الحب الإباحــي

{ كَلاَّ .. إنَّ كِتَـأـبَ الْفَجَّار ِ لَفِي سِجِّين ٍ }.   المطففين /  7

 

الحب الإباحـي

        أحسُّ بقلمي يأنف من الكتابة في موضوع الإباحة والإباحيين ، ويشد مترفعاً وأنا أغالبه ، حتى أدبت نفسي وأدبته بتأديب الله تبارك وتعالى ، فقلت له : أكتب قول الله عز وجل :

{ كَلاَّ إنَّ كِتَـاـبَ الْفُجَّار لَفِي سِجِّين ٍ. سورة المطففين الآية 7 } .

فسجد لله جلت عظمته وكتب …

فما هي الإباحة أو الإباحية ؟

الإباحية هي التحلل من الضوابط الدينية  والمعايير الأخلاقية بشكل عام . وإذا كانت بعض المفاهيم المنحرفة عن صراط الله عز وجل ، قد اعتبرت أن الأخلاق جدلية ونسبية متغيرة .  فلأن أصحاب هذه المفاهيم  يعملون بنفوس شوهتها رعـونة الحضارة ،  وخبلتها البدع  والأباطيل ، فجعل الله من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً .. فهم لا يبصرون . أما واقع الحال فقد ثبت بالتحليل العقلي ، أنَّ أصول الأخلاق ثابتة وفطرية .

فإذا لم تنفع نُذُرُ الله تبارك وتعالى مع التحليل العقلي المعافى ، في الكشف عن كوامن الخطر المستفحل ، ورصد النتائج  قبل وبعد حلولها ، والتي من مظاهرها القلق النفسي ، الذي هو سمة عالمية في المجتمعات غير المتدينة . وكذلك إختناق المنحرفين ، بإبتلاءات ظاهرها الصدفة ، وقلة الحظ ، وباطنها لكل دفتر علاماته ، هذا بلغة اليوم ، أما بلغة الحق فقوله عز وجل :

{ مَآ أصَابَ مِن مُصِيبَةٍ فِي الأرْض ِ وَلاَ فِي أنفُسِكُمْ إلاَّ فِي كِتَـاـبٍ مِن قَبْل ِ أن نَّبْرَأهَا إنّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ . سورة الحديد الآية 22 } .

        ومن هنا إنفجارات العنف في كل أنحاء الأرض ، وطبعاً ليس سواء منها الإنفجارات المؤمنة العادلة ، وتلك المجنونة الظالمة ، على أن المؤسف كون أغلبيتها من النوع الأخير .

قلت إذا لم تنفع النذر الإلـاـهية ، وصيحات العقول الربانية أو التي تابت واغتسلت فطهرها نور الله سبحانه ، إذا لم يجد نفعاً كل ذلك في ردّ الهجمة الإباحية ، فليرتقب العالم كله الكارثة العظمى على علم منه وبصيرة ، والتي لن ينجو منها إلاّ من رحم ربك . أما الكوارث التي نرى ونسمع ، رغم كثرتها  ما هي إلاّ إنذارات ومقدمات ، وما أكثر العبر وأقل المعتبرين .

       { .. فَاعْتَبرُواْ يَـاـأوْلِي الأبْصَـاـر. سورة الحشر الآية 2 } .

        ذلك لأن كتّاب الإباحة ومتعاطوها يقذِرون وجه العالم وهو في أصل الخلقة نظيف ، لأنهم يعصون الله سبحانه ، فيمزقون الياسمين ويحرقون الزنبق . لأنك تقف في قلب أي مجتمع مزعوم الحضارة اليوم ، وتصرخ بأعلى صوتك : العفـَّة يا بني الإنسان ، الطهارة يا بشر ، نظافة الروح يا قوم ، نفوس بلا أمراض يا عالم  ! 

        فسيقولون : هذا إما مدّعي نبوّة .. وإما ..  مسلم .

فالحمد لله على نعمة الإسلام .

