معنى ( المتشابه) في القرآن الكريم :
في اللغة العربية : [ الشبه : ( بضم الشين وكسرها) ، المثل والمشابه . وتشابه تشابهاً ( شبه ) الرجلان : أشْبَهَ كلٌ منهما الآخر . وتشابه الأمران : تساويا حتى التبسا ] (1) . وفي القرآن الكريم قوله تعالى : { وَهُوَ الّذي أنْزَلَ من السَّمَاءِ مَاءً فَأخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبَّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَخْل ِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّـاـتٌ مِنْ أعْنَابٍ والزَّيْتُونَ والرُّمَانَ مُشْتَـبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَـاـبهٍ انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذا أثْمَرَ وَيَنْعِهِ إنَّ فِي ذلِكُمْ لآيـاـتٌ لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ } (2) .
ــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لسان العرب ـ ابن منظور .
(2) سورة الأنعام الآية 99 .
فالتشابه الذي في هذه الآية ، هو تشابه بين ثمار معروفة لدينا : زيتون وزيتون ، أسود وأخضر ، صغير وكبير وأشكال متفاوتة . ثم رمان بين حلو وحامض وما بينهما درجات ، وألوان وأحجام مختلفة ، وهكذا فبين أفراد كل فصيل منهما ( الزيتون والرمان ) . تشابه ، بين الحسن والأحسن ، والطيب والأطيب .
ثم قوله تعالى :
{ وَبَشِّر ِ الّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّـاـلِحَـاـت ِ أنَّ لَهُمْ جَنَّـاـتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَـاـرُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رزْقاً قَالُوا هَذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ واُتُوا بِهِ مُتَشَـاـبهاً وَلَهُمْ فِيهَا أزواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَـاــلِدُونَ }(1) .
أما التشابه الذي في هذه الآية فهو تشابه بين معروف ومجهول ، بين فرعي مؤقت ، وأصلي دائم .
وعلى هذا الأساس ، ينبغي فهم الآيات المتشابهات في القرآن الكريم ، وهي المشار إليها في قوله تبارك وتعالى في سابعة آل عمران :
{ هُوَ الَّذِي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَـاـبَ مِنْهُ آيـاـتٌ مُحْكَمَـاـتٌ هُنَّ أمُّ الكِتَـاـبِ وَأخَرُ مُتَشـَاــبهَـاــتٌ .. }
بعض وجوه المتشابه :
وفيما يلي بعض وجوه وخصائص الآيات المتشابهات :
= المتشابه فيه قابلية التأويل .
= بعض المتشابه متغير ـ في تحققه ـ باتجاه الأرقى
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة البقرة الآية 25 .
والأعم ، مثال ذلك قوله تعالى :
{ خَلَقَ السَّمَواتِ وَالأرْضَ بِالحَقِ يُكَوِّرُ اللّيْلَ عَلَى
النَّهَار وَيُكَوِّرُ النَّهاَرَ عَلَى الّليْل ِ } (*) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) سورة الزمر الآية 5 : هذه الآية ، فهمها معاصروا محمد (ص) فهما ظاهرياً متصلاً بمفهوم كون الأرض مسطحة . تحيط بها بحار الظلمات ، وأنها ثابتة ، وكذلك النجوم وأن الشمس وحدها تتحرك وتسافر بين المشرق والمغرب ( نظرية بطليموس ) وبقي الأمر كذلك حتى القرن العاشر الهجري السادس عشر الميلادي ، حين عرفت كروية الأرض ثم دورانها على نفسها وحول الشمس بعد ذلك ، فعندها ـ بعد ألف سنة تقريباً ، عرف أهل الأرض كما عرف معهم المسلمون ـ ولو معرفة ناقصة ـ معنى قوله تعالى : ( يُكَوِّرُ الليْلَ عَلىَ النَهَارِ وَيُكَوِّرُ النَهَارَ عَلىَ الليْلِ ) . أما المعرفة الكاملة لمعنى هذه الآية ، التي تخرجها إلى كامل تحققها في الخارج ، فهي عملية التكوير العام ربطا بليل ونهار كونيين يتداولان السماوات والأرضين أمام نور عام كوني .
الله هدى الراسخين وأزاغ قلوب الزائغين
قوله تعالى :
{ هُوَ الّذي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَـاــبَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَـاـتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَـاـب وأُخَرُ مُتَشَـاـبهـاـتٌ فَأمَّا الّذينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبعُونَ مَا تَشَـاـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ واْبتِغَاءَ تَأويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأويلَهُ إلاَّ اللهُ والراسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إلاَّ أُولُوا الألْبـاــبِ } (1) .
مقصدنا الآن ، من هذه الآية الكريمة ثلاثة أمور هي الأهم في تاريخ التفسير ، بعدها نُفَصِّلُ القول إن شاء الله ، في المحكم والمتشابه :
الأمر الأول : قوله تعالى : { فَأمَّا الَّذِينَ فِي قُلوُبهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعوُنَ مَا تَشَـابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَاْبتِغَاءَ تَأويلِهِ } .
والأمر الثاني : قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأويلهُ إلاَّ اللهُ } .
الأمر الثالث : قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأويلهُ إلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخوُنَ فِي العِلْمِ … } .
فإلى الأمر الأول ولا قوة إلا بالله الأحب الأعز الأجل الأكرم ، اللهم بك أستعين ، عليك توكلتُ وإليك أنبتُ وإليك المصير ، وأنت حسبي .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران الآية 7 .
