بين القرآن والكتاب المقدس

 

العقل ام النفس الأمارة العقل يدرك الكمال ويتكامل بخالقة ؟
       

في الواقع الموضوعي  ، إن تاريخ البشرية المعـروف ، بما فيه من إيمان وإلحاد ، وفكر وفلسفات ونشاطات عقلية ، ما ادّعى فيه إنسان كمال العقل بمعنى أنه ينتج الكمال . أما بمعنى أنه يدرك الكمال ويتلقاه ، فمتفق عليه عند معظم  الفلاسفة والمتكلمين والمناطقة  ، سوى قلة من السفسطائيين لا يعتد بآرائهم . وصدق الله العظيم  ، قوله :

{ …وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً }سورة الإسراء ،  الآية  85.

وقوله :

{ …وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }سورة طـه ،   الآية 114 .

وقوله :

{ …وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء …}سورة البقرة ،   الآية 255.

فإذن : هذا العقل يقبل الزيادة ، وإذن فيه قابلية التكامل ، ولكن كيف ؟

والجواب : بالله … بما أوصل إليه من التنـزيل مضمونـاً  أن لا يحرف ، وبعلم لدني بغير قلم:   { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(سورة الحجر ،   الآية   9).

وقوله تعالى  :

{ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا }سورة الكهف ،   الآية 65.

وبما يهدي إليه سبحانه من عرفانٍ مكتوب ٍ  :

{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ }سورة القلم ،   الآية 1.

وبما يظهره إليه من علم ٍ مكنونٍ :

{ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }(سورة  العلق  ،   الآيات ( 4 ـ 5 )) .

وبما يكشف له ما يشاء من الأسرار :

{ قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ …}(سورة الفرقان ،   الآية 6) .

ثم إن هذا العقل يرى أن العلم  ما استطاع أن يدحض ولو إشارة  بسيطة واحدة من إشارات القرآن . وإن كل كشف علمي لا يتم إلاَّ بإذن الله تعالى ، سواء أتى هذا الكشف على يد مؤمن أو يد ملحد  :

{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُـمْ أَنَّهُ الْحَقُّ …}(سورة فصلت ،   الآية 53 ).

وإن القرآن  أخبر عن حقائق وأسـرار ، كان  يجهلها أهل الأرض وقت  نزوله ، ثم عرّفهم الله بعضها عملياً بعد أكثر من عشرة قرون من تنـزيله . وإن القرآن ما زال فيه  علم ما يجهله الناس في هذا العصر ،  رغم تقدم  العلوم ، والمستقبل حقيق أن يكشف هذا الأمر  ، كما عودنا القرآن المجيد في أيامنا هذه وفي العصور السالفة وحتى قيام الساعة .

        والإنسان المفكّر ينبغي أن يسأل : من أين أتى القرآن بهذه الأسرار والمعلومـات  ؟

        والجواب أنه من الله الذي لا إلـه إلاَّ هو وحده لا شريك له .

        هذا السؤال والإجابة عليه إذا عُقْلِنَ  النظر فيهما لعرف الناس أن الله عزّت قدرته هو وحده وراء كلِّ علم ٍ حقيقيٍ وكشفٍ علميٍ في مشارق الأرض ومغاربها وفي الكـون كلّه  ،
 منذ خلق السموات والأرض ومن فيهما ومن بينهما . هذا العرفان ، يجب أن يغدو عامـل خجـل وإدانة قبل الدينونة ، لأصحـاب الرأي الشائع بين معظم المثقفين اليوم ، 
حول ما يسمّـونه سلبية الدين في التعامل مع الكشف العلمي ، وهذا الرأي خلاصته أن التديّن كان بشكل عام ، عائقاً عن الإكتشافات  العلمية ، وإنتاج العباقرة ، ولذلك بقيت المجتمعات المتدينة ، 
تعاني من الفقر والتأخّر والأميّة العلمية . فالحمد لله  على نعمـة التديّن ، والحمد لله الذي اختصّنا بمعرفته ولم يشغلنا بعلم سيكون عاراً وشناراً  ودماراً على أصحابه في الدنيا والآخرة . 