إذا لم تَسْتَح ِ …

        كُتّابُ الإباحة ومتعاطوها  بين الورق .. والمخدع .. والشاشة ، هم أعداء الله عز شأنه وأعداء الإنسان .

اسمع قوله عز وجل فيهم  على لسان نوح عليه السلام :

       { إنَّكَ إن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إلاَّ فَاجراً كَفَّاراً . سورة نوح الآية 27 } .

        هم الإباحيون فجرة كفرة .

        فمعارض الأجساد العارية ، وحكايا الفحشاء ، في دواوين نزار قباني مثلاً ، أفهم أن تدخل بيوتاً تشكو من قلة الوهج الإيماني وما يستتبعه من فضيلة وغيرة وعفة ، أما أن تدخل إلى بيوت  ( المجاهدين ) ويتغنون بها ، فهذا ما لا يستطيع إبتلاعه فرس النهر  رغم شهرته  باتساع شدقيه .

        وبيت شعر واحد لنزار قد يوجز كل غزله ومفهومه عن الحب عامة وهو :

    فَصَّلْتُ مِنْ جَسَدِ النِّسَاءِ عَبَاءَةً     وَبَنَيْتُ أهْرَاماً مِنَ الْحَلَمَاتِ

وهذا البيت من قصيدة ألقاها في العراق على الملأ ، وفي مؤتمر رسمي  هو مؤتمر  المربد ، وطبعاً صفق له طويلاً الجمهور المشوَّه الشخصية ، وأكثر من الجمهور صفق له الشعراء والمؤتمرون .

وما يقال عن نزار يقال عن عشرات أشباهه أو مقلدّيه ، علما أنه هو مقلد لشاعر العري الفرنسي ( بودلير ) خاصة في ديوان هذا الأخير ( زهور الشر )  الذي أخجل عند صدوره أوروبا كلها ، وهي التي في هذا المجال قليلاً ما تخجل .

كما أنه يلفتني أمر في منتهى الغرابة ، هو تقويم  كثير من رجال الدين للأدب تقويماً يبدو وكأنه شاع بينهم بسبب فهم متراخ ٍ للنصوص الدينية ولموقف النبي صلى الله عليه وآله من الشعر الماجن الذي تساهل معه في البداية لأنه كان خمرة القوم ، حتى إذا تمكن الإيمان من الأنفس أمر أن يفصل من الشعر ما كان لغير الله سبحانه ولغير دينه .

أما الموقف المتراخي لبعض رجال الدين حفظهم الله تعالى ،  فقد نتج  عنه في الشعر خاصة ، تساهلهم حفظاً ونظماً لنصوص شعرية تبدأ بالغزل أو بالخمريات لتحلّ البركة في مجالـس القــوم  . وقد يؤولون الغزل أحياناً ، تأويلاً صوفياً على طريقة ابن الفارض عند العرب في التائية الكبرى وفي بقية قصائده التي يرمز فيها ، إلى الله سبحانه وتعالى عما يصفون ، تارة بليلى وتارة بسعاد . أو جلال الدين الرومي عند الفرس الذي أنشأ الطريقة المولوية التي كان ( دراويشها ) يهدفون إلى حالة الوجد الصوفية على أنغام الناي .

وكذلك يؤولون الخمريات ، آنا بأن الخمرة في هذا الشعر أو ذاك هي الخمر الإلـَاهية . وحيناً أن وصف الخمر ومجالسها شيء ، وتعاطيها شيء آخر ، باعتبار حليّة الأول وحرمة الثاني ، لدرجة أن بعضهم يبرىْ الحسـن بن هانيء ـ أبا نؤاس ـ من معاقرتها ، وهو المعروف  عند الخاص والعام  بمجونه قبل توبته ، حتى صار رمزاً  للبوهيمية  عند المتفلتين ، وحتى إن شعره أصبح يشكل فتحاً خمرياً في أذهان المراهقين على مقاعد الدراسة ، ومن ثم على مقاعد الموائد العامرة .. بالقيء .

