هل المحبة والرحمة تعليم إلـاهي لجميع ما خلق الله ؟! :

 

هل المحبة والرحمة تعليم إلـاهي لجميع ما خلق الله ؟! :

============================

          أحد كبار العلماء في بعض رسائله العرفانيـة يقـول :

” فاجعل نظرتك إلى جميع الموجودات وخصوصاً البشـر ، نظـرة رحمـة ومحبة …” وفي سياق آخر من رسالته يقول : ” ولو زال الحجاب لاتضح لنا أن كل ما هو منه جل وعلا محبوب ، وكل ما هو مبغوض فليس منه ، وهو بالتالي ليس موجوداً . “

          وسؤالنا : هل تقر التعاليم الإلـ هية هذين المبدأين ؟

          طبعاً ، إنّ مرجعنا الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو الكلام الفصل ، هو كتاب الله ، القرآن الكريم  . فماذا في القرآن الكريم ، حول هذين المبدأين ؟ .

أولاً : بالنسبة للمقولة الأولى : فاجعل نظرتك إلى جميع الموجودات  وخصوصاً البشر نظرة رحمة ومحبة ، يقول الله تبارك وتعالى : { … وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ … سورة هود الآيات ( 118 ـ 119) } . أي خلق الجميع ليرحمهم ، ولكن الذين لا يزالون مختلفين لا تنالهم رحمته سبحانه ، تنال فقط  الذين استثناهم في الآية الكريمة كما هو واضح .

          ثم قوله سبحانه في أول سورة الممتحنة  : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } .

          وقوله تبارك وتعالى هذه الآيات التي تطلع على الأفئدة وتهز النفس المؤمنة هزاً عميقاً :

          { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ َلا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ . هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ . سورة آل عمران الآيات ( 118 ـ 120 ) } .

          رغم أن هذه الآيات الرائعات غنية عن البيان إلا أن إشارتين فيهما أقوى من ان يمر عليهما دون توقف ، أولاهما قوله تعالى : { هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ .. }  وواضح أنه من العجز والغبن والغباء أن نكن المحبة لمن يبغضنا ، أما قول المسيح الذي تأثر به ودار حوله بعض العرفانيين ، حيث قال (ع) ” أحبوا أعداءَكم ” فقد نسخه هو ونقضه في أكثر من موقف . من ذلك غضبه وإشهار سوطه يضرب به وجوه الباعة وظهورهم بدعوى أنهم دنسوا الهيكل بما يبيعون (*) . ومن ذلك موقفه من بطرس ، أحد تلاميذه ، حيث امتشق سيفه يقاتل به وبضراوة  قوماً ، كانوا بدسيسة من اليهود ، يعذبون المسيحيين ويضطهدونهم . فقال له المسيح والسيف يقطر دماً من أعدائه : ” يا بطرس أنت الصخرة التي ستقوم عليها الكنيسة ” يقول  ذلك مادحاً لبطرس مسروراً بفعلته . فأين من ذلك محبة الأعداء الحاقدين المبغضين وأين من ذلك رحمتهم ؟! .

          أما الإشارة الثانية في الآيات الرائعات ، فقوله تبارك وتعالى  : { ..  قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ .. } وهو خطاب للنبيّ (ص) وخطاب لكل قرآنيّ مؤمن ومسلم . وكذلك  هو واضح أن صيغة هذا الأمر الذي يأمرنا به الله تعالى في مواجهة مبغضينا والحاقدين علينا  والمتمنين لنا أسوأ أنواع الهلاك ، أن هذه الصيغة { ..  قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ .. } لا يمكن أن نحمِّلها الرحمة والمحبة . وأهم ما نستفيده من روح الآيات أن الله عزت عظمته ، يريد لنا العزة والشرف والعدالة ، ولا يرضى لنا الذلـة والمهانة ، خاضعين لذابحينا ومريدي إبادتنا ، يقتلون الأطفال ويهتكون الأعراض ، ونقابلهم بالمودة والرحمة ، ونرش عليهم الأرز والرياحين والزنابق .

          وأخيراً ، نعم يمكن أن نقول أن رحمته سبحانه شملت كل شيء ، ولكن لم تشمل محبته كل شيء .

          أما بالنسبة لقول القائل : ” ولو زال الحجاب لاتضح لنا أن كل ما هو منه جلَّ وعلا محبوب ، وكل ما هو مبغوض فليس منه وهو بالتالي ليس موجوداً  ” .

          وهذا الكلام من عجيب التحكم ، وهم يقوِّلون الله عكس ما يقول  سبحانه ، أو أنهم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) يبيعون الأبقار والأنعام وأنواع الماشية حيث كانت تدنس بقذاراتها .

 يردّون على قرآنه ـ والقرآن كلامه ـ بخلاف نصوصه الواضحة لكل من يعي ويسمع ويبصر ، ولا سيما النصوص غير القابلة للتأويل ، ومنها قوله تبارك وتعالى :

 

{ … وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ . سورة البقرة الآية 205 } . وقوله تعالى : { … فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ . سورة آل عمران الآية 32 } . وقوله تعالى : { … وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ . سورة آل عمران  57 } . وغيرها من أقواله تعالى أنه : { .. لا يحب .. }  لم نتتبعه إلى النهاية  مكتفين بما أوردناه .

