نحن وحضارة العام ألفين … إلى اين ؟ !

 

وجهان للحضارة : جميل وقبيح :

 مـمّا لا شكَّ فيه أن الحضارة  ، بما تعنيه من تقدم وتطوّر مذهل ، في شتّى مجالات النّفس والكون ، قد جعلت الإنسان أغنى بالمعاني ، وأقدر على التحكّم بمعطيات الوجود ، وبالتالي أرفع مستوى ثقافياً ، مـمّا كان عليه الأسلاف من عوام البشر .

        نستثني من ذلك  الملهمين ، كما نستثني احتمال حضارة أو أكثر ، يقال إنها فاقت حضارتنا هذه . ولعلها هي التي  اشار إليها الله عزّ وجلّ قوله :

{ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ . وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُـمْ تَخْلُدُونَ }(سورة الشعراء ،  الآيات ( 128 ـ 129 )) .

ودمّرها لما أن انحرفت عن طاعته وتعاليمه .

أما من الوجهة الإيجابية للحضارة ، فجميل جداً أن تضغط زراً لتضيء المنـزل أو الشارع أو المدينة بنور مريح ، بدلاً من الشمعة أو قنديل الزيت . مع الفارق الكبير ، العملي والنوعي والاقتصادي .

والأجمل منه أن تطير إلى مكـة ، أو تكـرج على الدولاب ، حاجـاً ، فتصل إليها في بضع ساعات  ، أو بضعة أيام . وكذلك إلى أي مكان على هذا الكوكب . وأن تسعد بصحبة عيالك أو أخوانك إن صحبتهم  ، أو تعود إليهم على جناح الشوق ، دون طول غربة وطول فراق .

        ويتكامل الجمال في عينيك  ، ويصبح رافداً للسعادة في قلبك ، عندما تشكر الله … وتقول عندما تقلع بك الطائرة ، أو تندفع بك السيارة :

       { سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ . وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ}(سورة الزخرف ، الآيات ( 13 ـ 14 ) ).

       كل ذلك بدلاً من الوسائل البدائية ، وما كان فيها من كلفة  البدن ، وكلفة الزمن ، وهدر ما بينهما من الطاقات .

        وجميل أن يكون لبيتك سقف ، تنـزلق عليه مياه المطر ، بدلاً من أن تتسرّب عبر السقف الترابي إلى الداخل ، فتختلط بدخان الموقد العتيق ، وتمتـزج بالدموع … التي توشك أن تكون بكاء ، فتنغص بركة الشتاء ، وبركة الحياة . ولو كان لا يجرح في ذلك قول ميسون الكلبية زوجة معاوية :

لَبَيْـتٌ تَعْصِـفُ الأَرْيَـاحُ فِيـهِ       أحـبُّ إِلَـيَّ مِـنْ  قَصْـرٍٍ مَنِيــفِ

وَلَبْـسُ عَبَـاءةٍ  وَتَقَـرُّ  عَيْنِـي       أحـبُّ إلـيَّ مـن لُبْـسِ الشُفُـوفِ

وَعِلْـجٌ مِنْ بَنِـي عَمِّي نَحِيـفٍ       أحـبُّ إلـيَّ مـن عِلْـجٍ مُخِيــفٍ

        إذ أنها لا تلام في ذلك ، وهذا الموقف شبيه ، ولو من طرف الزوج ، بموقف زوجة فرعون ، التي أخبر الله سبحانه أنها قالت ، وقد شاهدت فساد القصر وكفر من في القصر :

        {.. رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّـني مِنْ فِرْعَـوْنَ وَعَمَلِهِ .. }( سورة التحريم ،  الآية  11) .

        وجميل في الحضارة أن تدير مفتاح الكهرباء ، أو الغـاز ، لتطبـخ ،  أو تهيء بالسرعة ما تشاء من طعام وشراب ، وبدلاً من النفخ على الحطب ، الذي يذكرنا بإزعاجه ، جانباً من معنى قول حاتم الطائي لعبده :

أَوْقِـدْ فَـإِنَّ اللَّيْـلَ لَيْـلُ قَـرّ              والريـحُ يَـا وَاقِـدَ رِيـحُ صَـرُّ

إِنْ جَلَبْـتَ ضَيْـفاً فَأنْـتَ حُـرُّ

        وجميل في الحضارة أن تنقّل أصابعك على لوحة صغيرة ، لتحسب  في عمليات رقمية معقدة ، فتحصل على نتائج ، نادراً ما تحتاج إلى مراجعـة ، وذلك في ثوان ، كانت تقتضي في الماضي ساعات طوالاً .

        وكم تشعر بالحيوية والنشاط والسعادة ، وأنت تشكر الله … متمتماً أمام كل جهاز ، أو نتيجة كل عملية يسّرها سبحانه :

       { عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }(سورة العلق ،  الآية 5).

       {.. الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ ..}((2) سورة الأعراف ،  الآية  43) .

       ثم تبتسم ابتسامة المشفق الحزين ، على الذين حرموا أنفسهم نعمـة الإيمان : { الّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً } ، فحرموا السعادة الحقيقية ، ولذلك ادّعوا أنها من المستحيلات .

        وجميلةٌ في الحضارة الثلاجة ، والغسـالة الأوتوماتيكية ، وأنـواع المنظفـات … والحمامات التي تذهب بما يستقبح إلى باطن الأرض ، ولا عين رأت ولا أنف شم … جميلةٌ النظافة ، نحصل عليها بالطريقة الآلية بدون عناء ومريحة في الحضارة الدولة العادلة ، ومؤسساتها النظامية ، وإداراتها الفنية المعزّزة بالألكترونيات ، وكذلك الأنظمة المانعة للفوضى  في الناس ، والفوضى في الأشياء … وما أكثر وجوه الجمال في الحضارة . ولو  شئنا أن نعدد لاقتضى الأمر منَّا مجلدات : في مجال ذات الإنسان ، وفي كوكبه السوّاح حول الشمس ، وفي الفضاء ، وفي الفلك .