أولاً ـ من هم الذين في قلوبهم زيغ يبتغون الفتنة ويبتغون تأويله ؟
قال تعالى في نفـس الآية السابعـة من سورة آل عمران : { فَأمَّا الَّذِينَ فِي قُلوُبهمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشـَاـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَاْبتِغَاءَ تَأويلهُ }. { الَّذِينَ فِي قلوُبِهِمْ زَيْغٌ } ليسوا كفاراً ولا مشركين ، بل هم بالضرورة مسلمون قرآنيون .
وقد نتج عن اتباعهم ، المتشابه ، ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله: الكوارث التاريخية التالية :
- فتنة السقيفة .
- فدك وتأويل القرآن خطأ (1) .
- الفتوحات واستبعاد علي كرم الله وجهه (2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) فدك مزرعة في المدينة كانت ملكاً لرسول الله محمد (ص) أورثها لإبنته فاطمة عليها السلام . فمنعوها إياها بعد وفاته { بحجة حديث مدّعى عنه (ص) أنه قال : نحن معاشر الأنبياء لا نورث } . وذلك في أكثر من موقف مأساوي ، مما نتج عن ذلك نتائج تاريخية مأساوية . وعندما احتجت فاطمة عليها السلام بالقرآن ، بقوله عز وجل : { وَوَرثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ }، أَوَّلُوا الآية هذه بغير حقيقتها ، قائلين أن سليمان إنما ورث العلم والنبوة ، علماً أن النبوة لا تورث .
(2) أمر سبحانه بأن تكون أمرة المؤمنين وخلافة رسول الله محمد (ص) لعلي بن أبي طالب ، في أكثر من آية قرآنية مدعمة بالوقائع التاريخية التي كان قطبها الأروع علي بن أبي طالب ، بدون مزايد ولا منافس ولا مزاحم . فكان حَريِّـاً أن يخطط هو للفتوحات وأن يقودها ، لأنه لو أعطي حقه الشرعي في ذلك ، لكان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسط الإسلام على كافة هذا الكوكب ، ولما كانت عانت الأمة وما زالت تعاني من انتكاسات وهبوط وتراجعات لتاريخ كتابة هذه السطور. ومن الآيات التي كانت ملزمة للقوم ، في تقديم علي بن أبي طالب عليه السلام ، إلاّ أنهم أوَّلوها التأويل المُنْكَرُ للمتشابهات ، قوله تعالى :
{ إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ والّذينَ آمنوا الّذينَ يُقيمُونَ الصَّلواة ويُؤْتُونَ الْزَكَواة وَهُمْ رَاكِعُونَ . سورة المائدة الآية 55} .
وقوله تعالى :
{ يَا أيُّهَا الّذِينَ آمنُوا أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأولي الأمْر ِ مِنْكُمْ فإنْ تَنَـاـزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوم ِ الآخِر ِ ذَلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأويلاَ . سورة النساء الآية 59 } .
وغير هاتين الشهيرتين ، كذلك الشهيرتان الأُخْرَيَان : آية التطهير.
قوله تعالى :
إنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البّيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرا . سورة الأحزاب الآية 33 } .
وآية المباهلة ، قوله تعالى :
{ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأنْفُسَنَا وَأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الكَـاذِبينَ . سورة آل عمران الآية 61 } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم الخاتمة ، التي أنزلت في غدير خم ، بعد أن أعلن رسول الله (ص) على الملأ الغفير من الحجيج ، في حجة الوداع ، أن الله عز وجل ، أمر بتولية علي بن أبي طالب ، واستخلافه وتعيينه أميراً للمؤمنين دون منازع . وبعد أن بلَّغ رسول الله (ص) ، وشهدت الخاصة والعامة من الألوف المؤلفة ، أنزل الله عز وجل :
{ اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَروُا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُم واخْشَوْنِ اليَومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينَا . سورة المائدة الآية 3 } .
على أن من يُريد الإستزادة ، فقد صُنِّفَتْ في هذا الأمر مجلدات ، بأقلام صِدِّيقة شريفة ، فلتراجع .
ث) علي ومعاوية ـ علي والخوارج . يعني بداية اقتتال المسلمين . ولإزالة ما يسبب هذا الموضوع من غصص ، وشعور بالأسى العميق والمرارة ، عند أنصار الله الأصفياء والأنقياء من المسلمين ، نذكر الآية الكريمة التي كان يستشهد بها الإمام علي عليه السلام ، وهي قول الله عز وجل : في سورة البقرة آية 253 :
{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْض ٍ مِنْهُمْ مَنْ
كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَـات ٍ وءَاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ البَيِنَـاـتِ وأيَّدْنَـاهُ بروح ِ القُدُس ِ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذينَ مِنْ بَعْدِهمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ البَينَـاـتُ وَلَكِنْ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُريد } .
جـ) كربلاء : النكسة التاريخية الثانية للأمة بعد السقيفة .(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) إضافة إلى الآيات القرآنية التي أبرزت قيمة الحسنين بني علي بن أبي طالب بني فاطمة الزهراء بنت رسول الله محمد (ص) كمنارتي هداية للأمة وكنزين لها مذخورين ، فقد أجمعت الأمة على أحاديث كثيرة في شأنهما عن النبي (ص) أبرزها : ( الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ) أما الحسن ، فقد أرسل معاوية إلى جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجـة الحسن، أني مزوجك ابني يزيد على أن تَسُمِّي الحسن ، وبعـث إليها مائة ألف درهم، ففعلت وسمت الحسن ، فسوَّغها المال ، ولم يزوجها من يزيد .