هذا كله بسبب هجمة لا أخلاقية ، يشنها المشرفون على الثقافة في البلاد الإسلامية عامة ، والعربية منها بوجـه خاص ـ  طبعاً باستثناء الجمهوريـة الإسلاميـة  ـ  وهؤلاء المشرفون ، غالباً غير مسلمين إما أصلاً وإما مضموناً . مما يجعلهم يكنّون للإسلام عداء ً حاقداً ، تارة عن تصور وتصميم ، وتارة عن غباء وبلاهة .

أما أهم المصاديق التي يحتج بها بعض الإخوان من رجال الدين من المتساهلين مع هذه الألوان الأدبية . هي نماذج من شعر المقدس السيد محمد سعيد الحبوبي وهو أحد كبار المراجع  الدينية في القرن العشرين . إذ ان له ديواناً مطبوعاً من الحجم الكبير ، تكاد لا تخلو منه مكتبة عالم أو أديب أو شاعر ، وفعلاً فيه نماذج كثيرة من الغزل والخمريات ، عندما اطلعت عليها أخذتني الدهشة ، خصوصاً قصيدته التي مطلعها هذا البيت الذي يجري مجرى الأمثال :

   صُبَّ لِي كَأساً وَخُذْ كَأْساً إلَيْكَ        فَلَذِيذُ العَيْش أنْ نَشْتَركَا

وإنما زال عجبي عندما  عرضت هذا الموضوع على العلامة المجتهد السيد رضا الصدر حفظه الله علماً من أعلام المسلمين ،  فأفادني وعلى مسمع من بعض الإخوة الذين كان يهمهم حسم هذا الموضوع ، بأن صاحب الديوان المشار إليه ، إنما نظم ما فيه ، في مرحلة الصبا والشباب ، وكان ذا طاقات كبيرة ، وعبقرية فذة ، سريعاً ما حولها بفضل من الله تعالى ، إلى تحصيل العلوم الدينية ، غوصاً وبحثاً واستنباطاً . مما جعله يتألق كمجتهد أولاً ، إلى أن قيض له الله سبحانه أن رفعـه أساتذة الحوزة وطلبتها مكرّماً إلى سدّة المرجعية ، التي هي أعلى مقام إسلامي في زماننا ، فطارت شهرته في الآفاق ، بسبب من شدة إخلاصه لله سبحانه ولدينه  الحنيف .

        وتابع السيد رضا الصدر حفظه الله يقول : أن المقدس الحبوبي سئل مرة عن رأيه في ديوانه وكان قد طبع بدون معرفته ، فبدا عليه الأذى وأشاح بوجهه . ثم سئل ، فقال : أستغفر ربي كثيراً على ما قدّمت يداي ، ولو كنت أعلم لأحرقت المخطوطة قبل أن يطبعوها .

الله قال في الشعراء :

        بقلب أسرعت نبضاته ، وبعقل حائر ، لجأت إلى الملجأ ، إلى الله تبارك وتعالى استنير بنوره في ظلامـي وظلام ما حولي ، وتشرفت بكتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، أقرأ القاعدة التي يقوّم بها الله عز وجل الشعر والشعراء وأهل الفنون عامة ، منذ الإسلام وحتى قيام الساعة ، معلناً مقته وبغضه سبحانه للشعراء والفنانين الضالين المضلين :

{ وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبعُهُمُ الْغَاوُونَ . سورة الشعراء الآيـة 224 } .

وقبلها قوله تعالى :

{ هَلْ اُنَبِّئُكُمْ عَلَىا مَن تَنَزَّلُ الشَّيَـاـطِينُ . تَنَزَّلُ عَلَىا كُلِّ أفَّاكٍ أثيم ٍ . يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأكْثَرُهُمْ كَـاـذِبُونَ . سورة الشعراء الآيات 221 ـ 222 ـ 223 } .

        فنفهم من ذلك ، أنه كما يلقي هؤلاء سمعهم وأكثرهم كاذبون ، لمن يتنزّل عليهم من الشياطين ، كذلك الغاوون الذين يتبعون الشعراء هم يلقون إليهم سمعهم ، فالغاوون الذين يتبعون الشعراء هم بمنزلة كل أفاك أثيم وأكثرهم  كاذبون . وشعراؤهم بمنزلة الشياطين .