        والأجمل من ذلك كله ارتقاء القمر ،  والتنقّـل عليه ، بخفـة  تـوازي ( 1/8 ) ثمن وزن الإنسان  على الأرض ، بما يشبه الطيران ،  فوق  تلالـه وآكامه . ثم التطلّع منه ـ عبر العلم الذي أوصـل إليه ـ نحو جيران أرضنا : المريّخ الأحمـر ، بأقماره ، وزحل  ، بهالاته الشاعرية ، والمشتري عملاق  الكواكب ، هذه وبقية مجموعتنا التي تقودها شمسنا كراع يقود قطيعه ، ولا أحدُ غيرُ الله ، يعرف إلى أين ، والراسخون في العلم . والأجمل أيضاً ، الحلم بارتقائها ، بعضاً أو جميعاً ، وأخذ فكرة عن من حولها ، أو منها ، أو عبرها ، عن الجنة والنار… أفي مجموعتنا الكوكبية هما ، أو في مجرتنا  درب التبانة ، أم في مجرة أخرى معروفة ، أم في مجرة من  اللواتي تراهنَّ المراصد مرة واحدة ، ثم لا تعود تراهنَّ أبداً ؟!  النعيم والجحيم، هل هما في كوننا المرئي ، أم في كوننا غير المرئي من دنيانا هذه ؟!

        جميلةٌ التلسكوبات ، وأجهزة الرادار ، والمراصد ، والجالسون أمام عدساتها ، ولوحاتها الإلكترونية : يراقبون … يدرسون … يسجلون … ينبهرون ، وينبهر معهم العالم ، بما في هذا الكون من أسرار وجمال ، وحسن وروعة ، ومفتحات ومغلقات … تارةً تشعرنا بالسعادة والشوق ، إلى  ما وعد الله به الأبرار ، وتارةً تشعرنا بالرهبة والفزع ، وتغرقنا في التأمّل ، عن النفخ بالصور ، والقيامة ، وأهوال القيامة ، والإنبعاث، من ذلك الذي هو في مفكرة العلماء اليوم : طواحين الشموس والكواكب ، وهي ما أسماه العلم بالثقوب السوداء،ووصفها بأن بعضها ،تهوي فيه مجموعات كوكبية بشموسها ، فتطحنها طحناً ، وهو أمر استنتاجي عندهم ، ولنا نحن أن نستنتج معهم ، أنها أمثلة يضربها الله لنا عن القيامة الكبيرة الكلية الشاملة ، التي عناها بقوله عزّ وجلّ :

       {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ }(سورة النمل ،  الآية 87).

         والعلماء  يصوّرون  هذه الثقوب على شكل أبواق ، الواحد منها يجذب المجموعة الكوكبية ، جذباً عنيفاً ، يبتلعها ابتلاعاً ، يسحقها سحقاً ، ثم تنبعث من جديد ، من طرفه الآخر ، من الثقب الأبيض ، تنبعث وقد أعاد  خلقها الذي يميت كل شيء ، ليبعثه حياً كما خلقه أول مرة ، قوله عزّ وَجَلّ :

       { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ{ (سورة يونس ،  الآية  4) .

       وإذا لم نفهم  الثقوب السود ، فهماً قرآنياً ،  كان في خروجنا من الثقوب البيض استحالات وإشكالات . ومن الإنذارات ، قوله جلّ شأنه :

       أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ، إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُـمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ..}(سورة محمّد  ،  الآيات ( 24 ـ 26 )) .

       جميلةٌ الحضارة ، ومخيفة ، وجميلٌ العلم ، ومخيف …

        يبقى أن الأجمل من هذا كله ، كما السعادة في كمالها واستمراريتها ، أو الأكثر قبحاً ، وأشدّ إرهاباً ، هو عقل الإنسان ، في التواصل معه أو في  هجره ، فمن أين هذا العقل ، وبالتالي هذا الإنسان . وإلى أين ؟!

        بليغ هذا السؤال ، والأبلغ منه الإجابة  عليه ، الإجابة التي تقول ، لا إلـه إلاَّ الله الإجابة التي تضع على الحقيقة  العين والقلب وكل ذرةٍ في الكيان . وقد وضعها ناس ، فسعدوا سعادة الأبد . وما زال ناس آخرون ، يمدّون إصبعهم ، تارةً في عتمة ، وتارةً بين النور والعتمة ، وتارةً في سراب ، وتارةً تحت قنـديل  ديوجين ، الذي كان يسيـر بـه فـي ضوء النهـار ، باحثـاً عـن الحقيقة .  والحقيقة ما هي في عتمة ، ولا هي في الشّك ، ولا هي في سراب ، ولا  هي من  ديوجين في مزحة أو خبال .

        هذه الحضارة  الجميلة ، أرادها لنا الله سبحانه  وتعالى سعيدةً مسعدة . ولكن اشترط على الإنسان أن يعرف خالقه من آثار صنعه ، وكرمه وعظمته . وأن يحترم  النعمة العظمى ، التي هي عقله ، فَيغذِّيه بعلم وهداية وكتاب منير ، أسمع قوله عزّ وجلّ :

       { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..}(سورة لقمان  ،  الآية 20) .

        وقوله تبارك وتعالى  :

       { طـه   مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى }(سورة طـه ، الآيات (1 ـ 2)) .

        وقوله عزّ شأنه :

       { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ  الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَـانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }(سورة العلق ، الآيات ( 3 ـ 5 ) ).

        وقوله عزّ شأنه :

       { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }(سورة الجاثية ، الآية  13) .

        وقوله وما أكرمه :

       { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَـةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْـرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ .. }(سورة الأعراف ، الآية  32) .

       ثم تنهال التحذيرات من تشويه وجه الحضارة  :

       { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى }(سورة طـه ،  الآية  81) .

       ثم :{وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ }(سورة الرحمن ، الآيات ( 7 ـ 8 )) .

       ثم : قوله جلّت عظمته :

       { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ }(سورة النحل ، الآية 26 ) .

القيامة الأولى أو الصغرى

       

وأعني بها الحرب العالمية الثالثة ، التي نحن  والعالم بصددها . وقد  سميتهـا  ” القيامة  الأولى ”  مجازاً ، تشبيهاً بالقيامة الحقيقية ، التي هـي آتية بعدها ، حاملة معها وعد الله ووعيده النهائيين .