وأما إرث محمد (ص) ووريثه الآخر ، الحسين (ع) ، فقد عزموا عليه أن يبايع الطاغية يزيد بعد وفاة الطاغية معاوية . فأبى الحسين وسار بكوكبة تاريخية من أبنائه وإخوانه ونسائه وبعض أصحابه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الأبرار الشجعان الميامين ، مستجيباً لدعوة من شيعته وشيعة أبيه (ع) في كوفان العراق .
وهناك انقلب عليه القوم ، معظمهم ، جبناً ورغبة عن الحق إلى باطل الدنيا الدنية . ومالاؤا الجهاز الحاكم بكل كفره ووحشيته ، وطغيانه واستكلابه . وكان حكـم الجهاز الحاكم هو الإصرار على الذبح الجماعي . فذبح هذا الحسين (ع) ، بعد أن ذبح أمام عينيه أطفاله وإخوانه وأصحابه جميعاً .
وبهذا المستوى من الفظاعة والفظاظة التاريخية ، سبيت نساء الحسين (ع) ، أزواجه وبناته وعلى رأسهن أخته زينب بنت علي (ع) بطلة كربلاْ ، من العراق ، إلى مجلس الطاغية يزيد في الشام ، وعلىأقتاب الإبل . يتقدم موكبهن أمام أعينهن حملة الرؤوس على أسنة الرماح ، وفي مقدمتها الرأس الشريف ، رأس الحسين .
في القرآن المجيد ، في سورة الشمس ، هذه الآيات :
{ كذَّبَتْ ثَمُودُ بطَغْوَاهَا . إذْ انْبَعَـثَ أشْقَـاـهَا . فَقَـالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وسُقْيَـاـهَا . فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بذَنْبهمْ فَسَّوَاهَا. وَلاَ يَخَافُ عُقْبَـاـهَا } .
وواضح في هذه الآيات الكريمة ، أن رسول الله ، وهو صالح (ع) قال لقومه ثمود ( ناقة الله وسقياها ) أي احفظوها وانتفعوا بها . فكذبوه فذبحوها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم ، فدمَّر مدائنهم وحضارتهم وسوَّاها بالأرض بعد أن جعلها قاعاً صفصفا . وما يتبادر إلى الذهن بسرعة هنا هو المقارنة بين الحسين (ع) . وبين الناقة . فإذا كان سبحانه غضب هذا الغضب الشديد لأجل ناقة جعلها مصدر نفع للقوم فعقروها . فكيف يكون غضبه للحسين الإنسان الذي هو صفوة أحَبِّ الأنبياء رسوله محمد (ص) . لا شك أن العذابَ واقع ٌ بهذه الأمة منذ ذلك الحين ، عذابَ خِزْيٍ وإهلاك وتدمير ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، ويخشى أن يكون هذا العذاب باقياً حتى يتوب القوم ويرجعوا إلى الله وآياته ويؤولوها كما أراد سبحانه وتعالى عما يصفون .
حـ) بنو أمية وتوارث الحكم وجعله ملكياً (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) في الخلاف بين علي (ع) ومعاوية ، وجدت الأمة نفسها وجهاً لوجه مع هذه الآية الكريمة :
{ وَإنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأصْلِحوُا بَيْنَهُمَا فَإنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أمْر اللهِ فإنْ فَاءَتْ فَأصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بالعَدْلِ وأقْسِطُوا إنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ . سورة الحجرات الآية 9 } .
وانقسمت الأمة ، في وقت ، كان يجب عملاً بهذه الآية أن تقف جميعها إلى جانب علي ٍ الخليفة المنتخب المبايَع ِ على صعيد الأمة كلها . وبغى معاوية ، وأعلن العصيان وهيأ للقتال . فكان باغياً بالنص الواضح الذي لا يقبل مناقشةً ولا تأويلا . ووقف معه رجال ووقف أقوام . وكان لا بد لعلي (ع) من القتال دفعاً عن دين الله الذي هو آنذاك مؤتمن عليه على مستوى الأمة جمعاء . وكانت المعارك التاريخية والقتلى بالمئات والألوف . ثم كانت الخدعة المشهورة برفع المصاحف .
ثم كان التحكيم غير الشرعي ، والذي أكره عليه الإمام علي (ع) . ثم خرج الخوارج نتيجة لذلك فِتَنٌ هائلة متداخلة ، أهدرت دماءً غزيرة وهِمَمَاً ورجالاً وحضارةً كان مكتوباً لها أن تبسط العدالة والحرية والسعادة على أهل الأرض في دنياهم وتجعل منها جسراً صِراطاً مستقيماً لأُخراهم . هذه الحضارة هدمها معاوية وحزبه ، وما زال محازبوه ناهجوا نهجه ، الراضون بفعلته ، في واقع الهدم وواقع العقوبة وغضب الله .
بغى معاوية ، وألقى الأمة في هُوَّةٍ كأنها بلا قرار، ما زالت فيها لتاريخه.
بغى معاوية تحت ستار الثأر للخليفة عثمان ، ولكنه أهلك الأمـة
وكذَّبَ .. وكَذَّبَ .. فحوَّلَ الأمة إلى مُلْك ٍ عَضُوَض ٍ يتوارثه الأبناء عن الآباء ، الطغاة عن الطغاة .
ما تتجرعه الأمة اليوم من غصص ، هي ثمرات لما زرع معاوية
والذين توارثوا الخلافة من بعده : بنو أمية .
