وَعَدَ الله الذينَ آمنوا .. لَيَسْتَخْلِفَنَّهم في الأرض

 

ومزق الله الاتحاد السوفياتي : نصف العلم الجهنّمي .. فإلى متى النصف الآخر ..

 

  { أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ } ( سورة غافر ، الآية  21) .

        أما نحن المسلمين في أقطار الدنيا ، فهل من فائدة أن نقول  بعد كل كشف من كشوفهم ، كنا نعلم هذا ، وفي قرآننا المجيد ذاك ، وفي إخبار نبينا صلى الله عليه وآله وأئمتنا نبأ ذلك ؟! .

        لا ريب أن معارفنا وعلومنا الأصيلة ، تفتح أمام عقولنا المسلمة لله ، أبواباً فيها الضوءُ وفيها اليقين ُ ، مما يجعلُ النفسَ في عافية ٍ ، فتشعر ُ بالطمأنينةِ إلى المصير ، إنطلاقاً مِنْ الثقةِ الكاملةِ بأنَّ وعْدَ اللهِ حَق :

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ .. }(سورة لقمان ، الآية 33) .

وصحيـح  أن  قوماً  صبّـوا  كل  اهتمامهم  على  عمارة  الدنيا  ،  وبنوا   لذلك المشاريع والمصانع وهم أهل ظلم وبطش وطغيان ، كأهل مدنية اليوم ، أنذرهم الله بقوله عز شأنه :

       { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ . وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ . وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } (سورة الشعراء ، الآية 129) .

       ولما لم يرعووا ولم يقلعوا عن طغيانهم  وكفرهم ، أرسل عليهم عذاباً استأصلهم من جذورهم  ، وجعل مدنهم ومدنيتهم قاعاً صفصفاً ..

        ولكن ذلك يجب أن يكون حافزاً للمسلمين على تطهير أنفسهم ، وتطهيركل الأرض ، وبنائها في مرضاة الله تبارك وتعالى :

       { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } (سورة الروم ، الآية 32) .

       فإن الله عز وجل لتشريف عباده المؤمنين ولتزكيتهم لا يرضى لهم حتى السكنى في منازل أهل الجور والفساد والطغيان . فهو سبحانه في سياق إنذار للناس يوم يأتيهم العذاب يقول عز شأنه :

       { وَسَكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ } (سورة إبراهيم ، الآية 45) .

       وللقيام بمهمة تطهير الأرض وإصلاحها ، يجب الأخذ بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن  ، حتى إذا لم ينفع ذلك كله ، قضى الله للمسلمين إصلاح الأرض وعمارتها على انقاض الذين ظلموا أنفسهم والمستبدين والحاقدين على شهادة أن لا إله إلاّ الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وهذا الوعد بمنزلة القضاء المبرم ، لمصلحة المجاهدين في سبيل الله ، وذلك في قوله عز وجل :

        { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ  } (سورة المائدة  ، الآية 54 ) .

        وقوله تبارك وتعالى :

       { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا } (سورة فاطر ، الآية 39) .

       وطبعاً المقصود بالكافرين هنا جميع أنواع ودرجات الكفرة حكاماً ومحكومين ، مضافاً إليهم  كفرة المسلمين ، بين مرتد ومنافق ، وجانح ومنحرف ، ومحازب لغير الله رب العالمين :

       { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } (سورة الأحقاف ، الآية 19) .