          فهو سبحانه يحب ولا يحب . وقد ذكرنا أمثلة مما لا يحب ، وهذه أمثلة مما يحب تبارك وتعالى ، كذلك نكتفي ببعضها ، ودائماً وبالضرورة  من القرآن الكريم :

          قال تعالى : { … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . سورة البقرة الآية 195 } . وقال سبحانه : { … إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ . سورة البقرة الآية 222 } .

          وفي زعم الزاعم  ( أن كل ما هو منه جلَّ وعلا محبوب وكل ما هو مبغوض فليس منه وهو بالتالي ليس موجوداً ) هذه العبارة تذكرنا بفلسفة  الوجودية وشطحات أصحابها  والتي حلَّ لهم مشكلتها ” ديكارت ”  بقولته المشهورة : ” أنا أفكر فأنا موجود ” .

          فالله عز وجل ذكر أشياء وموجودات  قال إنه تعالى لا يحبها مثل الفساد والطاغين والكافرين فكيف من زعم أنها غير موجودة  وهو في مقامه من أولى مهماته أن يرجع إلى القرآن الكريم كعالم مسؤول عن العقيدة وعن تبليغها ، ولا سيما أن كلام العلماء الكبار وكتاباتهم يقتدي بها الملايين في مشارق الأرض ومغاربها .

          ومعاصي الجن والإنس موجودة ، وصحيح أنها ليست من الله ، بل من أصحابها ولكنها موجودة ومبغوضة  ، بعكس ما أورده ( قدس سره ) . ومن أكبر الموجودات في الآخرة جحيم النار التي توعَّد بها الله المعاندين والعصاة  والكافرين والمشركين والمنافقين والمكذبين إلخ …  موجودة وهي ليست محبوبة ، وقطعاً هي مبغوضة عند كل من يعقل ويتأمل . وكذلك  العذاب في الدنيا والآخـرة هو مبغوض وهو موجـود . قولـه تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ . وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } . ( وبعدها ) { يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي . سورة الفجر الآيات ( 25 ـ 30 ) } .

          وأكثـر من ذلك ، فإن الله تعالى لا يرضى لنا أن نحب نحن ما لا يحبه هو سبحانه . كما ولا يرضى لنا أن نبغض ما يحبه هو عزت عظمته .

          قد يقول قائل : صحيح إن الله تعالى  لا يحب  ولكنه لا يبغض . بلى ، ليس الأمر هكذا ، قال تبارك وتعالى عن قومٍ يبغضهم { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ . سورة المائدة الآية 80 } .

          بقي أن نقول أن  تطبيق القولين المفتريين  على القرآن الكريم ، يستحيل من قبل الدعاة إلى الله  المجاهين في سبيله الذابين عن دينه ، الساخطين لسخطه ، الراضين لرضاه ، المحبين ما يحب ، المبغضين ما يبغض  ، سواء  كان جهادهم  بالسيف أو القذيفة  أو الكلمة المكتوبة أو المسموعة ، شعراً ونثراً ورسماً أو تمثيلاً أو بأي فن من الفنون التي تتشرف بحب الله وتتقرب من مجده وفردانيته  ووحدانيته في ألهانيته .

          ثم إننا كمسلمين  ممنوعة علينا الرهبانية فـ ” لا رهبانية في الإسلام  ” وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

تناقض يحسمه القرآن الكريم :

==========================

          يقول أحد العلماء  الكبار في بعض كتبه :

          ” إعلم أن ليس لأي موجود من الموجودات ، بدءاً من غيب عوالم  الجبروت  وإلى ما فوقها  أو تحتها ، شيء من القدرة أو العلم أو الفضيلة . وكل ما فيها من ذلك إنما هو منه جلَّ وعلا . فهو الممسك بزمام الأمور من الأزل إلى الأبد ، وهو الأحد الصمد . فلا تخش  من هذه المخلوقات الجوفاء الخاوية الخالية ، ولا تلق آمالك عليها  أبداً ، لأن التعويل على غيره تعالى شرك ، والخوف من غيره جلَّت قدرته كفر ” .

          ويقول في مكان آخر ، من نفس الكتاب ، ما يتناقض تماماً مع هذا الكلام :

          ” وإنما الأمل بفضل الله وإمداد أوليائه عليهم السلام “

فتارة هو يحصر كل خير بالله عز وجل ، وهذا فهم قرآني صحيح : { بيده الخير وهو على كل شيء قدير } وتارة يعوِّل على إمداد أوليائه عليهم السلام . وهو كان قال في الفقرة  الأولى ” أن التعويل  على غير الله تعالى شـرك والخوف من غيره جلت قدرته كفر ” .

          وهذا التناقض ، يبلبل القراء والأتباع الذين بالملايين . فيوقعهم في الشرك وفي الكفر ، من حيث لا يقصد ولا يقصدون والحقائق القرآنية تؤيد ما قاله في الفقرة الأولى ، وفي هذه الحقائق تعريف الله تبارك وتعالى نفسه ، وتعريفه نفوس المخلوقين ، ثم تعريفه سبحانه  العلاقة بينه وبين خلقه . وما جاء في القرآن الكريم عن ذات الله  وعن حاكميته  للكون جملة وتفصيلا ، لم  ينـزل في كتـاب قبل القرآن الكريم  ولم يتشرف بمعرفته أحد قبل رسول الله محمّد (ص) ، حتى من الأنبياء والمرسلين .

