وحي الله هل ينقطع عن العباد ؟

4

دعوة إلى الله

وحي الله هل ينقطع عن العباد ؟الإضاءات الكاشفة الرابعة

 

الوحي في اللغة العربية :

      جاء في لسان العرب لابن منظور في باب وحي ما يلي :

        [ قال الأزهري : وقال الله عزّ وجل :{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ}

قال الوحي ههنا إلقاء الله في قلبها ، قال وما بعد هذا يدل ، والله أعلم ، على أنه وحي من الله على جهة الإعلام للضمـان لها : إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ؛ وقيل : إن معنى  الوحي ههنا الإلهام ، قال وجائز أن يلقي الله في قلبها أنه مردود إليها وأنه يكون مرسلاً ، ولكن الإعلام أبين في معنى الوحي ههنا . قال أبو إسحق : وأصل الوحي في اللغة كلها إعلام في خفاء ، ولذلك صار الإلهام يسمى وحياً ؛ قال الأزهري : وكذلك الإشارة والإيماء يسمى وحياً والكتابة تسمى وحياً . وقال الله عزّ وجل : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ } ؛ معناه إلاَّ أن يوحي إليه وحياًَ  فيعلمه بما يعلم البشر أنه أعلمه ، إما إلهاماً أو رؤيا ، وإما أن ينـزل عليه كتاباً كما أنـزل على موسى ، أو قرآناً يتلى عليه كما أنـزل على سيدنا محمّد رسول الله ، (ص) ، وكل هذا إعلام ، وإن اختلفت أسبـاب الإعلام فيها . وروى الأزهري عن أبي زيد في قوله عزّ وجل : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ  } ، من أوحيت ، قال : وناس من العرب يقولون : وحيت إليه ووحيت له وأوحيت إليه وله ، قال : وقرأ جُؤيَّة الأسدي : قل  أُحِيَ إليَّ من وحيت ، همز الواو . ووحيـت إليك بخبر كذا أي أشرت وصوتُّ به رويداً . قال أبو الهيثم : يقال وحيت إلى فلان أحي إليه وحياً ، وأوحيت إليه أوحي إيحاء إذا أشـرت إليه وأومأت ، قال :

 وأما اللغة الفاشية في القرآن فبالألف ، وأما في غير القرآن العظيم فوحيت إلى فلان مشهورة  ، وأنشد العجـاج :

                          وحـي لهـا القَـرارَ فاسْتَقَـرَّتِ

أي وحى الله تعالى للأرض بأن تقرَّ قراراً ولا تميد بأهلها أي أشار إليها بذلك ، قال: ويكون وحى لها القرار أي كتب لها القرار . يقال وحيت الكتاب أحيه وحياً أي كتبته فهو مَوْحِيٌّ . قال رؤبة :

                        إنجـيـلُ  تـوراةٌ  وحـى مُنَمـنِمُـهْ

        أي كتبه كاتبه . ]  انتهى كلام ابن منظور .

*  *  * 

        وفي الميزان في تفسير القرآن ج 12 ص 292 جاء ما يلي :

        [ الوحي ـ كما قال الراغب ـ  الإشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بصوت مجرد عن التركيب أو بإشارة ونحوها ، والمحصل من موارد استعماله أنه إلقاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد إفهامه فالإلهام بإلقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحي وكذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالإشارة كل ذلك من الوحي ، وقد استعمل في كلامه تعالى في كل هذه المعاني . ] .

*  *  *

قال الله تبارك وتعالى :

        { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } . [ 51 : الشورى ] .

        فعلى أساس هذه المعاني المستفادة من اللغة العربية ولغة القرآن الكريم ، نلخص مفهوم الوحي في ثلاثة أقسام :

        أولاً : ما كان خيراً محضاً ، فهو ينسب إلى الله تعالى ، ويكون بما يلي : العبارة والإشارة واللطف والحقائق المستكنة تأويلاً في الكلام الظاهري ،

والإشارة السريعة ، الرمز، الصوت بالواسطة ، إلقاء المعاني سراً ، الإلهام ، التفهيم، التعليم بدون معلم غير الله ، الرؤيا الصادقة ، غرز الغرائز  في الحيوان .

        ثانياً : ما كان خيراً بين عباده سبحانه ، ويكون إما كتابة أو إشارة ، أو صوتاً ، أو رمزاً .

        ثالثاً : ما كان شراً أو أذىً أو ضـراً ، وهو ما يكون من شياطين الإنس والجن ، إما وسوسة ، وإما بزخرف القول .

        وما يهمنا من هذا البحث هو القسم الأول ، لذلك سنقصر كلامنا عليه ، والله المستعان . وعدتنا في ذلك  آيات الله البينات .

        فلنتأمل في هذه الحقيقة الماثلة في القرآن الكريم وفي واقع الحال وهي أن الله كان يكثر من إرسال الرسل ، يوحي إليهم ، فيرسل إلى كل قرية رسولاً ، وأحياناً، اثنين ، وأحياناً ثلاثة ، قال سبحانه :

       { وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ . إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ . قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمـن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ …}. [ (13ـ15) : يـس ] .

        وأحياناً ثلاثة عشر رسولاً ونبياً دفعة واحـدة وفي قرية واحدة ، يوحي إليهم ، كما كان الحال مع يعقوب وأبنائه الإثني عشر ، الذين يمكن القول فيهم إن إثنين منهم فقط كانا نبيين ، وواحداً ما علمنا من القرآن ما يشينه ، فهؤلاء ثلاثة ، هم يعقوب وولداه يوسف وأخوه لأبيه وأمه ، أما الآخرون العشرة ، فهم أبناء يعقوب الذين سماهم القرآن الكريم : الأسباط ؛ وكانوا مجرمين جناة ، حاولوا قتل أخيهم برميه في بئر أنقذه الله سبحانه منها ، وهم رجعوا إلى أبيهم يكذبون ويكذبون ، ويأتون بدم كذب على قميص أخيهم زاعمين أنه أكله الذئب . هؤلاء جميعاً ، الثلاثة الأنبياء والمجرمون العشرة ، جمعهم الله في مدة زمنية واحدة ، وأوحى إليهم جميعاً بدون استثناء ، أما بالنسبة للعشرة العصاة الجناة ، فبعد أن تابوا إلى الله توبة نصوحاً . ثم جعل سبحانه ،  من  هؤلاء الأسباط ،  يوسف وأخيه ، والعشرة المذكورين ، قادة نقباء لأقوامهم  . قوله سبحانه وتعالى :

       { وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَّأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } . [ 12 : المائدة ] .

        أما عن أنه أوحى إليهم جميعاً فقوله سبحانه :

       { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . [ 136: البقرة ] .

        وقوله تبارك وتعالى :

       { قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } . [ 84 : آل عمران ] .

       والملاحظ في هاتين الآيتين ، كما أن المسلمين عامة ملزمون بالإيمان بما أنزل إلى هؤلاء المذكورين جميعاً عليهم السلام ، كذلك النبي (ص) هو ملزم أيضاً بدلالة الآية الثانية : قُلْ آمَنَّا …

        ثم الآية التي تذكر الوحي إلى الأسباط كما إلى غيرهم بصريح الكلمة: {أَوْحَيْنَا} قوله سبحانه وتعالى :

       {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا.وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } . [ (163 ـ 165 ): النساء ] .

        فما نستنتجه  هنا أن الله كان يرسل الرسل بغزارة ، منهم  من يحمل رسالات سريعة ، لم يبق منها في تاريخ هؤلاء الرسل وتاريخ البشرية ، إلاَّ الكلمة العظيمة المختصرة  : أيها الناس اعبدوا الله وحده . ثم يختفي الرسل بالتوفي وتختفي حتى أسماء كثير منهم ،ويبقى الحي القيوم وحده ، الذي أرسلهم وأرسل الآخرين الكبار غيرهم، وإنما برسالات كبيرة وغنية مغنية إلاَّ عن الله سبحانه الذي هو المغني بالنتيجة وحده لا شريك له  .ختم هذه الرسالات بأجلّها وأغناها وأكفاها إلى يوم القيامة ، عنيت الرسالة التي حمَّلها رسوله العظيم ونبيه الكريم محمّداً (ص) .

        إلاَّ أن السؤال ، هل توقف الزمان وتوقفت الرسالات الصغيرة  السريعة والمتنوعة ، عند محمّد (ص) .وهل توقف الوحي بجميع معانيه المذكورة  لله سبحانه، توقفاً نهائياً بعد محمّد (ص) ولو كان هو خاتم النبيين كما قال عنه  سبحانه وتعالى . يعني هل توقف تدبير الله لخلقه أفراداً وجماعات بما ذكرنا من الإشارة ، التي نفهمها من قول الصادق جعفر بن محمد رضي الله عنهما :القرآن على أربعة أمور: العبارة للعوام والإشارة للخواص واللطف للأولياء والحقائق للأنبياء .

        والإشارة السريعة، مثل صوت ينبهك لصلاة الفجر،وصوت آخر مختلف ينبهك لقيام الليل،وهذه الأصوات أوالحركات المنبهة في الأذنين أو المنخرين ليست كالأصوات أو الحركات المألوفة غالباً في حياتك الظاهرية،ومن الإشارة السريعة كذلك، تنبهك الفجائي لعدوٍ آتٍ من خلفك دون هسيس ولا حسيس.أو انحناءَة سريعة منك دون قصد لتمر رصاصة كنت بها مستهدفاً،أو انتقال من مكانك وحدك أو مع عيالك أو آخرين انتقالاً لا مبرر له في الظاهر ، حتى تعلم السرَّ بعد سقوط قذيفة أو شظية في نفس المكان ،أو…أو…ولا تنتهي هذه الحكايا وأشباهها عندك وعند المؤمنين العاديين ، وحتى عند كثرة من الناس العاديين وحتى الكفار والفساق،الذين تأبى عظمة الله إلاَّ أن تنالهم برحمته الواسعة،عسى أن يعواويرعووا،ويرجعوا إلى مولاهم الحق مذعنين خجلين تائبين،والله وحده يغفر الذنب العظيم ويعفو عن الجسيم ويقبل التوبة ويحب التوابين . ويبدل السيئات بحسنات .

        أما عن الرمز فكما هو في رؤيا يوسف عليه السلام  ورؤيا فرعون . السبع بقرات، كذلك هو في رؤى الناس مؤمنين وكافرين أيام يوسف وفرعونه ، وقبلهما وبعدهما إلى قيام الساعة ، وهذا وحي من وحي الله ، وبالكيفية التي يعلمها الله .

        وما دمنا ذكرنا الكيفية ، فهنا ينبغي القول معها ، أنه كما لا يجوز لنا أن نتعرض بالبحث لذات الله سبحانه ، من جهة الكيف والكم والأين إلى آخر ما توصف المجسمات وتحدد به المخلوقات ، فكذلك لا يجوز البحث بالكيف أو الكيفية التي يوحي بها سبحانه لخلقه وعامة عباده ناهيك عن خاصتهم من أنبيائه وأوليائه ورسله .