 *     *     *

        قد يبدو هذا الأمر ، وكأنه حلم بعيد المنال ، ولكن نظرة عبر المعادلات الإلهية ، أقلها في تاريخ ما بعد الإسلام ، تثبت حقيقة ما نعتقد ونقول . فقد اجتمع أهل الأرض قاطبة على محاربة دين الله الذي أَرْسَلَ به محمداً صلى الله عليه وآله ، وما تركوا وسيلة فكرية ولا مالية ولا عسكرية ، إلاّ شنوا بها حملات غزو شرسة على الدين الحنيف . فماذا كانت النتيجة ؟ كانت أن سقط الفكر الغنوصي في فارس بعد أن حكمها دهراً ، وحاول دهاته وفلاسفته بأمضى أقلامهم أن يجرحوا وجه الإسلام الوليد ، فتحطمت الأقلام ، وأصبحت الغنوصية والمانوية والمذاهب الإثنيَّة كأنها لم تحكم في الدهر ، وغدت نسياً منسيّاً . ومع ركيزة تلك الحضـارة  سقطـت عسكريتهـا الضخمـة ، التي كانـت تحكـم أكثـر من نصـف العـالم .  والعجيـب في الإسـلام الوليـد أنـه استطـاع أن يمضـي قدمـاً دون أن يعلـق  بأذيـالـه شـيء مـن الشـرك التي حملتـه  تلك  الفلسفـات إلى اليهـوديـة والنصرانية  ، فأزالتهما عن مبدأ التوحيد الإلهي ، وأسقطتهما بتعدد الآلهة ، فضلاً عن القدرية  والجرح في عدل الله ، وكذلك  الكذب عليه سبحانه ، وتحريف الكلم عن مواضعه .

         كذلك كان وقوع الإسلام بين فكي كماشة اليهودية والنصرانية ، حتى تخلوا عن البقية الباقية من دينهم السماوي ، بسبب الحقد والحسد ، الذي يأكل الدين كما تأكل النار الحطب . فكان لهم  من الله الوعيد بالخزي والهلكة ، وللذين اتبعوا قرآنه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وأوليائه عليهم السلام  الذين قال فيهم سبحانه :

        { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا }(سورة الأحزاب  ، الآية 23).

       كان وعده بإكرامهم في الدارين ، وإدراجهم في سلسلة الأنبياء والأولياء ، والشهداء والصديقين . يستفاد ذلك كله من الهجمات الفكرية والعسكرية ، إلى الهجمات النفسية والحصارات الإقتصادية ، عبر التاريخ على الإسلام . ثم اطمئنان المسلمين رغم ذلك كله إلى النصر من قوله عز وجل :

       { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } (سورة التوبة ، الآية 32 ) .

       فبناء على هذا يجب على المسلمين أن يوقنوا بالنصر المحتوم ، والمتوقع قريباً بإذن الله المجيد ، بناء على امتلاء الأرض بالكفر والضلالة ، وتفرد المسلمين بالتمسك بالدين الحنيف ، وكذلك  تفردهم بأنهم أصحاب الدين الوحيد في الأرض  الذي يملك كتاباً سماويّاً صرفاً ، ولم  يحرّف ولم يعدّل ولم يبدّل ، ولعل ذلك ـ إضافة إلى فكر التوحيد ـ أهم ركيزة حضارية ، من شأنها أن تحفظ الحضارة المبنية على أساسها في  رضى خالق  الكـون وحاكمـه . فتجنبنا سخطه وغضبه ، المتمثل عادة بالقصف والخسـف والإغراق والحريـق والدمـار ، وأحياناً بالإبادة .

        وهكذا ومن هنا البداية ..

        فنحن اليوم في صراع  مع أعتى الدول المعادية للإسلام . أمَّـا الأخذُ بأسباب القوة الظاهرية ، من بأس وإقدام ، وتنظيم وتدريب ، وحصر أهداف ، واعتماد سياسة حكيمة ، تهادن هذا لتتفرغ لذلك ، حتى إذا كسرت شوكة الأعتى ، عادت للأدنى خطراً . كما وعلينا وضع الخطط ، فضلاً عن التسليح ، واحترام السلاح والذخيرة . ومعرفة أن المراد بها دفع الأعداء وقتلهم . إضافة إلى اختيار قياديين مخلصين ، لا يغيرهم بريق المنصب ولا إغراء المال ، ولا يعميهم حب الأهل والعشيرة ، والمزاحمة على القيادة والمكاسب ، والتعبد لذواتهم والإغترار بها ، إلى آخر ما هنالك من الصفات الذميمة التي إذا اجتمعت على قياديٍّ ، عرَّضته لحالات أبشعها الجبن والإنكفاء ، والسقوط في حبالات الشياطين . أقول أما الأخذُ بأسباب القوة الظاهرية هذه ، امرٌ تلزمه كلُّ الشعوب : القوية والضعيفة . والقاعدة العامة المنطقية ، هي أن ينتصر القوي على الضعيف ، ولكن كثيراً ما يحصل في التاريخ أن تنعكس القاعدة ، يعني أن يسقط المنطق لمصلحة الضعفاء ، هذا في ظاهر الأمور .