          ولقد ذكرنا في كتابنا ” مفتاح المعرفة الجزء الأول ” بعض الفروق السافرة والمميزة جداً ، بين محمّد (ص) وقرآنه المنزل عليه ، وبين موسى وتوراته وعيسى وإنجيله عليهما السلام ، وبين نظر كل واحد من الثلاثة إلى الله وإلى الوجود ، ثم علاقة كل واحد منهم  بربه سبحانه ، بناءً على مدى معرفته به ، أو  بناءً على مدى ما اختصه الله به من المعرفة .

          من مفاتيح معرفة الله تعالى في القرآن الكريم :

قوله تعالى       : { هُوَ الأَّوَّلُ وَالآخِرُ  وَالظَّاهِرُ  وَالْبَاطِنُ  وَهُوَ  بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة الحديد الآية 3 } .

 

وقوله تعالى      : { … وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ …  سورة  الحديد الآية 4  }  .

وقوله تعالى      : { … مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُـمَْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ … سورة المجادلة الآية 7 } .

 

وقوله تعالى      : { … وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاَءً حَسَنًا إِنَّ  اللَّهَ سَمِيـعٌ عَلِيمٌ . سورة الأنفال الآية 17 } .

 

وقوله تعالى      : { … أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ . سورة فصلـت الآية 54 } .

 

وقوله تعالى      : { … وَأَنَّهُ عَلَـى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .  سورة الحج الآية 6 } . هذه الاية كررها الله سبحانه وتعالى في أكثر من سورة وبحدود 50 مرّة ..

 

وقوله تعالى      : { … هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ … . سورة الرعد الآية 33 } .

 

وقوله تعالى      : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . سورة ق الآية 16 } .

 

وقوله تعالى      : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ … سورة الأنفال الآية 17 } .

 

وقوله تعالى      : { وَهـُوَ الَّذِي فِي السَّمـَاءِ إِلهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ . سورة الزحرف الآية 84 } .

 

وقوله تعالى      : { … يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ… سورة البقرة الآية 255 } .

          هذه المفاتيح لمعرفة الملِك الحق ، لا يوجد مثلها في الكتب والتعاليم الإلـهية التي أنزلت قبل رسول الله محمّد (ص) إلاَّ الدعوة إلى التوحيد ، ونفي الشرك عن الله تبارك وتعالى ، حيث كانت البشرية ، غير مؤهلة بعد ، عقلياً وعلمياً ، لإدراك هذه الحقائق الكبرى .

هل المخلوقات هي الله ؟!

====================================

          لذلك ، وبعد نزول القرآن الكريم ، على رسول الله محمَّد (ص) وبعدما أنزل عليه (ص) من الأحاديث القدسية ، التي تسبر أغوار الكتب السماوية ، ولا سيما أغوار القرآن الكريم ، استأثرت هذه المفاتيح بعقول الفلاسفة ، وأهل العرفان وجماعات الصوفية وأكابر العلماء ، حتى جماعة الكهنوت عند رهبان النصارى وأحبار اليهود . وكانت المشكلة المحنة هي قضية وحدة الوجود أم عدم وحدته .

          أما الذين نزَّهوا الله بما نزَّه هو عنه ذاته سبحانه فقد رفضوا حكاية وحدة الوجود ، أي أن يكون الله متحداً بالكون جملةً وتفصيلاً ، وهو الذي قال وفصَّل أنه كان قبل الكون وأنه هو سبحانه القديم الموجود الذي خلق الوجود . قال تعالى : { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ . اللَّهُ الصَّمَدُ . لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ . وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ . سورة الإخلاص } .

 

          وقال تعالى : { ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ . سورة الأنعام الآيـة 102 } .

 

          وقال تعالى : { قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . سورة الرعد الآية 16 } .

 

 

          وقال تعالى : { وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ . سورة النحل الآية 20 } .

 

          وقال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورًا . سورة الفرقان الآية 3 } .

 

          أما الذين قالوا بوحدة الوجود ، فقد أشكلت عليهم الآيات التي ذكرناها في صدر هذا البحث ، ولا سيما آية { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ .. سورة الحديد الآية 3 } إضافة إلى بعض الأحاديث القدسية التي أولوها  بالوجدان ولم يؤولوها بالقرآن ، علماً أن القرآن الكريم  هو الميزان الذي يجب أن يوزن به كل حديثٍ قدسيٍّ أو نبويٍّ أو إماميٍّ أو أي رأيٍّ مدّعىً أو أيَّة حكمة  .