        فالحرب الآتية قيامة صغرى ، لأنها سيكون فيها من الأهوال علـى الكافريـن ، والندم والإبلاس من رحمة الله خطوب عظيمة . ولأنها ستدكّ جوانب من الكوكب الأرضي  هذا الذي نحن عليه ، ستدكّ دولاً بما فيها  من مدن وقرى وجبال راسيات . وتقتل ملايين الأحياء ، وفي مقدمتهم من البشر ، عبّاد الحضارة وعبيدها ، أسياداً وتابعين .

        والله عزّ وجلّ ، كما جعل للقيامة  الكبرى أشراطاً ونذر ، كذلك جعل أشراطاً  ونذر للقيامة الصغرى التي على الأبواب ، وذلك تنبيهاً للعالمين لكي يستعدوا ويكونوا دائماً على حذر ، ويفرّوا  إلى الله سبحانه ، حيث لا ملجأ ولا مأوى يؤويهم دونه . ومن أين الملاجيء  إذا أصبح حصيداً عمران دول حضارة الفحشاء وعماراتها . وهذه علامة : قوله تعالى :

        { .. حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَـتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }(سورة يونس ،  الآية 24) .

       وفي ما يلي سنذكر من أشراط القيامتين التي يبدو أنها متداخلة والتي يبدو أنها  في عزّ هجمتها في عصرنا هذا وأيامنا هذه ، ولو كان لا يدرك هذا الأمر ولا يتنبه إليه إلاَّ بعض من لهم خصوصية من الله سبحانه .

        ولكي نوفر على أنفسنا الوقت ، لن نلتفت كثيراً إلى الوراء التاريخي  ، وإنما سنكتفي  بإشارات معاصرة وعلامات ، تفرض في كل عاقل أن يعتمدها استقراءً أو استنتاجاً . ليصل من خلالها إلى وجوب أن تقوم حرب عالمية ، شبه شاملة لأرقام المعادلة أو أطرافها أو أقطابها حتى أنه يكاد يكفي الاعتماد في الاستنتاج على ظواهر الأمور ، كما يفعل الصحافيون أو المراقبـون سياسيـون وعسكريون .

        وقد قلت  ( يكاد يكفي )  ولم أقل يكفي ، لأنه ليس بكـاف في الحقيقة إلاَّ علم من لدن الله تبارك وتعالى : اعتماداً على آياته ونواميسه ، وإخباره  لمن يشاء من خلقه  :

       { .. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ.. }( سورة الروم ،  الآية 4 ) .

       { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ }(سورة الروم ،  الآيات ( 6 ـ 7 )) .

       والله سبحانه أذن بالإستنتاج والإعتماد نسبياً على الظواهر :

       { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ .. }( سورة الروم ،  الآية  9) .

 ففضلاً  عن الحربين الكبريين السابقتين وما قبلهما وما بينهما ، من الفسـاد الذي ملأ البر والبحر بما كسبت أيدي الناس . فأثمر الفساد والتنكّر لله ولدين الله ،  ولتعاليم الله ، هاتين الحربين . فصبّ الله على الفاسدين والمفسدين غضبه وانتقامه وعذابه .

كذلك جاء عصرنا هذا مليئاً بالمفارقات والمغالطات ، والظلم والجرائم على أعلى مستويات الدول ، بين إلحادٍ في جانب ، وفجورٍ في جوانب ، وأتباع لذاك في شتى الأقطار ،  مـمّا أنتج حالات سياسية شوهاء في بقاع الأرض ، أقضت وما زالت تقض مضجع مليارات البشر في القارات الخمس .

من هم أنصـار الله : اليهـود المفسـدون ، أم العرب  (الأميّون) والأمة المسلمة :

  وأبرز هذه الحالات  الطاغية الباغية ، والأكثر نشازاً وفساداً وإفساداً في بقية حالات العالم ، هي دولة إسرائيل ، إذ أن إفسادها شمل شعوب العالم ، وهو إفساد تاريخي ومبرمج مدروس ، إفساد هادف ، والهدف منه هو تدميـر كل  قيمـة دينيـة أو أخلاقيـة ، أو إنسانية ، أو حتى اجتماعية واقتصاديـة في جميع شعوب الأرض ، وفي كل من هو غير يهودي. إذ أن غير اليهود وهم  المليارات البشرية التي تقطن هذا الكوكب ، هم بنظر اليهود ” أميّون ” وهي ترجمة  لكلمة  ” غوييم ” العبرية وهم يعنون بها : المستوى البهيمي . ويزعمون أن المسلمين يقرّون بذلك إذ أن لفظة ( أميين ) واردة في قرآنهم على أنها تسمية للعرب الذين ارتضـوها مقرّين بأميّتهـم  التي معناها الجهـل والفقـر إلى المعرفة .

        والواقع هو كذلك ، فإن العرب وغيرهم من المسلمين لم يقفوا عندها طويلاً كعادتهم في انصياعهم لطاعة رب العالمين . ما داموا قد أكرمهم الله بكرامة الإسلام وكرامة القرآن وكرامة أعزّ المرسلين النبي الأميّ محمّد صلى الله عليه وآله .

        ولكن الأمر أبلغ وأعظم  ، حيث آتانا الله سبحانه حقيقة ما تعنيه .

المعنى القرآني للفظتي : أمّيّ وأميّين :

   قال تعالى :

       { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ ..}(سورة الجمعة ، الآية 2) .

       وقال سبحانه :

       { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }(سورة الأعراف ، الآيات ( 157 ـ 158 ) ) .

       في الحقيقة ، إن لفظة  ( أمّيّ وأُمّيّين ) أخذ يتداولها  العرب قبل غيرهم ، بعد نزول القرآن الكريم . إذ كانت الألفاظ التي  تتعلق بها في اللغة شبه منسية . فبعثها القرآن بمعان فهمت فهماً مقارناً مغلوطاً بنسبة أو بأخرى . لذلك نجد لها احتمالات عديدة  في تفسيرها ، مـمّا يدل على عدم الثبات عندهم على معنى واحد . ومن هذه الاحتمالات :

1 ـ     إن النبي (ص) وصفه الله سبحانه بالأمّيّ لأنه لا يقرأ ولا يكتب .