 *   *   *

أما وقد اصطدمت الفلسفة المادية بهذه الظاهرة ، فكان لزاماً عليها أن تخرجها إخراجاً مادياً . وعزَّز موقفها هذا ، انتصارُ فيتنام الرائع على أميركا ، مع الفارق الهائل بين ضعف الأولى وفقرها ، وقوة الثانية وغناها . وهو انتصار أشبه  ما يكون بانتصار ديك على ثور هائج .

من هنا اعتناق الشعوب ، النظرية المادية ، منذ الثورة البلشفية 1917 م التي تعززت بعدها بالثورة الصينية ، وبثورات شرق أوروبا ، ثم ثورة فيدل كاسترو الكوبية في قلب أميركا الجنوبية . ثم بالإنقلاب الأثيوبي . ويجب أن نلاحظ هنا ، في سلسلة الثورات هذه ، أنها كلها نجحت تحت شعار  ” كفاح  الشعوب المسلح في سبيل الحرية   ..  والدين ـ  كما قال زعيم الثورة البلشفية لينين ـ أفيون الشعوب ” .

         وبينما الناس في الشرق والغرب مشدوهون بهذه الشعارات ، مسحورون أمام بنايتها الشامخة على أساس النظرية المادية ، إذا بهذه البناية تنهار فجأة ،  أمام إبراق وإرعاد حملتهما صيحة الله …. أكبر . وشعار ” الجهاد في سبيل الله ” وشعار ” إحدى الحسنين : النصر أو الشهادة ” .

               وهكذا أصبحت صرخة التوحيد ، حيثما انطلقت من فم الخميني وأفواه ملايين الثوار، تهدم عرشاً هنا ، وتصرع دولاً عظمى هناك ، وانشلت الآلة الحربية ، وتحطمت طائرات الغزو بصاعقة  مثل صاعقة عاد وثمود .  ووجهوا  الأقمار الصناعية ، فركعت على حدود الثورة من خشية الله ، ولعلها أسلمت وحسن إسلامها  . فعقولها الألكترونية  وهي تحلل المعلومات انقلبت لمصلحة الثورة ، إذ إن الألكترون هو أصلاً وفصلاً من عباد الله .

         لنا ان نبتسم  … ولكنه الجد وليس الهزل ، فعقل النملة ليس أفضل  كفاءة ، وإن كانت الحياة الظاهرية هي الفارق ، فالسّر أعمق من ذلك :

        {.. وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ..}(سورة الإسراء  ، الآية 44) .

             وقوله عز وجل عن سليمان عندما سمع كلام النملة :

        { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ  .. } ( سورة النمل ، الآية 19) .

وحقق الله وعيده ، فأسقط أحد الطاغوتين العالميين :الإتحاد السوفياتي

      كان في العالم بالأمس القريب ، نـمطان من  المجتمعات الوضعية، وكل ما دونهما من الأنظمة في العالم ، غدا إما متفرعاً عن أحدهما تابعاً له ، أو متشبِّهاً به .

 وهذان القطبان ، هما المجتمع الرأسمالي والمجتمع الشيوعي.

         أما الأول فيقول منظروه ، إن الغاية القصوى فيه ، سعادة الفرد ، وتبعاً لذلك فقد أطلق الحرية للأفراد بشكل مخيف ، وفي مسلكية عجيبة ، القوة الوحيدة الفاعلة فيها ، هي قوة رأس المال  .