خـ) بنو العباس وتوارث الحكم وجعله ملكيا (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- كان النشاز في حكم بني أمية واضحاً عند جماهير المسلمين ،عند العقلاء منهم منذ اللحظة الأولى . ولا سيما أنهم يقرأون القرآن ، ويقرأون فيه :
{ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللهُ فأولئِكَ هُمُ الظَّالمُونَ } …
ويعلمون أنَّ أصحاب الحق في هذه الخلافة ، هم أهل بيت النبوة عليهم السلام . وتفاعلت النقمة ، ثم الغضب الصامت ، ثم تأجج الغضب ، ثم انفجر في ثورة قادها العباسيون تحت شعار : (الرضا لآل البيت ) . ونجحت الثورة نجاحاً منقطع النظير ، وإنما ، كأنما في بحيرة دماء ، دماء الأمويين . ثم بدا أنها تناست (الشِّعار) ، ثم اتضح أنها نسيته تماماً . فالملك عقيم ، للذين لا يخافون الله ، وهمُّهُم الدنيا وليس الدين . فانقلب بنو العباس على بني عمهم أهل بيت النبوة وأخذوا يترصدونهم تحت وطأة القتل والتشريد ، والتهديد والوعيد . وكأسلافهم بني أمية ، ثَبَّتُوا حكمهم على الدماء الغزيرة وجثث المسلمين . وكأسلافهم كذلك جعلوا الخلافة مُلْكاً عضوضاً ، يتوارثونه ، فِعْلَ الوثنيين القياصرة والأكاسرة ، وهو حرام في الإسلام الحنيف .
وكانت حضارة في عصرهم عظيمة .
إلا أنها يقيناً مشكوك في استقامتها ، وحتى في حروبها ، وحتى في فتوحاتها الثقافية ، تأليفاً وترجمةً وفلسفات ٍ، فقد كانت في غضب الله ، بدلالة أنهم ـ كما ضرب الله بهم الأمويين ـ قد ضربهم هم وضرب حضارتهم هذه التي يبكي ويتباكى عليها أكثر الناس الذين لا يعلمون ، كما يبكون على الأندلس . نعم دمَّر الله هذه الحضارة بموجات البربر والتتار ، من جنكيزخان ، إلى هولاكو ، إلى تيمور الأعرج . وعندما انحسرت أمواج التتار العاتية ، كان قد بقي من الأمبراطورية التي بسطت أجنحتها على أكثر من ثلاثة أرباع الأرض ، دويلات وإمارات تتنازع وتتقاتل ، بروح قبلية همجية كان قد أسقطها الإسلام ، وما زالت هذه الأمة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك في عصرنا هذا ، ممزقة يطبعها غضب الله بالجهل والخلاف ،
والتبعية لمستعمريها وسارقيها وقاتليها ، إلى هذا الحين . إن أبرز ما في هذه الدويلات اليوم ، أنها تحمل من الإسلام إسمه ، وتتنكر لمضمونه . فهي تشن على الحركات الإسلامية ـ حتى المعتدلة منها ـ حرباً قمعيةً دموية ً لا هوادة فيها . تُزايد بهذا العداء الحاقد على الأعداء الحقيقيين العالميين لدين الله وشرع الله وأنصار الله . فـ { إنَّ الّدينَ عِنْدَ اللهِ الإسْـلامُ } ، { وَمَنْ يَبْتَغي غَيْرَ الإسْلام ِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرينَ } . و { هُوَ الّذي أرْسَلَ رَسُولَهُ بالهُدَى وَدِين ِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين ِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْركُونَ.. } { إنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعيداً وَنَرَاهُ قَريباً } . صدق الله العلي العظيم .
د ) الفقه ، واستبعاد فقه علي وبنيه الورثة المباشرين لعلم
رسول الله (ص) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومع هذا الإستبعاد فقد كان فقه علي بن أبي طالب هو الشجرة التي تفيأ في ظلالها وقطف ثمارها فقه جميع المذاهب الإسلامية ، عن قصد أو غير قصد . سواء كان الأخذ عنه مباشرة ، أو عن أبنائه وأهل بيته عامة . ولا بدع في ذلك وهو الذي أجمعت الأمة على أن رسول الله (ص) قال فيه : ( أنا مدينة العلم وعلي بابها ) . وبديهي أن لا يُدْخَلَ إلى هذه المدينة إلا من بابها ، ذاك المؤيد المجتبى من الله عز وجل .
فمذهب الأشاعرة ، مثلا ، الذي استقر عند الأشعري أبي الحسن علي الذي أخذ عن أبيه الحسن علي ، عن أبيه ابن أبي بشر الأشعري ، وأبو بشر كان استاذه أبو علي الجبائي ( أحد كبار مشايخ المعتزلة ) وأبو علي الجبائي أخذ عن شيخ المعتزلة واصل بن عطاء كبير علماء الكلام ، وواصل بن عطاء عن أبي هاشم ( عبد الله بن محمد بن الحنفية ) وهذا عن أبيه محمد ( بن الحنفية ) بن علي بن أبي طالب . فيكون الإمام عليه السلام في ذروة هذه السلسلة البارزة في تاريخ الفقه الإسلامي .