أمحراب العلوم . يتهم  ؟!

   النفوس  الأميّة هي التي تتهم الإسلام ، أما المستنيرون  بالله فهم مسلمـون . وتذاكر الهوية ليسـت مقياسـاً ، بل هي بالنسبـة لأكثر الناس كالحامل حتفه بيده .

        إن سوء الاطّلاع ، ليس فقط على مضمون الإسلام ، بل حتى على تاريخـه الظاهري،  من جهة ، ومن جهة ثانية ، البطشات الرهيبة التي بطشتها الكنيسة بعلماء أفذاذ ، هذان الأمـران متلازمـان ، جعلا النفـوس الأميّة تتهم الدين عامة وضمنه الإسلام ، بالقمعية  ضدّ العلم والعلماء .

        وفي صدد الردّ ، نسأل القارىء الحصيف ، هل علمت يوماً، منذ القرآن الكـريم ، أن أئمـة الديـن الإسلامـي وعلمـاءهم ( في مقابل البابوات ) أقفلوا ، باسـم القرآن ، أبواب البحـث العلمي ، كما فعلت الكنيسة ، باسم  التوراة والأناجيل ؟ أو هل هم ردّوا حقيقة علمية بعد كشفها ،في حين _وباسم التوراة والأناجيل_ سمّت الكنيسة العلماء هراطقـة ، وكانت تحاكمهـم  بهذه التهمة ، تهمة الهرطقـة ، في محاكم التفتيش التاريخية المخيفة .

        الواقع أن أئمة المسلمين وعلماءهم ، لم يفعلوا شيئاً من ذلك أبداً ، لأن الإسلام في الحقيقة هو محـراب العلوم ، وأساسها المتيـن ، وكيف يتنكر الأساس المتين للعمارة والأيدي  التي تشـارك  في بنائـها ، مهـما كانت أجناس  هذه  الأيدي أو خلفياتهـا .

        ولا يتسع المجال هنا للحديث عن حضارة  أسّسها الإسلام على العلم ، وظلّت  منـارة الدنيـا لأكثر من سبعمائـة سنة ، كانت أوروبـا أثنـاءها غارقة في الجهل والأميّة والتخلّف .

        صحيح أن العالـم  ، فجع بعلمـاء عظام ـ باسم الدّين  ـ على يد الكنيسة ،  عبر فترة من الزمن ،  وأن الكنيسة كانت تنطلـق في ردود فعلهـا من الكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد  ، يعـني التـوراة والأناجيـل . والحقيقـة أنـها  الكنيسة ،  ولا التـوراة المجموعة مع الأناجيل ، فيما يسمى ( الكتاب المقدّس ) Bible  ، كانا  يمثلان دين الله في هذه العصور تمثيلاً كاملاً وخالصاً لوجه الله  تعالى . بل كانـت الكنيسـة ، وباعتراف المسيحيين  المدوّن  في كتب التاريخ  ، قد انحرفت انحرافاً  خطيراً عن تعاليم المسيح عليه السلام ، فضـلاً عن أنها لم تكن عندها معطيات أن تناقـش  أيـة قضيـة علمية في ضـوء النصوص الدينيـة ، الموجـودة لديها في القرون المتأخرة ، لأن تلك النصوص لم تكـن صالحة لتقويـم أي موضوع علمي ، بسبب ما مرّ عليها من تحوّلات : بين فقد أصولها الأساسية  من جهـة ، وبين نقـل وترجمـة وتحريف من جهة ثانية  . وهذا  يستحيـل  أن يقال شيء منـه عـن القـرآن الكريم ، بشهـادة جميع الباحثين العالميين ، الذين تصدّوا لدراسة مقارنـة بين الكتب  الدينية الثلاث ، ولا سيّما في مجـال الحقائـق العلميـة التي توصّلت إليها الكشوف .

        ولعل أبرز من تصدّى لهذا الموضوع  في السبعينات والثمانينـات ، هو المفكر الفرنسي  الدكتور موريس بوكاي .