         ولن نتعرض بالنقد الآن لهذا المجتمع ، من حيث تميزه بالطبيعة الإستعمارية  ، على النيوترون والهيدروجين ، وتمزق الأسرة  والتمييز العنصري .. من حيث أن الحاكم  لا يصل فيه إلى الحكم إلاَّ عبر إنفاق المافيا وجسور الدولارات . هذا فضلاً عن تعامل هذا المجتمع ، مع بقية الشعوب المستضعفة ، إستعباداً أو قهراً ، وامتصاصاً للدماء .  لن نتعرض بالتفصيل لكل هذا ، إذ  إننا سنشير إلى كثير من خصائصه السلبية في فصول لاحقة إن شاء الله .

        وإنما ينبغي أن نتذكر ، أن هذا المجتمع يزعم أنه يدين بدين المسيح عليه السلام ، وفي الحقيقة أن المسيح ودين المسيح منه براء . ونبحث عن إلهه الحقيقي ، فلا نجد له معبوداً غير المال وحب السيطرة وشهوة التسلط . ونسأل عن آخرته ونبحث حتى عن دنياه ، عن سعادة أفراده المدعاة ، فلا  نجد غير اللهاث الدائب ، والزيف ، والمظاهر التي هي كالطبـول ، لهـا زينة وصدى يصم الآذان ، بينما هي جوفاء  :

       { .. لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء }(سورة إبراهيم ، الآية 43) .

       أما المجتمع الآخر ، أي الشيوعي أو الإشتراكي ، فكان قد عكس النظرية واعتبر المجتمع هو الغاية ، والفرد فيه ما هو إلاّ قطرة في محيط الشعب ، أنـّى سار به الموج يسير ، أو هو سِنٌّ في هذا الدولاب الضخم ، وكيفما دار الدولاب يدور السن فيه ، دون أيـّما اختيار .

        وهذا المجتمع بالنسبة للدين ولرب العالمين ، كان أكثر صراحة من ذاك ، فقد حسم الموضوع كله أصلاً  ، فأنكر وجود َ الله عز وجل ، وبالتالي  ما يَتْبَعُ الإيمان  بوجوده من بعثٍ ونشورٍ ، وثوابٍ وعقاب ٍ  ، وأطلق شعاره المشهور  : الدين أفيون الشعوب .

        وأيضاً لن نتعرض لنقد هذا المجتمع من الداخل ، حتى أننا لن نناقش إلحادَهُ بمنطقنا الديني ، وإنما كونه أعلن غاياته الأساسية  في ” المنيفستو ” المشهور ، بما أسماه الثالوث ، وهو: ” تأمين المسكن والطعام والجنس لجميع أفراد المجتمع  ” فنكتفي على هذا الأساس أن نسأل ببساطة : ما الفرق إذن بين الإنسان والحيوان  ، فإن قال : إن الإنسان هو حيوان متطور ومتقدم ـ بحسب عقيدته ـ نقول ومع ذلك ـ ملزمين ” إيـّاه بما ألزم نفسه ـ ما الفرق بموجب هذا الثالوث بينه وبين أي حيوان غير متطور  ولا متقدم من الحيوانات التي نعرفها اليوم بشتى فصائلها ودرجاتها . فمن الواضح أن كل حيوان له مسكنه وطعامه وعلاقاته الجنسية بما يكفي حيوانيته .

         هنا يقولون ، الفارق هو العقل وكرامة العقل وعظمة العقل . فنقول هذا حق ولكن إذا كانت :

        الغاية تساوي بين الإنسان والحيوان في الحياة ( إذ كلاهما له الثالوث عينه ) .

       والنهاية تساوي بينهما بالموت  ( إذ كلاهما يتحلل ويغدو تراباً ولا شيء بعد ذلك ) .

فأين يذهب الفارق ؟ أين تذهب ميزة الإنسان التي هي العقل وكرامة العقل ، وأين يذهب طموح الإنسان وتطلعاته ، وضحكه وبكاؤه ؟ … ثم إنه لو بنى المدائن زمرداً والمنازلَ يواقيتَ ، ومدّ جسوره إلى النجوم ، ثم مات وهو يلهث ، وأصبح تراباً ، وبقي تراباً ؟ .