        ونتابع أنواع الوحي ، فبعد الرمز ، حسب الترتيب غير المقصود من حيث تقديم أو تأخير نوع من آخر ، يأتي بعد الرمز ، الصوت بالواسطة . فكم سمعنا ويسمع المؤمنون وعامة الناس ، عن فلان أو فلانة وسماع كل منهما هذا يقول إنه سمع في يقظته صوتاً يقول له وذلك يقول إنه سمع وهو بين النوم واليقظة ، وتلك تسألنا ماذا نسمي هذا الصوت ، وهذه الأصوات تخبر خبراً ، أو تعرض بأمر ، أو تأمر أو تنهى ، وقليل من الناس لم يسمعوا  قضية إبراهيم بن أدهم إذ نودي وهو في الصيد أن يا إبراهيم ، ألهذا خلقت ولهذا تعمل ؟ ثلاث مرات ، بين المرة والمرة يبحث عن مصدر الصوت وهو في بيداء منبسطة منكشفة مدَّ البصر ، ولما لم يجد أحداً ، ظاهراً ، ارعوى وفكر وتبصَّر ، فنكَّس آلة  صيده ، وصمم على فكرةٍ حزم أمره عليها ، ومشى ناشطاً حتى إذا شاهد راعياً ، حاوره بكلام كان بنتيجته أن أقنعه بأن يبادله ثيابه بثيابه ، وثياب إبراهيم وهو الثري من الجلد المطعَّم الثمين وكذلك آله صيده المتميزة ، فوهب الراعي كل ذلك وكل ما معه ، وأخذ منه مسوح صوف ، خشنة كان يلبسها ، وبها عرف فيما بعد ، إبراهيم بن آدم ، يتناقل أخباره الناس والكتب ، زاهداً متعبداً ، من أولياء الله العارفين المعروفين . أوليس هذا وحياً من الوحي ، وماذا نقول فيه إن لم يكن كذلك ، فإن كان هاتفاً ،

فهو من الوحي ، وإن كان صوتاً دون أن يرى مصدره فهو حسب إشارات القرآن وتصريحاته كذلك من الوحي ، وحيث أن ذلك كان بعد وفاة محمّد (ص) ،فبديهي القول ـ اعتماداً على هذه الوقائع وغيرها كثير ـ أن الوحي ، لم ينقطع ولن ينقطع وبجميع أشكاله وأنواعه ، بعد محمّد (ص) خاتماً للنبيين بشريعته الملزمة إلى قيام الساعة، وبالقرآن العظيم الذي أنزله الله إليه وإلى الناس إماماً ورحمة ، ومرجعاً وحجة للأئمة والأولياء والحجج من بني البشر ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

        وإذا كان الله  أوحى إلى الأسباط العشرة من ولد يعقوب عليه وعليهم السلام من بعد ما أجرموا ، إذ شرعوا في القتل ، وإن لم يجهزوا على غريمهم ، أخيهم ، حيث أنجاه الله سبحانه ، ومن بعدما كذبوا على الله وعلى رسوله يعقوب وعلى الناس أجمعين . فأيما رجل بعدهم وحتى بعد محمّد (ص) إلى قيام الساعة ، هو أولى منهم بالوحي من الله عزّ وجل إذا لم يجرم ولم يكذب بمقدار جرمهم وأكاذيبهم أو كان أقل منهم جرماً وأخف ذنوباً ، إذا تاب لله توبة نصوحا .

        وقوله سبحانه : { وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . [ 60 : العنكبوت ] ، هل هذه الآية محددة بزمان أو بمكان ، أو أنها تنتهي بمدلولاتها عند كون محمّد (ص) هو خاتم النبيين . إذ أن من المعلوم  أن كل عطاء أو هبة  أو رحمة أو عناية من الله سبحانه هي من الرزق ،  ومن هذه الرحمات والعنايات ، الوحي  بجميع أسمائه وأنواعه ، وهذه الآية ، بالضرورة ، تنتهي بجميع أنواع الرزق ، ولجميع ما يدب على الأرض ، وكذلك ما يطير في السماء ، والإنسان خاصة ، الذي كرمه الله سبحانه ، وسخّر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه وفضّله سبحانه على كثير مما خلـق تفضيلاً ، فمن باب أولى ، أن يعتني سبحانه بالوحي إليه ، في أرض ، هو تبارك وتعالى أوحى فيها إلى النحل ، حسب نص القرآن الكريم ، وإلى النمل ، وإلى الهدهد ، يعني إلى أجناس هذه المسميات وكذلك إلى جميع البهائم حين غرز فيها الغرائز ، وهي كما ذكرنا من أنواع وحيه سبحانه وتعالى عما يشركون .

        وكذلك ، إذا كان سبحانه وتعالى ، أوحى فيما مضى إلى الحواريين ، أصدقاء المسيح عليه السلام وعليهم،وفيهم صياد السمك، وراعي الضأن والمزارع والعشار، وهؤلاء كانوا يعتبرون وما زالوا في بعض المجتمعات من الناس الدون ، أو من عامة الناس، وليس من خاصتهم حتى أن العشارين كانوا لظلمهم للرعية أعداء الله وأعداء الناس، فحيث أنهم تابوا واتبعوا ما أنـزل الله واتبعوا رسوله المسيح عليه السلام ، فقد أوحى الله إليهم إيماناً فوق إيمان ، مما رفعهم إلى درجة المقربين عند الله والدعاة الملهمين الذين صفوا وتصافوا وجاهدوا في سبيل الله وكانوا قدوة في حياتهم لأقوامهم ،كما أرادهم الله سبحانه للذين آمنوا ضارباً المثل بإخلاصهم وفطنتهم وما ترتب على ذلك من نصرهم على أقوامهم المكذبين المفسدين الكافرين .أما بخصوص الوحي إليهم فكان نتيجة لعزمهم على اتباع المسيح وهو بين اليهود  المكذبين به ، آنذاك ، مهدداً ، بالعدوان عليه في كل لحظة ، وفي كل خطوة يخطوها ، وبالقتل هو ومن معه ، ومع ذلك عزموا صادقين على اتباعه ، وباشروا هذا الإتباع ، والله أعلم بما يسرون وما يعلنون . قال  سبحانه :

       { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } . [ 111 : المائدة ] .

        وقال تبارك وتعالى،عن عيسى عليه السلام ، عندما استشعر العداوة واللؤم والكفر من الأكثرية الساحقة من قومه ، وأراد حَمَلَةً حَفَظَةً لدين الله والدعوة إلى الله من بعده ، وهو علم من الله سبحانه مدى عداوتهم وقسوتهم عليه :

       { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ . رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }. [ (52ـ53): آل عمران].

        أما بخصوص أمره سبحانه باتخاذهم نماذج صدق وجهاد وثبات على التوحيد بدون وسيط بينهم وبين الله تبارك وتعالى ، وحتى لو كان هذا الوسيط رسول الله ، عيسى ابن مريم عليه السلام ، وذلك قولهم في قول الله فيهم سبحانه وتعالى عما يشرك الناس العمي الموتى القلوب الغافلون  :

       { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } . [ 14 : الصف ] .

        ثم اعتماداً على ما ذكرنا ، وعلى كثير مما لم نذكر من الأمثلة والوقائع ، ليس كل من يوحي الله سبحانه إليه يكرس رسولاً أو نبياً ،  فهو تعالى أوحى إلى أم موسى . قال تبارك وتعالى : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ .. الآية }. [ 7 : القصص ] . وقوله تعالى ، عنها : { … إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } . [ 10 : القصص ] .

        وهذا الربط كذلك هو نوع من الوحي لا شك فيه ، وبرجوعنا إلى أنواع الوحي التي ذكرناها ، نرى أن هذا من باب إلقاء المعاني سراً  في قلب أو قلوب  الموحى إليهم . وما أكثر ما يربط سبحانه  وتعالى على قلوب المؤمنين  والمؤمنات في مشاكلهم ومصائبهم وبلاءاتهم  ، ومحنهم  وامتحاناتهم  ، تفضلاً منه سبحانه ، وعناية ورعاية ورحمة . فهذان الوحيان إلى أم موسى عليه السلام ، لم يجعلاها نبيّة مكلفة بالدعوة إلى الله أو رسولَـه مكلفة بأعباء الرسالة وتبليغها . وكذلك القول  في مريم عليها السلام ، قال سبحانه :

       { وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسـَاء الْعَالَمِينَ . يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } . [ (42 ـ 43 ) : آل عمران ].

        إلى أن قال  تبارك وتعالى :

       { إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيـحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِـرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ } . [ 45 : آل عمران ] .

        وقال عزّ وجل :

       { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا. فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا . قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا . قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا . قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا . قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا } . [ ( 16 ـ 21 ) : مريم ] .

        وهذا من أبلغ الوحي وأظهره إلى مريم عليها السلام ، إذ فيه إضافة إلى رؤية الملاك وقد تمثل بشراً ، وربما  بقية الملائكة الذين معه ، حيث ذكرهم سبحانه في الآيات السابقة ، حوار ، مع روح الله ، قائد من قادة الملائكة ، حوار يبدأ بشيء من الخوف ، إذ تعوذت بالرحمن منه ، ثم بالنقاش التاريخي المنطقي ، ثم بالبشارة ، ثم ينتهي بثبوت الحقيقة الأزلية الأبدية التي هي أن الحكم هو حكم الله والمشيئة هي مشيئته ، وأنه هو وحده مالك الملك وخالق الخلق  وهو على كل شيء قدير . المهم أن هذا الوحي مع نوعيته المميزة ، لم يجعل من مريم  ، نبيَّة  مكلفة  بمواجهة الناس ودعوتهم وتبليغهم ولا رسولة مكلفة بأداء رسالة سواء كانت رسالة تشريع أو فقط دعوة إلى توحيد الله كما هو في العادة أساس الرسالات .

        وإذا بقي شيء من الشك في كون مريم وأم موسى نبيتين فما هو القول بخصوص المرأة التي أشارت على وفد مكة بشأن ذبح عبد الله والد رسول  الله محمّد (ص) ، حيث أشارت عليهم  بتوسل القداح لإختيار  مائة ناقة بالنتيجة فداءً لعبد الله من الذبح وتقديمه قرباناً لله عزّ وجلّ عند بيته العتيق . من أين لها ذلك في وقت عجز أساطين مكة الحريصين عظيم الحرص على عدم ذبح هذا الشاب النبيل الجميل الحبيب على قلوبهم جميعاً عجزوا عن إيجاد مخرج من نذر عبد المطلب القاضي بذبح واحد من أولاده قرباناً لله تعالى إذا رزقه سبحانه ذكوراً عشرة . ورزقه الله ، وجمع أولاده العشرة وبالقرعة كان الذبيح هو عبد الله ، وكانت المشيرة بالفداء ، إلهاماً من الله تعالى ، امرأة صالحة فاضلة ، كان الناس يأتون إليها يستشيرونها في الخروج من مآزقهم الصعبة ، وهكذا اقتضت حكمة الله إظهار عبد الله الذي سيجعله والد رسول الله محمّد (ص) مَفْدِيّاً بمائة ناقة ، في حين كانت دية الرجل عندهم عشرة من الإبل .  وكان هذا الفداء  هو الأكبر والأغرب في تاريخ الجزيرة العربية .

        وبعد أن أعطينا مثلاً عن الإلهام الذي من أنواع الوحي المذكورة نعطي مثلاً عن التفهيم ، وقد استفدنا هذه الكلمة من قول الله تبارك وتعالى :

       { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ . فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَـالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ}[78 ـ 79:الأنبياء]  

        فهَّمها سبحانه سليمان دون أبيه داوود النبي ، لمصلحة لهما ،  فيها إظهار لسليمان تمهيداً لنبوته وقضائه بين الناس وملكه ، فهذا وحي، أما كيفيته، فلا تسل، لأنه معجزكبقية أنواعه،ولذلك ممنوع عنه السؤال، لأن الكلام فيه، كما الكلام في ذات الله ، يوقع في المهالك ، سبحانه وتعالى عما يصفون .

        ويلاحظ في آية تفهيم سليمان ، قوله تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } . فهذا التسخير للجبال والطير وهذا التسبيح ماذا يقال فيهما،غير أنهما وحي من الوحي ، وكذلك كل تسخير ، سواء كان لما يعقل في الظاهر أو لايعقل،أوكان للجمادات أو نبات الأرض أو دواب البر والبحر ، بما فيه حوت يونس عليه السلام ، أو ما طار بجناحين . أو ربما بأكثر .

        وتذكرنا هذه الـ( ربما ) بنوع من الطير له أكثر من جناحين ، هم الملائكة الرسل ، وذلك قوله تبارك وتعالى :

{ بِسْمِ اللهِ اْلرَّحْمَنِ اْلرَّحِيمِ . الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . [ 1 : فاطر ] .

        فقوله سبحانه مثنى وثلاث ورباع … يعني ملائكة ذوات جناحين أو ثلاثة أجنحة أو أربعة ، أما قوله تعالى {  يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء } ففيها إطلاق ، وهذا الإطلاق يعني الزيادة فيما خلق من جميع أنواع خلقه،ويعني أنه يزيد في هذا الكون وعلى هذا الكون خلقاً جديداً حين يشاء وحيث يشاء .