          وهكذا اشتبه عليه الأمر ( قدس سره )  . فهو يقول في بعض كتابه الذي نحن بصدده :

          ” فهو أمرٌ فطر عليه جميع الناس . بل جميع الموجودات . فما يبحث عنه ويجري وراءَه الجميع سواء في العلوم والفضائل والفواضل . أو في المعارف وأمثالها ، أو في الشهوات والأهواء النفسانية . أو في التوجه إلى كل شيء  وأي شخص  من قبيل أصنام المعابد والمحبوبات الدنيوية الأخروية الظاهرية والخيالية المعنوية والشكلية . كحب النساء والبنين والقبيلة  والقادة الدنيويين  كالسلاطين  والأمراء وقادة الجيوش ، أو القادة الأخرويين كالعلماء المفكّرين والعرفاء والأنبياء (ع) كل ذلك هو ذات  التوجّه إلى الواحد الكامل المطلق . فليس من حركة تقع إلاّ له تعالى ، وفي سبيل الوصول إليه جلَّ وعلا ، وليس من قدم تخطو إلاَّ نحو ذلك الكمال المطلق ” .

          وهو كما سيتضح ، متأثر إلى حد كبير بأقوال بعض الفلاسفة  ومشاهير الغلاة  الذين قالوا بالحلولية ، ومنهم الحلاج الذي قتل متهماً بالزندقة  وصح عنه أنه قال في آواخر أيامه :

   طلبت المستقر بكـل أرض     فلم أرَ لي بأرض  مستقرا

   أطعت مطامعي  فاستعبدتني             ولو أني قنعت لعشت حرّا

          ثم إمام التصوف  محي الدين بن عربي الذي نسبت إليه نظرية هي من أغرب النظريات الصوفية والفلسفية في وحدة الوجود ، حيث زعموا أنه كتب : ” فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير ، بل يفوتك العلم  بالأمر على ما هو عليه . فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها ، فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد فإنه يقول : { … فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ …} وما ذكر أيناً من أين . وذكر أن ثم  وجه الله  ووجه الشيء حقيقته … فقد بان لك عن الله تعالى  انه في أينية كل وجهة ، وما ثم إلا الاعتقادات . فالكل مصيب وكل مصيب مأجور ، وكل مأجور سعيد ، وكل سعيد مرضى عنه (*) ” .

          وقد زعموا كذلك أن لإبن عربي هذا البيت من الشعر :

” عقد الخلائق في الإلـه عقائداً   وأنا اعتقدت جميع ما عقدوه”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)        محي الدين بن عربي : فصوص الحكم ( مع الشرح ط : القاهرة     1304 ـ 1323 هـ )  ج 2 ص 60 وما بعدها .

          ويلاحظ بوضوح أن كلامه ( قدس سره ) يطابق بمضامينه وأبعاده ، كلام ابن عربي المزعوم . وأقول المزعوم ، لأني أشك ، حتى وأنكر ، أن إمام المتصوفين محي الدين بن عربي ، يعتقد هذا الإعتقاد أو يصدر عنه مثل هذا الكلام . وقد أنكر هذا الزعم غيري من المهتمين بالفكر الإسلامي ، ولا سيما ما يدور حول القرآن الكريم ومفهوم التوحيد الذي هو أعلى المفاهيم وأغلاها على الإطلاق .

          أما الكلام الذي قرأناه له ( قدس سره ) ثم الذي قرأناه لإبن عربي  فهو يخالف الفكر الإسلامي عامة ، كما يخالف القرآن الكريم ، كما يتنافى تنافياً شديداً مع مفهوم التوحيد .

          أما مخالفته للفكر الإسلامي والقرآن الكريم ، فلكون الفكر الإسلامي في أصالته بسيط ، تقوم جميع مبادئه على الثواب والعقاب لفريقين من البشر وغيرهم ، في الدنيا والآخرة : فريق ُيثاب وفريق يُعاقب . وضمن هذه المبادىء البسيطة ، قيام الساعة حيث تحشر الخلائق : ثم تقسم في نهاية المطاف : فريق في الجنة وفريق في السعير .

          أما الكلام الذي هو بين أيدينا للعلامة الجليل والمنسوب لإبن عربي ، فهو يخلط خلطاً منكراً بين أهل الثواب وأهل العقاب ، وكأنما كذلك بين الجنة والنار ، وواضح أن هذا لا يستقيم لا عقلاً ولا شرعاً ولا عدلاً ولا رحمة ، قال الله تبارك وتعالى : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ . إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ . وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ . ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ . فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ . سورة البروج الآيات ( 12 ـ 16) } .

          وقال عزَّت عزته : { فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . سورة العنكبوت الآية 40 } .

          فإذن حسب الآيات التي أوردنا من سورة البروج . بمن بطش ربك لشديد ، ولمن هو سبحانه غفور ودود ؟ إذا كان جميع الخلق ومنهم الناس على حق في عقائدهم وفي تعبدهم بين الصنم وبين الشيطان وغير ذلك من المعبودات المنكرة . ثم بين كل ذلك الكفر والشرك والإلحاد … وبين عزة الله والتعبُّد له وحده ؟ وهما يُقِران ( أي العالم الجليل وكلام ابن عربي المزعوم ) أنه لا إلـه إلاَّ الله ، وأن القرآن حق ، فإذا كان في الآيات التي ذكرناها تأويل ، فما هو تأويلها ، سواء آيات سورة البروج ، أو آيات سورة العنكبوت  التي فيها يقول سبحانه : {… فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأََرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا … } وهذه الآيات هي أحداث وقعت في تاريخ البشرية فهي غير قابلة للتأويل ، لأنها حقائق تاريخية مادية ،  ومن أراد أن يعاند أو يكابر فيتمحَّل لها تأويلاً على طريقة الزنادقة وليس على طريقة الراسخين في العلم ، فنقدم له دليلاً مادياً على سفينة نوح ، التي اكتشفت في الخمسينات أو الستينات على قمة أحد أعلى جبال أرارات  نواحي تركيا ، ونقلت بعض أهم آثارها إلى المتحف الرئيسي في موسكو . وهذا الخبر يعرفه الكثير ، من العلماء النجفيين والطلبة الذين كانوا في العراق في الفترة التي ذكرت .