        ونحن إذ نناقش هذه النظرية ولو بهذا المقدار ، فلأنه لم تزل هناك بعض البؤر الشيوعية في العالم ، بين أنظمة حاكمة تلفظ أنفاسها الأخيرة ، وبين أحزاب  مرتبكة مترددة بين الإستمرار على الباطل وبين الموقف الشجاع في الإعتراف بالخطأ ، ولزوم الإلتجاء لله والعمل بدينه الحنيف .

        هذا إضافة  ، إلى وجود الكثير من الإلحاديين في العالم  ، بين أحزاب وحركات منظمة وفلسفات ، كالوجوديين مثلاً ، وبين  أفراد  ، وجميعهم من الذين ضلوا  عن الحق الأعظم وبقية الحقائق ، وحرموا أنفسهم نعمة الإيمان وخسروا الخسران المبين  .

        ولولا بقاء هذه البؤر الشيوعية لكان أغنانا عن مناقشة نظرياتها الإلحادية ، سقوطها المدوّي في الاتحاد السوفياتي وبقية العالم ، هذا السقوط الذي كان زلزالاً عَتِيَّـاً مركزه الاتحاد السوفياتي ، وشعاعاته طالت جميع الدول والأنظمة التي كانت مرتبطة بشكل أو بآخر بهذا المركز ، فمنها دول زالت كليّاً ، ومنها أنظمة  أطيح بها بانفجارات غضب دموية ، لتقيم أنظمة جديدة مرتبكة على أشلاء آلاف القتلى وأشلاء الشيوعية  … ومنها أنظمة ما زالت تعاني من المفارقات المريرة في مواجهة الدول الرأسمالية ورعونتها وأباطيلها ، بعد أن خلت لها الأرض من أية قوة كبيرة تستطيع أن ترجعها إلى الله ، أو على الأقل إلى منطق العدل والعقل والشرف .

               هذا هو المنطق السائد اليوم ، على مستوى الأنظمة والشعـوب المقهورة ، التي لم تهتـدِ بعـدُ إلى الله ، ولا إلى توحيـده ، ولا إلـى دينـه الحنيف ، هذه الهداية التي هي وحدها تشكل المخـرج الكـريم من هـذا المأزق التاريخي والمصيري ، ومن جميع المآزق التي يتعرض لها البشر في حياتهم أفراداً ومجتمعات .

لماذا سقط الاتحاد السوفياتي ؟

في الحقيقة ، إن الكلام كثير ، في أسباب سقوط هـذه الـدولة العظمى ، التي استقطبت أكثر من نصف العالم كقوة سياسية وعسكرية ، حتى وإقتصادية . إلاَّ أن جميع التقارير السياسية ، وكلام الإعلام العالمي ، يوجز بحقيقة واحدة لا تناقش ، وهي أن الله وحده عزت قدرته ، هو وراء هذه الأسباب وهذا السقوط المريع .

        ذلك ، لأن الاتحاد السوفياتي ، كان قد بني على أساس الفلسفة الإلحادية ، منكراً وجود الله ، قائلاً بجدلية ونظريات وفرضيات ما أنزل الله بها من سلطان  . إذن هو عادى الله جل جلاله وعزت قدرته ، فكفر وظاهر على الله وعلى دينه .

       {.. وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا { (سورة الفرقان ، الآية 55 ) .

       وبما أن الله عز وجـل ، هو الحـاكم ، حاكم الكون ، عملياً وليس نظريّاً ، وبما أن تعاليمه واضحة ، من حيث إنه يكرم أو ينتقم ، ويمهل ولا يهمل ، فبالنسبة إلى الشيوعية والشيوعيين وقلعتهم العالمية : الإتحاد السوفياتي ، فكان  واضحاً مع عداوتهم له سبحانه ، أن يهدم دولتهم ويخزيهم الخزي الدنيوي إذلالاً وتمزيقاً ولو بعد حين . وهكذا فقد أمهلهم وابتلاهم ما يفوق على نصف قرن من الزمان ، وابتلى بهم الناس دولاً وأنظمة ، وأحزاباً وأفراداً  . فالذين توكلوا عليهم وليس على الله ، حشرهم معهم … ثم انتقم .. فكان هذا السقوط المروع للفلسفة الإلحادية وأتباعها في جميع أنحاء العالم. وهذا خزي لهم في الدنيا ، أما في الآخـرة فعذاب الله أكبر ، ما لم يتب القادة والمقودون .