        أما مادة الأجنحة فهي نورانية من سنخ الملائكة ، وعلى ذلك فهي لا ترى ولا تمس مساً محسوساً ، إلاَّ إذا تمثلت الملائكة بنوع من الطير أو بإنسان أو غير ذلك ،فإنها تأخذ صورة ما تتمثله ولكنها تبقى على جوهرها وحقيقتها الملكية(نسبة إلى ملك بفتح اللام وهو واحد ملائكة ) .

        وهل يتوقف إرسال الملائكة إلى الأرض وإلى عباد الله ، أم هو باقٍ على مدار الساعة وإلى قيام الساعة ؟ في الآية الكريمة إطلاق كذلك بهذا الخصوص ، ثم إن قوله سبحانه { جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا } ، يعني مبلغين رسالات ، وهذا يعني أنه سبحانه يوحي بهم إلى من يشاء من عباده وساعة يشاء،وعلى مدار الساعة وإلى قيام الساعة .ولعل هذا من أسباب قوله عن رسوله محمّد (ص):{ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ … }. [ 40 : الأحزاب ] . ولم يقل خاتم المرسلين،وواضح أنه سبحانه لو قال عنه (ص) أنه كذلك خاتم المرسلين لما أمكن قوله بعدها أو قبلها : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا …}ولما أمكن قوله  تعالى : { اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ}.ولما استقام  معنى الآية الكريمة : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }.[ 165 : النساء].إلاَّ إذا اعتبرنا الملائكة الرسل ، في جملة الحجج الباقية على الناس ، فيستقيم  معنى الآية .

        ثم قوله تبارك وتعالى :

        {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْم التَّلَاق}15]:غافر[. وهذه الآية الكريمة،ليس فيها قيد ولا تخصيص ولا تبيين، لا في الزمان ولا في المكان ولا في الأشخاص.فشأنها إذن الإطلاق والتعميم والإجمال،كما قبل محمّد(ص)كذلك بعد محمّد(ص)،وحتى كذلك في عصر محمّد(ص) الميمون المبارك ،وحياته الشريفة . وذلك في قول الله تبارك وتعالى مخاطباً رسوله محمّداً (ص) وعلى جميع المؤمنين :

      { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } . [ 12 : الأنفال ] .

        فما دام سبحانه يرسل رسلاً من الملائكة،غير متقيد بقرن من القرون ولا جيل من الأجيال ،ولا بزمان ولا مكان،فهو كذلك،يوحي سبحانه إلى الملائكة  هؤلاء،{أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ …الآية}،كما في عصر محمّد(ص)ووجوده الشريف،كذلك في عصر طالوت حيث حملت الملائكة التابوت أمام بني إسرائيل تشجيعاً لهم على قتال جالوت وقومه،وذلك قبل أن ينبأ داوود عليه السلام،وطالوت،لم يكن رسولاً ولا نبياً ، وذلك بدليل اعتراضهم عليه حيث جاء في القرآن الكريم قوله تعالى :

       { أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّاكُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ . وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } .[246 ـ 248: البقرة]. 

وإنما ذكرت الآية الأولى هنا لإثبات أن هذه الواقعة وقعت بعد موسى عليه السلام  في زمن نبي لم يذكر القرآن اسمه وإنما سمى الملك الذي اختاره لهم الله سبحانه وهوطالوت ، وفي الآية الثانية اعتراضهم على وضعه الإجتماعي ، فلا نسب يميزه  ولا مال .وفيها كذلك قضية الإصطفاء ، فقد يصطفي سبحانه مـن الناس ملوكاً وحكاماً وقادة إلى غير ذلك من المصطفين الأبرار من بين عامة المؤمنين . وفي الآية الثالثة قضية الملائكة وحملهم التابوت فيه سكينة من رب العالمين،ولا يكون حمل الملائكة للتابوت إلاَّ بوحي من  الله سبحانه،وكذلك الوحي هذا،ظاهرة آثاره لعامة الناس آنذاك،وإن كانت هذه الاثار،آثار الوحي إلى الملائكة،هي أبلغ ظهوراً وأكثر عدداً وأوسع مساحة،في حنين،تلك التي تتحدث عنها بعض الآيات في سورة الأنفال،وعن إرسال الملائكة فيها نجدة للمؤمنين وهم آنذاك بقيادة الرسول الأعظم محمّد (ص) ، قوله سبحانه : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ … الآية } .

        وما ينبغي قوله من خلال هذا العرض،وربطاً بين آية { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا …} وبين آية الأنفال : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ …}.وآية  حمل الملائكة  للتابوت أمام الملك طالوت،هو أنه ما دام حصل ذلك قبل نزول القرآن ، وحصل كذلك أيام نزول القرآن ، فلا حجة تمنع أن يحصل ذلك بعد نزول القرآن في ظروف مشابهة ،لا سيما في حروب المؤمنين الخلَّص،في مواجهة أهل الكفر وأهل الشرك في أي زمان وأي مكان ، وحتى قيام الساعة،والعكس هو الصحيح،فإن الحجة قائمة وواضحة وقوية.في إطلاقه سبحانه قوله : { الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا … } على أن الله سبحانه لم ولن يقطع وحيه الذي فيه لطفه بعباده ورحمته لهم وإدارته لملكه وفي جملته هذه الأرض الخضراء تحت هذه القبة الزرقاء،وما على الأرض،وما في هذه السماء،من أنواع خلقه،الذين هم في قبضته،يصرف أمورهم من سامق عزته وكبريائه ، بعدله ولطفه ، وحكمته ورحمته .

        أما عن التعليم بدون معلم غير الله جلّ جلاله ، فقوله تبارك وتعالى :

{..وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ } . [ ( 268 ـ 269 ) : البقرة ] .

فما هي الحكمة ، وهل هي كذلك وحي يوحى ؟

ما دام القرآن الكريم سيد الكلام الذي لا يجارى،وهو كنـز المعارف الحقيقية،واصفى الموارد.فترسم معاني الكلام وتتبعه إنما يجب أن يتم بالرجوع إليه ، وتدبره،تشرفاً بطاعة الله وتوجيهه،وتقريعه سبحانه لمن لا يتدبر قوله الكريم وقرآنه المجيد :

{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } .

{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } .

وبحثاً عن معنى الحكمة في كتاب الله العظيم،نجد ثلاث آيات تتعرض لمعانيها،علماً أنها وردت في آيات كثيرة معطوفة تارة على الكتاب وتارة إلى النبوة والملك وآيات الله البينات :

الآية الأولى ، قوله تبارك وتعالى  :

{ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا }  . [ 39 : الإسراء ] .

هذه الآية هي التاسعة والثلاثون من سورة الإسراء . وبعض المجتهدين في تفسيرها يرون أن المقصود بقوله تعالى : {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} جميع الآيات الثماني والثلاثين الواقعة قبلها .ونقول إن في هذا توسعة تتجاوز حدود الكلمات المقصود تحديدها في الآيات ، مثل كلمة الحكمة ، فهي حيثما وجدناها معطوفة على غيرها في الآيات ، فهذا يعني أنها مفهوم مستقل عن المعطوف عليه ، فقوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا }.فواضح أن الحكمة هي غير الكتاب،وهذه المغايرة مقصودة منه تبارك وتعالى ، ولو كان الكتاب هو الحكمة لما كان قال سبحانه عن داوود عليه السلام : {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}،ومعلوم أنه سبحانه لم يؤته كتاباً كما أتى موسى وعيسى ومحمّداً عليهم السلام . لذلك نقول إن آيات الإسراء من بدايتها حتى قوله تعالى:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ..}.هي من الكتاب الذي هو أعم من القرآن،(حيث زعم كذلك بعض المفسرين أن الآيات التي هي من الحكمة ، تبدأ من قوله تعالى أو بعد قوله مباشرة :{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ }.ومن يتأمل في الآيات التي بعد{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ} يجد أن الخطاب فيها بصيغة الجمع .حتى يصل  إلى قوله تعالى:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ…} فيتحول الكلام إلى صيغة المخاطب،فالآيتان فقط:{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ…} وبعدها {وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا…}هما من الحكمة. وإلاَّ على أساس زعم من زعم أن الآيات من بداية السورة المباركة هي من الحكمة ،فذلك،إذن يجعل القرآن كله هو الحكمة ، أو هو من الحكمة ، ولا يستقيم ذلك مع قول الله :

       { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ … } . [ 12 : لقمان ] .

        فيستوي لقمان ومحمّد (ص) ولقمان كما هو معلوم ليس  بنبي ولا رسول ومحمّد (ص) خاتم الأنبياء،نزل عليه{..الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}و{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}وأرسله سبحانه رحمة للعالمين.كما في نصوص القرآن الكريم .

        وأكثر ما يعنينا ، بخصوص بحثنا هذا ، هو أن الحكمة كذلك من الوحي ، حسب تقرير القرآن في مخاطبة الله سبحانه لرسول الله محمّد (ص) : { ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ }.هذا من جهة ، ومن جهة ثانية أن هذا الوحي ، يوحي الله به كما للأنبياء والمرسلين ، كذلك إلى عباد الله الصالحين ، كما أوحى إلى لقمان عليه السلام ، قوله تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ …} وهذه هي الاية الثانية من الثلاث التي قلنا إنها تنوه بمعاني الحكمة . فإيحاء الحكمة لرسول الله محمّد (ص) وإيتاؤها لولي الله لقمان بمعنى واحد ، وهو نوع من أنواع الإيحاء .

        يبقى أن نقول،وهو الأهم،إن الله سبحانه إذا كان آتى أو أوحى إلى لقمان، وهو عبد صالح من عباده أو ولي من أوليائه أفلا يعني هذا أنه يوحي لأمثاله الحكمة حين يشاء سبحانه ، قبل محمّد وبعده (ص) ولو كان خاتم النبيين ، حسب المفهوم السائد ، فهو (ص) ليس خاتم أولياء الله وعباده الصالحين ، الذين قد يوحي الله إليهم الحكمة وغير الحكمة في كل حين .

        أما الآية الثالثة فهي قوله عزّ شأنه : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ } .  [ 5 : القمر ] . ومعنى بالغة هنا،أي واصلة إلى هدفها،نافذة لا محالة،وما هي هذه الحكمة النافذة والواصلة إلى هدفها،لا يمكن أن يحول بينها وبين ذلك حائل ، ولا يعجزها معجز،ولا يمنعها مانع ؟ هي قوله سبحانه{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ } فانشقاق القمر،وهو شرط من أشراط الساعة وقع وحصل،ثم اقتراب الساعة وقيامها بعد تكامل أشراطها بغتة:{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ }.[18 : محمّد].تلك هي الحكمة المقصودة ، هنا ، أو الأمر الذي أحكمه الله سبحانه بأبعاده في أعماق الغيب ومجالات الشهادة ، وهي حكمة مبنية من الجملة ، وخاصة الحكمة العامة المطلقة ، التي منها يؤتي عباده ما يشاء،كما يؤتيهم من علمه ما يشاء :{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء … } .

        أما الآيات التي بين قوله تعالى : { اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ … } وقوله : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ … } ففيها إنذارات وتقريع للذين لا يصدقون بشرط الإنشقاق القمري الذي حصل ، رغم رؤيته(1) من قبل الألوف من الناس،ولو كان أكثرهم فسَّره على غير حقيقته،وهذه الآيات هي قوله سبحانه:{ وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ . وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ . وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } وفيها أنهم رغم تكذيبهم بهذا الشرط من أشراط الساعة ، وتكذيبهم حتى بالساعة نفسها،فإن ذلك لن يغير شيئاً من حكمة الله هذه الخاصة،أو حكمته العامة،فـ { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ }.[7 : الحج] .وهذا في معنى قوله سبحانه ، في تلك من آيات القمر : { وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } . أما التعليم بدون معلم فقد يكون إيحاءً إلقاءً إلى المتعلم وقد يكون عن طريق الملائكة،رسلاً ومكلفين،كراماً بررة{لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}.[6 : التحريم].ومن أمثلته القرآنية : قوله تعالى :

ـــــــــــــــــــــــــــ

(1)     انظر  كتاب ( العقل الإسلامي ـ باب أشراط الساعة ) .

       { وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ … إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا . فَأَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ … . ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ … . ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا . حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ … . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ … . آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا . فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا . قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي …}.[83 ـ 98 : الكهف].