          وكذلك خبر أهل الكهف ، وهروبهم من قومهم الوثنيين لأنهم كانوا يؤمنون بالله ، وقومهم لا يؤمنون . ثم خبر كهفهم الذي اكتشف بكامل أوصافه القرآنية ، في بعض نواحي الإردن . فهل قوم أهل الكهف المعادين لله المهدِّدين بالقتل من يؤمن به سبحانه هم كذلك على حق ؟ وهم كانوا يعبدون الله في الحقيقة ؟ حسب المنطق المزعوم ؟ .

          ثم لو شئنا أن نستشهد بآيات أخر لتقرير الحقائق القرآنية التي تتعارض تعارضاً شديداً مع منطق العلاَّمتين ( قدس سرهما) ـ إذا صح زعم ابن عربي ـ فسنحتاج لذلك إلى مئات الصفحات . وإنما نكتفي بما أوردنا من الآيات ، وحسبنا ما فيها من قوة الحجة وساطع البرهان ، وإلا كما قال أحد العقلاء :

   وليس يقرُّ في الأذهان شيء   إذا احتاج النهار إلى دليل ِ.

          نكتفي بهذا لننتقل ، بالقارىء ، الذي خشينا عليه من الوقوع في المتاهات وفي ما يسخط الله سبحانه ، فيخسر الدنيا والآخرة . ننتقل معه ، إلى معارضة هذا الإعتقـاد ، أو تنافيه ـ كما قلنا ـ تنافيا شديداً مع مفهوم التوحيد ، الذي هو أغلى وأعلى المفاهيم عند العقلاء في الوجود .

          فالعلامة الجليل ( قدس سره )  ، إضافة إلى ما تقدم عن الإشارات المنكرة إلى وحدة الوجود ، والخلط العجيب بين منتهى  الجمال في ما خلق الله  وبين منتهى القبح فيما يصدر عن المخلوقين ، إذا كفروا أو أشركوا أو نافقوا أو ضلوا ضلالاً مبينا … هو يضيف في صفحة لاحقة من الكتاب إياه فيقول :

          ” والأمر سيّان إذا التزمنا إطار العقل ، أو الأطر الأخرى بأسرها . فجميعها تفصح عن ان الكمال المطلق هو جميع الكمالات ، وإلاَّ فهو ليس بمطلق . ولا إمكان لظهور أيّ كمالٍ أو جمالٍ في غير الله ، لأن الغيرية هي عين الشـرك إن لم نقل إنها إلحاد ” .

          واهتمامنا الكبير من هذا القول ، بالعبارة الأخيرة : ” لأن الغيرية هي عين الشرك إن لم نقل إنها إلحاد ” .

          وهذا الكلام يعني ، وبشطحة قلم ، قضى على مليارات المؤمنين في تاريخ البشرية ، منذ تاريخ الأديان المنزلة ، قضى عليهم بالعذاب المؤبد  في  جحيـم النـار ، لأن من لا يؤمـن ـ حسب مقولته ـ ( بأن الله في الجبة ) كما قال الحلاج ، أو أنك أنت الله أو أنا ، أو ذاك الشيطان ، أو تلك التي في الزواريب ، أو مدينة بومباي ، التي تبين أنها أوسخ مدينة في العالم ، أو البقرة  التي يعبدها الهندوس ، أو .. أو .. إلى آخر ما يصدم  أنفك أو عينك أو أذنك في العالم ، طبعاً إضافة إلى كل ما هو جميل ، إذا لم يكن كل ذلك هو الله ، بنظرك وبنظر مليارات البشر ، الذين ينزهون الله حتى عن مقارنته بأعظم المخلوقين في الوجود ، فأنت وكل هذه المليارات من المؤمنين في تاريخ البشرية أهل شرك أو إلحاد لأنكم فقط نزّهتم الله سبحانه كما نزّه هو نفسه ، بل ، وبأقل بكثير مما هو سبحانه نزَّه نفسه .

          ومعنى الغيرية التي تنفيها هذه المقولة ، يعني أن يكون الوجود المخلوق وأشياء هذا الوجود هي الله لا تنفك عنه ولا ينفك عنها ـ سبحانه وتعالى عما يصفون ـ وعلى هذا الأساس وبموجب هذه المقولة ، بدلاً من أن تصلي قائلاً إياك نعبد وإياك نستعين ، فتستطيع أن تقول إياي نعبد وإياي نستعين ، فلا تكون قد جاوزت فحوى هذه المقولة ومضمونها .