2 ـ     أنه سبحانه وصفه بالأمّيّ ، نسبة إلى مكة التي تكنى بـ ( أم القرى ) .

3 ـ     أنه [ قيل لمحمّد صلى الله عليه وآله ( الأمّيّ ) لأن أمّة العـرب لم تكـن تكتب ولا تقرأ المكتوب ](لسان العرب ـ ابن منظور ـ مادة أمة ).

         فبخصوص  هذه الاحتمالات المسلَّمة والمتداولة ـ تنفي كونه صلى الله عليه وآله أمّيّاً بمعنى أنه لم يكن  يقرأ ولا يكتب ، وندّعي أنه كان أفضل من قرأ وكتب في تاريخ البشرية . ودليلنا بخصوص القراءة ، أمر الله تبارك وتعالى له بواسطة جبرائيل عليه السلام حين قال : إقرأ … ( فعلى الرواية ) قال ما أنا بقـارىء … قال : إقرأ باسـم ربك الذي خلق … فقرأ : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ اَلْرَّحِيمِ  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ . الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ . عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ }(سورة العلق ،  الآيات ( 1 ـ 5 ) ).

       وهكذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله  أحسن قراءة عرفت ، وظلّ يقرأ حتى أكمل الله عليه وعلى البشرية الدين الحنيف والقرآن المجيد وظلّ يقرأ هكذا حتى قبضه الله إلى رحمته وجواره وحبّه .

        وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله كتب كثيراً ، وإنما بنفس الطريقة التي بها قرأ . أعني بدون قلم ولا قرطاس . والحقيقة العليا للقراءة والكتابة ، أنهما في العقلاني الذي هو قبل التجسيم الحسّيّ أو المحسوس ، هما كذلك بدون أدوات مـمّا نعرف ونتداول . حتى القلم واللوح ، إضافة للقراءة والكتابة ، لهما معان ، فوق ما نتصور في عالم المحسوسات .

        ولكن ، صحيح أن محمّداً صلى الله عليه وآله  كان في العرف العادي لا يقرأ ولا يكتب بيده . إلاَّ أن الله سبحانه لو كان وصفه بالأمّيّ قاصداً جهله بالكتابة والقراءة ، لما كان أولاً قال له اقرأ … فقرأ . ولكان ثانياً اكتفى بهذه الصفة صفة ( الأمّيّ ) ، إذا كانت كما فهمها ـ خطأ ـ العرب ثم الآخرون . إلاَّ أنه حيث لم يرد سبحانه هذا المعنى ، وإنما أراد لرسوله محمّد صلى الله عليه وآله ، أن يكون عُرْفاً ، لا قارئاً ولا كاتباً ، لذلك خاطبه عزّ شأنه بقوله :

       { وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}(سورة العنكبوت ، الآية 48) .

          فمحمّد صلى الله عليه وآله لم يكن أمّيّاً بمعنى جهله القراءة والكتابة . فكونه كان يجهلهما معروف بالنص والسيرة . ولكن أمّيّاً ـ كما وصفه الله سبحانه ـ لمعان أخر ، وكذلك قومه العرب . فما هي هذه المعاني ؟ …

        إن هاتين اللفظتين ( أمّيّ وأمّيّين ) إنما هما في أوجه معانيهما ، تشريف للنبي صلى الله عليه وآله وتشريف لقومه العرب . ففي تحليلهما اللّغوي ، هما نسبة لأمّ التي معناها الأمّة ، ففي لغة العرب : [ ( الأمّ كالأمّة) أنظر لسان العرب لابن منظور ج 12 ص 27 ـ دار صادر ] . و ( الأمّة ) إذا كانت تعني شخصاً ، ففي جملة معانيها : ( الأمّة : الرجل الجامع للخير، الأمّة : الإمام ،الأمّة : العالم ، الأمّة : الرجل الذي لا نظير له ، إلخ … )(لسان العرب) .

        ولفظة أمّة ، هي في آية من آيات القرآن ، تعني النبي إبراهيم عليـه السلام ، وهي قوله تعالى :

       { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(سورة النحل ،  الآية  120).

ونسبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله ونسبة قومه العرب لأبيهم إبراهيم عبر ولده إسماعيل عليهما السلام معروفة ومشهورة حتى عند اليهود أنفسهم ، ناهيك عن شهرتها التاريخية . إلاَّ أن اليهود معروف عنهم تحريف الكلم  عن مواضعه . وقد حرَمهم الله سبحانه من شرف انتسابهم هم والنصارى إلى إبراهيم ، وقرّر هذا الشرف لمحمّد صلى الله عليه وآله ولقوم محمّد من العرب وكافة المسلمين . فليتأمل المتأمّل في تأنيبه لهم وللنصارى :

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }(سورة آل عمران ، الآية 65) .

ثم قوله تعالى :

        { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }(سورة آل عمران ، الآية  68) .

       وخليل الله إبراهيم هو رمز التوحيد في تاريخ البشرية ، والتوحيد هو أصل الدين  القيم ، وروحه ونوره ومنطلق حقائقه وأسراره ، وقوله تعالى لمحمّد صلى الله عليه وآله :

       { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }(سورة الأنعام ،  الآية 161) .

       يعني التوحيد في أعلى منازله  .

        ثم قوله تعالى للعرب قومِ محمّد صلى اله عليه وآله وكذلك لجميع من التحق وسيلتحق بهم من المسلمين  :

       { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ. وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ } (سورة آل عمران ، الآية 110) .

        وواقع أن في ذلك خصوصية  واجتباءً  ( أي اصطفاءً ) وتفضيلاً على بقية الملل وبقية الشرائع السماوية ، بدلالة قوله سبحانه : { وَلَوْ آمَنَ أهْلُ الكِتَابِ … } وتتضح هذه الخصوصية وهذا التفضيل أكثر فأكثر في قوله سبحانه :

       {يأيها الذين آمنوا … وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }(سورة الحج ،  الآية  78 ) .