        قوله :{ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} تلخيص لجملة تعاليم بين عسكرية وهندسية ، وتربوية وجهادية وغير ذلك من الأعمال والمعاني التي  تتحرك ضمن نشاطين إلى هدف واحد.أما النشاط الأول فهو الدعوة إلى الله وأما الثاني فالجهاد في سبيل الله، وأما الهدف فهو التوحيد . وكل ذلك ضمن تعاليم كانت من بداية نشاطاته هذه تواكبه تعليماً من الله سبحانه وعناية ورعاية ورقابة وحسابا . وما يجب قوله  هنا ، أن الرجل هذا لم يذكر الله سبحانه له رسالة ، ليكون رسولاً ولم يخبر بنبوته إذا كان نبياً ، وحيث أنه لم يذكر لا هذا ولا ذاك ، فمن حقنا أن نعتبره في عداد القادة العسكريين العالميين ، الذين يوحي الله إليهم ، بأن يعلمهم بدون معلم ويهديهم ويوجههم  ويؤيدهم بقوة من لدنه وهو وحده القوي العزيز . وما دام أن هذا الأمر حصل في مرحلة تاريخية ضاربة في أعماق الماضي ، بدلالة خلاف المفسرين حول تاريخ الرجل وهويته ، وحتى عين كل جهة أمَّها وحتى مكان ذلك السدِّ العلمي العملي وكذلك الأقوام وأسماؤهم ومستوياتهم الحضارية . فبديهي جداً أن يتكرر مثل هذا التعليم وهذا التأييد من الله لرجال يختارهم سبحانه موحدين مخلصين لوحدانيته عزّ شأنه ولطاعته ، وذلك في طول التاريخ وعرضه تحت هذه القبة السماوية الرائعة بجمالها وفخامتها ، الداعية لشكر الله ووحدانيته ، المسبحة بحمده ، إلى أن يوحي الله إلى الأرض بأن تزلزل زلزالها الكبير والأخير .

        ومن الأمثلة القرآنية كذلك عن تعليم الله عزّ وجل لمن يشاء من عباده دون معلم غيره ، قصة الرجل الصالح صاحب موسى عليهما السلام.قال سبحانه:

       { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ … . فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا . قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا . قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً}.[ 60 ـ 68 : الكهف].

        هذا رجل ، لم يسمِّه الله سبحانه ،رسولاً ولا نبياً ، وإنما  قال : { عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } وكونه عبداً من عباد الله ، فهذا أمر يشترك فيه جميع الناس بدون استثناء،العربي والأعجمي،والأسود والأبيض ،والجاهل والمتعلم.إلاَّ أن ميزة هذا الرجل ، التي ميزته في بعض الوجوه ، حتى على نبي الله ورسوله موسى عليه السلام،وهو من الأنبياء أولي العزم ، وأكثر من ذكر اسمه وقصصه في القرآن الكريم ، هذه الميزة هي قول الله تعالى : { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا } أما كيف علمه الله سبحانه هذا العلم ، الذي بموجبه قال ذاك الرجل العالم قولته الشهيرة لنبي الله ورسوله موسى عليه السلام {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا…} ،فلقد قلنا إن السؤال عن الكيفية  ممنوع، وهو ممنوع لأنه محال ، ولأن الخابط فيه هالك . وكل ما يمكن أن نقوله في هذا العلم ، هو أن نسميه ،كما هو متعارف ، العلم اللدني ، وذلك اعتماداً على قوله سبحانه :{وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا} ،واعتماداً على نفس هذه الآية كذلك أسمينا هذا الإنسان “الرجل العالم “والمفارقة هي هنا : أن العادة المألوفة عند الناس ، هي أن الله سبحانه يبعث الأنبياء ويرسل الرسل معلمين ومرشدين للناس كافة . فلماذا انقلبت هذ القضية هنا ليصبح إنسان عادي ، هو عبد من عباد الله ، معلماً، لكبير في الأنبياء والرسل ، كان من جملة ميزاته الكبيرة كذلك ، أن كلمه الله تكليما . أما الجواب ففي قوله تبارك وتعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالـَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } . [ 68 : القصص ] .

وقوله سبحانه :{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ }.[6 : فصلت].وفي قوله جلَّت عظمته :{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ } . [41 ـ 43 :العنكبوت].

        وخلاصة القول ، مما رأينا في بحثنا هذا ، أن وحي الله سبحانه وتعالى ، لم ينقطع ولن ينقطع عن خلقه على هذا الكوكب الأرضي،وتحت هذه القبة السماوية،والناس،عباد الله،على درجاتهم ، في جملة هذا الخلق ، شـاؤوا أم أبوا . يتلقى الكثير منهم وحي الله ، نساءً ورجالاً ، وربما أطفالاً ، وبمختلف أنواع وحيه سبحانه ، يتلقونه ، خيراً من عند الله وبركات ورحمة وفضلاً . وأكثرهم لا يعلم أن هذا وحياً من الله سبحانه .وأكثر من ذلك فهم لا يتجرأون على تسميته وحياً بسبب البُعد عن التوحيد ومعانيه أولاً ، ثم البُعد عن كتاب الله ، القرآن الكريم ، وتدبره ثانياً ، ثم أخيراً وليس آخراً ، بسبب التعليم القصير النظر،والمتوارث غالباً عن العوام أو عمن هم  بمنزلة العوام ، من الذين نظروا ، وجعلوا كثيراً من الناس، ينظرون إلى الأنبياء والرسل والأئمة والأولياء وكأنهم آلهة ، يقدمون ذكرهم غالباً على ذكر الله،وأحياناً،يدعونهم ويسألونهم حاجاتهم ،مثل الرزق،والعافية والنصر على الأعداء،والفرج من الضيق،وغير ذلك،مما يحرم أن يدعى به غير الله سبحانه وتعالى عما يشركون .

        ثم إن الله عزّ وجل ، ما أوكل تدبير أمور الناس ومعاشهم ، من تحصيل علم،أو رزق أو قوة في بدن ، أو شجاعة في قلب،أو شفاء من مرض ، أو ضرب في أرض إلخ …ما أوكل ذلك إلى الأنبياء والرسل أو الأئمة أو أولياء الله الصالحين في حياتهم ،فما كان ولا واحد مسؤولاً عن إدخال العلم في رؤوس أو قلوب جميع معاصريه ممن آمن له أو لم يؤمن له ، ولا عن إعالة العائل ، ولا رزق الفقير ، ولا نفخ الشجاعة في الجبان ولا منح القوة للضعيف ولا شفاء جميع المرضى،ولا تيسير أمر المسافر ، ولا رده من سفره سالماً آمناً . ولا إدخال السكينة  في قلوب المؤمنين ولا قذف الرعب في قلوب الكافرين ، ولا النصر على الأعداء ، ولا استجابة الدعاء .ولو كان الأمر موكولاً إليهم ، لما كان موسى عليه السلام ، هرب من ملاحقة فرعون ” خائفاً يترقب ” إلى مدين . ولما كان عيسى عليه السلام عانى من اليهود الأمرين : التكذيب والأذى الشديد ، إلى أن انتهى به الأمر محكوماً عليه بالموت مصلوباً على خشبة،لولا عناية الله به وحفظه منهم ورفعه إليه سبحانه:{وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ } .[ 157 : النساء ] .ولما كان محمّد (ص) هاجر من مكة متخفياً ، بعد أن كان هجَّر فريقاً ممن آمنوا معه في بداية الدعوة إلى الحبشة ولما كان قتل عمه الحمزة أسد الله الذي كان منه بالمنـزلة المعلومة ، في أُحد ، ومثِّل بوحشية الكفر الأسود ، ولا كان في نفس الوقعة هذه الشهيرة ، هزم وجيشه وقتل منهم الأبطال الصناديد بعد أن كانت المعركة لمصلحتهم في بدايتها، ولما كان ناله من أهل الشرك الأذى المباشر آنذاك إذ أصيب  بحجر كسر رباعيته الشريفة . ولما كان علي بن أبي طالب ، وهو في سدة الخلافة ، أميراً للمؤمنين ، عانى ما عانى من والٍ من الولاة ، هو معاوية بن أبي سفيان ، حتى خاض معارك دامية ، معه ، تداخلت فيها الأحداث والبلاءات والتقارير ، وانقسام الأمة الذي ما زالت بصماته في أعماق الناس مؤلمة موجعة ، وبالنتيجة استشهد الخليفة الحق ، وحكم الوالي ، وجعل حكومة الإسلام وراثية من بعده ، خارجاً على القرآن وعلى سنّة رسول الله (ص) ،كذلك لوكان الأمر موكولاً إلى الأنبياء والرسل والأئمة والأولياء الصالحين  لما كان الحسين عليه السلام وهو آنذاك وحده ، في الرجال ، إرث الدوحة المحمدية المباركة ، لما كان قتل وذبح هو وجميع من كان معه من الرجال من أهل بيته وأصحابه ، في وقعة كربلاء ، بأمر من يزيد بن معاوية، الذي كفرته الأمة قاطبة ، ومات أو قتل شاباً في ظروف لم يعلم أحد إلى الآن حقيقتها وأسرارها .

        ولو أردنا أن نعدد أموراً ، لم يكن الأنبياء ولا الأئمة ولا الأولياء قادرين على تحويلها لمصالح أقوامهم أو حتى ما يرجونه ، ظاهراً ، لأنفسهم ، لذكرنا  منها

المئات بل الألوف . وكان القادر وما زال وسيبقى قادراً على تحويلها ، بل وعلى خلقها والإحاطة بها واستبطان أسرارها والحكمة منها ، هـو الله وحـده ، بدون مساعد ولا ظهير ، ولا شريك ، ولا مفوض عنه سبحانه ، في جميع ما ذكرنا وما لم نذكره من مسائل المعاش والمعاد . سواء كانت الأمور متعلقة بالإنسان الفرد ، أم المجتمع الصغير ، أو بالشعوب ومصائر الأمم . وهو سبحانه وضع لكل ذلك قوانين  ونواميس ، للأفراد والجماعات ، من عمل بها نجا ومن تخلى عنها هـلك :

{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } وفوق  هذه القوانين والنواميس نشر ملائكته ، على إختلاف درجاتهم وقدراتهم ، في هذا الكون ،  يصدعون بأمره عزَّت عظمته ، ومن جملة هذا الكون ، هذه الأرض ، التي عليها نحن البشر وغيرنا مما خلق سبحانه تحت هذه السماء . وفوق جميع هذا الخلق في السماوات والأرض ، الله ، الخالق ، الرازق ، الناصر ،  الملك القدوس السلام  المؤمن المهيمن  العزيز الجبار المتكبر . سبحان الله عما يشركون . { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } .[ 5 : السجدة ] . { اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } .[ 255 : البقرة ].

ويكفي لمن يتأمل ويتدبر آية الكرسي هذه ، ليعلم من هو الحاكم الفعلي لهذا الكون وما فيه ومن فيه ، ناهيك بكتاب الله كله ، الذي فيه كلامه سبحانه ، وكتاب الله الذي فيه كافة آياته وصنوف خلقه ، عنيت هذا الكون العظيم .

        أما أنه سبحانه لماذا لا يقتل الظالم ساعة ظلمه ، ولماذا لا يرزق الفقير أيام فقره ، ولماذا لا يشفي المريض حين مرضه ، ولماذا لا ينصر أهل الحق على الباطل كل يوم ومنذ أن خلق هذه الأرض وخلق عليها هذا الخلق ؟ وأكثر من هذا التساؤل ، لماذا الظلم في الأرض ولماذا الفقر والمرض والموت  والحزن  إلى آخر المسائل  التي نغصت وما زالت تنغص حياة الإنسان على هذه الكرة الأرضية ؟

        فأولاً ، لأن هذه الأرض أرادها الله سبحانه ، داراً  للتنافس على طاعته ، يصار معها إلى التكامل الإنساني ، فالكمال الإنساني ، ثم ثواب ذلك في دار غيرها أرحب وأجمل بدرجات عالية،وأحلى ما فيها أنها ليس فيها منغصات ،وإنما فيها سعادات،منها المنقطع ،ليتجدد، ومنها ما لا ينقطع ، وتلك التي هي للذين يختارون الله ، يعظمونه لأنه أهلٌ للعظمة ، ويعبدونه لأنه أهلٌ للعبادة ، ويحبونه الحب كله ، لأنه أهلٌ للحب كله .