        ربما يفهم القـارىء هنـا فهمـاً سلبيـاً  ، بمعنى أنه ما دام الولاء للإلحاديين الشيوعيين من مستدعيات غضب الله وانتقامه ، فإذن من الواجب أن يكون الولاء للإمبرياليين الرأسماليين عامة ، من مستدعيات رضى الله وتوفيقه  . وهنا نجد الجواب مختصراً وجليّاً في قول الله سبحانه :

       { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (سورة العنكبوت ، الآيتان  41 و 42) .

       وقوله تعالى :

       { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } (سورة التوبة ، الآية 16) .

        هذا ما دامت الدول الرأسمالية  ، وهي عامة دول الغرب المسيحي ، ما دامت تحتضن إسرائيل ، بعد أن زرعتها شجرة ملعونة في هذه الأرض المباركة الطيبة ، فلسطين وعامة بلاد الشام . وما دامت تنطوي على مشاعر العداء للإسلام والمسلمين ، عرباً وغير عرب ، وهي لو تمكنت من أن تدمّر وتمزق أسلحة وشعوب جميع الدول الإسلامية ، كما دمّرت ومزقت أسلحة العراق وشعب العراق ، لما قصّرت . أما من يمنعها ؟‍‍‍‍‍‍‍ !  صحيح ، ليس على الأرض من قوة تمنعها ، وإنما المانع هو الحاكم ، حاكم الكون ، رب العالمين . هو الذي يمنع ، وهو الذي يأذن ، وهـو المعزّ النـاصـر ، وهـو المـذل القاهر ، وهو أسرع الحاسبين ، ولكل واقعة حساب ، في ناسها ومكانها وزمانها .

        ولولا أن دول الغرب المسيحي ، والمسيحيين عامة ، في التـاريخ الماضي والمعاصر ، تخلقوا بما أمرهم الله سبحانه على لسان رسوله السيد المسيح ، لكان التحالف معهم وليس التبعية ، أمراً توجبه شرائع الإسلام . ولا سيما وأن الله تبارك وتعالى ، أمرنا بمجادلتهم بالتي هي أحسن ، ونـّوه لنا بخصائص تميزهم تميُّزاً كبيراً عن اليهود وبقية المشركين ، في طبائعهم وأخلاقهم ونواياهم ، قوله تعالى :

       { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ . وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ . وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ . فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ  خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ .

وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ  } (سورة المائدة ، الآيات 82  ـ  86 ) .

        والآية الأخيرة هنا ، أي قولُه تعالى : { وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ  } . أي الذين هم بخلاف من شهد الله لهم بالإخلاص  له ولدينه سبحانه،   وبالمودة للمؤمنين ، وبالتصديق بما أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وآله ، وهم الضالون من النصارى ، ومنهم أولئك الذين  يحالفون اليهود المفسدين في الأرض .

        وهذا التحالف المعاصر للقرن العشرين الميلادي ، هو الذي حذر الله منه المسلمين  ، حذرهـم من الولاء  لليهـود وللنصارى ، موضحاً  أن  بعضهـم  أولياء بعض ، ثم يخبرنا أن أقواماً من المسلمين  ،  حكاماً  وغير حكـام ، وهم {.. الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ..} يسارعون في موالاتهم والتحالف معهم  ، مبررين  ذلك بخشيتهم من أن يتمكن الحلف اليهودي ـ النصراني من حكم الأرض ، فتدور دائرتهم على خصومهم المسلمين . ثم يخبرنا سبحانه ـ وكل ذلك كما سنرى في سياق واحد ـ أن هؤلاء المسلمين سيندمون  حيث لا تنفع الندامة ، لأن حكم من يوالي هذا الحلف اليهودي ـ النصراني ، هو عند الله حكم المرتد عن دين الله ، كما سنرى في نفس الآيات الكريمة ، حيث يبشر المؤمنين  فيها بالفتح أو بأمر من عنده ، بعد أن يذكر لهؤلاء  المؤمنين صفات مميزة ، لعلاقتهم بربهم ولشخصياتهم وسلوكهم النفسي والعملي ، وهي أنه سبحانه ـ يحبهم وأنهم يحبونه ، وأنهم أذلة على المؤمنين لا يقاتل بعضهم بعضاً، وأنهم أعزّة على الكافرين .