          ومعلوم في دعوى وحدة الوجود هذه مع الإصرار كما رأينا على اللاغيرية فيها بين الله تعالى وبين بقية خلقه ، أن في الوجود  ما يخشى الإنسان أو يأنف من مقاربته أو حتى من مجرد رؤيته ، من أشياء خلقها الله سبحانه ، مثل الجحيم والشياطين  ، وشجرة الزقوم ، التي لكي يصور لنا الله مدى قبحهـا ونفـور الأنفس منها  ومن أثمـارها ، قال { كأنها رؤوس الشياطين } ، وسواء كانت هذه حقائق مجردة تقف عند حدود ألفاظها ، أو كانت رموزاً لهذه الحقائق الغيبية ، فالأمر سيان  في كونها موحشة ورهيبة ومنفرة . يضاف إلى هذا الذي خلقه الله تعالى ، ما يخلفه الإنسان في يومياته من أعمال مشينة ، وأخلاق ساقطة ، وسفالات ، ثم الأشياء التي يفرزها ويتقزز منها فيواريها تحت الأرض ، لكي لا تصدم عينه وأنفه ودماغه، كل هذه المنكرات والقبائح بين سلوك الناس ومخلفاتهم ، كل هذا تريد النظرية أن يكون هو الله لترتاح نظرية وحدة الوجود التي بدون غيرية .

          أما أن الله مهيمن على الوجود ، أما أنه سبحانه محيط بالأشياء { ألا إنه بكل شيء محيط } أما أنه كما قال سبحانه عن نفسه : { لا يعزُب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين } أما أنه سبحانه { هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم } أما أنه تبارك وتعالى { هو الذي في السماء إلـه وفي الأرض إلـه وهو الحكيم العليم } أما أنه سبحانه  { وهو معكم أينما كنتم } أما أنه سبحانه قال : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } فهذا كله لا يعني أنه هو سبحانه عين الوجود وعين المخلوقات  وعين كل فعل يصـدر عن مؤمن أو عن غير مؤمن ، بل هو سبحانه وتعالى عما يصفون ، وسبحانه وتعالى عما يشركون ، هو كما أخبر عن نفسه : كان ولم تكن سماوات ولم تكن أرض ولم يكن أي شيء غيره ، فخلق السماوات والأرض وخلق كل شيء . وحتى قوله عزت عظمته في الآية الكريمة في سورة الشورى ، والتي يلتف حولها المفسرون ولا يقاربونها :

          { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ . سورة الشورى الآية 11 } .

 

          فهي لا تعني تجانسه مع خلقه ، بل تعني غيريته عن خلقه . وأقوى دليل على ذلك فيها ، قوله عزَّ في كبريائه: { ليس كمثله شيء } .

          فلقد تعلمنـا في المدارس مثلاً ، أن الزئبق لا يلامس جوانب الإناء الذي يوضع فيه ، وطبعاً لا يجانسه . وتعلمنا أن أنواع الأشعة مثل (سينا) و (غاما) تخترق الأشياء والأجسام ، وتفعل فيها سلباً وإيجاباً ولا تجانسها . كذلك اليوم يطول الحديث عن أشعة (ليزر) التي تخترق الصخر والحديد ، وتستعمل حتى لقطع الحديد ، إضافة إلى إستعمالها  في أنواع العمليات والعلاج للمرضى  .

          ونحن لا نعرض هذه الأمثلة ، التي هي من أسرار خلقه سبحانه ، إلا لنقرب المعاني في فهم غيريته هو تبارك وتعالى عن خلقه ، وإلا فهو عزت عزته ، منزه عن المقارنة بها وبغيرها . وتكفي قوة حجته ، وإشراقة دليله ، وساطع برهانه في قوله عزَّ من قائل : { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } .

          على أننا لا ننكر على الرجل الكبير ، الذي غير الله به مجرى التاريخ ، لا ننكر عليه عرفانه ، وله في النفس موقع مهيب ومحبب ، وكما وإننا لا ننكر ما آتاه الله سبحانه من صفات القيادة الفذة ، وجعل منه منارة قلَّما تتكرر في الأجيال .

          إلا أنه هو يعترف في كتابه ، بأنه لم يكن عملياً في تطبيقه لما يؤمن به من هذه الأمور التي يسميها عرفانية .

وربَّ قائل يقول ، ما دمت تعترف للرجل بكل ذلك على المستوى الإسلامي والعالمي ، وأنك من المعجبين والمحبين ، فمن أي موقع أنت تنظر لمقولاته وموقعه الذي لا يكاد يدانيه موقع أي رجل غيره في قلوب الملايين .

          أقول هذا صحيح ، ولكن أذكر بأن لله في خلقه شؤون ، وأقارن عظمة الرجل ، بعظمة نبيّ الله موسى عليه السلام ، حيث أن موسى (ع) شغل كذلك العالم في يوم من الأيام ، وتصدرت أخباره ومناقبه أجهزة الإعلام في عصره على مستوى العالم المعروف آنذاك ، ولا تزال . وميَّزه الله تعالى بتكليمه إياه ، وأنزل التوراة وأيده وأعزه ونصره على أعدائه أجمعين . حتى ظن موسى (ع) وظن أتباعه وأنصاره ومحبوه ، أنه فريد معدنه وعلمه في عصره وفي تاريخ البشر . ولكنَّ الله عزت عظمته بيَّن لموسى (ع) وللناس أن الحقيقة  غير ما يظنون وما يعتقدون . فكانت الواقعة المشهورة بين موسى (ع) وبين من أرسله الله تعالى ليتعلم منه ، ونحن هنا نكتفي بتدوين هذه الواقعة بنصها القرآني وبدون أي تعليق : قال الله تبارك وتعالى في كتابه المجيد :

          { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا . فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا . فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا .  قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا . قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا . فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا . قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا . قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا . قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا . قَالَ فَإِنْ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا . فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا . قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا . فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا . قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا . قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا . فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا . قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا . أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا . وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا . فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا . وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا . سورة الكهف الآيات ( 60 ـ 82 ) } .