        وثانياً ،بالإمكان،تطييب الأرض بأفضل مما هي عليه، والترقي في الحضارات بما يضيِّق كثيراً من مساحات الظلم والفقر والمرض ، وجبروت الجبارين ، وطغيان الطغاة ، ولصوصية اللصوص الإقليميين والدوليين والعالميين ، وأن يُنصر الحق على الباطل وهذا كله ، حقيقة ، هو بأيدي الناس وباختيارهم ، فإذا استصعب أو تعقد على صعيد الدول والطغيان العالمي ،فهو سهل وميسور على الأفراد { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }.[ 14 : الفجر ].{ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }.[ 8 : الزلزلة ].وهو سبحانه ذكر الخطوط العريضة ، لتربية الإنسان بالعقوبة الرادعة،وللغاية من امتحانه على الأرض وما يجب عليه من الإعتقاد والعمل ،ثم ما يترتب على ذلك كله ، إن سلباً فسلباً ، وإن إيجاباً فإيجاباً ، وذلك في قوله تبارك وتعالى :

       { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى }. [ 123 ـ 126 :طه ].

        ولقد ذكرنا في باب ( مفهوم الولاية ) من هذا الكتاب ، الوجوب الشرعي  لإقامة دولة تحكم بما أنزل الله ، ففي هذه الدولة ، كما رأينا في دولة محمّد (ص) التي أسسها وحكمت ردحاً لا يستهان به من الزمن،استطاع فيها الناس أن ينتقلوا بسرعة غير عادية،من جاهليات جهلاء،يسحق فيها الضعفاء والفقراء لحساب الظلمة والجبابرة،وأن يبنوا على أنقاض ذلك الليل الموحش الدامس، فجر  حضارة،لا نقول بلغت ضحاها،لأنها كذلك سرعان ما انحرفت عن التعاليم الإلهية ، وانجذبت إلى بهارج الدنيا وضاعت في متاهات الملك العقيم.إنما بقيت دولة الشرع وستبقى إلى آخر الدهر ، هي النموذج الصالح ، الذي ما زالت تبنى عليه بين الحين والحين ،من أحيان الزمان دولة هنا ودولة هناك ، تبقى في تاريخ الماضي والحاضر ، منائر،للمسحوقين بفحشاء الحضارة العربيدة،وفلتانها من التعاليم الإلهية ، يحلمون بمثل دولة محمّد (ص) ، التي ما حكم فيها إلاَّ بما أنزل الله ، ويعملون على تحقيق حلمهم ،لا لأجل أن يستمتعوا هم بثمراتها ،وإنما ليحققوا ذلك للناس الذين يأتون بعدهم ، فتلك مسؤولية دينية أخلاقية ، من فعلها فأجره على الله ، ومن لم يفعلها، فعسى ألاَّ يكون من خرس الشياطين .

        وبديهي أننا لا ننزع ،كما يتخيل البعض،إلى استرجاع الجمل والناقة، لنقيمهما مكان الكمبيوتر والمركبات الفضائية ، وما أضيق أفق من يظنون في الإسلام ، وفي تعاليم الله هذا الظن وهذا الجمود . فدين الله أوسع وأرحب من أفكار وظنون الذين يتعاملون مع غير الله . مشكلاتهم وعقدهم ، ستبقى عقيمة ، إذا هم تخلوا عن تعاليمه سبحانه وتعالى عما يشركون .وهي سرعان ما تحل ، ويصلح الله بالهم وأحوالهم ،إذا عملوا بطاعته ،وتوجهوا إليه بعقولهم وقلوبهم ، بدون تأليه لأحد من خلقه،الأموات والأحياء،وكذلك بدون تأليه لأية قوة في الأرض أو في السماء أو الإعتماد عليها من دونه عزَّت عظمته ، فـ { أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً } [ 165 : البقرة ] .

        وما دام كرم الله لا يحد ،ورحمته وسعت كل شيء،وما دام الوحي حق وحقيقة لم ينقطعا ولن ينقطعا عن الناس.أفليس من العجز وقصر النظر وركاكة الفكر،وهزال الشخصية،أن يكون القرار، هو الركوع لطاغوت بشري أو مجموعة طواغيت،فقط لأن عندهم لقيمات مدنسة بالخطايا مغمسة بدماء المقهورين ودموع الأرامل والأيتام.كل ذلك وربهم الله،رب العزَّة والجبروت،والرحمة والمغفرة، حاضر ناظر،يجيب دعوة الداعي إذا دعاه،ويكشف السوء،قوله تبارك وتعالى:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ }.[ 62 : النمل ]. ثم أي عشوائية يتخبط فيها الأخلاقيون ،والفلاسفة وهم يدركون حقيقة هيمنته سبحانه،وحقيقة حاكميته فضلاً عن حضوره القوي الدامغ،ومع ذلك هم يجبنون عن التصريح بلزوم الرجوع إليه سبحانه في قضايا السياسة،والإحتكام لشريعته في قضايا الإقتصاد (يعني:الرزق) والإجتماع وشتى أمور الحياة والحضارة.ونحن هنا ذكرنا الأخلاقيين والفلاسفة ولم نذكر عامة الناس،لأنهم غالباً هم تبع لأهل الفكر،أما الرعاع فينعقون مع كل ناعق ويميلون مع كل ريح ، وهم أشد عمىً،وأبلغ تشريكاً وبُعداً عن فهم الألوهة وفهم التوحيد،وأكثر المتدينين منهم على استعداد أن يركعوا ويصلوا ويدعوا أي نبي أو إمام  أو ولي من أولياء الله،ظانين به الألوهة أو القدرة المطلقة أو القيومية على الكائنات.هذا كله وفي كتاب الله المجيد،كلام عربي واضح لا يحتاج إلى كبير جهدٍ ولا حتى إلى قليل جهد،لفهمه الظاهري المقنع المشبع فضلاً عن فهم أبعاده وأعماقه،كلام عن الله تبارك وتعالى وعزَّت عظمته،وظهر سلطانه،وبهر نوره الخفافيش،خفافيش الناس، الذين كرمهم الله،أصلاً،فرفضوا هذه الكرامة وصموا وعموا ثم صموا وعموا، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين:قوله لا إله إلاَّ هو:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ…هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ …هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ …يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.[1 ـ 4:الحديد ] .

        لا كيف ولا أين ولا متى. يسقط الزمان،وتسقط الأسئلة،وتفنى الوسائط والوسائل،فـ{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ.وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [26 ـ 27 :الرحمن].ومع ذلك، مع غناه المطلق عن جميع خلقه،يجب أن نتكلم عن بعض التكاليف التي أمر سبحانه بعض ملائكته بالقيام بها تعزيزاً لهذا الإنسان ، الذي أسجد له يوماً ما ملائكته البررة،وأراد له إن هو آمن وأطاع وكان أهلاً لتكريم الله له،أن يصير بمستوى الملائكة أو أعلى مقاماً.أما وجوب هذا الكلام،فلأنه استكمال لموضوع الوحي الذي نحن بصدده ، والله ولي التوفيق وهو وحده المستعان ، تبارك وتعالى عما يصفون .

الناس والملائكة :

        إستناداً للقرآن الكريم كضابط لجميع المفاهيم التي تدور حول الملائكة ،  وكذلك إلى الحقائق العملية المعاشة ، ممارسة وإستنتاجاً ، فقد تبين أن الكثرة من القوى الفاعلة الخفية التي خلقها الله في عالمنا ، تقوم بأدوارها الكبيرة والمهمة جداً دون أن يحس بها الناس أو أن يتنبهوا إلى مدى فاعلياتها ، وقد يكون الله مستقطباً بها حركاتهم وسكناتهم ، كما ومستقطباً بها الكون المرئي والمعروف كله . ومثال على ذلك ما اتفق الناس على تسميته بالجاذبية ، ومعروف أنها على أرضنا تجذب الأجسام الوازنة  إلى مركز الأرض بنسب حسابية علمية دقيقة ، وكذلك الجاذبية الكونية  التي على أساسها ترتفع السموات ، وتقوم الشموس والأقمار والكواكب بوظائفها المدهشة سابحة في هذا الكون الذي ما زالت تكتنفه الأسرار الجميلة والمخيفة ، وذلك حسب زاوية النظر الإنساني . ومن ذلك قوة الدفع المائي من أسفل إلى أعلى ، والمبنية كذلك على أساس علمي  دقيق ، تعلقاً بأوزان الأشياء المغطسة في الماء وأحجامها فضلاً عن مداخلة الحركة والفارق بينها وبين مثلها قريباً من الأرض أو بعيداً عنها ، في كلا القوتين المتعاكستين : الدفع المائي والجاذبية . ومن هذه القوانين أو القوى الفاعلة الخفية ، الطاقة المحركة لكثير من الأجهزة والتي عليها بنيت حضارة التكنولوجيا الحالية . وجميـع هذه القوى ، كما هو معلوم ، غير مرئية ، وأكثر من ذلك ، فإن كثيراً منها لا نكاد نحسه ، حتى ولو حاولنا تحسسه أو استشعاره ، حتى أن بعضنا إذا لم يكن قادراً على إجراء تجارب علمية على الجاذبية الأرضية ، فإنه لا يصدق بها ، ما دام لا يحسها لا في قيامه ولا قعوده ، ولا يقظته ولا نومه . وبديهي أن هذه القوى موجودة وفاعلة ، ولو كذب بها جميع الناس كما كان الحال مثلاً في القرون الماضية .

        أما ما يهمنا من هذه المقدمة الوجيزة ، هو أن الله عزّ وجل خلق في جملة هذا الخلق ، الملائكة ، وجعلهم  قوى عاقلة وفاعلة ، وجعل أعدادهم ، تتجاوز  كثيراً عدد البشر ، وكذلك  جعلهم قوى غير مرئية ولا محسوسة ، فإن الجاذبية إذن ، والدفع المائي وغاز الأوكسجين وغيره ، والطاقة بشتى أنواعها ودرجاتها ، وغير ذلك من القوى الفاعلة غير المرئية ، هي مخلوقات لله سبحانه ، خلقها وسخرها لمشيئته صادعة بأمره ، كذلك الملائكة وهم خلق أرقى وأسمى وأفضل ، هم عباد لله مكرمون ، يأتمرون  بأمره ، ويسبحون بحمده ، ناشطين دائبين لا يسأمون . وهم كما سنرى من بعض الآيات القرآنية ، خلق نوراني من النوع الشفاف ، الذي لا يستطيع الإنسان العادي رؤيته لا في ليل ولا نهار ، إلاَّ إذا تمثل بإنسان أو بطير أو بغير ذلك .

        والإيمان بالملائكة فريضة ، كالإيمان  بالكتاب والآخرة ، والبعث والحساب  إلخ … قال الله عزّ وجل :{لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ } .[ 177 : البقرة ] .

        والله عزّ وجلّ ، مدح في الملائكة سجاياهم ، وإخلاصهم ، وتفانيهم في طاعته سبحانه في أكثر من آية ، فقال فيهم  مثلاً { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } وقال{ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ } وقال له الحمد : { وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ …وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }. [ 13 : الرعد ] . ومعلوم أن خشية الله ومخافته من الصفات التي مدح الله بها خاصة عباده ، قال سبحانه : {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء } .

        أما كيف يجب أن ينظر الإنسان إليهم ، وما ينبغي أن يعتقده بهم ، فهو كما أخبر سبحانه عنهم { عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ }  { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } يسبحون بحمد الله لا يسأمون ، ويخافونه ، ويتفانون في طاعته . وربما  نظر إليهم بعض الناس في الحاضر كما في الماضي ، نظرة تعبدية ، فوقعوا في الشرك الذي لا يغتفر . وقد حذَّر سبحانه من ذلك ، في جملة ما حذَّر منه في قوله تبارك وتعالى عما يشركون :

       { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ …وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}. [79 ـ 80 : آل عمران ] .