        باستشهاد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، انفجر ثانية سد مأرب وإنما  هذه المرة ، بتراكم  الأحقاد الأموية وأحقاد الشرك عامة على الدين الحنيف ، وعلى من رفعوا ألوية الإسلام الحقيقي العظيم . إنفجر السد شعراً سياسياً أرعن ، سرعان ما طغت  عليه مفاهيم جاهلية لقرب العهد بها . وقد تركز على ثلاث محاور  فنية ، خطط لها معاوية : المديح والفخر والهجاء المقذع ، وظل معاوية يغذيه ، حتى كاد يصرف الناس كلياً عن القرآن الكريم ، وعن الصحيح من أحاديث رسول الله (ص)  ضمن خطة رهيبة واكبت فيما بعد طوفان الشعر ، وبدأت خطوطها تتوضح بعيد وفاة رسول الله (ص ) ، كان من أخطر البدع التي جاءت فيها مفهوم  الإجتهاد والقياس ومفهوم الصحبة لرسول الله ( ص ) ، فاعتبروا الأخطاء الفادحة الفاحشة إجتهاداً ، ومن يأتي بها مأجور عند الله سبحانه ، حتى رغم مخالفتها الصريحة للكتاب والسنة ، واعتبروا حتى رسـول الله ( ص ) مجتهداً في جملة المجتهدين ، يصيب ويخطيء ، وإننا إذ نستن بسنته قد نكون على خطأ ، رغم صريح الكتاب الكريم فيه :

{ وَمَا يَنطِقُ عَن ِ الْهَوَى . إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى . سورة  النجم الآيات 3 ـ 4  } .

        وكذلك وضعوا حديثاً عن لسانه ( ص ) ليبرروا فيه أخطاء بل وجرائم بعض الصحابة المنحرفين والحديث المزعوم هو : أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ، فكان ممكناً على ذلك ، الإقتداء بالمغيرة بن شعبة وهو صحابي زنى وشهد عليه أربعة ثقاة ورغم كل ذلك  لم يوضع عليه الحد ( فكان ذلك اجتهاداً مع النص ) ، وبالأمثلة عن أشباهه كثيرة ، هذا فضلاً عن أنهم قربوا أمثال المغيرة ، بينما استبعدوا  الذين  نص الكتاب على وجوب طاعتهم ، كما استبعدوا الكثير ممن أجمعت الأمة على فضلهم وصدقهم وجهادهم في  سبيل الله . ولذلك كله تفاصيل تطول ، نكتفي منها بهذا الإلماح  لضرورة إيضاح المطلب الذي نحن بصدده .

        ولولا فضل الله على هذه الأمة ، وحججه في أرضه ، ودعائم دينه من أهل بيت النبوة ومن أوليائه في كل عصر ، لكان عذاب الإستئصال .

        هكذا ، وبعد معاوية ،  درج الخلفاء على خطته . أما بخصوص الشعر ، فبعد أن كان ينشد إنشاداً ، صار يغنّى وتعاقر معه الخمرة عهد يزيد بن معاوية . ثم بلغ الأمر بالبلاطات الأموية ، أن جعلته مادة المجالس الأولى التي لا يتقدم عليها شيء . بخلاف معاوية  الذي كان يقدّم  على الشعر  ، الأحاديث الموضوعة والأخبار المختلقة ويعممها على الناس ضمن هالة قدسية ، كان المجتمع ما زال مأخوذاً بها لقربه من عهد النبوة الميمونة .