        ونحن إذ نهنىء هؤلاء الباحثين المنصفين  ـ على قلّتهـم ـ بنتائـج صدقهم  وتجرّدهم ونبارك لهم الفتوحات العقليـة التي فتحها الله بسبب انتصـارهم  للحقّ وتصميمهم على انتهـاج طرق العقل ، بدلاً من التعصّـب الأعمى والانفعال ، ندعو المفكّرين خاصة ً ، والمهتمين بقضايا الفكر  عامـةً ، إلى قراءة ذلك  الباحث موريس بوكاي،  في كتابيه الصادرين تباعاً ، الأول : ( التوراة والإنجيل والقرآن والعلم ) الصادر سنة 1976م  والثاني : ( الإنسان من أين جاء ) .  حيث يعرض في هذين الكتابين  ، وبالبراهين العلمية والعقليـة  الحاسمة أن الكتاب الوحيد المنـزّل من لدن الله تبارك وتعالى ، أو الذي يستحيل إلاَّ أن يكون من عند الله سبحانـه ، والذي لا يزال في الأرض  على ثباته كما أنزل هو القرآن الكريم ، وأن الكتاب المقدّس Bible  بعهديـه القديم والجديد ، أي التوراة والأناجيل ، حرّف وحوّر وبدّل وأنقص منه وزيد عليه ، وأنه يتضمن مغالطات ضخمة من وجهة نظر العلوم .

        ونحن هنا  ، وإبراءً للذمّة ، نورد لموريس بوكاي بعض الفقرات ، مـمّا سيكون حجة على المفكرين والباحثين في جملة الحجج وما أكثـرها : لمـاذا توصّل  موريس بوكاي وأمثاله إلى الحـق فارتاحوا وأراحوا ، بينما بقـي الآخرون مصرّين على العمى والضـلالة ، فتعبـوا وأتعبـوا معهم الذين لا يعقلون … إلى الأبـد …

        يقول موريس بوكاي :

        ” إننا عندما  نقيم الدليـل ، وبالاستناد دائماً إلى النصـوص ، على أن القرآن يحتوي  في طروحاتـه ، حول نقاط معينة على أفكار  تتطابق  والعلـوم  الحديثة ، في حين  أن الإنجيل يعالج نفس النقاط  بطريقةٍ مغلوطةٍ علمياً ” .

        ” إن الفترة الأعظم من تاريخ الحضارة الإسلامية ، والتي شهدت تقدّمـاً علمياً ضخماً ، هي تالية وبقرون عديدة لعصر تنـزيل القرآن “.

        ويقول في مكان آخر من بحثه :

        ” كل هذه الملاحظات المثيرة لكلّ من يتناولها بتجرّد ، والتي لم تثبت علمياً إلاَّ بعد قرون عديدة متأخرة ، تضع حديثنا في إطـار  يمنـح المسألـة أبعاداً كبيرة ً ” .

        ولكن يبقى السؤال المطروح نفسه :

        ” ولكن ينبغي  أن نعلم أن خاصيّة  القرآن هذه ، ليست نتيجةً لعمليات حذف خضع لها النص القرآني ، في العصـر الذي كانـت تكتشـف تلك الأخطاء … إذ أن المخطوطات  الأكثر قدمـاً للقرآن ، والنصوص المعاصرة ، تتماثل بشكل قاطع ، برغم مرور  أكثر من ألف سنة ، على تنـزيل القـرآن ، وبالتالي لو كان محمّـد  ، هو مؤلف القرآن فعلاً ـ وهو الغرض الذي يأخذ به البعض ـ فكيف أمكنه أن يكتشف الأخطاء العلمية الواردة في الإنجيل حول مسائل كثيرة ، وأن يتلافاها عندما وضع ـ حسب الغرض ـ نصاً يتناول نفس المسائل ؟ علمـاً بأنه منذ كتابة الإنجيل ، وحتى عصـره ، لم تتوضـح أيـة حقيقة علمية جديدة ، بحيث يمكنه  على ضوئها ، تلافي تلك الأخطاء ” .