        ربانيين ،نسبة إلى الرب الذي هو الله رب العالمين، فمهمة الأنبياء هي دعوة الناس إلى الله ، وإلى توحيد الله ، وإلى طاعة الله ، وحده بدون شريك ، فإنه لا  إله إلاَّ الله .وقوله سبحانه :{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ } أي لا يحق لبشر أن يؤتيه الله النبوة أو أن يبعث به رسولاً إلى الناس ثم يقول للناس اعبدوني من دون الله ، وعلى افتراض أنه فعل،فـ { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }، قال تعالى:{ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ . لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } والوتين هو الشريان الرئيسي الذي يغذي الجسم بالدم النقي الخارج من القلب. كذلك الملائكة هم دعاة إلى الله ، إذا كلفهم الله بذلك ، وهم رسل إذا جعلهم الله كذلك،وإلاَّ فلهم وظائف ومهمات هم مخلوقون لها،متلبسون بها،بخلاف الإنسان المخير في معظم شؤونه،والذي قد يعصي الله سبحانه،وطالما عصاه مختاراً، يعمى عن الحق ويتسافل إلى الباطل .فالملائكة ليسوا كذلك،هم لا يعصون الله عزّ وجل طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكثر،وقد قال فيهم سبحانه:{عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ  وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ }.[6:التحريم].عليها أو على جهنم،لا يعصون الله إطلاقاً وينفذون ما يؤمرون به،وقد ذكر مدى هذه الطاعة لهذا الصنف من الملائكة،وهو سبحانه يعني جميع بقية الأصناف،ولكنه هنا خصص،بمعنى أنه إذا كان هؤلاء وهم خزنة النار،والبديهي في خلقه لهم أن يكونوا الأقوى والأعتى والأشد قسوة،وقد وصفهم هو سبحانه بالغلظة والشدة،ومع كل هذه الصفات الجافية التي هي لهم،مع كل ذلك،هم لا يعصونه طرفة عين ولا أقل ولا أكثر ـ لإطلاق قوله سبحانه:{لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ}ـ وينفذون بدقة كل ما به يؤمرون ـ كذلك لإطلاق القول وتضمينه معنى أدق التفاصيل،فيما يأمر به ويريده سبحانه لا إله إلاَّ هو العزيز الحكيم .فإذا كان هذا الصنف من الملائكة ، مدى طاعتهم لله عزّ شأنه هو كذلك ، فمن الطبيعي والبديهي أن تكون بقية الأصناف ، الأقل غلظة ، أو التي لا غلظة  فيها أو التي هي رسل لطفه وعنايته ورعايته ، ورحمته وحبه ، بنفس الطاعة  ، ولا نقول أطوع ، لأن آية { لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَآ أَمَرَهُمْ  وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } ليس  فيها ما يشعر بأن هناك أطوع وأحرص على التنفيذ ، مما تضمنت كلماتها ومعانيها الكريمة .

        ويظهر بقوة ، من تدبر آيات الله والتأمل العلمي في خلقه ، أنه هو سبحانه قد أبى أن تتم الأمور إلاَّ بأسبابها ، وأنه هو سبحانه خالق ومسبب هذه الأسباب . ونحن بعونه وبإذنه تعالى سنستعرض بعض وجوه حكمته سبحانه في خلقه الملائكة ، من خلال مواكبتهم وعلاقاتهم بالإنسان ، في مراحل حياته ومماته وبعثه وحسابه وجنته أو ناره ، حيث هم لا يعملون ولا يتحركون ولا يؤثرون إلاَّ بأمر الله وبإذنه سبحانه ، وذلك كما سنرى إن شاء الله من خلال آياته البينات .

        أما معنى الأسباب على ما جاء في ( اللسان ) : فالسبب : كل شيء يُتَوَصَّلُ به إلى غيره ، وفي نسخـة : كل شيء يُتَوَسَّل به إلى غيره ، وقد تسبب إليه ، والجمع أسباب ، وكل شيء يُتوصل به إلى الشيء ، فهو سبب . وجعلت فلاناً لي سبباً إلى فلان في حاجتي وَوَدَجاً أي وُصْلَةً وذريعة .

        فكما جعل الله سبحانه أسباباً لحفظ السماوات والأرض هي أصناف الجاذبية ، حيث الأرض تسبح في مدار محدَّد هو الثالث حول الشمس بعد الزهرة وعطارد ، وذلك بسبب التجاذب بينها وبين الشمس من جهة وبين بقية الكواكب من جهات . ونفس الشيء يقال عن بقية الكواكب وأقمارها ، وبقية مليارات الشموس في مجراتها ، والمجرات في مساراتها ، مما لو حاول الإنسان تتبع نشاط وحركات كوكب واحد ضمن مجموعته متعلقة حركاته بحركاتها ، لأصابته الدوخة، وفرَّ ساجداً لله يسبحه بعقله وقلبه ولب عظامه . وكما حفظ سبحانه السفن التي كالجبال في البحار بقوة الدفع المائي الذي استخرج سرَّه العالم أرخميدس هكذا : كل جسم يغطس في الماء يتلقى دفعاً عمودياً من أسفل إلى أعلى يساوي وزن الماء الذي حل محله هذا الجسم . إلى آخر ما خلق الله سبحانه من الأسبـاب

العلمية الظاهرة والخفية لحفظ هذا الكون وتماسكه جملة وتفصيلاً . كذلك هو سبحانه خلق الملائكة من جملة الأسباب والوشائج والوسائط التي يدبر ويدير بها ملكه اللانهائي ومملكته  هذه الجميلة الكريمة الرائعة التي بغير حدود . وفي جملة هذا الملك وهذه المملكة ، هذا الإنسان الذي كرمه الله الحبيب وسخر له ما في السماوات وما في الأرض  جميعاً منه ، وذلك في قوله له الحمد : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } .[ 70 : الإسراء ]. وقوله سبحانه : { اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } . [ 12 ـ 13 : الجاثية ].

        هذا الإنسان ، كذلك ، خلقه الله وحفظه ، ويسّره وبصّره ، حتى وخيَّره بالأسباب ، من كلمة كن ، ( التي هي إرادة الله سبحانه ، وليست هي أحرف ولا لفظ ولا صوت ولا استغراق زمان ) ، إلى التراب إلى النطفة إلى الطفل الذي منذ جنينيته إلى ولادته إلى وفاته ، يرعاه ويحفظه  حسب أسرار الغيب والمشيئة ، بأعداد من الملائكة ، متنوعة ومحسوبة مهامهم وهو سبحانه فوق كل ذلك الرقيبُ والحاكم والمسيطر والمهيمن .

أولاً : قوله تبارك وتعالى :

       { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } . [ 11 : الرعد ] .

                فكلمة ( يحفظونه ) في الآية ، تدل على الجمع ، وعلى يقينية أنهم أكثر من إثنين ، وعبارة  من بين يديه ومن خلفه ، تعني الإحاطة به ، في أي جهة تحرك ، واعياً أو غير واعٍ ومن أي جهة أُتي إليه ، فله من المعقبات ما يتعقبه ويحفظه بأمر من الله سبحانه وله الحمد . إلاَّ إذا غيّر الإنسان ما في نفسه متحولاً من إيجابية مع ربه الحبيب إلى سلبية ، فحسب درجات تحوُّله  يكون تحول العناية والحفظ عنه، فرداً كان أو جمعاً . { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }  فالمعقبات هؤلاء ، كجميع الملائكة الآخرين مؤتمرون بأمره عزّ وجل ، ودرجة  اهتمامهم  بمن يؤمرون بحفظه ، كدرجة اهتمامه بربه ، ونسبة ولائه له سبحانه ، فإذا كان ولاؤه لغير الله من دون الله ، سقط ، ولذلك كان آخر تنويه في الآية الكريمة هذه : { وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } .

ثانياً : قوله لا إلـه إلاًّ هو :

       { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } . [ 17 ـ 18 : ق ] .

        الآية هي خبر عن الملكين المرافقين للإنسان أحدهما عن يمينه يكتب صالحاته، والآخر عن شماله يكتب سيئاته ، وهذا التلقي هو جملة ما يتلقاه المتلقيان عن الإنسان المعهود إليهما بكتابة أعماله .

        هذا هو التفسير المتعارف عند المفسرين بشكل عام .

        أما الحقيقة ، فتوقف قليل عند عبارة { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } ثم الرجوع إلى ما قبلها مباشرة وهو قوله سبحانه : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ … } فهذا  الكلام المقدس ، يشعر أن التلقي الأوَّلي ، هو من الله سبحانه ، فالملكان يتلقيان من عزته الأوامر والنواهي ، والآية في رأس ما يقصد منها هو قرب الله إلى الإنسان واستبطانه وإحاطته به ، وكذلك بالملكين المكلفين برقابة هذا الإنسان ، إذ يوحي الله إليهما ما يشاء بخصوص هذا الإنسان ويبدو، بقوة ، أن تكاليفهما هي أكثر من مجرد الكتابة ، كتابة الأعمـال . وأقل ما يقال ، في بقية  هذه التكاليف ، هو إشعار الإنسان ، ودائماً بأمر من الله ، بخطئه إذا أخطأ ، فيدخلان عليه الشعور بالحرج ، وإذا أصاب ، يدخلان عليه شعوراً ، عادة يسمى راحة الضمير ، ويتأكد هذا الأمر ، عند الصديقين والأصفياء من عباد الله الصالحين ، وكلما ازدادت نسبة الصفاء والصدق في التوحيد ، كلما ازدادت نسبة اليقين ليس فقط ،  بهذين

النوعين من الشعور ، وإنما كذلك بتوجيه صاحب العلاقة ، بأحاسيس داخلية تقوى وتشتد أو تضعف وتنعدم ، حسب درجة القرب من الله عزّ وجل والإنشغال بذكره ، أو البُعد عنه والإنشغال بسواه .

        أما القول بأن قوله تعالى { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ } يعني من الإنسان ، فهذا تقييد وتوجيه لقوله تعالى بدون مبرر ، بلى ، يضاف إلى أولوية التلقي من الله ، التلقي من الإنسان ، وقد تغني عن ذلك ، عبارة { مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، أي رقيب حاضر ، إذ تكفي لأخذ العلم بأن الملكين إنما يسجلان كل قول ، إضافة إلى الرقابة العامة ، على الإنسان ، وكل ذلك ضمن هيمنة الله سبحانه وإحاطته بالإنسان وملائكته ورقابته لهما ، لدرجة أنه سبحانه ، إذا أراد أن لا تكتب سيئة في صحيفة إنسان يحبه ، حجب السيئة عن الملائكة ، فما استطاعوا لها إدراكاً ولا تسجيلا .

        أما عن الشؤون الحياتية للإنسان المؤمن ، وعن رعايته في أدق مشاعره النفسيـة وأحاسيسه البدنية ، فإن الولاية العامـة في ذلك ، لله سبحانه وتعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } . [ 11: محمّد ].

ويكون ذلك ، إما بملائكته سبحانه ، وإما بأسمائه الحسنى وأسبابه العليا. قال تبارك وتعالى : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } . وذلك رهن بمدى صدق الإنسان ومنـزلته عند رب العالمين ، وبالتالي على اختياره . والآية الكريمة التالية ، تشير إلى الأمرين ، وبطريقة الإعجاز القرآني الذي يستحيل أن يجارى ، قوله تبارك وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } . [ 30 ـ 31 : فصلت ] .

        فالخطاب في الآية الكريمة :{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ }

فيه أمران حقيقيان هما نسبة الخطاب إلى الله تعالى ونسبته إلى الملائكة ، والحقيقـة، أن هذين الأمـرين مقصـوران ، على تأويـل أن هـؤلاء المؤمنين المستقيمين ،

 

إذا كانت غايتهم من وراء إيمانهم واستقامتهم ، الدنيا والآخرة ، فالله سبحانـه يوكل بهم ملائكته ، يجلون عنهم : الخوف والحزن ، ويدخلون على أنفسهم البشرى بأنهم من أهل الجنة ، ويشعرونهم بحقيقة أن الله يتولى شؤونهم ويحفظهم ويرعاهم ويدفع عنهم الأسـواء . أما إذا كان الله سبحانه هو الغاية ، وهم يحيون له وبه تعبداً وحباً ، دون  توقف عند زهرة الحياة الدنيا وحتى عند الآخرة ، فالخطاب :{ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } ، هو لهم ، وهو من الله سبحانه ، وليس من الملائكة ، وفي ذلك كما هو واضح ، فارق عظيم ، لا يجوز قياسه . بين أن يتولاهم سبحانـه بأسمائه الحسنى وأسبابه العليا ، وبين أن يوكل بهم عباداً من خلقه ، ولو كانوا مكرمين وبررة . قال سبحانه : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } . وقال له الحمد : { … وَإن تَظَآهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلآهُ وَجِبْرِيلُ وَصَآلِحُ الْمُوْمِنِينَ وَالْمَلآئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ } [ 4 : التحريم ] .