وفي مجال ثان وبالنسبة لأكبر المذاهب الإسلامية تقريباً ، عنيت به المذهب الحنفي ، وهو المنسوب إلى ( الإمام الأعظم ) كما أسماه العباسيون ، وما تزال هذه التسمية قائمة في الشريحة الإسلامية التي تعمل بفقهه من هذه الأمة . ومشهور عند القاصي والداني أن أبا حنيفة النعمان تعلم لمدة سنتين عند الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، والإمام جعفر هو إبن الإمام محمد الباقر بن الإمام زين العابدين بن الإمام الحسين سيد الشهداء بن الإمام علي بن أبي طالب عليهم السلام جميعاً . وكما هو واضح كذلك في هذه السلسلة ، فهي تنتهي إلى الإمام علي بن أبي طالب ، فهو منها في الذروة السامقة .
وما قيل في المذهب الحنفي ، كذلك يقال في المذهب المالكي . ونختم به القول ، إذ يكفي هذا للإعتبار واليقين بعصمة أهل البيت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هؤلاء وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي عليه السلام . فعن علي أخذ ابـن عمه عبد الله بن عباس ، الذي كان يُسأل : ما علمك من علم ابن عمك ( يعني علياً ) ؟ فيجيب : كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط . وعن عبد الله بن عباس أخذ عكرمة ، وعن عكرمة أخذ ربيعة الرأي ، وعن ربيعة أخذ مالك بن أنس الذي عليه رسا المذهب المالكي وتحددت معالمه .
وقبل أن نختم تعليقنا هذا ، نذكِّر بأن جميع أصحاب هذه المذاهب وغيرها رغم كونهم أخذوا بشكل مباشر أو غير مباشر عن علي بن أبي طالب ، فقد أقفلوا باب الإجتهاد ، مما جمَّد الفقه الإسلامي ، وجمَّد بالتالي الأمة عن تمددها الفكري والتشريعي والحضاري . إلا أولئك الذين استمروا في مفهوم التوحيد وعدم تأليه المخلوقين ، على نهج أهل بيت النبوة ، فما زالوا في طاعة الله ورضاه ورضوانه ، يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وأقلامهم . فنسأل الله عز وجل وتبارك وتعالى أن يلهم الجميع إلى التوحّد في طاعة الله عز وجل ، وطاعة أولي الأمر ، ممن اصطفاهم سبحانه واجتباهم سفن نجاة في خضم التاريخ الحالكة لياليه ، المتلاطمة أمواجه .
فأما الذين في قلوبهم زيغ ، فلن يستجيبوا لهذه الحقائق ، كبرا وعنادا وعصبية . وأما الذين يعقلون ويتفكرون ، ويتقون الله حق تقاته ، فعسى ، إن استجابوا ، أن يكونوا ممن وعدهم سبحانه بوراثة الأرض والنعيم المقيم .
ذ ) التمذهب (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) السؤال المفجع في التاريخ الإسلامي : لماذا كانت المذاهب ؟ والمذاهب مزقت الأمة ، وأوقعتها في التناحر فيما بينها حتى أزالتها عن القمة الحضارية الإنسانية التي بلغتها بفضل الله وبفضل تعاليمه .
أيام لم تكن المذاهب ، ورغم مفارقات السقيفة ، ونشازات الذين في قلوبهم زيغ ، فقد انطلق المسلمون أمة واحدة ، وبأعداد قليلة وعُدَد ٍ ضئيلة ، إذا قيست بجيوش الفرس والروم . انطلقوا وأزالوا الأمبراطورية الفارسية وطوّعوا حضارتها العريقة لمصلحة هذا الدين الحنيف . كما هزموا جيوش الأمبراطورية الرومانية وأزالوها من جميع مواقعها في الشرق ، وجعلوا فلولها تتقوقع في القسطنطينية إلى حين . ثم كانت المذاهب ، عبر الغي الذي بغاه معاوية ، ومن بعده بنو أمية ، ومن بعدهم بنو العباس .
ولولا أن الأمر بقي على سنة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وباب مدينة علمه علي بن أبي طالب ، والوارثين من بعده المشاهير المشهود لهم بإجماع من أبنائه ، لكانت بقيت الأمة أمة واحدة ، وبقي الدين ديناً واحداً ، وبقيت شمس الحضارة الإسلامية تغمر كل بقعة من بقاع هذه الأرض ، وتشيع فيها العدالة والرحمة والمحبة ، بدلاً من ظلم الظالمين وسفك الدماء ، والفوضى العارمة الموقعة في الحيرة والضلالات المهلكات ، إلا من رحم ربك . ولو أن الأمة الإسلامية ـ على تراجعها المخزي ـ بقيت في منجى من أعداء الله ، لهان الأمر ، ولكان ذلك مقبولاً مع الحسرات . ولكن الطامة الكبرى ، التي أصبح يرتعش لها غضباً كيان كل مسلم عنده ولو ذرة من شرف أو كرامة ، هي هذه الحرب الضروس التي تشنها دول أهل الأرض كلها ، مطبوعة بطابع الصهيونية والوثنية العالمية ، متمثلة بالغرب الذي تخلى عن مسيحه ومسيحيته ، والشرق الذي أصبح ممزقاً بين الإلحاد وعبادة الأصنام .
فهل يعود المسلمون إلى دينهم الحنيف ؟ هل يعودون أمة واحدة ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيتوب الله عليهم وينقذهم من ضلالاتهم والخزي الذي هم فيه . وينصرهم النصر المببين . نحن بذلك موعودون . فعسى أن يكون قريباً ، ولينصرن الله من ينصره . فينجو حتى الذين في قلوبهم زيغ ، إذا رشدوا واستقاموا ، ونظروا بالعين الدامعة ، انتصاراً لله ولدينه ولأمة الإسلام ، وليس بالعين الطامعة بالجاه الحرام والمكسب الحرام والإنحياز الحرام والتعصب الحرام ، ولا بالقلوب الزائغة ، أولئك لهم خزي في الحياة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم .
وحتى لا تتداخل المفاهيم ، فإن فئة من المسلمين ، لم تتمذهب ، أي أنها ما زالت منذ عهد رسول الله محمد ، مع رسول الله محمد ، ثم دخلت إلى مدينة علم محمد من بابها ، الذي هو أمير المؤمنين علي ، هذه الفئة لم تشكل مذهباً بعينه ، وإنما هي مثلت دين الله الحنيف . كما مثلت وما زالت تمثل الركيزة التاريخية للأمة ماضيها وحاضرها ومستقبلها . فليتق الله أولوا الألباب في قاعدتهم وركيزتهم هذه ، وليعودوا إليها وإلى أصالة هذا الدين العظيم وليجاهدوا في سبيل الله ، يُسَامِحْهُمُ وَيَتُبْ عليهم الله إنه يحب التوابين ويحب المجاهدين في سبيله كأنهم بنيان مرصوص .
ر ) غلو بعض السنة والتجسيم والجبر والإستجارة بغير الله.
ز ) غلو بعض الشيعة ، والإنشغال عن التوحيد والإستجارة بغير الله .
س) التراخي فـي التوحيـد أدى إلى الخلاف والخلاف أضعف الأمة .
ش) بعد التراجع عن التوحيد ، التراجع عن التشريع .
ص) سقوط الأمة .
ض) حالتها الراهنة التي هي في الحضيض (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أكثر من التخلف أيام ما يسمى بـ ( عصر الإنحطاط ) ما هو لاحق بالأمة الإسلامية اليوم . فلولا الثورة الإسلامية المظفرة في إيران وإقامة دولة إسلامية محفوظة مؤيدة من الله عز وجل ، لكانت الأمة الإسلامية تساوي صفراً أو تحت الصفر ، مقارنة مع دول القوة وحضارة الثورة الصناعية .
فدولة إسرائيل ، ضمن حدود فلسطين المعروفة ، والتي لا يتعدى تعدادها السبعة ملايين مواطن بما فيهم جميع المهاجرين المرتقب لحوقهم بها . هذه الدولة تتحكم بجميع الدول الإسلامية المحيطة بها ، حتى والبعيدة عنها ، إما بالقوة العسكرية كما هو الحال في الشرق الأوسط . وإما بالغدر والدس والوقيعة وتأليب القوى المسيحية والوثنية ضد المسلمين في جميع أقطار الأرض . متعاونةً ( أي إسرائيل ) تعاوناً وثيقاً مع دول الحلف الأطلسي ، بقيادة القوة العظمى أمريكا . وقد أصبحت أمريكا عظمى فعلا ( بالحسابات المادية ) ، لا سيما بعد إنهيار الإتحاد السوفياتي ، الدولة التي كانت تستقطب ضد أمريكا أكثر من نصف العالم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما وقد سقط الإتحاد السوفياتي ، فقد بقيت القوى الرأسمالية متمثلة بأمريكا وأوروبا في الغرب ، وإسرائيل في الشرق ، أكبر قوى في الأرض ، لا ينافسها منافس ، ولا ينازعها منازع ولا يقف في وجه قراراتها وعدوانيتها أحد . والأوجع من ذلك كله ، أن هذه الدول وبقيادة أمريكا وبتوجيه حثيث وخبيث من دولة إسرائيل ، أخذت تعد الخطط والعدة ، لشن حرب ضروس على الإسلام كإيديولوجية منافسة لحضارتها وكعدو عالمي بديل عن الإتحاد السوفياتي . أما الدول الإسلامية في هكذا واقع ، فأحسنها حالاً ونخوةً وصموداً كأنما هي في حالة شلل ، لا حول لها ولا قوة ، بالكاد يمكنها الدفاع عن حدودها ، ولو دفاعاً انتحارياً مثل سوريا والجمهورية الإسلامية في إيران . أما بقية الدول ، فبعضها يدمّر تحت عين الشمس وعيون المسلمين ، مثل الأفغان والشيشان والعراق وفيما كان يسمى بيوغسلافيا . والدول التي لا تدمّر تداس بخطط النظام العالمي الجديد ونعال جنوده ، راضية غير مرضية ، ذليلة مستكينة ، تفضل على إخوانها في الله وإخوانها في الدين ، وحتى على أبنائها الذين ضمـن حدودها ، تفضل جلاديها وسارقيها وشاربي دماء أبنائها تحت كل كوكب ، تفضل أعداء الله الصهاينة ، وعتاة الدول الغربية الحاقدة . وليس هذا فحسب ، بل هي ( أي الدول الإسلامية ) تزايد على أعداء الله في قتال وقتل المسلمين الذين تحكمهم وتتحكم بدمائهم . علما أن الدول الإسلامية هذه ، المتهالكة على سفاحيها ، الراكعة لمغتصبيها ، هي أغنى دول العالم قاطبة ، بالذهبين : الأسود النفطي ، والأصفر الذي يُكتشف جبلاً جبلاً ولا سيما في جهات نجد والحجاز .
هذا لون من ألوان الخزي التاريخي الدامغ لأكثرشعوب هذه الأمة . هذا الحال هو من مصاديق قوله عز وجل : { ذَالِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . سورة المائدة الآية 23 } . هذا الخزي لاحق بالذين في قلوبهم زيغ وبالذين في قلوبهم مرض ، وهم من القادة عشرات ، ومن المقودين ملايين ، على طول هذه الأمة وعرضها ، وفي جميع دولها وشعوبها .
