بين هود والحسين عليه السلام والدعوة إلى الله

 

بين هود والحسين عليه السلام والدعوة إلى الله

         حسب منهجية البحث التي أشرنا إليها قبل البدء بموضوع { … وموسى رفعه الله … } ، بقي علينا أن نتحدث عن هود عليه السلام وموضوع الآية الكريمة :

       { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } .

[ 21 ـ 23 : الأحقاف ] .

        قبل أن نبدأ بتناول الخطوط العريضة في هذه الآيات الثلاث . نذكر أن الأحقاف في اللغة ، هي هضاب رملية يتخللها أودية ، وهي كانت مساكن عاد قوم هود عليه السلام . ثم إن قوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } في الدنيا { وَمٍنْ  خَلْفِهِ } في النشأة الأولى . وعلى هذا الأساس ، ما من إنسان  أُهبط إلى هذه الأرض ، إلاَّ ويكون قد بلغته النذر قبل إهباطه و { لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } ، لتلفتنا عن تأليهها والتعبُّد لها . أما الخطوط الأساسية في هذه الآيات فهي :

        أولاً : الدعوة إلى الله  : وهي الهدف الرئيس  الذي يتفرع عنه كل ما دونه من الأهداف . وهو في قوله عزَّ وجل { إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ … أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } والعبادة الحقة ، هي أن تهب قلبك ونفسك وكلِّيَّتك لله عزَّ وجل : قال تعالى { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } . [ 4 : الأحزاب ]  يكنِّي بذلك عن أن الإنسان إذا أحب فإنما يحب بقلبه كأساس ، فالقلب هو المكان المركزي للحب . فإذا وهبت قلبك لمخلوق ما ، فقد عبدت هذا المخلوق وحده . وإذا وزَّعته بين عدة مخلوقين ، فهم فيه شركاء . وإذا جعلته لله ولآخرين ، فقد أشركت مع الله غيره في قلبك . والأصل أن يكون القلب وكليَّة الإنسان لله وحده ، وذلك معنى تعليم الله لرسوله محمّد (ص) وبالتالي  لكل مؤمن : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِـرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } . [ 162 ـ 163: الأنعام ] . أما ، هل يجـوز أن نحب الآخرين ؟ فنعم يجوز ، وقد يجب ، وقد يستحب .  والآخرون في المودة درجات . وأين ومن أين المودة ، إذا وهب الإنسان كلِّيَّـة قلبه وكيانه لله جلَّت عظمته ؟ هذا صحيح. المودة والمحبة للآخرين ، تكون بعد أن يمتلىءَ القلب بحب الله وحده عزَّ شأنه . وإذا اشتد الحب لله ، طفح القلب حباً قدسياً ، وفاض منه على جوانبه من هذا الحب كثير . فمما يفيض من حب الله ، تكون المحبة والمودة للآخرين  . وهنا يعقلن الإنسان  هذه المحبة ، فالأقربون منزلة عند الله ، تكون لهم المنازل الأولى من هذا الحب القدسيّ الفائض على جوانب القلب ، ثم الأولى فالأولى . وهكذا يتضح تأويل قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، يعني أنه ليكن قلبك  لله وحده ، ولا تشرك فيه أحداً من خلقه سبحانه وتعالى عما يشركون .

        أما الإحتجاج بروايات وأحاديث ، فهي بكل بساطة ، وبالإجماع ، إذا تعارضت مع النصوص القرآنية ، سقطت ، ونضرب بها عرض الحائط .