        وإذا كانت لعنة الأبد على بني أمية مذبحة الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته في كربلاء ، فأسقطت الأقنعة والبراقع المزيفة واستيقظت الأمة على هذه الفاجعة المروّعة التي زلزلتها زلزالاً .  فكانت ثورة التوابين ، ثم ثورة زيد بن علي بن الحسين ( ع ) ، وهكذا  نشطت عملية فرز في الأمة  بين موالين للحكومات التي تحولت إلى ملكية وراثية استبدادية ، اتخذت القمع وسفك الدماء على الشبهة وسيلة لتثبيت الحكم بدلاً من شريعة الله السمحاء ، وبين معارضين تحلقوا في البداية ، حول راية الحق  معروفة عند أئمة أهل بيت النبوة (ع) ، حيث الغاية القصوى لهذه المعارضة ، هي نصرة دين الله عز وجل ، إحقاقاً للحق ، وإرساءً للعدل ، وتوحيداً للأمة على أساس تعميق فكر التوحيد ، وتثقيف الجماهير بمقتضيات أصول هذا الدين القويم وفروعه .

وهكذا فإن لله أنصاره عزّ شأنه ، وللحق أهله ،  ولا يخلي عزّ وجل الأرض منهم وهو القائل تبارك وتعالى :

{ يُريدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله ِ بأفْواهِهمْ  وَاللهُ مُتِمُّ نُورهِ وَلَوْ كَرهَ الْكَـاـفِرُونَ . سورة الصف الآية 8 } .

        فمن من الشعراء انتصر وما زال لله سبحانه ، ولدينه ، ولحملة راية الحق في كل زمان ومكان ؟! ومن هم شعراء الضلالة الذين كانوا وما زالوا مصـاديق لقولـه عز شأنه :

      { وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبعُهُمُ الْغَاوُونَ . ألَمْ تَرَ أنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأنَّهُمْ يَقُولوُنَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ . سورة الشعراء الآيات 224 ـ 225 ـ 226 } .

        الذين يمقتهم الله عز وجل ويحشرهم مع شياطينهم ؟! إلاّ أنه تبارك وتعالى استثنى المستنيرين منهم بقوله :

{ إلاَّ الّذينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـاـلِحَـاـتِ وَذكَرُواْ اللهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ  مِن بَعْدِ  مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمُ الّذينَ ظَلَمُواْ أيَّ مُنقَلَبٍ  يَنْقَلِبُونَ . سورة الشعراء الآية 227 } .

        هم الشعراء الذين أبرز ميزاتهم الإيمان بالله الكبير المتعال ، وبأصول دينه وفروعه ، والصلاح قولاً وعملاً ، والإكثار من ذكر الله في شعرهم خاصة وفي حياتهم عامة ، ثم الإنتصار له عزّ شأنه ولأوليائه ولدينه ثناءً على الحق وأهله ، وهتكاً للباطل وأهله . هؤلاء الشعراء  هداهم الله إلى الطيّب من القول ، وشرّفهم بين مهديين ومهتدين وجنّبهم  تبعية  الغواة ، والهيمان في كل واد وجنبهم قول الزور .

        ومع كل ذلك ، ما زال شعراء الضلالة ، وهم الأكثرية الساحقة ، بين قريض ( شعر فصيح )  وشعر عامي ، ماضين في الغواية والإغواء ، وصلب روحية المجتمع  المستلب بالموسيقى المخدرة وأنغام الجحيم . ومعظم الناس حولهم في هذه الأودية ، كالقطعان السائبة ، منهم  من يصفق إعجاباً ، ومنهم من يترنح طرباً ، وأبدع بدعة فيهم ، أنك إذا أقنعتهم بضلال المحتوى وفسوقه ، يتجلون ويتأنقون بالكلام ، ويقولون بإعجاب المفتـون  :  وإنمـا هذا شعر ! .. وأعذب الشعر أكذبه ! ..  نعم  ، هم يقرّون بالكذب الذي يبلغ درجة الفحشاء  والوقاحة والخسة وإنما يفصلون الحقيقة البشعة ، ويتعبدون بثوبها الجميل النجس ، أليس هذا مما  يبعث على الأسى  والأسف والحزن المرير .

        ترى ، من أين أتوا بهذه المقاييس ، بعدما أطلق الله عزّ وجل تلك القاعدة  القارعة ، واضحة جلية وبدون أدنى لبس .