    {.. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ }(سورة المنافقون ، الآية 8).

     وأنهم يجاهدون في سبيل الله وحده ، لا لأجل أن يقربهم العالم الفلاني ، أو الدولة الفلانية،  أو أن يكون جهادهم موجهاً من غير الله ، مرتهناً لغير الله سبحانه وتعالى عما يشركون  .

        أما الآيات التي فيها  هذه المضامين ، فهي في قوله تبارك وتعالى :

       { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقـَوْمَ الظَّالِمِينَ . فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ . وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ  مَن  يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ  }(سورة المائدة  ، الآيات 51 ـ 54) .

        والله سبحانه يفصِّـل لنا في موضع آخر من القرآن الكريم  ، طبيعة  العلاقة ، بين هؤلاء المنافقين من المسلمين ، وبين الذين كفـروا من أهـل الكتاب ، والحقيقة أنهم اليهود وحدهم  ، باعتبار الواقعة التي يشير إليها القرآن، وهي التي حارب فيها المسلمون يهود بني النضير بعد بني قريظة ، فقتلوا منهم من قتلوا ، وأخرجوا الباقين من شبه الجزيرة إلى نواحي الشام . قوله تعالى :

       { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ . لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ }( سورة الحشر ، الآيتان 11 ـ 12).

       ثم يخاطب المسلمين  مطلعاً إيـّاهم على خصالٍ وصفاتٍ وحالات ٍ عجيبة انطبع عليها الفريقان  : المنافقون  ،  والذين كفروا من أهل الكتاب ، وما كان للمسلمين أن يعلموها لا سابقاً ولا لاحقاً  ، لا  هم ولا غيرهم ، لولا أنّ الله عزّت قدرته ، قد أطلعهم عليها ، فهو الذي يعلم خائنة الأعيـن وما تخفي الصدور، وهو بكل شيء عليم ،  وهو بكل شيء محيط.    وأبـرز هـذه الخصال ، علاقتهم الضعيفـة ، بل والمعدومـة ، برب العزة رب العالمين.  مما صيّرهم من أجبن  خلق الله ،  لدرجـة أنهم يخافـون المسـلمين ، أكثـر ممـا يخافون الله القاهر القادر العزيز المنتقم الجبار ، الذي بيده ملكوت كل  شيء ، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشـاء وهو على كل شيء قدير . وهذه الحالة النفسية والقلبية عندهم ، ذكرها لنا  سبحانه في سياق الآيتين السابقتين في قوله تعالى مخاطباً المسلمين في كل زمان ومكان :

  {لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ}(سورة الحشر ، الآية 13).

        ثم يطلعنا بعد هذه الآية  كذلك على أهم أسرارهم العسكرية التي أصبحت طبيعة من طبائعهم ، وهي أنهم لا يقاتلون المسلمين إلاّ في قرى محصنة أو من وراء جدر وأسوار تحجبهم عن مواجهات مباشرة مع المسلمين . وهذا هو السر الذي دفعهم  وما زال ، إلى تقييد جنودهم في الطائرات والآليات البرية في حروبهم الأخيرة مع العرب ، وذلك لكي لا يهربوا منها أثناء المواجهات .

        المهم أن يكونوا ضمن أسوار ، يحسبون أنها تحميهم ،  وهذا يعني أنهم إن كانوا بدون حصون ، أو خلف جدران واسوار وملاجىء ، فما أسرع ما يسقطون جبناً ورعباً  ، أو يولون الأدبار .