         هؤلاء هم الأمّيّون الذين شرّفهم الله سبحانـه وأكرمهم بأن سمّاهم كذلك ، ذلك لأنهم وحدَهم كانوا ، وسيبقون في الأرض ، ما بين قطبيها ومشرقيها ومغربيها ، هم وحدهم أمّة التوحيد ، أمة لا إلـه إلاَّ الله ، وحده لا شريك له ، لم يلد ولم يولد  ولم يكن له كفواً أحد ، والكون أحد ، فالكون كله ليس كفواً لوحدانية الله وجبروته وعزّته .

        وأهل التوحيد هم أنصار الله ، وأنصار الله هم أهل التوحيد . وغيرهم ليسوا أنصار الله لأنهم غير موحدين .

        فاليهود اتخذوا أحبارهـم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، وقالوا عُزَيْرٌ ابن الله ، وغيرهم بقية أهل الأرض ، يراوحون بين وثنية وصنمية وإلحاد ، في  عقائدهم وضلالاتهم ومعبوداتهم من تعبّد لأصنام منحوتة أو مصوّرة في الكنائس ومعابد الشرق الأقصى إلى تماثيل ماركس ولينين وستالين وغيرهم في الإتحاد السوفياتي وبقية دول الإلحاد سواء على الطريقة الشيوعية  أو على الطريقة الرأسمالية . أصبحت مع اتساع الإعلام الحديث ظاهرة مكشوفة ، ليست بحاجة مـنّا إلى أن نورد صوراً ووثائق وأدلة .

        المسلمون يشهدون كل يوم شهادة أن لا إلـه إلاَّ الله ، وكل أهل الأرض  غيرهم ، يعبدون ما ينحتون ، بين نحت فكر ونحت إزميل ، حتى أن ملايين تثور لأجل صنم أسقطه على الأرض ثوار آخرون : هؤلاء لأنهم حكموا باسمه فأكلوا حقوق الآخرين قمعاً وظلماً ، وهؤلاء لأن صاحبه كان وعدهم الشبع ، فما وجدوا لديهم إلاَّ الجوع ، الذي أشدّه جوع الأنفس ، ثم الضياع الذي أسوأه البعد عن الله تبارك وتعالى .

        والله سبحانه لا ينصر إلاَّ أنصاره :

       { .. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ }(سورة الحج  ، الآية  40) .

التوحيد … وأنبياء وأولياء … والمهدي المنتظر … والله أكبر :

  قال الله تعالى :

       { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ }(سورة الصف ، الآية 14 ) .

        والتأييد هو التوفيق والتمكين المتوّج بالنصر ، وقد أنعم الله عليهم  بكل ذلك لأنهم ما سقطوا في الشرك . وفي السؤال ابتلاء يبتلي الله بمثله من يشاء من عباده .

        وهؤلاء الذين هم صدّقوا بالمسيح نبيّاً مرسلاً من لدن الله تبارك وتعالى ، كانت عقيدتهم التوحيد ، إذ أنهم كانـوا حقاً أنصار الله ، ولم يكونوا أنصار المسيح ، إذ هو معهم أيضاً نصير الله ، وأبلغ دليل على ذلك ، بلاغة جوابهم ، ودقّته وحرصهم على كل حرف فيه، وهم لو أنهم قالوا للمسيح عليه السلام ، نحن أنصارك إلى الله ، حسب توجيه سؤاله ، لما كان في ذلك في الظاهر خطأ ولا شبهة . وإنما هو سرّ التوحيد ، وسلامة التوحيد ، والصدق في التوحيد ، والولاء الحقيقي والكلّي لله سبحانـه ، الولاء الذي لا يشوبه أدنى شائبة من الولاء لغير الله ، إلاَّ ما أمر الله به ، وبالنتيجة يكون الولاء لله وحده وحده وحده لا شريك له، ومثل ذلك قوله تعالى :

{ مُّحَمَّدٌ رَّسـُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ..}(سورة الفتح  ،  الآية  29) .

ولم يقل سبحانه: محمّد  وأنصاره ، أو أتباعه ، أو أي تعبير آخر ، علماً أن عشرات الآيات ، يقرّر فيها سبحانه بديهية الإتباع لمحمّد صلى الله عليه وآله ولجميع أولياء الله :

        { .. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ.. }(سورة لقمان ، الآية  15) .

       هذا فضلاً عن أن لمحمّد وآل بيته خصوصية وامتيازات ، ليست لأحد من خلق الله مـمّن سكن بعدهم هذه الأرض . منها أنهم من مقاليد السماوات والأرض ، ولو كان على الله وحده يتوكّل المتوكلون ، إلاَّ أن بهم كذلك يتوسّل المتوسلون . ولكن بالرغم  من هذه الخصوصية والإمتيازات ، لمحمّد وآل بيته عليهم السلام ، تبقى حقيقة حقائق الإتّباع ، هي في غايتها القصوى  لله تبارك وتعالى ، وذلك هو المراد في قوله عزّ شأنه وجلّت عظمته :

       { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }(سورة يونس ،  الآية 35) .

       ومحمّد صلى الله عليه وآله لا يهدي إلاَّ أن يُهْدَى ، وكذلك آل بيت محمّد صلى الله عليه وآله  وكذلك نوح وإبراهيم وموسى وعيسى  ، وجميع الأنبياء والرسل والأئمة وجميع خلق الله . وهكذا فإن محمّداً صلى الله عليه وآله والذين معه ، هو وهم جميعاً أنصار الله جلّت قدرته .

        طبعاً مع الفارق الذي يكاد لا يقاس بين محمّد وآل بيته من جهة ، وبين أهل الأرض كلهم من جهة ثانية ، ومع هذا الفارق العظيم  ، يبقى من وجوه شرف محمّد أن يكون عبداً لله ، يقول له ربّه سبحانه :

{ .. وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا }(سورة طـه ، الآية  114 ) .

فيرفع يديه إلى ذي الجلال والإكرام ، خاشعاً خاضعاً ، فقيراً إلى عنايته وهدايته ورحمته، ويقول : ” رَبِّي زِدْنِي  عِلْماً ” .