الله الجمال  :

        قد يقول قائل ، وماذا ترك الله سبحانه للشعر والشاعر ، وماذا تركت أنت أيها الكاتب الرجعـي المتزمت ، الفاقد الشاعرية ؟ أقول ، مهلاً ، وهوّن عليك ، ودعك الآن يا أخي من الأودية ، وصعّد معي إلى رأس جبل عال ٍ ، والآن ، تأمل ..  في كل اتجاه .. فبشرفك الشاعري ، أما ترى ملكوت الله تبارك وتعالى ، أوسع وأرحب من الأودية الآنفة الذكر ، فضلاً عن طهر الملكوت ونظافته ؟  املتفت أنت إلى هذا الكـون كم هو نظيف في أصل الخلقة ، ورائحته كم هي طيبة ، أوليست وصفة ممتازة لحل عقد الأدمغة ؟ أما تحس صدرك أوسع وتنفسك كحركة جناحي نسر في مطر محبب خفيف ؟ .

        ادع الآن كما دعا الإمام زين العابدين عليه السلام : ” اللهم إني أسألك من جمالك بأجمله ، وكل جمالك جميل ، اللهم إني أسألك بجمالك كلّه … ”  ثم اطلب حاجتك .. واصدقني القول : أما تحس في فمك بقطرة نور ندّية ؟ وفـي قلبك بقطرات ؟ وفي أذنيك  بموسيقى السماء ؟ ثم هذه الألوان النابضة بالحياة على رحابة ما بين هنالك ، وهناك ، وهنا ، وفي عينيك ، أهي كذلك في لوحات الرسّامين ؟! …

        بين داود النبي ـ باعتبار المدونات ـ والإمام زين العابدين بن الحسين  بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، وهما قمتا الشعر الإلـاـهي الذي كتب بالريشة  النورانية ـ نظماً ونثراً ـ  عرفت الأرض شعراً إلـاـهياً كثيراً وشعـراء ربانيين ، أبهجوا السمع والعين ، وأنبتوا للقلوب المُحِّبة لله ، أجنحة مثلها أجنحة النجوم اللازوردية .

        كذلك نتاج الذين أعاروا لله جماجمهم ليستوفوها مباركة يوم القيامة ، مثبتين جميعاً ، أن الشاعرية الحقيقية الأصيلة ، إنما هي في شعر القمم المتطلعة أبداً إلى خالقها ، وليس  في شعر  أودية الأبالسة والزحافات .

        وإذا كانت رؤية أنصار مدرسة ” الفن للفن ” لم تتوصل إلى هذا ، فلأنها رؤية مكفوفين ، رؤية بعين خفاش ، وجناح دوري ، وحوصلة دجاجة .

        أصحاب البصائر ، والأجنحة القوية ، والأرواح الصافية، تتكون عندهم بفعل عقيدة التوحيد ، وفاعلية الحب الإلـاـهي ، شخصيات هي في المعادن بمنزلة الذهب والفضة ، كلما انصهرت ، كلما زادت نقاءً وصلابة ، فإن شيبت بما دونها ، نزلت قيمتها ، وهكذا حتى الإبتذال . ومن هنا نفهم كيف يكون معنى الإخلاص لله عزّ وجل ،  إخلاص المعدن الإنساني المتميز ، إخلاص جوهر النفس لله ، ولدين الله ،  وبدين الله .  هذا الكلام ليس للملاحدة ، ولا للنرجسيين المغرورين ، ولا للامعات النكرات ، وإنما هو للمؤمنين الذين يقولون ويرددون : لا إلـه إلاّ الله لا نعبد  إلاّ إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون .  وكذلك يقرأون ويرتلون قوله عزّ شأنه :

       { وَمَآ أُمِرُواْ إلاّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ  الّدينَ حُنَفَآءَ .. سورة البينة الآية 5 } .

        تعذر الببغاوات .. وأما الإنسان الذي خلقه ربه جل شأنه في أحسن  تقويم ، أما يستحي أن يردد ولا يطبّق ، ويقول ولا يفعل ، وكتاب الله  المجيد يعلن :

{ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ . سـورة الصـف الآية 3 } .