          والأمر الوحيد الذي ينبغي أن نلفت إليه على وضوح الآيات والمعاني ، هو الفارق الكبير من حيث الشهرة الكبيرة التي نتجت عن الظهور في المواقف التي مكَّن الله موسى منها ، وبين  ذاك الرجل الذي مكَّنه الله من تعليم موسى بعد أن آتاه رحمة من عنده سبحانه وعلمه من لدنه علما .

          وكاتب هذه السطور ، وبمنتهى التواضع لله سبحانه ولعامة المؤمنين ، قد آتاه الله سبحانه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما ، فجعله مصداقاً من مصاديق آية النور ، وجعل فيه تجليات لرموزها ، وهي قوله سبحانه :

          { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة النور الآية 53 } .

وتفضل الله سبحانه عليه بالآيات الثلاث التي بعدها :

          { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ . رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ . سورة النور الآيات ( 36 ـ 38 ) } .

          ولذلك أنا في خشية كبيرة دائماً ، من أن لا أبلِّغ ما علَّمني ويعلمني إياه الله  تبارك وتعالى وتحت عظم المسؤولية التي حمَّلني إياها ، وتحت وطأة الآية الكريمة التي صدَّرت بها هذا الكتاب ، أكتب ما أكتب ، وهي قوله تعالى :

          { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ . سورة البقرة الآية 159 } .

          وحيث أن الله تبارك وتعالى بيَّن لي وما زال يبيِّن لي من حقائق التوحيد ما ينقذ الناس ويجنبهم البدع ، فأنا ملزم بإظهار ما يبين سبحانه ، وملزم بتبليغه وعدم كتمانه وطبعاً لأنجو من لعنه ـ والعياذ بالله ـ  ولأنال رضاه وهو حسبي في الدنيا والآخرة .

          لذلك كان لزاماً علينا ، بخصوص النظرية التي نحن بصددها أن نظهر ما فيها  من التشريك بين الله سبحانه وبين بقية خلقه . هذا التشريك  الخفيُّ الذي قال عنه رسول الله (ص) وقال أمير المؤمنين علي (ع) والأئمة الأطهار (ع) أنه كدبيب النمل في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء .

          وأعود فأقول ، إن الرجل كان معلماً وما زال لملايين البشر ، وذلك في طاعاته لله وحبه له ، الذي جعله عملاقاً وقزَّم أمامه طواغيت العصر وجبابرته كلهم . إلا أنه مع كل ذلك لم يدَّعِ العصمة ، وكان نموذجاً فذاً في تواضعه وترابيته ، ومن شاء أن يطَّلع علـى إنسانيـة الرجل ، وعلى بعض أخطائه وعدم عصمته فليقرأ كامل كتابه : ( ” وصايا عرفانية ” الإمام الخميني ) .

          وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

 

إشارات تدحض نظرية وحدة الوجود :

===================

 

          يلبس النور الذي خلقه من سنخ نور من أنواره يتداخل معه { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة الحديد الآية 3 } .

          أما بقية الأنوار التي ليست من سنخ أنواره { .. نُورٌ عَلَى نُورٍ .. سورة النور الآية 3 } . وكذلك الأعراض مثل العظم واللحم والدم والخشب والحديد ، الخ …  فيقيض لها قوى من خلقه نورية أو نورانية ، ليست من قدسية نوره ، يخترق بها الأشياء يفعل فيها ( أي بالأشياء ) ، وهي أي الأنوار القوى المخلوقة ، ليست من قدسية نوره ولكنها فاعلة  عاملة بالنسبية . وهكذا تكون  جميع الأشياء ( الوجود جملة وتفصيلا ) ما كان منها له قدسية أنواره أو ما كان منها قريباً من القدسية  ، أو بعيداً عنها ، فكل شيء يكون مغموراً ـ ضمن النور العام ـ بدرجة تناسب شيئيته ، جواهراً وأعراضاً وتحوُّلات . ولا ننسى أن أشدَّ الظلمات لها درجة من النور تناسبها . قال تبـارك وتعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ .. أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا .. سورة النور الآيات ( 39 ـ 40 ) } . فكلمة  ( لا يكاد يراها ) دلالة على وجود نسبة من النور في الظلام ، تناسب درجة إظلامه ، فيبقى هناك إمكان أن يرى يده بمنظار ليلي  مما توصل إليه العلم المعاصر .

          واختلاف قوى الأنوار والأشعة أصبح معلوماً في أيامنا ، وقد ذكرنا شيئاً من تأثيراتها في سياق بحثنا ، نستفيد من ذلك تقريب الأفهام ليس إلاَّ .