        ثانياً : النذير بالعذاب  لمن لا يستجيب  ولا يلبِّي دعوة الرسل  : وقبل أن نتحدث  عن هذا المطلب  في الآيات الثلاث  ، نذكِّر  بأن الكلام فيه نذير  بعذاب دنيوي ، يمتدّ ، متصلاً  في الاخرة بعذاب أكبر { …وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } . [ 33 : القلم ] . فقوله تبارك وتعالى : { … إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ …. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } فيه معادلة واضحة ، وهي أنكم إذا عبدتم غير الله ، فإن أمامـكم عذاب يوم عظيم . وعكسها ، إذا عبدتم الله وحده ولم تشركوا به أحداً ، فأنتم في سلامٍ وأمنٍ ونِعَمٍ وبركات . وفي قوله تعالى  { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ } إشارة إلى أنهم كانوا  يعبدون الله كمعظم الأقوام قبلهم وبعدهم  من أهل الشرك ، وإنما كانوا يعظِّمون مع الله آخرين ، من رجالٍ ربما كانوا صالحين أو طالحين ، كما  يعظِّمون تماثيلهم وصورهم ، كما هي الحال في هذه الأيام . عند أكثر أدعياء الإيمان الخالص . فهم يؤلهون أو يكادون يؤلهون بشراً مما خلق الله ،  ويعظمون صورهم ، ويذكرونهم في كتاباتهم وخطبهم ومجالسهم ، وحتى في أفكارهم  وتأملاتهم  ، أكثر مما يذكرون الله . وهكذا تجدهم واقعين في شرك ظاهر أو شرك خفيّ ، دون أن يقصدوا ودون أن يشعروا . حتى إذا واجهتهم بهذه الحقيقة ، انفعلوا وغضبوا ونسبوك إلى معاداة آلهتهم ( أو شفعائهم كما هم يسمونهم ) . وقد يكون  هؤلاء الأولياء الصالحون ، شفعاء حقيقيين  ، إلاَّ أن انشغالهم بهم ، وانكبابهم  على ذكرهم  مع زمان طال ، وتراكمت فيه العواطف الفاسدة ، والبدع القاتلة ، والكتابات  التي تطبعها  العصبية والأمية في فهم التوحيد ، كل ذلك جعل هؤلاء  الشفعاء في أنظار المستشفعين آلهـة يعبدون  . حتى إنهم يدَّعون كونهم  سلالة من غير البشر وفوق البشر . بينما صريح قول الله عزَّ وجل  ، لعبده ورسوله محمّد (ص)  ، أوضح وأصدق من كل زعم وكل تأويل أو التفاف على الكلام  الذي لا يقبل التفافاً ولا تأويلاً ، قوله تبارك وتعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ … } . فقوله تعالى { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ } ، يراد منها أولاً تقرير بشرية محمّد (ص) ، ومن هم دون محمّد ، إذ ليس فوق محمّد (ص) من البشر أحد . وثانياً نفي الألوهة  عنه (ص)  وعن أي مخلوق آخر ، فإنه لا إلـه إلاَّ الله وحده لا شريك له . وثالثاً أنه ما دام بشراً ، فلا يمكن  تأويل ذلك بأن يزعم أنه من الجن أو من الملائكة . ثم إنه ماذا يراد من ادِّعاء  محمّد أو آل بيت محمّد  أو بعض أصحاب محمّد أنهم فوق البشر ،  بعد صريح النص الكريم الإلـهي ؟ فإذا كان ليعظموا ويعبدوا ، فهذا هو الشرك الصريح القاضي بالتخليد في الجحيم . وإذا كان القصد لكي يطاعوا ،

ولتكون لهم مودة خاصة ، ولكي يقتدى بهم في الدعوة إلى الله ، ويرسموا معلِّمين للأُمَّة ، في الإخلاص  لله عزَّت عظمته ، فهذا حاصل في أمر الله وتعليم الله  تبارك وتعالى . حاصلة مودتهم وطاعتهم والإقتداء بهم ،على بشريَّتهم ، ودون أن يكونوا صنفاً من غير البشر . أما أن يحتجَّ برواية كذا وبحديث كذا مما لا يوافق القرآن الكريم ، لا ظاهراً ولا باطناً. إذ أن الباطن مفاتيحه الظاهر وحُجِّـيَّةُ الظاهر .حتى إن بعض الآيات لا تقبل تأويلاً ، مثل هذه الآية : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ } . فأي تأويل لها ينفي بشرية محمّد ، فأقواه أن يكون غير بشرٍ وقد تمثَّل بقدرة الله بشرا . فلو كان الأمر كذلك ، لكان قال الله عزَّ وجل فيه ، كما قال بالروح القدس ، حين جاء مريم  عليها السلام {  فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا } .

        فإذن ، هو الإنذار لمن يعبدون غير الله ، أو يعبدون معه سبحانه آخرين ، ينظرون إليهم ويفكرون بهم على أنهم آلهة ، أو أصناف من غير البشر . هو الإنذار بالعذاب الدنيوي ، قبل عذاب الآخرة والتخليد في الجحيم .

        والحقيقة الدامغة ، أنَّ  أُناساً في مثل واقع هذا الشرك ، هم لذلك إما في واقع العقوبة والعذاب من الله أفراداً وجماعات ، أو أنهم من المنذرين  بالعقوبة والعذاب ، إذا هم لم يأخـذوا النُّذر بعين التصديق والإعتبار ، والفرار إلى الله وحده ، على أن لا ملجأ إلاَّ هو سبحانه وتعالى عما يشركون ، قوله تعالى:{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ . وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } . [ 50 ـ 51  : الذاريات ] . وقوله سبحانه : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } . [ 22 : الجن ] . والملتحـد هو الملجأ ، وليس غير ذلك .

ذكرى عاشوراء بين الدعوة إلى الله والدعوة لآل البيت عليهم السلام :

        ودلالتنا القوية على ما ينافي هذه الآية { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا }  قولةٌ جاهزة يقولها قارئو العزاء من شيعة آل البيت  عليهم السلام ، فيما يسمى بالمجالس الحسينية ، هذه القولة ، يبدأ بها كل قارىء ـ إلاَّ من فطن وندر  ـ  كمقدمة ثابتة  لكل فصل من فصول  فاجعة كربلاء . والقولة  في تلك المقدمة الثابتة : ” … ما خاب من تمسك بكم  وأمن من لجأ إليكم ” .