        ومن الآيات التي تساند معاني الآية الكريمة التي نحن بصددها : { إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ …} قوله عزّ وجل : { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ  مَنشُورًا . اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى  بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} .

[ 13 ـ 14 : الإسراء ] .. وقوله عزّ شأنه في حديث عن رسول الله صالح عليه السلام : { قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ اللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}. [ 47 : النمل ] ، وفي كلام صالح هنا تورية ، هو تعمدها ولو كان القوم الذين كذبوه لم يعلموا قصده . وذلك أن الملاك أو الملائكة الذين يكتبون أعمالهم وأقوالهم ، هم والناس جميعاً ، في سلطان الله وتحت سمعه وبصره . ومثل ذلك قول الله تبارك وتعالى ، خبراً عن المرسلين الثلاثة وقومهم : { قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ … قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } . [ 18 ـ 19 : يس ] .

ثالثاً : قوله له الحمد :

       { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُـونَ } . [ 22 : المجادلة ] .

        بحكم الرحم ،والألفة والمعاشرة ،من الطبيعي أن تحصل مودة بين الأرحام ولا سيما منهم الأقربين ،في الأسرة الواحدة ومتفرعاتها القريبة،من أبناء وأحفاد وأعمام وأخوال وأبنائهم،حيث يشكل هذا المجموع ،ما يسمى بالعشيرة.هذه المودة بين الأقربين وبين أفراد العشيرة،لكي تكون مقبولة مباركة عند الله،جعلها سبحانه مشروطة بالإيمان،فالقرابة الحقيقية هي التي تكون بين المؤمنين. فمن أصرَّ على مودة أبيه أو إبنه أو أخيه ،أو عشيرته بعضها أو جميعها، من خرج منهم عن شريعة الله وتعاليمه ،حرمه الله من نعمة الإيمان ومن تأييده بروح منه . ومن وادَّ أحداً من هؤلاء أو جميعهم على شرط الإيمان ، كتب الله الإيمان في قلبه وأيَّده بروح منه …

        وكأنما جعل الله هذا الأمر علامةً على إيمان المؤمن ،أو على حقيقة إيمانه ، فإذا كان لا يوادُّ أباه أو إبنه أو أخاه ، طاعة لله ، بسبب انحرافهم عن الدين ، فتلك علامة ظاهرية على حقيقة إيمانه ، يقابلها ، في باطنه ، تبعاً لإخلاصه لله وللدين الذي أرسل به رسوله ، أن يكتب الله الإيمان في قلبه ، وما يكتبه الله لا يقدر على محوه أحد ، هي كتابة بحروف نورانية لا تنطفىء ولا تخبو . وأكثر من هذا ، فإنه سبحانه يؤيده بروح منه ، هذا الروح ،أولاً،هو زيادة  على أصل العدد المخصص لكل إنسان من الملائكة ،كما رأينا وسنرى إن شاء الله من الآيات ، وثانياً ،إن الأمر المكلف به هذا الروح ،هو أمر عناية ورعاية وتوجيه وتسديد وبركات إضافية من جهة ، ولها صفة الديمومة من جهة ثانية ، باعتبار أن الذي كتب ويكتب في القلب الإيمان ، ويؤيد بهذا الروح ، هو الله جلّ جلاله ، وهذا الروح ، لا شك أنه غير عادي  في الملائكة العاديين ، هو أعلى شأناً ، وأكثر حَمْلاً  من بركات الله وكنوز رحمته .

        هذا في الدنيا : الكتابة في القلب ، والتأييد بروح منه جلّت عظمته ، ويدوم ذلك بفضل الله وكرمه ، حتى يدخل في الآخرة ، مخلَّداً في نعيم أَنْعَمُهُ رضى

الله عنه وإدخاله سبحانه الرضى على قلبه ، مع ذلك الشرف الرفيع : حسبانه في أنصار الله وحزبه ، المفلحين الرابحين الأبرار .

رابعاً : قول الله له الحمد :

       { يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } . [ 2 : النحل ] .

        كأنما الملائكة أنوار علوية ، فوق ما نعرف ونرى من الأنوار ، يوجههم الله سبحانه ، كما يريد وكما يشاء ، بعقول فعَّالة ، يحركها جلَّت قدرته ، في جميع الإتجاهات الباطنية والظاهرية ، بقوى ودرجات مختلفة ، تذكرنا هذه الموجات النورانية المجنحة ، أو الطيور الشفيفة الضوئية اللامرئية إلاَّ لماماً ، تذكرنا ، على ضيق آفاقنا واختراعاتنا الطفولية ، مقارنة بظواهر هذا الكون وأسراره ، وأعماقه وأغواره ، وأنواره السبعين ـ بلغة القرآن الكريم ـ في مقابل ما نعرف من أنوارنا السبعة ، التي لم نخلق منها ولا ذرة ولا ظل ذرة ، تذكرنا بتلك الأداة التي هدانا الله سبحانه لاختراعها ، ندير بها التلفاز ، من بعيد ، بالطاقة ، بموجات نور أرضي،

كذلك هو من خلق الله وصنعه ، ونوجه بها اللاقط والموجة والصوت واللون والجهات … فكيف إذا كانت موجات النور هذه عاقلة ، وبيد الله عزَّ شأنه ، إذا كانت من غير عالمنا الأرضي ، من سماوات أعلى وعوالم أرقى ، يرسلها الله جلَّت عظمته ، تخترق السماوات وتعبر الأجواء ، بأسرع من الضوء ، وأسرع من الأسرع ، حتى يصل إلينا الأسرع الذي لا يجارى ولا يبارى ، الذي تخرس عنده الأرقام والحواسـب ، والأفكار والأحلام والظنون ، ذاك الذي في قول الله سبحانه :

        { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } .

        { (وَاحِدَةٌ ) كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ }  وليس كلمح البصر ، إذ لمح البصر يستغرق وقتاً ، هو قياس زمني ، إنما أمر الله أسرع من ذلك بلا قياس ، هو { وَاحِدَةٌ }  كلمح بالبصر ، يعني ، هو جزء من الثانية ، هل جزء من ألف ، أم من مليون  أم من مليار  أو من مليارات ؟ كذلك  هذا كلام وأسئلة أطفال في مواجهة  علم  الله

وأسرار الله ، أرقى العلوم تبقى في مستوى البهيمية مقارنة مع علم الله المكنون ، وفي جميع الأحوال ، فإن ما عند البشر هو من علم الله سبحانه  { لاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء } . فما هي هذه السرعة  التي قد تجتاز الأكوان  من أقصاها إلى أقصاها ، في { وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } ونذكِّر  كذلك بهذه ( الكاف ) التي في { كَلَمْحٍ }  ، إذ أنها للتشبيه ، واللمح بالبصر المشبَّه به ، غير الحقيقـة  ، فالحقيقة يستحيل على البشر إدراكها ، لذلك شبه لهم الأمر ، بما هو أعلى سرعة عندهم ، سـرعة النور ، التي هي اللمح بالبصر ، أما سرعة أمره سبحانه ، إذا شاء ، حين يشاء ، حيث يشاء ، كيف يشاء … هي أسرع من  جميع ما خلق من السرعات في الكون . فأقصى سرعة عرفها العلم البشري ، هي سرعة الضوء ، وإذا استطاع أن يرصد بالأرقام السرعات التي ما زالت مستعصية في حركات جزئيات الذرة ، فستكون سرعة جديدة أسرع من الضوء ، إنما تبقى سرعة صنف من الملائكة في آية كريمة ـ والملائكة أصناف ودرجات ـ تبدو معها سرعة الضوء المعروفة في علم أهل الأرض كسير السلحفاة في سباقها مع البرق الخاطف . هي في قوله عزّ وجل :

       { تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } . [ 4 : المعارج ] .

        وهذه الخمسون ألف سنة لا بد أن تكون إلكترونية، أي بسرعة الإلكترون حول نواة الذرة . فالمسافة إذن  هي ما بين طرفي الكون ،إذا كان لهذا الكون نهاية يقطعها هذا الصنف من الملائكة في خمسين ألف سنة.وإذا كان العلم قد قرر أن طول بعض المجرات العادية،تحت سمائنا الدنيا هذه،حتى نصل من بدايتها إلى منتهاها، يقتضينا ثلاثمائة مليون سنة ضوئية، أي طيراناً برقياً فوقها بسرعة الضوء. هذا ،مع أن أية مجرة من المجرات الكبيرة ما هي إلاَّ كحبيبة غبار في مملكة رب العالمين وعرشه المجيد .فسرعة الملائكة إذن تقطع الكون كله ،في خمسين ألف سنة ضوئية،وتصبح سرعة الضوء الأرضي عندنا مقارنة معها لا تكاد تذكر.كذلك سرعة هذا الصنف المدهش من الملائكة ، التي  يستحيل رصدها بإمكانات الإنسان وآلياته ومراصده، هذه السرعة الهائلة ،كذلك تصبح قريبة من الصفر النسبي مقارنة مع سرعة أمر الله الذي أخبر عنه في قوله جلَّت عظمته : { وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } والذي نرى آثاره جليَّةً ، في إسقاط دولة هنا ، وهَدْمِ عرشٍ هناك، ونصر عسكر أو عزيمته هنالك .وزلزال في بر وطوفان في بحر ، وانشقاق أوزون في السماء أو انشقاقات ، ومجرات تولد ، ومجرات تغيب ، وعنايات ببشرٍ اهتدوا ، ونقمات على آخرين ضلوا ، إلى آخر ما يتعلق بإدارة هذا الكون العملاق ، وما خلق الله فيه ، ومن جملته هذا الإنسان المغرور بربه أو الفقير إلى رحمة ربه .

        وفي جملة العناية بهذا الإنسان ، مضمون الآية الرابعة عن الإنسان والملائكة:

{ يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ } .

        وهذا كذلك  ، كما قدمنا ، لون من ألوان الوحي ، الذي  ينزِّل به ملائكة من لدنه سبحانه بقيادة الروح على أفراد من عباده أو حتى على مجموعات ، حسب نص الآية ، لينذروا أقوامهم ، كلاً بلغته، وفي قومه وفي موطنه ، في القارات وفي الدول والمدن والقرى ، على مدار الأيام أنه لا إلـه يحكم الكون ، ويدبره ويديره ، ويهيمن عليه ، إلاَّ الله القاهر فوق عباده ، الرحمن الرحيم والمنتقـم الجبار . فحق عليهم أن يتقوه حق تقاته وأن يخشوه وأن يسترحموه ويستغفروه ، فإنه سبحانه أهل الكبرياء والعظمة ، واهل التقوى والمغفرة ، وأهل العفو والرحمة .

        ويتكرر ، هذا المعنى ، إنزال الملائكة بالروح ، أو إلقاء من أمره تعالى أو إيحاء الروح كذلك من أمره سبحانه في آيات أُخر : قوله عزَّ وجل : { يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ } .[ 15 : غافر ] . وقوله عزَّت عظمته : {  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ  } .[ 52 ـ 53 :الشورى] .وفي الآيـة الأولى قـوله تعالى :

{ نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } تلويح إلى استمرار الهداية بهذا الذي أسماه  سبحانه { رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا } ،وهو غير جبرائيل عليه السلام  أو الروح القدس  الذي كان يوحي الله به من جملة ما يوحي به إلى رسول الله محمّد ( ص ) وصحبه الأبرار الميامين . وفي الآية معنى صريح بأنه سبحانه جعله نوراً ، يهدي به ربما الكثير من خاصة عباده سبحانه ما دام على ظهر هذه الأرض  بشر يرزقون .

خامساً : قول الله له الحمد :

       { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ … يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ }.[4 ـ 5 : السجدة ] .

        { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ } أي أمر الدنيا مدة أيامها ،تدبير العالم بكل شيء ،المحيط بكل شيء،المهيمن على كل شيء ،قال تبارك وتعالى :{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فإذا اقتضت بعض هذه الشؤون ،الأسباب النورانية والقوانين المحكمة والملائكة على شتى درجاتهم ،كان ذلك كذلك،في جملة تدبيره سبحانه،من أدق الأمور إلى أعظمها .{ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أهل النعيم من الجن والإنس ، بسرعات الملائكة على  اختلاف درجاتهم،تعلقاً بإختلاف درجات المؤمنين من الجن والإنس.فمنهم السابقون إلى مقاماتهم  المعدة لهم في عليين عند سدرة المنتهى ، ومنهم  اللاحقون كذلك إلى مقاماتهم في بقية درجات النعيم،والجميع يصلون خلال هذا اليوم المذكور في الآية الكريم  { فِي يَوْمٍ } ، أي مدة ـ قياساً على حسباننا الزمان ـ هي يوم من أيام الآخرة  المخصوصة للحساب ، والتي مجموعها خمسون ألف سنة ، وهذا اليوم الذي يقطعه المؤمنون عروجاً،كان يقتضي منهم ـ لو كان الأمر موكولاً إليهم ـ ألف سنة،بأرقى ما سيتوصل إليه علم البشر من وسائل وطاقات، تختصر الزَّـ مكان أو الأبعاد الأربعة ، أي بأسرع من الضوء(1) ، لو أرادوا قطعه ، أي اليوم الأخروي ، في ظروف مشابهة لظروف دنياهم ، وتركيبة ما تحت سمائها.

من هنا يتبين أن قضية العروج يوم القيامة ستكون عبر السماوات، بعضاً أو كلاً ، حسب الدرجات ، وبأسرع  من أسرع ما سيتوصل الإنسان إلى معرفته من وسائل وقوانين علمية ، حيث سيكون العروج ، أي الإنتقال صعداً ، غير محكوم بالزمان والمكان والسرعة والقوانين العلمية ، مما عرفنا أو سنعرف على أرضنا هذه ، أو تحت سمائنا هذه الدنيا .

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     وهذا دليل على أن الله سبحانه  سيكشف للعلماء في الدنيا ، ما هو أسرع من   الضوء.

        وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى يرعى الإنسان في نفسه ومتعلقاته وما يحيط به تحت هذه السماء من أفلاك ونجوم وقوانين علمية وموازين وأرض برطبها ويابسها وبحارها وأنهارها وبواطنها ، مشرفاً بعزته وجبروته ولطفه ورحمته على جميع ذلك بما يشاء من الأسباب ، حاضراً ناظراً ، سميعاً مجيباً ، بكل شيء محيط .

        وكما قلنا بالنسبة للإنسان ، فإن الله سبحانه ، يرعاه بعنايته ورحمته ، ما دام مستأهلاً لهذه الرحمة ، منذ خلقه من تراب ، ثم نفخ فيه العقل ، ثم تمريره في الأصلاب والأرحام . حتى أخرجه طفلاً  ، ثم درَّجه في مراحل العمر ، حتى يتوفاه إما عن تمام العقل ، وإما عن أرذل العمر ، وبين تمام العقل وأرذل العمر ، درجات. وقد أشار سبحانه إلى المفارقتين هاتين بقوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }. [ 67 : غافر ] . فهذا مسار يرجى فيه للإنسان  أن يتوج  حياته ويختمها عاقلاً أو بتمام عقله . أما عن الأخسرين فقال سبحانه : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } . [ 5 : الحج ] . وهذا مسار يختم الإنسان  فيه حياته وينتهي به ، كما قال سبحانه { إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } .

 

أما الذين اعتبروا { أَرْذَلِ الْعُمُرِ } في هذه الآية الكريمة هو الشيخوخة والطعن في السن ، فهم قد فَصَلُوا بين المعنيين المتلازمين في الآية ،وهما أرذل العمر وانتفاء العلم، [ والرُذالة ، كما جاء في القاموس ، ما انتفى جيده وبقي رديئه ، والرُذال : الدُّون الخسيس . ورَذَلَهُ رَذْلاً : جعله رذيلاً ، والرَّذْل : مصدر رَذَلَ ـ الخسيس الدون أو هو الرديء من كل شيء ] . فإذا اعتبروا هذه المعاني هي للشيخوخة  واعتبارها عند الله والناس ، فهذا تجن على الحقيقة ، إذ أن شيخوخة المؤمن ، لها منـزلة رفيعة عند الله سبحانه وطالما أوصى برعايتها بين الآي والأحاديث على ألسن الرسل . وهي كذلك عند الناس ، حيث تتجلى صفات الإيمان بنورانية وفهم وعلم جَم ووقار وجملة خصائل يفرضها الله على الناس فرضاً دون إرادة منهم ، ودون أن يكون لهم فضل في ذلك  ، بل الفضل لله وَحْدَهُ لا شريك له . وأمثال ذلك كثيرة بين تاريخ الأنبياء ، وهم بشر من الذين عمَّروا ، كنوح ، وإبراهيم ويعقوب وشعيب وغيرهم ، وبين عامة الناس ، من علماء ومفكرين وكتَّاب ، كانت شيخوخة  كل واحد منهم ، أكثر صفاءً ، وربما في بعض الحالات أكثر إنتاجاً من عهود شبابهم  وفي جميع حالات هؤلاء إذا كانوا مؤمنين مرضيين عند الله سبحانه ، لا يقال عن واحد منهم أنه بلغ أرذل العمر ولم يعد يعلم مما علمه الله شيئاً . ثم ماذا  نفعل بمضمون آية { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا … الآية } وهل مضمونها لا ينطبق إلاَّ على الشباب ،في حين أن المؤمنين الشيوخ أولى بعناية الله سبحانه وبرأفته ،ورحمته،   ولا سيما ، إذا كانوا شابوا وشاخوا مجاهدين في سبيل الله في شتى أنواع الجهاد . أما إذا بلغ الإنسان حقيقةً أرذل العمر ولم يعد يعلم من بعد علم ٍ شيئاً ، أي ذهب كل ما يعلم ، فإن في ذلك علامات استفهام ، نختمها عادة بالتسبيح والتحميد والإستغفار لنا ولجميع المؤمنين والمؤمنات .

        وأمر الله عزّ وجل ، لملائكته ، المأمورين بتوفي الناس ، يجيب على علامات الإستفهام هذه إلى حد بعيد . فسلوك الملائكة في توفي الناس أو إماتتهم يختلف من إنسان لآخر ، وقد يكون في هذا الإختلاف مئات الحالات بين أحسن حالات الموت وبين أسوئها في النظر الظاهري ، على أن الظاهر غالباً ما ينبىء عن الباطن الذي يكون إما أبلغ سعادة وهناءَة ،كما استغراقة عميقة في نوم مريح ، يستيقظ بعدها على رحمة الله ، ونعمه ونعيمه ،وإما أشد إيلاماً وانتقاماً ،كما سنرى في بعض آيات الله البينات ، قوله سبحانه وله الحمد .

سادساً : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } .[11 : السجدة ].وطبعاً ، ملك الموت لا يتوفى الجميع ، ولا سيما إذا كان في الأمر موت جماعي ودفعة واحدة ، إنما لملك الموت جنود يأتمرون بأمره،  الذي هو أمر الله سبحانه ، والجميع هم جنود الله ، قال تعالى : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا }.وهكذا ، فيما يتعلق بملائكة  الموت، نرى ، بعد تعميمه الخبر سبحانه ، يفصِّل الأمر نوعاً من التفصيل في الآيات التاليات ، قوله سبحانه :

     ـ  { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا } . [ 97 : النساء ] .

    وقال عزَّ شأنه :

     ـ   { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } . [ 93 : الأنعام ] .

        وقال له الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم :

    ـ   { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ } .[ 50 : الأنفال ] .

        وقال جلَّ جلاله :

  ـ    {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ}] 91:ق]

        وقال لا إلـه إلاَّ هو :

    ـ   { فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ . وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ . وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ } . [ 83 ـ 85 : الواقعة ] .

سابعاً :  قال تبارك وتعالى :

    ـ  { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } . [ ( 20 ـ 21 ) : ق ] .

        التوفي يتم قبل الساعة ، ويوم قيام الساعة ، أي قبل النفخ في الصور وعند النفخ فيه ، وذلك يوم القيامة .وفي جميع هذه الأحيان يكون توفي الأشقياء كما ذكرت الآيات الكريمة التي أوردناها ،أما توفي المؤمنين السعداء برحمة ربهم ورضاه ورضوانه ، فقد ذكر سبحانه عنهم كذلك في آيات بينات ، حالات أظهر فيها بين العبارة والإشارة أمره للملائكة بتوفيهم وإسعادهم بذلك في الدّنيا ويوم القيامة والآخرة .ونستعرض الآن بعض هذه الآيات التي تتجلى فيها رأفته ورحمته على عباده الأبرار ،وأوليائه الصالحين . قال تبارك وتعالى :

       { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ .نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون } . [ (30 ـ 31) : فُصِّلَت ] .

        فقول الملائكة لهم  في الحياة الدنيا ،وحياً من الله سبحانه،ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا،وكذلك توليهم برعايته ورحمته في الدنيا والاخرة ، فإنَّ في ذلك كله إشعاراً بتسهيل الموت عليهم،وبتوفيهم سعداء،وطبعاً بموجب مضمون وعده جلَّت عظمته:{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } وكذلك  تظهر أنواع العناية والدرجات في بعض إشارات الآيات التالية : قوله سبحانه :

    ـ  { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . [ 32 : النحل ] .

وقوله له الحمد :

    ـ  { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ . سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}. فقوله تعالى  { فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} فيه إشارة إلى حُسْنِ التوفّي ، إذ أن الدار المقصودة هي دار الدنيا ،وعقباها تبدأ من الموت فصاعداً وكذلك، ربما قبيل الموت، أي في المراحل الأخيرة من العمر ، والله واسع كريم .

        وقوله سبحانه :

       { إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ.لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ .لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}.[101 ـ 103 : الأنبياء ] .

        وهكذا نرى أن رُسُلَ الله من ملائكته المكرمين،يواكبون الإنسان ،بأمر منه سبحانه،منذ هو في الأصلاب وفي الأرحام ـ ما داموا مواكبين آباءَه وأمهاته ـ ومذ يتنفَّس على هذه الأرض ثم يحبو ويدرج ويشب،وكهلاً وشيخاً،إذا إستكمل عمره .ثم يتوفونه ، إذا توفاه الله بهم .ثم إذا { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ . وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } من الملائكة المكرمين عند رب العالمين . ثم إذا كان من أهل النار ، تتلقاه خَزَنَتُهَا من الملائكة : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ.وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ }  [70 ـ 71 :الزمر] .وكذلك إذا كان من أهل النعيم ، تتلقاه خزنة النعيم وهم ملائكة الرحمة :{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } .[73 ـ 74:الزمر].وهكذا تستمر مرافقة الملائكة للإنسان،حَفَظَةً وَكَتَبَةً، وأرْواحاً علويةً هم زيادة من فضل الله وكرمه ورحمته للصديقين الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم ،ومع كل نفس يوم البعث سائق وشهيد ، وملائكة إستقبال وأحاديث ومناقشات منهم وإلقاء حجج على الأشقياء ، ومؤانسة وجميل إستقبال وخدمات جلى للمؤمنين السعداء بحبهم لربهم وبدارهم الباقية ، التي لهم فيها ما يدَّعون ، ولهم فيها ما يشتهون ، من حليم كريم ، ورؤوف رحيم ، وعفوٌّ غفور ، { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } وحتى في سماء الجنَّة سوف نرى ، بإذنه تعالى، وبكرمه وجوده ورحمته أسراب الملائكة ، طائرين محلِّقين في مهمات أو استعراضات ، يزيدون بذلك ، الجنة جلالاً وروعة وجمالاً ، مما لا يخطر في بال ولا يمر في خيـال . قوله تعالى  له الحمد وله المجد : { وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }. [ 75 : الزمر ] .

        فالحمد لله رب العالمين ، وله الشكر ، كما حمد نفسه ، وكما شكر نفسه ، وكما ينبغي لكرم وجهه .