 

لا تدعوا مع الله أحداً …

وفي أن أي وليّ من أولياء الله ، لا يضر ولا ينفع إلاَّ بعناية من الله وتوفيق من الله ، وإذنٍ من الله ، وتسديد منه سبحانه ، وأنه لا يجوز أن ندعو مخلوقاً من دون الله ولا أن نناديه ولا أن نناجيه ، قوله تبارك وتعالى :

       { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا  وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا . قُلْ إِنَّمَا أَدْعُوا رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا . قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا }(سورة الجن ، الآيات ( 18 ـ 21  ) ) .

وواضح معنى الآية الأخيرة ، قل يا محمّـد ، أنك لا تملك لهم ضَرّاً ولا نفعاً ، فالله سبحانه هو المالك لك ولهم ، بيده ناصيتك ونواصيهم .

وكذلك في وجـوب أن لا يُدْعَى مخلوق من دون الله ، قوله تبارك وتعالى :

{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ . إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ }(سورة فاطر ، الآيات ( 13 ـ 14 ) ).

والتوجّه بالدعاء لعباد الله ، أو طلب النجدة ، أو المساعدة منهم ، أو قضاء الحاجات، نجده أكثر ما يكون عند اليهود والنصارى  ، ناهيك عن أصحاب الديانات الوثنية في أقطار الأرض . وللأسف أيضاً ، نجده عند كثرة من عوام المسلمين ، حيث يقدّمون على ذلك ـ على إمكانية أن يستجيب المخلوق الوليّ ، لـمن يدعوه ـ أدلة ً ، فيها من ابتلاء الله لهم ولسمّاعهم العجب العجاب .  فكلما دعا داع عبداً من عباد الله ، نبيّاً كان أو إماماً أو وليّاً ، وأجيبت حاجته كان الله سبحانه وتبارك وتعالى ، هو المجيب وليس عبـده الصـالح . ويفسّـر هذه الأمـور بجلاء ، هـذه الواقعـة التي يقبـل  معانيها  القرآن الكريم ، إذ نحن ملزمون ، بعرض كل حديث على القرآن الكريم للتأكد من سلامته :

        عندما صنع السامريّ عجلاً لبني إسرائيل ، سجد له الفريق الذي طلب إلـهاً مجسّماً يعبده ، وتردّد آخرون ، فأخذ العجل يخور ، فحسم المتردّدون أمرهم وسجدوا مع الساجدين. وكان أن رجع موسى من ميعاده مع ربّه تبارك وتعالى ، ونسف العجل في البحر ، وابلغ أمر الله  سبحانه  بأن يقتلوا أنفسهم تكفيراً عـمّا وقعوا فيه . وبعد أن هدأ غضبه ، أخذ يفكر في الأمر من بدايته ، حتى وصل إلى أن العجل كان يخور ، فمن أين الخوار ؟! وسأل ربّه تبارك وتعالى قائلاً : يا ربِّي أما العجل ، فصنعة السامريّ وساعده بنو إسرائيل ، وأما الخوار فممن وهو الأمر الذي  فتنهم  أيما فتنة ؟ قال له تعالى : منِّي يا موسى لأزيد في فتنتهم وإضلالهم ، بعد الذي أبديت لهم من نعمي ورحمتي وآياتي ، فأبوا إلاَّ أن يعبدوا إلـهاً مزعوماً غيري .

        فإذا كان بنو إسرائيل ، في ذاك الزمن ، قادهم خيالهم الفاسد ، إلى صناعة عجل معدني ، نصبوه وعبدوه ، فإن هذا الخيال بعينه ، ما زال موجوداً في هذا الزمان ، وإنما بشكل متطور ، تطورت معه كذلك نسبة الكفر ، والإقبال على ما هو مادي ومجسّم . لكأن أكثر الناس في التاريخ ، يرتـاحون إلى الكساح ، ويفضلونه على التحليق وبذل الجهد فيه ، لمعرفة الحق الأزليّ الأبدي . لذلك نجد أكثر الناس من أصحاب الـملل ، استبدلوا تماثيل بشرية ، بتلك الحيوانية . والذين ترقوا في كفرهم أكثر فأكثر ، استعاضوا عن التماثيل الحيوانية والبشرية ، بأولياء  لله يعبدونهم أحياءً أو أمواتاً . ومن هنا قوله فيهم عزّ شأنه :

       { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا }(سورة الكهف ،  الآية  102) .

         وغاية الأمر أن يكون الله من وراء القصد في أتباعهم  أولياء الله ، بأن لا ينسى المتولي لعبد من عباد الله ، نبيّاً كان أو وليّاً أو إماماً ، أو عبداً صالحاً ، أو أحد والديه أو كليهما ، أنه إنما يتولّى عبد الله هذا ، لأنه منيب  إلى الله ، داع إليه سبحانه . فإذا كان نبياً فلأنه يدعو إلى الله  الذي لا إلـه إلاَّ هو الواحد الأحد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، وإن كان  إماماً وصيّاً أو وليّاً فالأمر كذلك . يضاف إلى ذلك وجوب الحذر الشديد من الشرك الخفيّ . ويكون ذلك بأن يتذكر الإنسان دائماً أن الله سبحانه هو الحيّ القيوم ، السميع البصير ، وهو وَحْدَهُ على كل شيء قدير : قوله تعالى :

       { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ }(سورة ق – الآية 16) .

       وقوله عزّ شأنه :

       { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا }(سورة المجادلة – الآية 7).


        وبعد ، أفلا يستحي المخلوق أن يدعو غير الله ، والله أقرب إليه من حبل وريده ، أقرب إليه من دمه الجاري في أعراقه ، أفلا يخجل الإنسان أن يكون الله ربّه العظيم أقرب ما يكون إليه ، ثم يصيح ويستنجد بعبد من عباد الله ، حيّاً كان أو ميتاً ، سامعاً أو غير سامع كأن يقول يا فلان أدركنا ، ويا تمثال أرزقنا ، أو يا وليّ أو يا نبيّ أو يا شفيع انصرنا واكفنا .

الله صاحب العصر والزمان :

والأعجب من هذا كله ، إني عاشرت أناساً هم في موقع المسؤولية الدينية ، يحصرون المصير والمستقبل ، وحتى تفاصيل الأمور الدولية تحت عمامة مخلوق من عباد الله ، وينتظرون  بفارغ  الصـبر مُنقـذاً من الخلـق وناصـراً من الخلق وهادياً من الخلق ، بينما المنقذ والناصـر والهادي أقرب إليهم من دمائهم ، وهو معهم أينما كانوا وهو الله الذي لا إلـه إلاَّ هو العزيز الحكيم ، ينسونه سبحانه ويتوكّلون على عباده ، وإن نوقشوا في الأمر ، لفّوا وداروا ثم ادعوا الزُلْفَى ورجاء الشفاعة ، اللتين بريء الله منهما إذا كانتا في واقع شرك أو جحود :

       { .. مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا }(سورة الكهف ، الآية  26).

       ليس هذا الكلام تنكّراً أو إنكاراً للمهدي المنتظر عجّل الله فرجه الشريف ، فإن معظم كلامنا الذي دار حول وعود الله عزّ وجلّ بنصر الإسلام  في هذا الزمان ، وبميراث الأرض ، وبالفتح المبين الذي تزول معه دولة بني إسرائيل ، كان إشعاراً وإشارةً إلى قرب موعد بعثه عليه السلام .

        ولكن الطامة الكبرى ، التي طمّ بها أكثر الذين ينتظرون  بعثته الميمونة ، هي أنهم نسوا الله ، وتعبدوا لعبده المهدي المنتظر ، الذي ناصيته  بيد الله ، والذي لا حول  له ولا طول ولا قوّة إلاَّ بالله ، فأخذوا ينادونه ويدعونه ، ويسألونه حاجاتهم ،  ويشكُون له الزمان والأيام والأقوام الظلمة ، وهو إذا كان بعيداً لا يسمع ، وإذا كان قريباً لا يستجيب ، والدليل على ذلك كثرة دعائه وندائه من قِبلهم ، وعدم الإجابة من قبله ، ذلك عبر  مئات السنين ، بمصائبها وملماتها وكوارثها ، وظلم الظالمين وغدر الغادرين ، وكثرة الوقعات التي شاب ويشيب لها الأطفال . ثم إذا هم قوّموا الحصاد والمحاصيل ،  رجعوا بخفي حنين . ومع ذلك ما يزدادون إلاَّ دعاء ونداء وكتابة  لافتات : يا مهدي أدركنا ، ويا صاحب الزمان أدركنا ولا مجيب  …

        فيا الله ، يا ربنا وربهم ، يا رب العالمين ، أدركنا وأدركهم ولا تجازهم بأقوالهم وأعمالهم  فإنهم لا يعلمون . ربنا واشرح صدر عبدك المهدي عليه السلام ، ويسّر أمره ، وانصره على أعدائك  وأعدائه نصراً عزيزاً ، وفرّج  بـه كربات هذه الأمة  المسلمة لك ، وآتها ما وعدتها على رسلك ، فإن وعـدك الحق ، وأنت العزيز الحكيم ، الحليم الكريم ، وأنت أرحم الراحمين ، وأنت صاحب الزمان ، والأزمنة  والأمكنة :

       { .. مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. سورة آل عمران ، الآية  26 .

إذا دعي الله وحده كفروا :

فتعبداً بآيات الله تبارك وتعالى ، لا بما يصدر عن هوى الأنفس والمزاج والتقليد الأعمى لكثير من الأدعياء الأغبياء الذين يفترون على الله الكذب ، ويشهدون لما لم يروا ولم يتبينوا . لم يتدبروا كتاب الله ولا سنّة رسوله ، ولا سنن أهل بيته عليهم السلام . وتعبّدوا بمزاعم وأقاويل هي أقرب إلى الجهل والعصبية منها إلى الإيمان واليقين .  نسأل الله لهم المزيد من الهداية والسداد  والرشاد ، ونذكرهم بقوله تبارك وتعالى :

       { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }.سورة الحشر  ،  الآية  19.

        وقوله سبحانه :

       {ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا..}.سورة غافر  ،   الآية  12.

       وقوله تبارك وتعالى :

       {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء..}.سورة النساء  ،  الآيتين  ( 48 و 116 ).

       ثم في جولة عقلية في الكون ، انطلاقاً من الأرض وأهلها وسكانها من جميع من  خلـق  وما خلـق الله ، ومنذ  بدايـة  البشريـّة وما  قبـل البشريّـة ، جولة نستعرض بها أكابر خلق الله مـمّن نبأ ومـمّن أرسل ومـمّن قُرِّبَ نجياً ، فهل نجدُ فيهم جميعاً وإلى أبد الآبدين ، أحداً خلق أو رزق أو فتق  سماءً بغيثٍ ، أو رتَقَ أرضاً بعد فـوران بركان ، أو سميعاً بصيراً ، أو مجيباً قديراً ، أو حياً قيوماً ، أو فعالاً لما يريد  ، أو ذا بطشٍ شديد ، أو لا يعذب عذابه أحدٌ ، ولا يوثِقُ وَثَاقَهُ أحدٌ ، أو أحداً له الأسماء الحسنى ، وله المثل الأعلى  في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ، غير الله ؟! … فما للإنسان يصدّ عن هذا الإلـه العظيم ، ذي العرش المجيد الكريم ، ويستجير بغيره ، ويستغيث بسواه ؟ كدعائهم يا محمّد يا علي إنصراني إنكما ناصران واكفياني إنكما كافيان ، أو يا مهدي أدركنا، أو يا مسيح نجنا وارزقنا ، أو يا موسى ملكنا رقاب العالمين ، والله سبحانه يدمغ هؤلاء جميعاً ببيناته وحججه وآياته ، يزرعها في عيونهم ويجعلها أغلالاً في أعناقهم يقول :

       { قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ.  قُـلْ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعـَرْشِ الْعَظِيمِ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ . قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }. سورة المؤمنون ، الآية (84 ـ 89 ).

        ويقول سبحانه :

       { اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ }.سورة الرعد ، الآية 2.

        يدبر الأمر كله ، وحده لا شريك له ، بدون مساعد ، ولا معاضد ، ولا يتعبه أدنى تعب حفظ الكون وتدبيره بما فيه من الأفلاك والسموات الهائلة الاتساع ، والأرضين وما فيهن وما بينهن ، وما يرى من إنسان وحيوان ونبات في البر ، وحيتان ومخلوقـات في البحـار والأنهار ، وما لا يـرى من الملائكـة وأصناف الملائكة ، والشياطين واصناف الشياطين ، والجن واصناف الجن  .

        كل ذلك فضلاً عـمّا في كرسي العرش ، ثم ما في العرش العظيم ، مـمّا لا يستطيع تخيّل صورة عنه فكر مخلوق . وكيف يستطيع والإنسان مع ما سخّر له تبارك وتعالى من الكون ، وسخّر له ما في السموات والأرض  جميعاً منه سبحانه ، ومع ذلك ما استطاع ولن يستطيع إدراك أبعاد هذه السماء الدنيا وحدها . وأعلم علمائه يقرّون بأنهم ما أدركوا بعد حدّاً لها ، ولا حتى لأكثر مجراتها السابحة تحت هذا السقف الجميل .

       { قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ }.سورة عبس  ، الآية  17.

        قتل الإنسان وهو يجحد عظمة ربه ، ويقف عند غيره مادحاً ، منشغلاً بسواه ، متعبداً لعبيده ، منتظراً منهم لا من ربهم النجاح أو الفلاح أو الفتح المبين .

        قتل الإنسان وهو ينسى عظمة ربّه  السميع المجيب ، ثم يذكر دائباً عبيداً من عباد الله لا هم السميعون ولا هم المجيبون .

        وقد يدمي وهو يستجير بهم رأسه ووجهه دون قتال .

        أآلهة من دون الله ، أم شركاء لله ؟ …

        وبإخراج فني وإيقاع جماعي ، قد يلدم صدره وظهره ،  ويقول : بدعة مستحبة .

        فمن أجهل وأغبى من إنسان يرهن نفسه بمخلوق ، أو بمخلوقات من ملائكة أو جن أو إنس ، وهم لا يشعرون به . ولو شعروا وكانوا من أهل الإيمان العالي لـمقتوه في الدنيا ، وكفروا بشركه في الآخرة .

        قتل الإنسان وهو يملأ قلبه حتى الجمام بحب غير الله ، وهذا القلب لا يكون كريماً ولا معافىً ، ولا مصفىً ، ولا يصطفى إلاَّ إذا ملىء حتى الجمام بحب الحبيـب الأعظـم رب  العالميـن الرحمـان الرحيـم  .  فـإذا  فـاض  شيء من هذا الحبّ على جوانب  هذا القلب ، فلا بأس  أن يكون لمن أذن الله بمودتهم  من أنبياء وأوصياء ، وأهل وأئمة .  لأن ما يفيض على جوانب القلب من حب الله ، يكون أيضاً حبّاً مقدساً . وفي هذه الحال فقط ، يجوز أن يختص به أولياء الله وأحباءه ، والأخلاء المتقين ، إذ يقول سبحانه :

       { الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ }. سورة الزخرف ،  الآية  67.

       قتل الإنسان الكفور الجحود ، يغرقه الله بنعمه ويكفر ولا يشكر ، ويتحبب سبحانه إليه بالثناء على بعض ما عمل من الصالحات ، ويكون هو سبحانه مكّنه من ذلك ،  فيدير له ظهره معتدّاً بقدرته البشرية ، وهي لا تقوم إلاَّ بالله الذي تقوم به السماوات والأرض ، وما  ومن فيهن ، وما ومن بينهن .

        من هنا حاجة الإنسان التي لا تعلو عليها حاجة ،  إلى النجاح في الابتـلاء ، النجاح المؤدي إلى التوحيد الصافي ، الأصفى من الفجر في الجنة ، والأعذب من الماء البارد النمير على غلة العطشان ، والأقرّ للعين وللقلب  من كل ما في الوجود .

        وهذا الإبتلاء درجات ، كما أن فهم التوحيد درجات عند الموحدين ، ومن هنا يفهم الإتّباع وتفهم الولاية .

        ولا ينسيّن  أحد أننا نكتب لأهل القـرن العشريـن ، مسلمين وغير مسلمين ، غير  متعرضين  ـ بدون طائـل معاصر ـ لقضيـة السقفيـة وما بعدها …  ولا  لولاية الإمام المنتظر عليه السلام ، ولا حتى لولايـة الفقيه . لأننا إنما ندعو ليس المسلمين وحدهم ، وإنما جميـع أهل الأرض ، إلى التوحيد باسم الله وبتعاليم الله ، على أن أساس هذا التوحّـد والتعاليـم ، هو توحيد الله جلّت عظمته ، وولاء جميع الناس له على شتى درجاتهم الدينية والإجتماعية ، قوله تعالى :

       { وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَـاءُ فِـي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ .أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ فاللهُ هُوَ الوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ }(سورة الشورى ، الآيات ( 8 ـ 9 ))

        فالاتّباع في توجيهات الله تبارك وتعالى أمر متدرج من أتباع المؤمنين إلى أتباع الأنبياء والرسل والمنيبين إلى الله عامة ، لأن ذلك كله طرداً وعكساً يؤدي إلى إتباع الله ، يعني الكتب المنـزّلة الصافية ، يعني إتباع القرآن وما صحّ عن الرسل وأوصياء الرسل ، يعني أتباع الحق ، وبكلمة أخيرة حاسمة ، يعني إتباع الله تبارك وتعالى وعزّ شأنه وجلّت قدرته .

        كذلك مفهوم الولاية ، وهو مفهوم خطر وشديد الحساسية ، فالذين فهموا الولاية  وقوفاً عند نبي أو إمام أو وليّ من أولياء الله دون العبور بأسرع من الضوء إلى التوحيد بالأسماء الحسنى ، فقد وقعوا في الشرك . حتى ولو ادّعوا بعدها أنهم إنما كانوا يرجون بذلك الزلفى أو الشفاعة . إذ أن ذلك يقودهم إلى التعبّد للوليّ قاصدين أو غير قاصدين ، عن وعي أو غير وعي . فينصرفون إلى التعبّد بأقوال الشفيع حتى ولو كانت مزعومة ، أكثر مـمّا يتعبَّدون بآيات الله تبارك وتعالى ، وفي ذلك قوله عزّ وجلّ :

       { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ. قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .(سورة يونس  ،  الآية 18 ) .