        فموضوعنا هنا قولهم الذي لا يكادون ينفكون عنه ، وهم مئات القراء  الإختصاصيين ، الذين أصبح  ديدنهم الدعوة إلى أهل البيت وحدهم عليهم السلام، لا إلى الله جلَّت عظمته ، ولا إلى الإسلام دين الله ، ولا إلى وحدة المسلمين ، أي وحدة الأمة التي أوجبها الله عزَّ وجل ، ولا إلى أهل  البيت عليهم السلام  كدليل يقود إلى تمجيد الله وتعظيمه وحده ، ودعائه وحده ، والإستغاثة به وحده ، واستنصاره وحده ، واسترزاقه وحده ، وذكر أفضاله  على أهل البيت عليهم السلام وعلى العالمين وحده . وإن كان ميَّزهم  وقرَّبهم وأوجب طاعتهم عليهم السلام ، فلأنهم كانوا ، كذلك ، دعاةً إلى الله سبحانه وليس إلى أنفسهم . فلماذا لا يطيعهم  هؤلاء القراء ، فيدعون إلى الله كما دعا هؤلاء الأئمة الأماجد ؟ وأوجب الله طاعتهم عليهم السلام ، لأنهم جاهدوا في سبيل الله وحده . فلماذا لا يطيعهم هؤلاء القراء ، ويدعون إلى الجهاد في سبيل الله وحده ؟ وأوجب الله طاعتهم عليهم السلام ، لأنهم ضحوا بأنفسهم واستماتوا حباً لله ، وحفاظاً على دينه الحنيف ، وعلى وحدة أمة محمّد (ص) ، أمة الإسلام العظيم . فعلام لا يطيعهم هؤلاء القراء ، ولا يدعون إلى وحدة أمة محمّد (ص) والتضحية بالأنفس والإستماتة حباً بالله ، وحفاظاً على دينه العظيم ؟ وإذ هم لا يفعلون ، وقد صرفتهم الشياطين والنفوس الأمَّارة ، والصدور الضيِّقة ، بعيداً عن الله تعالى ، وعن هذه المطالب المقدسة ، فقد لا يكون في الأمر عظيم خطر ، لو أن المشكلة توقفت عند ذواتهم  . ولكن الخطورة السارية المفعول ، الفاتكة بالناس فتكاً ، هي أنهم  يؤثِّرون في العوام وحتى بأشباه الخواص ، تأثيراً عريضاً ، كما المخدِّر الذي يتبلَّد معه تفكير الناس ، وما أكثر متبلِّدي التفكير ، وما أقلَّ من يفكر أو يتأمل أو يتحمل مسؤوليته أمام الله عزَّ وجل ، تلك الأمانة التي تأبَّتها وأشفقت منها السماوات والأرض والجبال ، وحملها الإنسان . فمن أدَّاها بما يُرضي الله عزَّ وجل نجا وفاز . ومن أخلَّ بها ، وأساء حملها ، ولم يؤدِّها على وجهها بما يرضي الله ، هلك ، فكان ظلوماً لنفسه وللآخرين ، وكان جهولاً .

        وحيث أن مسلكنا الذي عاهدنا عليه ، كذلك طلباً للنجاة ، هو أن لا نتجـاوز آيات القرآن الكريم  ، في أداء الشهادة والتبيين والإحتجاج ، كما أسلفنا ، فسنردُّ على قولة : ” ما خاب من تمسك بكم وأمن من لجأ إليكم ” ، بآيات من كتاب الله المجيد ، الذي { لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ…}.

[ 41 : فصلت ] . والذي هو{… تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ …} . [ 89 : النحل ] . والذي هو المرجع في ادلِهْمَـام  الفتن واستشراء  البدع وخلط المفاهيم . لا سيما فيما يتعلق بالعقيدة وروحها وأساسها ، الذي هو التوحيد ، والذي هو مضمون كلمة : لا إلـه إلاَّ الله .

        وأُنَبِّهُ إلى أني حريص أشد الحرص على التمسك بمحمّد وبسنة محمّد وآل بيت محمّد صلوات الله عليهم أجمعين ، ولكن بعد التمسك بالقرآن الكريم ، حبل الله المتين الممتد من السماء إلى الأرض . ومتمسك بهم كدعاة إلى الله وحده ، إلـهاً  واحداً معبوداً وحده ، ومدعواً وحده ، ومستغاثاً به وحده ، إلى آخر ما أسلفنا وذكرنا من حقوق الله عزَّ وجل ، وتبارك وتعالى عما يشركون .

        ولضيِّقي الصدور ، أن يأخذوا نفساً عميقاً هنا ، ويذكروا الله سبحانه وتبارك وتعالى ، ويسألوه العون في الفهم . فمن فعل ذلك ، وصحَّت نواياه حباً بالتقرب إلى الله جلَّ شـأنه ، فإنه بكرمه وبرحمته سيفتح قلوبهم ويزيدهم من هداه، إذا كانوا من المهتدين غير الملحدين ولا المشركين : { وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } .[ 11 : التغابن ] . {… وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا } . [ 2 : الطلاق ].{… وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ …}.[ 3 : الطلاق ] . أي يكفيه ،ذلك لأن من تأزَّم  بشكل أو بآخر من كتابتنا هذه ،لرواسب،إما ثقافية، وإما شخصية ،فهو لن يتأزم إذا وجد أن حقائق ما قلناه،ونقوله،هو بفضل من الله سبحانه،وهو في آياته البينات وقرآنه الحبيب.فعلى القسم الأول من القولة المذكورة،وهو:”ما خاب من تمسك بكم”، نورد ثلاثة موارد قرآنية ، من كان يفهم العربية فهماً وسطياً ، فسيفهمها بإذنه تعالى ، فهماً مشبعاً مقنعاً لا جدال معه ولا مناقشة . ومن كان بحاجة إلى تفسير بعض الكلمات أو العبارات ، او أبعادها ظاهراً وباطناً ، فعليه بأيَّةِ مجموعة محترمة من كتب التفسير ، فسيجد فيها إن شـاء الله ما يشفي غليله ، ويسلم قلبه ، فيغدو مصداقاً لقوله تعالى : { يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } . [ 88 ـ 89 :الشعراء] . يعني سليم من الشرك . ثم كذلك  ، ثلاثة موارد قرآنية ، رداً على كلمة : ” وأمن من لجأ إليكم ” والله المستعان .

        أما آيات القسم الأول المتعلقة ( بالتمسُّك ) ، فهي التالية :

     1 ـ { وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ   الْمُصْلِحِينَ } . [ 170 : الأعراف ] .

    2 ـ { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } . [ 256 ـ 257 : البقرة ] .

3 ـ     { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ.وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ.وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } . [ 21 ـ 22 : لقمان ] .

        وأما آيات القسم الثاني المتعلقة ( باللجوء ) فهي التالية :

       1 -{ قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا}. [22 : الجن ] وقد أشرنا إليها أول هذا المبحث .

    2 ـ{ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }. [ 118 : التوبة ] .

     3 ـ{ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ.وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ. وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ.اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ }. [ 44 ـ 47  : الشورى ] .

        وليست هذه المقولة هي الإخلال الوحيد والخطير في أسس الإعتقاد الحق، الإعتقاد الإسلامي،وإنما اكتفينا بها كمثل من عشرات الأمثال التي تقع نافرةً، شاذَّةً وموجعة،على رؤوس الناس وأسماعهم وأبصارهم،بجميع فئاتهم ومراتبهم،واختلاف ثقافاتهم الدينية وغير الدينية.وقليلون جداً هم الذين يتوقفون عندها توقف الخائف الوجل،من غضب الله واستمراره على هذه الأمة،التي جعلها يوماً ما،بسبب من استقامتها وطاعاتها،خير أمة أخرجت للناس.وصحيح أن هذه الصفة التي أعطاها إياها سبحانه هي في سياق وعوده لها بالتمكين يوماً ما،وإنما ليس بدون أسباب وأشراط.فذلك التمكين لن يأتي إلاَّ بالرجوع إلى الله وإلى أحكام الله،وعلى قاعدة المقتضي والشرط وعدم المانع،وهذه هي تعريفات هذه العناصر الثلاثة : المقتضي هو انتصار الأمة. والشرط هو التوحيد ، أي تطبيق مضمون:لا إلـه إلاَّ الله على أساس القرآن.وأما عدم المانع، فهو مشيئة الله وقدره وقضاؤه .

      فإذا اجتُنِبَت مثلاً هذه المقولة التي كنا بصددها،رفع الله عنا مقدار غضب أو عذاب بمقدارها وعلى هذه فقس ما سواها.وإلاَّ فتتراكم الآثام على أمة كم هي بحاجة إلى رضى الله، بدلاً من سخطه، في ظروف أصبحت فيها أذلَّ الأمم، بعد الذي رأيناه من إسرائيل ، ونحن عشرات أضعافها عدة وعدداً ، وبعد الذي رأيناه من تدمير شعب العراق والصومال وشعوب آسيا الوسطى ، وأخيراً وليس آخراً ، تحطيم البوسنة والهرسك، ووطء أعراضها وكراماتها بأحقر أخلاقية عرفتها همجية القرون المظلمة . وما زلنا ـ رغم أننا نملك أعظم سلاح تملكه أمة من الأمم : التوحيد ، مدعماً بالقرآن المجيد ـ ما زلنا إضافة إلى كل ذلك ، في مواجهة سلام مفروض من دولة عشرة ملايين يهودي ، على أكثر من ألف وخمسمائة مليون مسلم يشكل منهم العرب وحدهم طوقاً كاملاً على إسرائيل من مائتي مليون موحد شاهد بأنه لا إلـه إلاَّ الله محمّد رسول الله (ص) : فأين ، أين نذهب بهذه الآية الكريمة : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} . [96: الأعراف ] .

        فأين الدعوة لتوحيد الأمة على هذه المنابر  الحسينية ، التي أصبحت _ لولا بعض الأفاضل ـ مسرحاً مربحاً لكل ذي صوت بكَّاءٍ رخيم ، من الأُمِّيين إسلاماً وإيماناً ،ولغةً ، وأدباً ، وما أسهل هذا الإختصاص. فالأشرطة المسجلَّة  لبعض كبار القارئين جاهزة،وكذلك هم يستمعون ويقلِّدون ولكن بأدمغة ببغائية،وهي أخطر على المسلمين الشيعة من الطاعون والسرطان.وما أغلى ما يأخذون من الأجور.فهي إذن مهنة مربحة وهي في نفس الوقت قاتلة لهؤلاء التجار ولعامة المؤمنين،الذين أوصى الله بتذكيرهم بالحكمة والموعظة الحسنة.لقد أصبحت الحكمة والموعظة الحسنة حكراً على هؤلاء من دون العلماء،العلماء الذين في وظيفتهم الشرعية أن يتحدثوا هم عن الحسين وآل بيت النبوة الأفذاذ عليهم السلام.فهم أعلم وأدرى بتوجيه الأحاديث والمواعظ تبعاً للظروف السياسية والتاريخية، ومواجهة الحقائق في أصالتها وأبعادها،وهم أدرى بحقيقة تاريخ الوقائع.وكذلك ليس في مواقف العلماء تكلف ولا رياء،وهم لا يتشنجون ابتغاء استدرار الدموع من النساء البسيطات والعوام والأطفال،وليس إلاَّ استدرار الدموع .

        وإذ قلت العلماء ، أعني علماء الحق ، علماء التوحيد ، القرآنيين الأتقياء الورعين ، الذين جعلوا الدنيا وراءهم والآخرة أمامهم .والذين يحتجُّون بالآية قبل الرواية ، بكلام الخالق قبل كلام المخلوق.هذا إذا صحَّت الرواية والأحاديث عن المخلوقين . أقول ذلك ، وأستثني من العلماء بعض من يصنِّفون أنفسهم أو يصنِّفهم الناس علماء تبعاً لأزيائهم الدينية وهم بمستوى أولئك الدخيلين من قراء العزاء، ضيقاً وعصبيَّة ،وتخصصاً ربما بكل شيء ، إلاَّ بالقرآن الكريم كتاب الله وآياته البينات .

{ ألا تعبدوا إلاَّ الله } دعوة قائمة إلى قيام الساعة :

        وإلى أبد الآبدين ، هذه الدعوة ،يترتب على مخالفتها عذاب الدارين ، وهي تكليف لكل رسول وكل عاقل من خلق الله ،وتواجه كل رسول وكل عاقل يدعوان إلى الله ،معارضة واسعة من الناس،وخاصة فيما يتعلق باعتقاداتهم  الغيبيَّة،ليس عن الله عزَّ وجل ،وإنما عن أفكار ومجسمات،سواء كانت من التماثيل والأنصاب ، أو من البشر . وحتى التماثيل غالباً ما كانت تمثل إنسانـاً بطلاً ، أو فاعل خير ، أو زعيماً بشكل أو بآخر . وفي عصورنا الحديثة نضرب مثلاً عن النصارى الذين يكرمون شخص المسيح وشخص أمه عليهما السلام ، بأن يتوجهوا إلى تماثيلهما بالركوع والدعاء والعبادة في الكنائس وعلى مفارق الطرق وفي رؤوس الجبال , وتصبح العادة عبادة ، والعبادة عادة . حتى ولو كانت عبادة تتضمن كفراً أو شركاً أو فسوقاً . تماماً كما نرى كذلك عند كثرة من جهلة من يسمون مسلمين ، وفي جميع مذاهبهم : التعبُّد للشفيع ، والتعبُّد للولي ، ونسج الأقاصيص والأخبار حول هذا وذلك ، حتى يشتد التحول عن الله وعن ذكره في البداية ، ثم ينسى تقريباً ، كلياً ، ويبقى الإنشغال الذهني والتفكير والتوجه إلى الشفيع ، أو الولي ، بإعظام وإكبار ، وإجلال وتوقير . ثم يجعلونه مستقلاً عن الله سبحانه . وهكذا يتعاملون مع الشفعاء على أنهم آلهـة ، من حيث يقصدون أو لا يقصدون . بينما هذه الإعتبارات والأحاسيس التعبُّديَّة ، هي واجبة في الأصل لله جلَّت عظمته ، ثم بالتَّبَعِ تكون المودَّة لمن يحب هو سبحانه من عباده ، ويكون الإقتداء بهم ، في تمجيده وحده ، والدعوة إليه وحده تبارك وتعالى .

        من هنا ،عندما يبعث الله رسولاً ،أو يكلِّف ولياً من أوليائه ، بالدعوة إليه وحده ، يضطرب الناس بشأن هذه الدعوة إلى الله . وأوَّل ما يفعلونه ، أن يقذفوا الداعي بالتهم التي منها الجنون ومنها الطمع بالدنيا ، ومنها الكذب . ثم عبر هذه التهم كلها يؤذونه أشد الأذى ، ويحاولون قتله ، إلى أن ينصره الله سبحانه ومن يؤمن معه ، أو يقضي له ولقومه أمراً كان مفعولا .

        إذن ، الصعوبة عند الناس ، في جميع مراحل التاريخ ، وإلى قيام الساعة ، هي في تقبُّل دعوة الدعاة إلى الله وحده : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }.[ 45: الزمر].والأصعب من ذلك عندهم ،هو التخلي عن معبوديهم من أبطالهم الدينيين، أو حتى السياسيين والأثرياء وأصحاب النفوذ ، والتوجُّه إلى الله وحده .

        وأكبر رد جاهز عند بعض أدعياء الإيمان ، هو قولهم : هذا ، أو ذاك ، أو ذلك ، يدعوننا إلى الله ؟ ونحن نعبد من ؟  نحن أكثر الناس إيماناً بالله ، وأكثر الناس ذكراً أو حباً لله . والحقيقة إنهم كاذبون . فقد يكون أحدهم خارجاً للتوِّ من حفلة ذكرٍ لغير الله ، أو لدم للصدور نساءً أو رجالاً ، أو تعبد لغير الله أو حتى حفلة تفكير مشترك أو ذاتيّ ، أو كتابة ما اعتمدت على قرآن  ولا أنزل الله بها من سلطان .

        ومن جملة المصاعب في تحوُّلهم أو تحويلهم ، هو التراث المتراكم عبرالسنين ،  من البدع ، والظن ، والنكد ، نتيجة لتعصُّبٍ ضد من لا يذهب مذاهبهم .

        ويقولونها وبأصوات عالية : هؤلاء الدعاة إلى الله ، إنما يريدون أن يغيِّروا ديننا ، نحن وجدنا علماءنا وآباءنا منذ مئات السنين يفعلون ما نفعل ( يقصدون ما يُعترض عليه من البدع ) وما نحن إلاَّ مقلِّدين لهم . والحقيقة إن العلماء براءٌ من مزاعم العوام هؤلاء . طبعاً العلماء الحقيقيين . لأنهم ملح الأرض ، وملح الدين ، دين الله تبارك وتعالى . وهو سبحانه جعلهم كذلك أئمةً وورثةً للأنبياء . أما جمهور العوام ، فيصبحون بدعاواهم واعتراضاتهم على الداعين إلى الله ، مصداقاً لقوله تبارك وتعالى : { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا…} . [ 78: يونس].

      هكذا يصبح بعض أولياء الله الماضين الكبار ، المقربين إلى الله عزَّ وجل ، يصبحون في قلوب وأذهان العوام آلهـة . يصبحون أوثاناً تعبد ، لذلك كان جواب قوم هود عليه السلام : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا … }. [ 22 : الأحقاف ] .

كلام عن الحسين وتخليد ذكراه عليه السلام :

        أما عن الحسين عليه السلام ، فمن لا يعرف من هو الحسين عليه السلام جملة وتفصيلاً فقد خُدِعَ عن عقله ، وجهل ركناً من أركان الإسلام كبيراً . ورمزاً من رموز البطولات التاريخية الفذَّة ، وكذلك من رموز الإنسانية النادرة . وبكلمة أوجز ، من لا يعرف الحسين ، يجهل صنيع الله وآثار عظمته في من يصطفي ويجتـبي من عباده للمهمات والمواقف العبقرية .

 ومن يشاء أن يتعرف على الحسين بعد جهلٍ به ، فإن ما كتب عنه من مؤلفات وما نظم فيه من أشعار ، يشكل موسوعةً حسينية ضخمة ، هي في متناول كل من يريد تعلم أو تعليم البطولة حباً بالله ، وغضباً لله . أو تعلم الشهادة المعقلنة والتضحية في سبيل الله . التضحية بما هو أغلى من الكرة الأرضية وجمالها ، وجبالها وأوديتها ، وما في بطونها من كنوز التبر والجوهر .

أما الأصل الذي كان يجب أن يقال ويكتب ، في رأس ما قيل وكتب عن الحسين وآل بيته وأصحابه ، فهو علم الله ومشيئته وقدره وقضاؤه فيهم ، ثم فضله عليهم من بداية البدايات إلى نهاية النهايات . وأنهم لولا مجد الله ما مجِّدوا ، ولولا عزَّة الله ما عزُّوا ، ولولا قوة الله وعنايته  فيهم ، ما صبروا ولا ثبتوا على شيء ، حتى ولا كانوا ولا وجدوا .

فالله إذن سبحانه صنع الحسين وآله وصحبه ، وخيَّرهم وما أجبرهم ، فنجحوا النجاح الفذ ، وأفلحوا الفلاح المبين : طاعةً لله ، وحباً لله ، وتفانياً في سبيل الله . وليس تضحية بالمال والأنفس فقط ، وإنما كذلك بالأهل والولد ، تقرباً إلى الله عزَّت عِزَّته .

هي دعوة رائعة إلى الله :

        مسيرة الحسين عليه السلام وآل بيته وصحبه ، وما رافقها  من معاناة ومواقف وعبر ، وصولاً إلى كربلاء . ثم الزلزال التاريخي الذي لم يتوقف بعد . الذي نتج عن مقتل الحسين وبنيه وإخوته وأصحابه ، ثم سبي نسائه وأطفاله . ثم مواقف زينب التي هزَّت وما زالت تهزُّ الضمائر وترتعش لها الأفئدة . ثم بزوغ  زين العابدين ، الإمام السجاد ، من ذلك الليل الدموي  الحالك ، قمراً يتألق بالتقوى والمثالية ، وشرف العبادة والإخلاص لله ولدين الله . كل هذا في الجانب الأبيض والأحمر والأخضر . أما الجانب الآخر ، الجانب الكالح جانب أهل الجحيم، ففيه كل النقائض : الكثـرة العددية ، التي هي فريقان : فريقٌ جشعٌ متكالب على الدنيا ، وفريق جبان : أما الجشع فحرصاً على المال والجاه والسلطان  . أهل بلادنا يعبِّرون عن هذه الحالة الوصولية والإنتهازية بتعبير : ( مع الواقف ) ، أو الذين ( ينقلون البندقية من كتف إلى كتف ) يعني حيث يرون مركز القوة ، يهرعون إليه ، يتمسَّحون به ، ولو كان باطلاً ، ولو كان كفراً . وطبعاً على حساب الحق ، وحتى ولو على محاربة الحق وأهل الحق وقتالهم وذبحهم كما فُعِل بالحسين وآله وصحبه عليهم السلام . والفريق الجبان . لأنه جبان . وهل أخسُّ من هذه الكلمة ؟ وهل أحقر ممن يتَّصِفُ بها ؟ جبان . يخاف السلطان ، يسير معه . يقتل إذا قتل ، ويبطش إذا بطش . والجبان يكون عادة أحرص من سيده الشرير ، على إيذاء الأخيار الأبرار من الناس ، وعلى قتلهم وإلحاق ما توحيه إليه شياطينه بهم .

        هذان الخصمان تقابلا في كربلاء : الإيمان كلُّه ، والكفر كلُّه . وتحدَّى الإيمان وهو مجموعة قذائف قليلة العدد ، تحدَّى جحيماً من الكفر الأربد الأسود . وقتل الكفار الحسين ، قتلوه مرة واحدة ، هو وصحبه وآل بيته .ثم قتلهم الحسين،

 أخذ يقتلهم بإذن الله من ذلك اليوم . وما زال يقتلهم كل يوم وكل ساعة ، بالكلمة المؤمنة ، وبالحكمة المتعالية ، وبالسيف ، وبالقذيفة والبندقية . وما زال يقتلهم إبنه عليٌّ الأكبر ، وأخوه العباس قائد عسكره ، والشيخ الجليل التسعيني والفتى الصغير القاسم بن الحسن ، وبقية صحبه وأهله . وما زالت تقتلهم زينب بنت علي بن أبي طالب ، بنت الزهراء إبنة محمّد (ص) ، شقيقة الحسين ، عليهم السلام جميعاً . العقيلة زينب ، التي سجلت الأصوات والألوان والصُّور . صوَّرت جميع وقائع المسيرة . منذ المدينة ، فمكة ، فالعراق ، فالكوفة . وصوَّرت جميع فجائع كربلاء ، تلك الصور الدموية الوحشية من جهة العدو ، والإيمانية المسلمة لله من جهة عسكر الحسين . سجَّلت وصبرت ، وثبتت في وجه الطاغية ، كما تثبت الشمس في عين الأعشى . صبَّرها الله ، وثبَّتها الله ، وأطلق لسانها الله ، فأفحمت الطاغوت يزيد ، وألقمته حجراً . ألقمتهم حجارة ، جميع من كان لهم صلة بجريمة الجرائم التاريخية الثابتة الألوان ، وأبرزها الأحمر القاني ، دم الحسين ، الذي كأنما تحوَّل إلى زيتٍ قُدسيٍّ ، يضيء شعلة وهَّاجة ، على كوكب أخضر ، يطوف بها فوق أهل الأرض ، ويتوقف كل عام مرةً في منتصف السماء ، أيام عاشوراء ، ليراه جميع خلق الله ، ما عدا العميان …  شعلة ما زالت تضيء ، وستبقى تضيء بإذن الله إلى قيام الساعة : تعلِّم البطولة غضباً لله ، والفداء في سبيل الله ، والإستشهاد حفاظاً على دين الله ، وحباً بالله ، وشوقـاً إلى الله . لذلك ، كانت مسيرة الحسين من بدايتها إلى نهايتها وبجميع تفاصيلها : دعوةً إلى الله ، تبارك وتعالى وعزَّ ذكره وجلَّ ثناؤه .

        وإذا ادَّعى من سيدَّعي ، بأن كون الوقائع الحسينية ، دعوة إلى الله ، هو من البديهيات . وأن القراءات التي تتم ليست دعوةً إلى أهل البيت من دون الله سبحانه. فنقول له ، هذا بنيتك أنت ونعم النية . وإنما لو تأمَّلت في سلوك العوام ، وتوجهاتهم ، واعتقاداتهم ، فسترى العجب من نسيان الله عزَّ وجل ، نسيانه كلياً عزَّت عظمته ، والوقوف فقط عند الحسين عليه السلام ، والعباس بصورة خاصة،

طبعاً لأسباب معروفة في تفاصيل الفاجعة . ونتيجة لقراءة الجاهلين ، ونسيان رب العالمين ، نجد العوام ، وحتى بعض المثقفين ، ولا سيما النساء ، وحتى بعض المعمَّمين ، غالباً ما يطلبون حاجاتهم الضرورية ، من علي أو من الحسين ، أو الزهراء ، أو زينب عليهم السلام ، هكذا ومباشرة ، ومن دون أي ذكر لله تبارك وتعالى . وحتى النذور ، ينذرونها لهم عليهم السلام ، بدون أن يكون لله فيها أية علاقة . ومعلوم أن النذر لا يكون حقاً ومقبولاً إلاَّ إذا عقد لله عزَّ وجل ، وباللفظ الحرفي : نذر لله ، أو لله عليَّ نذر … إلخ ..

        وما دام الأمر كذلك ، فإنما يترتب عليه سخط الله عزَّ وجل ، في حين يُرجى من ذكرى الحسين عليه السلام أو قراءة العزاء ، أو المواقف والمجالس التي تعقد للحديث عن أهل البيت عليهم السلام ، أن تكون مدخل صدق لذكر الله والدعوة إلى الله سبحانه ، كما أمر بمئات الآيات البينات في كتابه العزيز .

        أفلا يصح مع هذا ، أن نعتقد أن مآسينا وكوارثنا ، وهزائمنا أمام شرِّ خلق الله ، هي بسبب نسياننا لله عزَّ وجل ، وعدم ذكره كما ينبغي أن يذكر ، وكما أمر أن يذكر . وأنها كذلك بسبب انشغالنا بخلقه دونه . بينما الواجب أن نعتبرهم من آياته التي تذكِّر بعظمته وحده ، وألوهيته وحده ، وتدعو إليه وحده لا شريك له ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

موجز عن تكليف هود عليه السلام :

        أما خلاصة الكلام في الآيات الثلاث موضوع بحثنا : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ . قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ . قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِندَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ } . [  21 ـ 23  : الأحقاف ] .

        إن النبي الكريم هذا ، قد يكون جاهد مجاهدة الأبطال ، على مستوى الرسل والأنبياء والأولياء الصالحين . ومع ذلك لا نجد أثراً في القرآن يشير إلى تفاصيل تدل على ذلك أو تبرز له فضلاً ، أو تجعل له تعظيماً ، وكذلك سائر الأنبياء . فأكبر ثناءٍ على أحد منهم  ، هو شهادة منه سبحانه ، أنه كان من الصالحين والصابرين والصديقين ، أو { .. أوَّاهٌ حَلِيمٌ } . [ 114 : التوبة ]  كما نعت الخليل إبراهيم  أو {.. لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }. [ 4: القلم ]  وهي الصفة التي أفرد بها عبده ورسوله محمّداً (ص) .

        فبما أن الله سبحانه لم يذكر عن هود عليه السلام ، تفاصيل عن شخصه وحياته وجهاده ، يستطيع الإنسان معها أن يكتب أو يحاضر في صفاته ، وسلوكه ، فيكون إذن معنى قوله تعالى : { وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ … الآيات } ، ليس أمراً بإبراز شخصه أو تعظيمه وتعظيم مواقفه . فهو حتى لم يأت بآيةٍ تذكر ، مثل كثير من الأنبياء والرسل غيره ، سوى أنه دعا إلى الله ، وإلى عبادة الله وحده ، ونفي الشركاء والآلهة المزعومين ، إضافة إلى إنذارهم بالعذاب ، إذا هم لم يصدِّقوه ولم يطيعوه . وقد أوقع الله فيهم العذاب فعلاً ، عذاب الدنيا قبل الآخرة .

        فإذن ، المراد من ذكر عباد الله ، إذا كانوا من المكلفين المقربين عند الله عزَّ وجل ، هو ذكر المبادىء التي أُرسلوا أو كُلِّفوا بها ، وملاحظة أسرار الله فيهم ، وإبراز عناية الله بهم وأفضاله عليهم . وحبُّهم بعد الله حباً بالله ، ومودَّتهم تقرباً إليه سبحانه ، واقتفاء آثارهم  ، والتشبُّه بهم في مداومة ذكر الله ، وفي أخلاقهم وإخلاصهم لله ، وعدم إبراز شخصياتهم واستقطاب الناس تأكيداً لوجودهم هم ولأمجادهم ، وإنما لوجود الله وتوحيد الله وتمجيده وحده سبحانه دون جميع خلقه . فما منهم من أحد دعا لنفسه ، أن يعبد أو يعظم أو يحب ، كما يعبد الله أو يعظم الله أو يحب الله . وإنما كان كل همهم وجهادهم وبذل أنفسهم وأعمارهم لله وفي سبيل الله وحده ، ومع كل ذلك يجدون أنفسهم مقصِّرين قاصرين عن أداء حقِّه سبحانه ، وعن حمده وشكره كما ينبغي لكرم وجهه . وما من أحد منهم ذكر عنه الله سبحانه،أو ذكر هو عن نفسه ، أنه مثل الله حيٌّ قيُّومٌ  ، أو مثل الله سميعٌ بصيرٌ،

أو مثل الله مجيب الدعاء ، أو مثل الله لا يرام ولا يضام ولا يحاول ولا يطاول ، أو مثل الله على كل شيء قدير ، أو مثل الله مالك الملك ، خالق الخلق ، باسط الرزق، إذا أراد شيئاً يقول له كن فيكون . يرانا ويراقبنا ، ويحيط بنا وبكل شيء فينا ، وبالكون كلِّه ، ويحاسبنا ويثيبنا ويعاقبنا ويجزينا بكل خير خيراً منه . ويربِّينا ليلنا ونهارنا . بل هو الله وحده ، ربنا وسيدنا وولينا الحاضر الناظر ، ما دار الفرقدان وما بزغ النيران وعلى الزمان وبعد الزمان وفي الدنيا والآخرة { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ } . [ 84 : الزخرف ]  و { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . [ 3 : الحديد ]  { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } . [ 62 : الزمر ]  وعلى كل نفس قائم  . وحسبنا الله ونعم الوكيل ، له الحمد في الدنيا والآخرة ، له الحمد وله الشكر كما حمد نفسه وكما شكر نفسه  وكما ينبغي لكرم وجهه .