الدواء ، هو التوحيد ، هو عبادة الله وحده ، وإطراح عبادة القادة الجزارين بأفكارهم وأفعالهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدواء ، هو التمسك بحبل الله المتين ، بكتابه وشرعه وتعاليمه .
الدواء ، هو الخروج من المذاهب الحاقدة ، إلى الأمة السوّية التي قال فيها سبحانه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أمَّةٍ أخْرجَتْ لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بالمَعْروُفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ باللهِ . سورة آل عمران الآية 110}.
الدواء ، هو حب الله ملء القلوب وجمامها ، حتى إذا طفحت بحب الله ، كان الحب لازماً لرسول الله محمد ولأهل بيته الذين أمر الله لا ببغضهم وببغض تابعيهم ، ولا بالحقد على أنصارهم أنصار الله ، ولا بقتلهم وسَبْيهم كما فُعِلَ في كربلاء ، ولكن أمر سبحانه بمودتهم وطاعتهم وتوليهم بعد الله ورسوله .
إذا اتجه مفكرو الأمة وعلماؤها هذا الإتجاه ، ونبذوا الزيغ وأمراض التمزق والحقد وعصيان الله وتأويل المتشابه من كتابه تأويلاً فيه الجنف والبغي والإنحراف عن صراطه المستقيم ، إذا فعلوا كل ذلك ، فليبشروا بالنجاة ، نجاتهم كأفراد ، ونجاتهم كأمة وعدها الله بميراث الأرض والنصر وبالفتح المبين .
{ وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُه إنَّ اللهَ لَقَويٌ عَزيزٌ . سورة الحج الآية 40 } .
فـ { يَأيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُو أنْصَارَ اللهِ كَمَا قَالَ عِيسَى بنُ مَرْيَمَ لِلحَواريينَ مَنْ أنْصَاري إلَى اللهِ قَالَ الحَواريونَ نَحْنُ أنْصَارُ الله ِ فَآمَنَتْ طَائفَةٌ مِنْ بَني إسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأيَّدنَا الّذينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوهمْ فَأصْبَحُوا ظَـاـهرين . سورة الصف الآية 14 } .
و { الَّذِينَ فِي قُلوُبهمْ زَيْغٌ } وقفوا من الشيطان مثلا مواقف مختلفة كلها خاطيء . منها أن بعض فقهاء بني أمية ثم بني العباس ، وغيرهم ، إلى يومنا هذا ، كانوا وما زالوا يصورون لأنفسهم وللحكام ، أنهم ما داموا مسلمين ، فليس للشيطان عليهم سلطان ، مستدلين بقول الله تعالى مخاطباً إبليس لعنه الله ، في هذه الآية وأمثالها من المتشابه .
{ إنَّ عِبادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى برَبكَ وَكيلاَ . سورة الإسراء الآية 65 } .
ومنهم الذين يلقون المسؤولية كلها على الشيطان ويبرئون منها أنفسهم .
ومنهم من تزلزل إيمانهم وأخذوا يتساءلون لماذا خلق الله الشيطان ، ولماذا سلَّطه على الإنسان يوقعه في المعاصي ويضله الضلال المبين ، حتى أن بعضهم اعتبره مظلوماً مجنياً عليه ، وكتبوا في ذلك الكتب ، وليس آخرها كتاب ( دفاعاً عن الشيطان ) ، وآخر صدر حديثاً يدافع فيه عن سليمان رشدي وكلاهما لصادق جلال العظم .
أما الآية الكريمة { إنَّ عِبَادي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهمْ سُلْطَانٌ…} التي أوّلوها ابتغاء الفتنة ، فتنة أنفسهم ، وفتنة الآخرين ، فتأويلها الصحيح غير ذلك ، ان قوله تعـالى فيها : { عبادي } يعني : أهل طاعتي .
إذن أهل طاعة الشيطان هم هؤلاء الذين في قلوبهم زيغ على اختلاف تفكيرهم واعتقاداتهم . هم الذين كان الله سلَّط الشيطان عليهم . ثم رفع سلطانه عن الجميع في هذا العصر ، ومع ذلك لم ترتفع المعاصي من الناس في جميع أقطار الدنيا .
وهذا يعني أن وجود الشيطان وعدمه سواء .
أما لماذا خلق الله الشيطان ؟ فلأن ذلك في جملة خلق الأضداد . لتتحقق المشيئة بين عناصر الخير والحق والجمال من جانب وبين عناصر الشر والباطل والقبح من جانب آخر . ولولا التضاد بين الموجب والسالب ، لما انقدحت شرارة الحياة ، ولا نورانية الإيمان ولا حرارة الحب .
أما حكم الله عز وجل في هؤلاء وأولئك من الذين { فِي قُلوُبهمْ زَيْغٌ } فقوله جلت حكمته : { فَلَمَّا زَاغُوا أزَاغَ اللهُ قُلوُبَهُمْ } (1) وبديهي أن من يزغ الله قلبه ، يضلِّه ، { وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ هَادٍ }(2) وكذلك قوله عز شأنه :
{ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرنـَا نُذِقـْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ }(3) سواء كان من الإنس أو الجن { فَبأيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تكَذِبَانِ } (4) .
ومن الأدلة على أن الزائغين هم من المسلمين أصلا، كونه سبحانه ضمّن هذه الدلالة فيما علّمنا أن ندعوه به :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة الصف الآية 5 .