          غير أن غيرية نوره سبحانه ، رغم تلبسها الشديد بالأنوار التي تفضَّل عليها وجعلها مقدسة ، تبقى هي المهيمنة والحاكمة والفاعلة ، والموجهة والعاقلة والموحية ، فإنه لا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإن القوة لله جميعاً والعزة لله جميعاً . اللهم لك الحمد ملء عرشك ولك الحمد زنة عرشك ولك الحمد ولك الشكر كما حمدت نفسك وكما شكرت نفسك وكما ينبغي لكرم وجهك .

          ومن أدلة غيرية نوره القدسي ، أو أنواره القدسية  سبحانه ، انكماشها عن الشخص المجتبى { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى . سورة طه الآية 13 } . فيتراجع تأثيرها وتوجيهها وبركاتها بأمر منه تبارك وتعالى ، فتتراجع معها صحة الإنسان المجتبى النفسية والبدنية ، ويتراجع في مجال الهداية . ويكون ذلك لأسباب سبَّبها الإنسان المختار من قبل الله لنفسه وبدنه وربما متعلقاته ، فتنزل فيها عقوبة أو أكثر ، وقد يعاد إلى مبدأ تصفيات كان مكتوباً له أن يعفى منه إذا هو ثبت وصدق وضحى وازداد قربا ، { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ . سورة القمر الآية 55 } .

          أو أنه سبحانه يبتليه ويعطى علامات منها الكشف ومنها الإلهام ومنها الإيحاء تحت وطأة غيبوبة واعية أو وجع هادف أو تعنيت له ، وتكون الغاية من ذلك تعليمه وتعليم درجات المؤمنين الذين وصولهم متأخر نوعاً عن وصوله .

          وأضيف إلى الأسباب التي يتراجع معها المجتبى ، خيانة الله في كذبة ما ، مما هو غير مسموح به ، أو عدم الإهتمام بذكرٍ ألهمه الله سبحانه ، أو أوصاه أن يعتني بمعانيه ، أو عدم الإقبال على قرآءَة القرآن رغم التوصية ، أو عـدم العناية بمعاني الآيات في الصلاة .. وغير ذلك من المعاصي التي تبدو للناس العاديين بسيطة ، ولكنها بالنسبة للمجتبين هي غاية في الأهمية ، وقد يترتب عليها غضب الله وسخطه . واستجير برحمته من ذلك . اللهم إني أعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بك منك . ( منسوب إلى النبي محمّد (ص) ) ، يا عفوُّ يا غفور يا رحمان يا رحيم برحمتك يا أرحم الراحمين .

          وقد يكون من توفيق الله للشخص المجتبى أن يستجيب له دعاءَه إذا كان مضطراً ، وقد يستجيب له إذا لم يكن مضطراً ، وتكون الإستجابة ( مع الوصول النسبي العالي ) فورية . فإذا قلَّص سبحانه نوره القدسي أو أنواره القدسية لسبب سلبي من الأسباب ، فإن دعاء هذا الشخص المجتبى لا يعود ينفع معه القبول والإستجابة كما كانا ينفعان أثناء رضى الله سبحانه وودِّه ومحبته .

          فما العمل في هذه الحالات ، لكي يعود الإنسان المجتبى إلى منزلته الممتازة ، التي كان فيها عند ربه تبارك وتعالى ؟…

          وما غير الندامة الشديدة ، والخوف ، والإجتهاد في العبادة والتقرب إليه سبحانه والإستغفار  ؟!

          طبعاً تسبق كل ذلك التوبة النصوح ، وهو سبحانه ذكر في أكثر من مكان في كتابه الكريم ، أنه ما أمرنا بالتوبة وطلب المغفرة  إلاَّ ليغفر لنا وهو خير الغافرين .

          ثم لا بدَّ أن نذكر من الأسباب المغيرة لحسن الإتصال بكرمه وجوده ورحمته وعامة نعمه ، هو أن يطلب هذا المجتبى بعد أن يكون قد تكفل له الله سبحانه بالكفاية وفوق الكفايـة وبعد أن يكون قد أعطاه في نفسه وبدنه ومتعلقاته فوق ما كان هو يحلم بذلك . ثم يبطر طالباً المزيد وبغير حساب ، وهو لا يحتاج أبداً إلى هذا المزيد . فإذا كان حسب موقعه ، موعوداً بوعود كريمة عالية  ، مثل النصر على أعداء الله وأعدائه ، أو غير ذلك من الوعود في مجال نصره في دعوته إلى الله عزت عظمته ، ثم طمع فطلب المزيد من الدنيا مثلاً على طريقة سليمان وليس موسى ، حيث طلب الخبز فقط { .. فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ . سورة القصص الآية 24 } . أو على طريقة محمّد (ص) حيث أتاه جبرائيل مبعوثاً من الله سبحانه يحمل إليه مفاتيح كنوز الأرض . فردَّها صلى الله عليه وآله ، بلطف قائلاً له : يا أخي يا جبرائيل لا حاجة لي بها ، وإنما أجوع فأسأل الله وأشبع فأحمده ، وهذا من جملة الأسباب التي مدح لأجلها رسوله وعبده ونبيَّه قائلا ً له : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ . سورة القلم الآية 4 } .

          وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .