نحن وحضارة العام ألفين .. إلى أين

الإسلام أبقى على ما كان إيجابياً في الجاهلية الأولى  وكذلك ينبغي  أن يبقي على إيجابيات الجاهلية الثانية

 

 

الجاهلية الأولى :

 

        معلوم أن الله عز وجل ، عندما بعث نبيه محمدا (ص) بالرسالة الإسلامية ، التي هي دين الله { إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الاْسْلَـاـمُ . سورة آل عمران الآية 19 }  كان أول ما أرسله إلى قومه ، ومن ثم إلى العالمين .

        وقوم محمد (ص) آنذاك هم عرب الجزيرة المعروفة باسمهم ، كانوا ومن حولهم من الأمم والشعوب ، في جاهلية جهلاء ، كان طابعها  العميق ، الوثنية والشرك بالله .

      كذلك كان الحال في أبرز حضارتين لأكبر أمبراطوريتين، زامنتا الرسالة الميمونة ، هما الفرس والروم . وهاتان  الدولتان ( العظميان )  كانتا ـ كذلك ـ  تتقاسمان حكم العالم آنذاك .

هذه الجاهليـة ، حسب القرآن الكريم ، هي الجاهلية الأولى ، المنوّه عنها في قوله تعالى :

{ .. وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَـاـهِلِيَّةِ الأُولَىا … . سورة الأحزاب الآية 33 } .

 أما الجاهلية الثانية ، فهي مستقرأة مترتبة على تلك الأولى . فحقيق  أن تكون هي المستشرية  على مستوى العالم ، منذ بدء خبوّ الإسلام في نفوس المسلمين ، وتراجعهم عن التمسك  بحبل الله وشرائعه المنـزلة ، إلى أيام إنبعاثهم من جديد ، ورجوعهم إلى الله وإلى دينه الحنيف .

الجاهلية الثانية والديمقراطية :

        فكان بديهياً أن يقابـل تراجع أهل الحق ، تقدم أهل الباطل ، مما جعل الجاهلية قاسماً مشتركاً بين الطرفين . فأخذت تنمو وتتكاثر بكثافة ، طفيليات  الحضارة الراهنة ، التي طبعتها كذلك وعميقاً ، جاهلية جهلاء ، بالشرك والوثنية ، بين إفساد بني إسرائيل الموعود في كتاب الله ، وبين غدر المسيحين  بدينهم ، وذلك بأن أسسوا على الإلحاد ، إحدى أعظم دولتين  في  الأرض ( الإتحاد السوفياتي قبل إنهياره ) ، وعلى الشرك والظلم ومعاداة الإسلام والولاء المذل لليهود أعداء المسيح والمسيحية ، الدولة العظمى  الثانية ، المتمثلة بأميركا والغرب المسيحي كله . وكل ذلك ضمن تخليهم  عملياً عن المسيح وعن شرائع المسيح وعن دين المسيح الذي هو إسلام من الإسلام لله رب العالمين .

      هذا الواقع ، أدى إلى حالة من التناقض الشديد في المفاهيم السياسية ، وجعل الديمقراطية التي يتبجحون بها سلاحاً وحشياً ، يكيّفه التوجه الإمبريالي مزاجياً حسب مصالحه ، ضارباً بالشرائع الإلـاهية والأخلاق والأعراف والمنطق عرض الحائط  بما فيه حائط الأمم .. المتحدة . تلك هي إذن الجاهلية الثانية .

{ أفَحُكْمَ الْجَـاـهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أحْسَنُ مِنَ اللهِ  حُكْـماً لِّقَوْمٍ  يُوقِنُونَ . سورة المائدة الآية 50 } .

الحضارات بين الجاهلية والإسلام :

 

        وإذ كنَّا قد ألمحنا إلى حضارتي الروم وفارس قبل الإسلام ، وذكرنا أنهما كانتا في جاهلية ، وكذلك جاهلية حضارة القرن الخامس عشر الهجري ، العشرين الميلادي ، فقد يخيل أن فيما قلناه تناقضاً ، لا سيما للذين يعتبرون الحضارة بمعناها الدنيوي ، غاية  وهدفاً ، حتى ولو كانت مفرغة من المفاهيم  الدينية المنزلة . والحقيقة ليست كذلك . قال تعالى :

{ أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْض ِ فَيَنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَـاـقِبَةُ الّذينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُواْ أكْثَرَ مِنْهُمْ وأشَدَّ قُوَّةً وَءَاثَاراً فِي الأرْض ِ  فَمَا أغْنَىا عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ . فَلَمَّا جَـآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالْبَيِّنَـاـتِ فَرحُواْ بمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْم ِ وَحَاقَ بهم مَّا كَانُواْ بهِ يَسْتَهْزءُونَ. فَلَمَّا رَأواْ بَأسَنَا قَالُواْ ءَأمَنَّا باللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بمَا كُنَّا بهِ مُشْركِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَـاـنُهُمْ لَمَّا رَأواْ بَأسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَـاـفِرُونَ . سورة  غافر الآيات 82 ـ 85  } .

        فدليلنا هنا ،  قوله تعالى : { كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءَآثاراً فِي الأرْض ِ }  ثم قوله تعالى : { فَرِحُوا بمَا عِندَهُم مِّنَ العِلمِ }  وهذا كناية عما نسميه ( الحضارة ) ، أما قوله سبحانه { وَحَاقَ بهم مَّا كَانُواْ بهِ يَسْتَهْزءُونَ } فهو استهزاؤهم بالدين الإلـاـهي وأتباعه ، وواضح أن علاجه عز شأنه ، كان لأولئك وسيكون لهؤلاء ، بالبأس والشدة ، إما إستئصالاً ، وإما إسقاطاً  لدولهم  وهدماً  لأمجادهم ، وخزياً لهم

في الحياة الدنيا وفي الآخرة  عظيم العذاب .

        فالحضارة إذن ، بالنظر الإلـاـهي ، مهما تقدمت في مجالات الحياة ، عمرانا وسياسة وإدارة وإقتصاداً  وفتوحات علمية ، إذا لم تكن مرتكزة على الإيمان بالله واحداً لا شريك له وعلى دينه وشرائعه ، فهي في جاهلية جهلاء ، وبالتالي رهن بإنزال غضب الله وعقوبته عليها مهما طال بها الأمد .

        وبكلمة أخرى ، ان الحضارة الجاهلية ، التي هي عيناً الحضارة العلمانية ، يستحيل أن تستمر ثابتة على أسس الخير  والحق والجمال ، لأن منهجيتها ستبقى ناقصة  بنقص الإنسان الذي يرعاها ويوجهها وينظّر لها . فهي لا يمكن أن تكمل كمالاً إنسانياً إلاّ إذا أخذت بتعاليم خالق الإنسان ومكمل الإنسان ، الله الذي لا إلـاـه إلاّ هو الحي القيوم  وهو أحكم الحاكمين .

{ .. وَوَيْلٌ لِلْكَـاـفِرينَ مِنْ عَذَاب ٍ شَديد ٍ . الَّذينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَيَواةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبيل ِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أولَـائِكَ فِي ضَلَـاـل ٍ بَعِيد ٍ . سورة إبراهيم  الآيات 2 ـ 3 } .

        ومن أظهر الأدلة القاطعة في هذه المرحلة المعاصرة ، هو الهدم السريع ، والإنهيارالمدوّي ، لتلك الدولة الحضارية العظمى ، الإتحاد السوفياتي ( إحدى الدولتين الأعظم ) مع ما كانت تملكه من جميع المقومات العملاقة المادية ، إضافة إلى سيطرتها على حوالي نصف العالم ، والتي لم يكن يخطر ببال ملحد أو علماني  أو مشرك ، أنها ستسقط  كما سقطت بكلمة كن فيكون .

مؤشرات لنهاية الحضارة الراهنة أو الجاهلية الثانية :

        والمطلع على المعادلات الإلـاـهية في القرآن المجيد ، رابطاً ذلك بما يجري وبشكل متسارع على الأرض وما حولها ، من تغيرات في السماء وفي الأجواء ، متزامنة مع تفكك وخراب ونهاية إحدى الدولتين الأعظم ، ثم  غزو العراق للكويت ، ثم إجماع الأمم على تدمير العراق ، مع حصانة وحضانة لدولة إسرائيل ، إلى جمعها مع ألد أعدائها العرب في مدريد  ثم في بقية العواصم ، للتفاوض حول سلام عجيب بين ظالم باغ ومظلوم مبغي عليه ، بين معتد آثم ومعتدى عليه ، إلى التلويح بشن حروب على دول مستضعفة ، بتهمة أنها تستطيع أن تكون نووية . في وقت اتخمت فيه أجهزة  الإعلام العالمي ، بما لدى إسرائيل من قوى نووية فضلاً عما تملكه الدول الكبرى .  هذا إلى آخر  ما في العالم من منكرات وتناقضات ، وما لدى حكام العالم  من وقاحة ولؤم وغطرسة ، وظلم وتعسف ، بحق الضعفاء والشرفاء والأخلاقيين ، الذين تجنبوا ، جهدهم  ، الظلم  والإفساد في الأرض ،  وكأن لسان حالهم يقول : ربنا  أحب إلينا أن نلقاك مظلومين على أن نلقاك ظالمين . قلنا أن المطلع على هذه القوانين  الإلـاـهية والمتتبع لما يجري في الأرض ، يوقن أن هذه الحضارة ، إلى سقوط مريع ، تحت سياط غضب الله وسخطه .

       { فَصَبَّ عَلَيْهمْ رَبُّكَ  سَوْطَ  عَذَاب ٍ . إنَّ رَبَّكَ  لَبالْمِرْصَادِ . سورة الفجر الآيات 13 ـ 14 } .

        هذا من جانب ، ومن جانب آخر ،  فإنه سبحانه ، وعد المؤمنين باستخلافهم في الأرض ، وفي جملة وعوده ، قوله تعالى :

{ وَعَـدَ اللهُ الَّذينَ ءَامَنُـواْ مِنْكُمْ  وَعَمِلُواْ الصَّـاـلِحـاـتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْض ِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الّذينَ مِن قَبْلِهمْ وَلَيُمَكِنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذي ارْتَضَىا لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهمْ أمْنَّاً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْركُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِك فَأوْلَـاـئِكَ هُمُ الْفَـاـسِقُونَ . سورة النور الآية 55 } .

        ثم ان ما نعيشه ونشهده بالمقابل ، من رجوع المسلمين إلى الله ، وإلى تمسكهم  بحبله المتين ، ودينه الحنيف ، دليل قوي على بدء تحقق وعد الله  باستخلاف عباده الصالحين . وهذا ما بدت ارهاصاته تبرق وترعد هنا وهناك ، منذ سبعينات هذا القرن  العشرين . منفجـرة في ثورة عارمة مباركة في إيران ، ناهضة خلال تحولات وتطورات متسارعة ، وتفجرات خضراء حمراء ، وشيكة كامنة ، في كل بقعة من البقاع الإسلامية المباركة . ذلك كله رغم الحرب المسعورة ، التي يشنها على الإسلام  وأهله طواغيت الغرب وعرب أبي سفيان وأبي جهل وأبي لهب .

        فالإسلام بإذن الله آت لا محالة ، آت بصفائه وجماله ، فتياً قوياً ، وآتية معه العدالة والحرية  ورحمة رب العالمين .

        لذلك وفي جملة الإستعداد لإستقبال الدولة العتيدة على مستوى العالم ، وفي جملة المواضيع والمفاهيم ، التي معظمها والحمد لله ، يمارس عملياً في الجمهورية الإسلامية ، إضافة إلى التشريع الإلـاـهي بأصوله وفروعه ، تبقى موضوعات ذات صلة بالشكل والجوهر ، يقيض الله لها هنا وهناك من يقرأ :

       { ن وَالْقَلَم ِ وَمَا يَسْطُرُونَ . سورة القلم الآية 1 } .

        ثم يكتب مستنيراً بربه الحبيب ، متوكلاً عليه ، وما التوفيق إلاّ بالله الحليم الكريم .

        من هنا كان لزاماً علينا أن نمهد بما قدمنا للموضوع  الذي نحن بصدده ، وهو أن الإسلام أبقى على ما كان إيجابياً في الجاهلية الأولى ، وكذلك ينبغي أن يبقى على ما هو إيجابي في الجاهلية الثانية  ، لأننا وجملة من العلماء والعقلاء ، نرى أن كثرة من المتحمسين للإسلام  ، يضيقون على أنفسهم  وعلى المسلمين  الآخرين  وعلى الناس عامة ، في أمور لا هي من الشريعة الإلـاـهية ، ولا من السنّة المباركة ، وهم ، أي  الأتباع المتحمسون البسطاء ، يحسبونها من صلب الدين وجوهره .

        وبشكل عام  هم يهتمون بالشكل والعرض ، أكثر من الإهتمام بالجوهر ، وحتى غالباً ما يكون إهتمام أكثر الطارئين الجدد  والطارئات ، بالشكل دون الجوهر . ومثال على ذلك شدة الحرص على شكل الثياب  عند الجنسين ، من حيث توحيد الزي واللون ، ثم الإنشغال بذلك نفسياً وذهنياً ، وغالباً ما يكون ذلك على حساب التوحيد وفهم القرآن وإنفتاح الإسلام ومرونته ، فيما يرضي  الله الرحمـاـن الرحيم ، والواسع الكريم . فبينما يكون القصد التشريعي ـ بخصوص اللباس ـ هو في العمق حالة من الحصانة ، فيها التقوى والحشمة والعفة والطهارة ، يصبح الأمر شكلياً تعصبياً ، على مستوى مقيت من الفراغ والسطحية وأخطارهما . في وقت يطلب فيه إظهار جوهر الإسلام وحقيقته الناصعة المشرقة ، التي هي قمة الحق  وقمة الخير وقمة الجمال في المجالات الإنسانية .

        هذا من بعض الوجوه المنفرة ، ومن وجه آخر ، فإن أمثال هؤلاء المسلمين المحدودين والمتحمسين  في آن واحد ، ينظرون بعدوانية ، أو أقله بعين ضيقة ، إلى جميع ما توصلت إليه الحضارة في مجالات التقدم العلمي .

 والعجيب  الذي لا يكاد يصدّق ، أن بعض الطلبة الدينيين ، فاجأنا يوماً ـ حيث كان يصحبنا في سيارة مع صديقين آخرين ـ أنه لا يصدق حكاية صعود بشر إلى القمر ، وأكثر من ذلك فهو لا يصدق حتى أن الأرض كروية .

        لذلك نرى إضافة مواد تعليمية جديدة إلى مناهج الحوزات العلمية ، مثل مبادىء التكنولوجيا الحديثة والرياضيــات ، والفلك ، والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء  وغير ذلك من العلـوم  ، التي أصبحت ضرورية حتى للإنسان العادي في عصرنا هذا ، وفيما نحن  قادمون عليه من تحقيق وعد الله بإذنه وبتوفيق منه تبارك وتعالى  . وأن يكون هذا التعليم إلزامياً ، وإلاّ تفاقمت الأمّية فيما بين الدعاة والمدعوين  والوعاظ والمتعظين ، وبقي شعار التعصب والتخشب هو الطابع الغالب ، وإلى مثل ذلك يشير سبحانه وتعالى بقوله  :

       { أفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً .. سورة فاطر الآية 8 } .

        فبهذا  التعليم والتعلم الخاص لرجال الدين ، والعام لبقية الناس نستطيع أن نرث أو أن نستفيد إيجابيات هذه الحضارة ، وكذلك نتجنب سلبياتها . كذلك كما استطعنا سابقاً فيما فتح الله علينا من ممالك وأورثنا حضاراتها ، أيام كنا أميين  حفاة نتعثر أيام الفتوحات بأواني الذهب والفضة ، فلا نعبأ بها ولا نبالي ، لا نريد إلاّ وجه الله الحبيب ، ونصرة دينه الحنيف ، وأن تكون كلمته في الأرض  هي العليا .  ذلك لأن رصيدنا كان وسيبقى إنشاء الله إلى قيام الساعة وإلى أبد الآبدين ، وهو أعظم رصيد على الإطلاق ، في تاريخ الخليقة كلها ، ألا وهو كلمة  لا إلـه إلاّ الله والله أكبر ، مع ما يستتبعها من تعليم الله لنا ، ونصره وكرمه ، وغفرانه ورضوانه ، له الحمد في الأولى وله الحمد في الآخرة ، بيده الخير وهو على كل شيء قدير .

وجهان للحضارة : جميل وقبيح

 

        مما لا شك فيه  أن الحضارة ، بما تعنيه من تقدم وتطور مذهل في شتى مجالات العقل والكون ، قد جعلت الإنسان أغنى بالمعاني ، وأقدر على التحكم بمعطيات الوجود ، وبالتالي أرفع مستوى ثقافياً مما كان عليه الأسلاف من عوام البشر .

        نستثني من ذلك الملهمين ، كما نستثني إحتمال حضارة أو أكثر ، يقال أنها فاقت حضارتنا هذه . ولعلها هي التي أشار إليها الله عز وجل بقوله :

     { أتَبْنُونَ  بكُلِّ ريْع ٍ ءَايَةً تَعْبَثُونَ . وتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ . سورة الشعراء الآيات 128 ـ 129 } .

ودمرها لما أن انحرفت عن طاعته وتعاليمه .

        أما من الوجهة الإيجابية للحضارة ، فجميل جداً أن تضغط زراً لتضيء المنزل ، أو الشارع أو المدينة بنور مريح ، بدلاً من الشمعة  أو قنديل الزيت ، مع الفارق الكبير ، العملي والنوعي والإقتصادي .

        والأجمل منه ، أن  تطير إلى مكة ، أو تكرج على الدولاب  ، حاجاً ، فتصل إليها  في بضع ساعات أو بضعـة أيام . وكذلك إلى أي مكان على هذا الكوكب . وأن تسعد بصحبة عيالك أو إخوانك إن صحبتهم . أو تعود إليهم على جناح الشوق ، دون طول غربة  وطول فراق .

        ويتكامل الجمال  في عينيك ، ويصبح رافداً للسعادة في قلبك ، عندما تشكر الله .. وتقول عندما تقلع بك الطائرة ، أو تندفع بك السيارة :

{.. سُبْحَـاـنَ الَّذي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنّا لَه مُقْرنينَ . وإنَّا إلَىا رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ . سورة الزخرف الآيات 13 ـ 14} .

        صدق الله العظيم  . كل ذلك بدلا من الوسائل البدائية ، وما كان فيها من كلفة البدن وكلفة الزمن ، وهدر ما بينهما من الطاقات .

        وجميل أن يكون لبيتك سقف ، تنزلق عليه مياه المطر ، بدلاً من أن تتسرب عبر السقف الترابي إلى الداخل ، فتختلط بدخان الموقد العتيق ، وتمتزج بالدموع .. التي توشك أن تكون بكاءً ، فتنغص بركة الشتاء وبركة الحياة . ولو كان لا يجرح في ذلك قول ميسون الكلبية زوجة معاوية :

  َلبَيْتٌ تَعْصِفُ الأرياح  فيه      أحـبُّ إليَّ من قصرٍ مُنيف ِ

  ولبسُ عباءة ٍ  وتَقَرُّ  عَيْني      أحبُّ إليَّ من  لُبْس الشُّفُوفِ

  وشهم ٍمن بَني عَمِّي نحيفٍ    أحبُّ إليَّ من عِلْج ٍ مُخيـفِ

        إذ أنها لا تلام في ذلك ، وهذا الموقف شبيه ، ولو من طرف الزوج ، بموقف زوجة فرعون التي أخبر الله  سبحانه  أنها  قالت ـ  وقد شاهدت فساد القصر وكفر من في القصر :

{ .. رَبِّ ابْن ِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنى مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ .. سورة التحريم الآية 11} .

        وجميل في الحضارة أن تدير مفتاح الكهرباء أو الغاز  ، لتطبخ أو تهيء بالسرعة ، ما تشاء  من طعام وشراب  ، بدلاً من النفخ على الحطب ، الذي يذكرنا  بإزعاجه ، جانباً من معنى قول حاتم الطائي لعبده :

        أوْقِدْ فَإنَّ الليْلَ لَيْلٌ قَرُّ         والريحُ يا واقِدُ ريحٌ صَرُّ

                         إنْ جَلَبَتْ ضَيْفاً فأنتَ حُرُّ

        وجميل في الحضارة أن تنقل أصابعك على لوحة صغيرة لتحسب في عمليات رقمية معقدة ، فتحصل على نتائج ، نادراً ما تحتاج إلى مراجعة ، وذلك في ثوان كان يقتضي الحصول عليها في الماضي ساعات طوالاً ، مع إعنات للدماغ ، وإرهاق للجهاز العصبي ، وهدر لوقت يمكن أن تقدّم فيه للعقل وتوابعه ، وجبات علم  ودراية ، ومنقول ومعقول ، وما بينهما من فتح لمغاليق الأسرار .

        وكم تشعر بالحيوية والنشاط والسعادة وأنت تشكر الله .. متمتما أمام كل جهاز ، أو نتيجة كل عملية يسّرها سبحانه :

{ عَلَّمَ الإنسَـاـنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . سورة العلق الآيـة 5 . صدق الله العظيم } .

او :          { .. الْحَمْدُ للهِ الّذي هَدَاناَ لِهَـاذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ لَوْلاَ أنْ هَدَاناَ اللهُ … . سورة الأعراف الآية 43 . صدق الله العظيم } .

وعندما تشعر بالفرحة بنعمة الله ، تتلو قوله تعالى :

{ قُلْ بفَضْل ِ اللهِ وَبرَحْمَتِهِ فَبذَالِكَ  فَلْيَفْرَحُواْ  هُوَ  خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ . سورة يونس الآية 58 } .

        ثم تبتسم إبتسامة المشفق الحزين ، على الذين حرموا أنفسهم نعمة الإيمان  .

{ .. الّذينَ بَدَّلُواْ نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً .. سورة إبراهيم الآية  28 } .

        فحرموا السعادة الحقيقية ، ولذلك ادّعوا أنها من المستحيلات .

        وجميلة في الحضارة ، الثلاجة والغسالة الأوتوماتيكية ، وأنواع المنظفات .. والحمامات وتسريب الأوساخ في باطن الأرض ، ولا عين رأت ولا أنف شم .. من الفلوات والغيطان والحواكير . جميلة النظافة الأكثر والأروع ، في البيـت والشارع ، والمدن والأرياف ، نحصل عليها بدون كبير عناء .

        جميلة الحضارة ، وجميلة معها الإدارة المتقدمة بتقنيتها ، والقوانين الإيجابية ، وأنظمة السير ، وما أكثر وجوه الجمال في الحضارة ، ولو شئنا أن نعدّد لاقتضى الأمر منا مجلدات : في مجال ذات الإنسان ، وفي كوكبه السوّاح حول الشمس ، وفي الفضاء وفي الفلك .

        والأجمل من ذلك كله إرتقاء القمر ، والتنقل عليه بخفة توازي ثمن (8/1) وزن الإنسان على الأرض ، بما يشبه الطيران فوق تلاله وآكامه ، ثم التطلع منه ـ عبر العلم الذي أوصل إليه ـ نحو جيران أرضنا  : المريخ الأحمر بأقماره ، وزحل بهالاته الشاعرية ، والمشتري عملاق الكواكب . هذه وبقية مجموعتنا التي تقودها شمسنا كراع يقود قطيعه ، ولا أحد غير الله يعرف إلى أين ، والراسخون في العلم . والأجمـل أيضاً ، الحلم بإرتقائها ،  بعضاً أو جميعاً . وأخذ فكرة عن من حولها ، أو منها ، أو عبرها ، عن الجنة والنار .. أفي مجموعتنا الكوكبية هما ، أم في مجرتنا درب التبانة . أم  في مجرة أخرى معروفة ، أم في مجرة من اللواتي تراهُنَّ المراصد مرة واحدة ، ثم لا تعود تراهنّ أبدا ؟! النعيم والجحيم ، هل هما في كوننا المرئي ، أم في كوننا غير المرئي من دنيانا هذه ؟! .

        جميلة التلسكوبات ، وأجهزة الرادار ، والمراصد ، والجالسون أمام عدساتها  ولوحاتها الألكترونية : يراقبون .. يدرسون .. يسجلون .. ينبهرون وينبهر معهم العالم بما في هذا الكون من أسرار وجمال ، وحسن وروعة ، ومفتحـات ومغلقات .. تارة تشعرنا بالسعادة والشوق إلى ما وعد الله به الأبرار ، وتارة تشعرنا بالرهبة  والفزع ، وتغرقنا في التأمل عن النفخ بالصور ، والقيامة وأهوال القيامة والإنبعاث . من ذلك الذي هو في مفكرة العلماء اليوم : طواحين الشموس والكواكب ، وهي ما أسماه العلم بالثقوب السوداء ، ووصفها بأن بعضها تهوي فيه مجموعات كوكبية بشموسها ، فتطحنها طحناً ، وهو أمر إستنتاجي عندهم ، ولنا نحن أن نستنتج معهم ، أنها أمثلة يضربها الله لنا عن القيامة الكبيرة الكلية الشاملة ، التي عناها بقوله عز وجل :

{ وَيَوْمَ  يُنفَخُ فِي الصُّور فَفَزعَ مَن فِي السَّمَـاـواتِ وَمَن فِي الأرْض ِ إلاّ مَن شَـآءَ اللهُ وَكُلٌ أتَوْهُ داخرينَ . سورة النمل الآية 87 } .

        والعلماء يصورون هذه الثقوب على شكل أبواق ، الواحد منها يجذب المجموعة الكوكبيـة جذباً عنيفاً ، يبتلعها إبتلاعاً ، يسحقها سحقاً ، ثم تنبعث من جديد ، من طرفه الآخر ، من الثقب الأبيض  ، تنبعث وقد أعاد خلقها الذي يميت كل شيء ، ليبعثه حياً كما خلقه أول مرة ، قوله عز وجل :

{ إلَيْهِ مَرْجعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقَّاً إنَّهُ يَبْدَؤُاْ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُُهُ لِيَجْزيَ الّذينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـاـلِحَـاـتِ بالْقِسْط ِ وَالَّذينَ كَفَرُواْ لَهُم شَرَابٌ مِّنْ حَميم ٍ وَعَذَابٌ أليمٌ بمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ . سورة يونس الآية 4 } .

        وإذا لم نفهم الثقوب السود فهماً قرآنياً ، كان في خروجنا من الثقوب  البيض إستحالات وإشكالات . ومن الإنذارات قولـه  عز شأنه  :

{ أفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءَانَ أمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا . إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّواْ عَلَى أدْبَـاـرهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَـاـنُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأمْلَى لَهُم . ذَلِكَ بأنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرهُواْ مَا نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعَكُمْ فِي بَعْضِ الأمْر  .. سورة محمّد (ص) الآيات 24 ـ 26  } .

        جميلة الحضارة ومخيفة ، وجميل العلم ومخيف . يبقى أن الأجمل من هذا كله ، كما السعادة في كمالها واستمراريتها ، أو الأشد قبحاً وأشد إرهاباً ، هو عقل الإنسان ، فمن أين هذا العقل  وبالتالي هذا الإنسان ، وإلى أين ؟! .

        بليغ هذا السؤال ، والأبلغ منه الإجابة عليه . الإجابة التي تقول : { لا إلـه إلاّ الله } . الإجابة التي تضـع على الحقيقة ، العين والقلب وكل ذرة في الكيان . وقد وضعها ناس فسعدوا سعادة الأبد . وما زال ناس آخرون ، يمدون إصبعهم تارة في عتمة  ، وتارة  بين النور والعتمة ، وتارة في سراب ، وتارة تحت قنديل ديوجين ،  الذي كان يسير به في ضـوء النهار ، باحثاً عن الحقيقة . والحقيقة ما هي في عتمة ، ولا هي في الشك ، ولا هي في سراب ، ولا هي من ديوجين في مزحة أو خبال .

        هذه الحضارة الجميلة ، أرادها لنا الله تبارك وتعالى سعيدة مسعدة ، ولكن اشترط على الإنسان أن يعرف خالقه من آثار صنعه وكرمه وعظمته  ،  وأن  يحترم النعمة العظمى التي هي عقله ، فيغذيه بعلم وهداية وكتاب منير . اسمع قوله عز وجل :

{ ألَمْ تَرَواْ أنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَـاـواتِ وَمَا فِي الأرْض وَاسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـاـهرَةً وَبَاطِنَةً .. سورة لقمان الآية 20 } .

وقوله تبارك وتعالى  :

{ طه . مَآ أنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَىا . سورة طه الآيات  1 ـ 2 } .

وقوله جل وعلا :

{ اقْرَأ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ . الّذي عَلَّمَ بالْقَلَم ِ . عَلَّمَ الإنسَـاـنَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . سورة العلق الآيات 3 ـ 5 } .

وقوله عزّ شأنه :

{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَـاـواتِ وَمَا فِي الأرْض ِ جَمِيعاً مِنْهُ إنَّ فِي ذَالِك  لأَيَـاـتٍ لِقَوْم ٍ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الجاثية الآية 13 } .

وقوله وما أكرمه :

{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللهِ الَّتِى~ أخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّّيبَـاتِ مِنَ الرِّزْقِ  .. سورة الأعراف الآية 32 } .

ثم تنهال التحذيرات من تشويه وجه الحضارة :

{ كُلُواْ مِن طَيِّبَـاتِ مَا رَزَقْنَـاـكُمْ وَلاَ تَطْغَواْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبي فَقَدْ هَوَى . سورة طـه الآيـة 81 } .

ثم    :

{ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيـزَانَ . ألاَّ تَطْغَواْ فِي الْمِيزَانِ . سورة الرحمن الآيات  7 ـ 8 } .

ثم      :

{ كَلاَّ إنَّ الإنسَـانَ لَيَطْغَىا . سورة العلق الآية 6}.

ثم قوله جلت عظمته  :

{ قَدْ مَكَرَ الَّذينَ مِن قَبْلِهمْ فَأتَىَ اللهُ بُنْيَـاـنَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدَ فَخَرَّ عَلَيْهمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهمْ وَأتَـاـهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ. سورة النحل الآية 26 } .