        ” لقد رأينا سابقـاً ( أي في فصل سابق ) أنه بالنسبة لمفسـري الكتاب المقدّس ، ينبغي اعتبـار  كتب العهـدين القديـم والجديـد ( أي التـوراة والإنجيل ) على أنها كتبت بالإلهـام  ” .

        وفي مكان أيضاً من كتابه :

        ” وهناك مخطـوطات من القرن الأول للهجرة توثـق النص المتـداول الآن ، ثـمّة عنصر آخر للتوثيق ، هو حفظ القرآن غيباً ، وقد تواصـل ذلك منذ عصر النبي ” .

        ” … وقد وجدت أجـزاءً من القرآن ، تعـود للقرون الأولى للهجرة ، متشابهة تماماً للمخطوطات الأكثر قدمـاً . وكل الطبعات المعاصرة ، ليست إلاَّ استنساخاً للنماذج الأصلية . فالقرآن  لم يخضع لعمليات كتابة متعددة يصبـح معها نصّه عرضة للتحريف عبر الزمن . إذ لو كـان مصـدر القرآن مشابهاً للإنجيل ، لكان من المتوقع ، أن تستند الموضوعـات  التي يتطرق لها إلى مفاهيـم  ، تعكس معتقدات عصر التنـزيل ، مع ما فيها من اساطير وخرافات مختلفة … وبالتالي  فإن النص ، سيكـون ممتلئاً بالأقاويـل الموروثة ، ذات المنشأ الأسطوري غالباً . وهكذا فإن فرص إدخال أقوال مغلوطة في النص ، ستصبح فرصاً مضاعفـة ، كما بخصوص الموضوعـات  المذكورة آنفاً … ولكن أي شيء من هذا لا نجد له أثراً في القرآن … ( أ.( المنطلق ) العدد 20 ـ 1402 هـ . تحت عنوان : القرآن لا يمكن إلاَّ أن يكون وحي..   المؤلف : موريس بوكاي . ترجمة : حسين الحكيم .) .

*  *  *

هذا ،  وإضافة  إلى الدكتور بوكاي ، فإن مجموعـة من العلمـاء  الغربيين ، تصدّوا لموضوع عـدم ثبـات التوراة والأناجيل ، وثبات القرآن  وتطابقه المدهش ، مع الحقائق العلمية المكتشفة حديثاً . وقد كانـت الغايـة من دراساتهم تلك ، هي البحـث عن سبب انفجـار الغرب في موجتين خطيرتين من الانفلات الهستيري ، اجتاحتا أوروبا وأميركا في السبعينـات ، وهما موجتا الخنافـس في بريطانيـا ، والهيبيين في الولايـات المتحـدة الأميركيـة .

        وتوفيراً لجهد القارىء  وضعنا خلاصة لتلك الدراسات ، مفادها أن الإنجيل والتوراة ، كانا سبب خيبة أمل كبيرة للطلاب ، وللشباب بشكـل عام وجملة من المثقفيـن حيث إن الكتـابين المقدسيـن ، لم يصمـدا للحقائـق العلمية ، مـمّا شكّل سبباً مباشراً لعدم الثقـة بهما ، وبالتالي لمراودة الإلحاد ، ومعه لتحولات نفسية خطيرة في المجتمعـات الغربيـة نتيجـة للصدمـات التي من جرائها تزعزعت العقيدة الدينية في أعماقها ، حيـث أصبحوا ـ حسـب تصريحاتهم ـ يشعرون  أنهـم بلا هـدف ، في خضـمّ  متلاطـم من نشازات الحضارة المادية الحديثة .

        وهكذا فلم يبقَ إلاَّ القرآن ، هو الكتاب الوحيد في الأرض ، المنـزّل من لدن الله عزّ وجلّ ، بواسطة جبرائيل عليه السلام ، على محمّد صلى الله عليه وآله رسول الله وخاتم النبيّين.  وبقي القرآن ـ وهو باق إلى يوم القيامة ـ هو الحقيقة الراهنة ، على أنه كلام الله تبارك وتعالى وأنه الكتـاب الوحيـد في الأرض ، الذي لم يطرأ عليه أي تغيير ، أو تعديل ، أو تبديل ، منذ وجوده على هذا الكوكب  . كذلك الحقائق العلمية  التي فيه ، هي باقية تتحدّى  العلم والعلماء ، وتساعدهم ضبطاً وتصحيحاً وإرشاداً .

النفس اللادينية سجينة :

جرى عندي حوار بين رجل دين وأستاذ فلسفة ، أُثبته إظهاراً لفضـل الله على عبده الصالح الذي شعاره  : نعم لكتاب الله ولا للفلسفة …

        الشيخ  : ـ نحن في سفينة الأرض ، فلنقم بجولـة في خضم هـذه الحضارة ، ونتحدث على المائدة ، مائدة العقل ، لأن مائدة الطعام ، كلانا يأكل من طيباتها ، فهي بنسبة عالية متاحة للجميع ، مع فارق لا بدَّ منه ، إن للدينيين ميزة ، هي اجتنابهم المحرمات في سلوكهم عامة ، لكي تبقى قلوبهم ونفوسهم صالحة للتلقي من أعلى .

        الأستاذ : ـ وماذا تتلقى ؟

        الشيخ  : ـ تتلقى الهداية والسعادة ، والنعيم الخالد الموعود .

        الأستاذ : ـ ولماذا لا تهبط هذه النعم على اللادينيين ؟

        الشيخ  : ـ لأنهم يتناولون  من أسفل .

        نحن الدينيين ، نأخذ ونعقـل عن الله خالقنا وخالق هذا الكون ومسخّره لنا . ويجادلون في الله …

       { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ …  وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }(سورة الرعد،   الآية 13) .

        ويحتجون بنظريات ما أنزل الله بها من سلطان . قال نيتشه … ويقول  هيغـل … ويقول ماركس … اسمحوا لنا هؤلاء بشر مثلكم ، ونفوسهم أمارة بالسوء . ثم إنه كـان الأخذ عنهم ، لو أنهم تلقـوا من أعلى ، ولكن هؤلاء تناولوا من أسفل .

        أنقلوا لنا عن مصدر كمال : عن الله جلّت عظمته … عن كتاب لا ريب فيه من كتبه… عن نبي ختمت به النبوات  ، وما كان إفرازاً للصراع الطبقي ولا الجدلية التاريخية…  عن خلفائه الأئمة … وعمّن أوجب الله طاعتهم على الناس بعد أن نبّاهم أو اجتباهم ،  وعيّنهم في كتابه العزيز ،بأسمائهـم أو بأوصافهـم  … وأيضاً عن علماء الفلـك والتشريـح ، والنفـس وشتى حقـول العلم الكاشـف عن حقائـق نهائيـة ، مـمّن أرادهم الله وجعلهـم مصاديق لقوله عزّ وجلّ  :

       { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنـَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ … } (سورة فصلت،   الآية  53

       يبقى الفارق بين العقل  المقدس الذي هو نفخة من روح الله وبين النفس اللادينية من حيث النتائج ، وبالتالي مصير الإنسان العقلاني والإنسان النفساني ، ومصير التابعين  لهذا أو لذاك . مستفيدين هذه المقارنة من قوله تبارك وتعالى:

       { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى }(سورة الليل،  الآيات (  5  ـ  10 )).

        فحيث إن العقل مستنير بالله عزّ وجلّ ، الذي  هـو نـور السمـوات  والأرض ، فقد غـدت المصادر  التي يتفـاعل معهـا هـذا العقل ، جميعـها إيجابية ، وهذه المصـادر : هـي الطبيعـة حـوله مُـدارَةً مُدَبَّرةً بكل أبعادها ودقائقها بخالقـها العظيم ، ثم العقـول … عقول الذين نبأهم الله أو اجتباهم وأوجبهم على خلقه ، ثم العقـل الذاتي الذي يعلـم أنه نفخـة من روح الله مسخّرٌ له ما فـي السمـوات وما في الأرض جميعاً منه سبحانـه ، فواضح أن نتائج هـذا التفاعل هي في سلم الإيجابية ، على قاعـدة  (لكل ما قدمت يداه ) مترتب عليها المصير الذاتي  ومصير التابعين  .

