا من مصاديق  قوله عز وجل :

{ لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . سورة المجادلة الآية ۲۲ } .

          ويبدو أن هذا الامتحان ، لا بدَّ أن يشكل مرحلة من حياة كل مؤمن ، حتى ينجح فيه فيستكمل إيمانه . فإذا نجح كتب الله في قلبه الإيمان وأيـده بروح منه ، وهي درجة عالية من درجات الوصول إلى الحق ِّ .

          ولعل بعض المؤمنين ، بينما هو مستجيب لأمر الله بكل أبعاده وجوانبه ، مطيعاً مخلصاً ، صادقاً صدِّيقاً ، قد يستشعر في نفسه حنيناً لبعض من يقاطعهم بمودته أو بمخالطته لهم ، من مثل أب ٍ أو إبن أو أخ ٍ أو قريب أو حتى  عامة القوم ، ما دام هؤلاء جميعاً لا يؤذونه ولا يقاتلونه في الدين . هنا يظهر إعجاز القرآن ورحابة هذا الدين العظيم وكماله . فإن الله سبحانه وتعالى أدرج آيات في سياق  آية الأسوة هذه ، فيها متنفسات لأهل طاعته والحريصين على تنفيذ أوامره ، وفيها إجابات على جميع ردود الفعل النفسية عند المؤمنين وتساؤلاتهم في مجالات سلوكهم وتحركاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية  وحتى عند غير المؤمنين المقابلين لهم في الطرف الآخر . قال تبارك وتعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْـوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآَخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ . سورة الممتحنـة  الآية ٦ } .  هذه الآية محطة من الإعلام الإلـهي بين آية التشدد التربوي في المقاطعة لغير المؤمنين  الموحدين وبين آيات  التنفيس والتراحم  ، مفادها المهم جداً والمؤثر  جداً عند العقلاء  وأصحاب النظر ، أن الله عز وجل ، إنما يريد بهذه التعاليم الضبط والربط في قضايا التعامل  والسلوك الفكري  والإجتماعي ، مصلحة الإنسان  ورحمته وخَلاصِه ، وأنه سبحانه وتعالى غني عن العالمين . إذا امتنع  الناس عن حمده وشكره ، فإنه يحمد ذاته بذاته ويحمده خلقه في عوالمه التي لا تنتهي ولا تحدُّ ولا يدركها عقل بشر ، وهذا معنى قوله تعالى :{ .. فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ .} .

          ثم تأتي الآيات التي فيها الرجاء بانتهاء المقاطعة ، لدخول الأقارب والقوم ، بعضاً أو كلاً في دين الله وخاصة في توحيد الله ، وفيها في نفس الوقت أصول التعامل أو شروط  التعامل الإجتماعي  مع هؤلاء وهؤلاء . يقول  تبارك وتعالى :

{ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ . إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . سورة الممتحنة الآيات ( ۷ ـ ۹ ) } .

          فقوله تعالى : { عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً .. } أي بينكم وبين الكفار وأهل الشرك عامة ، وذلك بأن يدخلوا هم في الإيمان  وفي تفهم المؤمنين ، فتنقلب العداوة بزوال أسبابها  إلى مودة ، كما فيها تطييب  لنفوس المؤمنين بعد أن جاهدوا أنفسهم ولزموا حدود الله ، إنتصاراً لأمر الله ، أما قوله تعالى : { .. وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ . }  ففيها غاية الطمأنينة إلى قوة الله وقدرة الله على تغيير الأمور  من أسوأ حال إلى أحسن حال ، غفور للتوابين ، رحيم بهم كما بعامة المؤمنين .

          أما قوله تعالى : { لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ..  } سواء آمن هؤلاء أم لم يؤمنوا ، المهم أنهم  لم يواجهوكم بقتال ولا بعداوة ، فلا بأس بالتعامل معهم بالبر الذي هو الخير والإقساط  الذي هو العدل الذي يحبه الله ويحـب أهلـه ، وذلك قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } .

          يبقى قوله تبارك وتعالى : { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ .. } التولي هنا ، الرضى بحكمهم  والرضى بصداقتهم  والإطمئنان إليهم ، فهؤلاء يبقون أعداءً حتى يعتذروا  هم إليكم ، ويقروا بما اقترفوه بحقكم من ظلم وأذى  وعدوان ، ويظهروا ندامتهم على ذلك ، ومع الندامة  الرضى والمودة لكم ، فإن لم يفعلوا  يبقون أعداءً  حاقدين يجب الحذر منهم والبعد عنهم . { .. وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . }  والظالمون عليهم غضب الله ونقمته في  الدنيا وفي الآخرة .

          يبقى أن نلفت إلى أن البعض قد يظن أن هذا التشريع إنما هو مختص بعهد النبي محمَّد (ص) وبقومه وأصحابه ، وإنما كان لتنظيم وضعهم  ومجتمعهم فقط . فهذا الظن فيه  تضييق شديد على عالمية  القرآن وعالمية التشريع . والحقيقة أنه لازم ملزم  إلى قيام الساعة ، ونظرة إلى التاريخ بمراحله ، وإلى الحاضر على مستوى العالم ومستوى مجتمعاتنا الراهنة ، نجد أنَّ ظروف الدعوة إلى الله وإلى دينه العظيم  وكتابه المجيد ، وإلى توحيده ونفي الشرك عنه ونفي البدع عن أصالة هذا الدين ، تتكرر ، ويتكرر معها عداء الأعداء  عالمياً ومحلياً ، وأحقادهم ومؤامراتهم ، وشن حروبهم على المسلمين والمؤمنين من كل حدب وصوب . وهم يجدون من يتعامل معهم من العملاء من أهل الحقارة والكفر والخساسة . لذلك ليس لنا ملجأ  في حيرتنا  في التعامل مع جميع هذه الأصناف ، إلا الله عز وجل وكتابه المجيد وتعاليمه المنجية من الخطأ والزلل ، والمثبتة على طاعته ورضاه ، والضامنة للصلاح والفلاح ، في الدنيا والآخرة .