        هذا الخبر ، إضافة إلى خبر آخر عنهم ، يكشف لنا فيه سبحانه ، إنهم بخلاف ما يُظَنُّ عَنْهم ، من أنهم متفقون متوحدون ، فالحقيقة أنهم ليسوا كذلك ، وإنما هم متنافرون متباغضون ، وذلك في قوله تبارك وتعالى :

       { لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ }(سورة الحشر ، الآية 14) .

        رب قائل يقول ، إن هذه الآيات متـعلقة بتاريخ معين ومناسبات معينة ، والحقيقة أن هذا الإعتقاد فيه ضيق نظر ، بالنسبة للقرآن وآياته ، وبالنسبة لرب العالمين . فلشدَّ ما يضيِّق على أنفسهم وعلى الناس ، أولئك الذين يقفون جامدين عند مناسبات النزول ، حتى أنهم يبحثون لبعض الآيات المطلقة ـ وما أكثرها ـ  عن مناسبات نزول .. وإن هم لم يجدوا ، اخترعوها  ،  أو تمحلوهـا  تمحلاً . ويبقى القرآن وآياته أعظم خطراً وأوسع آفاقاً  ، وبدون قياس .

        لذلك ، ورجوعاً إلى آيات سورة المائدة  ، التي أدرجناها منذ قليل ، ولأن هذه السورة ، هي آخر سورة أنزلت في القرآن الكريم ، فإنَّ لها تقويماً خاصاً وأبعاداً خاصة ً ، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً . فإننا نربط من آياتها ، الآية الثالثة والخمسين ، وهي قوله تعالى :

       { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } .

        نربطها بالآيات التي ذكرنا من سورة الحشر ، والتي تبدأ بقوله تعالى :

       { أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ..}

         ونستنتج من ذلك  ، إضافة  إلى الأخبار المستقبلية الفذة ، التي تنطوي عليها الآيات المذكورة  من المائدة ، أن  الخطـاب موجـه في الآيـة  الثالثـة والخمسين ـ المائدة ـ  من المسلمين  إلى المنهزمين من أهل الكتـاب ـ بعد الفتح المنوه عنه ـ يذكّرونهم ويذكّرون المنافقين معهم  ، تعريضاً وتعززاً عليهم بالله ونصره وتأييده ـ بقولهم بلسان الحال ، يعنون المنافقين :

         { أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } .

        وأي خسران أعظم من أن يكونوا  في  غضـب الله  مخلديـن في نـاره وعذابه  ؟!.

        فإذن هو الفتح بإذن الله ، وهو النصر المبين القادم  ، هو ميراث الأرض وميراث ما في الحضارة من إيجابيات ، وذلك في وعد الله عز وجل في أكثر من آية من القرآن المجيد ، نذكّر ببعضها لأهميته القصوى ، إضافة لما ذكرنـاه من آيات سورة المائدة وغيرهـا ، لكي لا يبقـى ولـو ذرة مـن شـك  عنـد

 الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون . نذكر هذه الآيات،  دون أي شـرح أو  تفسير ، لأنها واضحة كفلق الصبح ، لكـل مـن يلقـي السمع وهو شهيد . إضافة  إلى أننا سنشرحها شرحاً وافياً بإذنه تعالى في فصول لاحقة مـن هـذا الكتاب ، ومن أبرز وعود الله سبحانـه وأكثرها جلاء ، قوله  تعـالى في سورة الإسراء  :

        { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا . فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً . ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا . إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا }. ( سورة الإسراء الآيات 4 ـ 7) .

        ثم قوله تبارك وتعالى  :

       { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } (سورة النور ، الآية 55 ) .

       مع التذكير ، بوجوب ربط هذين الوعدين  الكريمين بآيات سورة  المائدة (51 ـ 54) لإسقاط جميع علامات الاستفهام ، وبلوغ درجة اليقين ، بوعود الله عز شأنه .

       {.. وَعْدَ اللّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلاً } (سورة النساء ، الآية 122 ) .

       {.. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ حَدِيثًا } (سورة النساء ، الآية 87) .