        بينما تأخذ النفس اللادينية زادها ، حصيلتها الفكرية ، أدواتهـا ، حاجياتهـا ، وبالتالي غايتها من مصادر هي أوثانها شاءت أم أبت ، حيث إن النية والاعتقـاد والتصديـق بالله العظيـم وبدينه الحنيـف ، همـا في رأس أولويات الاستنارة وبالتـالي التوفيق للأسباب، وما تستتبع من صـلاح بـال وفلاح ، أما اللادينية فهي تعاني من الانتكاس ، والتخبّط ، والتـردّي علـى سلّم السلبية على نفس قاعدة لكل ما قدمت يداه ، كذلك للذات والاتباع . فنتيجة لنيّتها وعدم تصديقها بالله أو بوعده أو بوعيده ، تمسي الطبيعة عندهـا عمياء مجهولة المصير ، ثم هي تأخذ بالاعتمـاد على نفوس الآخرين اللادينيـة بحكم التجانس ، مـمّا يزيد ، بالضرورة ، من نقصهـا الذاتي. وبمـوجب  المنطق العام تكون  النتيجة  : النقص والسلبية .

        ومـمّا يدعو للأسف الشديد  ، هذه المفارقة : فبينما نحن ندّعي  علـى النفس اللادينية في كثير من دعاوانا ، بالعلم والكشوف العلمية ، نجدها مصرّة على نفس الادعاء بالعلم والكشوف ، والحضارة التي  تركب هذه النفس سفينتها .  فنجد أنفسنا ، وبعاطفة الإنسان لأخيه الإنسـان ، مردّدين قـول النبي إبراهيم  عليه السلام  ، الذي أثبته له الله عزّ شأنه :

       { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ،وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(سورة إبراهيم  ،   الآية  36) .

        ونحن نسأل  ، ولكن هذه السفينة  إلى أين في خضم هذه الحضارة  ؟ وما الساحل المقصود ؟  وما الجزيرة المرجوّة ؟ وهل العلم غاية أم وسيلة  ؟

        الواقع أن العلم وسيلة لمعرفة الله عزّ شأنه وللوصول إلى الحقائق العليا والنهائية ، وبالتالي سعادة الإنسان الكلية .

        فهل حقّق العلم  ، بالمنظار اللاديني ، شيئاً من هذا ،  أم أنه زاد الأمر تعقيداً ؟  هذا في وقت زادت طمأنينة  الدينيين  مع الكشوف العلمية ، إلى درجة اليقين بفرد وسهم الموعود ، فضلاً عن سعادتهم النسبيـة على الأرض ، والتي هي على أي حال ،  وبالتأكيد ،  وبالبينات القطعية أفضـل بما لا يقـاس من حالات اليأس ، والتأزّم ، والشقاء ، التي يعانيها اللادينيون،  ظاهراً وباطناً .

        ويبقى السؤال : النفوس اللادينية إلى أين ؟

        رضيت أن تكون رهينة الأرض  ، ورهينة الحضارة ، ورهينة السفين ، وما استطاعت أن تستوحي شيئاً من علم الفلك ،  ولا علم التشريح ، ولا علم العقل ولا علم النفـس ، ولا بقية العلوم .  وليت المشكلة  تنتهي هكذا ، أي تلزم بما ترضى هي لنفسها . الحقيقة العلمية تقول :  قطعاً ، لا ، لأنه ليس عبثاً وجود كواكب في الكون ، هي أكبر من كوكبنا الأرض ، فضلاً عن سماوات غير سمائنا ، ولا عبثاً قول الله عزّ شأنه :

       { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى . وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى . فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى . لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى .  وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى . وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى . إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى . وَلَسَوْفَ يَرْضَى }(سورة الليل  ، الآيات ( 12 ـ 21 )) .