(2) سورة الرعد الآية 33 .
(3) سورة سبأ الآية 12 .
(4) سورة الرحمن .
{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلوُبَنَا بَعْدَ إذ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لنَا مِنْ لَّدُنْكَ رَحْمَة ًإنَّكَ أنْتَ الوَهَّابُ } (1) .
أما قولـه تعالى : { ابْتِغَاءَ تَأْويلِهِ } في الآية موضوع بحثنا ، ففيه تضمين (2) واضح حيث يصبح معناها : فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل المتشابه تأويلاً فاسداً من عند أنفسهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران الآية 8 .
- التضمين ( اصطلاحاً ) أن يكون في عبارة ما ، معنى أو معان تتجاوز الكلمات التي في هذه العبارة . وهو في القرآن كثير . فعلى سبيل المثال ، قوله تبارك وتعالى : { للهِ مُلْكُ السَمَواتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهنَّ وَهُوَ عَلىَ كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ } . آخر سورة المائدة .
والمعنى الزائد على الكلمات . والذي هو ضمن العبارة استنتاجاً ، أنه سبحانه وتعالى ليس له ملك السموات والأرض وما فيهن فقط ، بل وما بينهن كذلك .
وقوله تعالى في أول سورة الأنعام : { الحَمْدُ للهِ الَّذي خَلَقَ السَمَوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَـاتِ والنُّور ثُمَّ الَّذِينَ كَفَروُا برَبِّهِمْ يَعْدِلوُنَ } . والتضمين فيها ، أنه خلق كذلك ما فيهن وما بينهن ، وخلق كل شيء و { يَزيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ . سورة فاطر الاية 1 } .
وقوله تعـالى : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ . سورة الأنعام الآية 3 } . والتضمين أنه يعلم ما بين أيديكم وما خلفكم ويعلم ما تخسرون ، وهو بكل شيء عليم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله تعالى : { وإذَا بُشِّرَ أحَدُهُمْ بمَا ضَرَبَ للرّحْمَـاـن مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظيم . أوَ مَنْ يُنَشَّؤُا في الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيْرُ مُبينٍ . سورة الزخرف الآيات 17 ـ 18 } .
والتضمين بين الآيتين ، بمعنى أن يصبح السياق مثلاً هكذا : … ظل وجهه مسوداً وهو كظيم فيعترض غاضباً قائلاً في نفسه أو مجاهراً بقوله : { أَوَ مَنْ يُنَشَّأُ فِي الحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الخِصَام غَيْرُ مُبين } ، يعني الأنثى ، بخلاف الذكر الذي ينشّأ في الخشونة وعلى الخصومة والتدريب على القتال .
وقوله تعالى : { وأنَّ الّذينَ لا يؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ أعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً ألِيمَا . سورة الإسراء الآية 10 } والتضمين فيها ، هو العنصر الأول والأساس للإيمان وهو شهادة أن لا إلـه إلا الله ثم عنصر ثالث للإيمان المقبول هو عمل الصالحات ، وليس قبل الآية في السورة ما يشير إلى هذين الشرطين . فالتضمين إذن في هذه الآية هو التوحيد وعمل الصالحات إضافة للإيمان بالآخرة ، ويحصل ذلك عن طريق الإستنتاج .
وقوله سبحانه : { مَثَلُ الجَنَّةِ التي وُعِدَ المُتَّقُونَ فِيهَا أنْهَارٌ … كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّار … سورة محمد الآية 15 } . والتضمين فيها عند قوله تعالى كمن هو خالد في النار … أي كمن كفر أو أشرك أو عاند أو أصرّ على كبار المعاصي لؤماً واستكباراً فهو خالد في النار ، هل يستويان هذا في جحيمه والتقيّ في نعيمه .
وقوله عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إليْكَ حَتَّى إذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلّذينَ أوتُوا العِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً . سورة محمد الآية 16} . والتضمين فيها ، بعد ( يَسْتَمِعُ إليْكَ ) و ( مَاذَا قَالَ آنِفاً ) ، فيصبح المعنى تقريباً : ومنهم من يستمع إليك متظاهراً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالجد والإحترام ، وهو شأن المنافقين ، حتى إذا خرجوا من عندك قالوا مستهزئين ( مَاذَا قَالَ آنِفاً ) أي أن ما كان يقوله رسول الله (ص) لا
يعجبهم وليسوا به مقتنعين ، إضافة إلى ما يحمِّلون كلامهم من الهزء والسخرية .
وفي سورة الصافات قوله تعالى ، آية 136 ـ 137 في الكلام عن تدمير قوم لوط : { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرينَ . وَإنكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهمْ مُصْبحين . وبالَّّيْل ِ أفَلاَ تَعْقِلُون } قوله تعالى : ( إنكم لتمرون… ) فيه إطلاق يعني جميع المخاطبين ، وهو محال ، فينبغي أن يكون التضمين : بعضكم وليس جميعكم .
هذا بخصوص ( التضمين ) ، ونكتفي بهذه النماذج ، على أن في القرآن المجيد مئات الآيات تتضمن معاني تتجاوز الحروف والكلمات ، وذلك من جملة مدهشات هذا المعجز العظيم الذي هو القرآن ، كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .
ثانياً : معنى قوله تعالى :{ وما يعلم تأويله إلا الله}
إذا كـان الله سبحانه وتعالى يعلم لغات الخلق وأشياء الكون ، ما ظهر منها وما خفي ، من أصغر جزيء في الذرَّة إلى أعظم جرم في الكون إلى الكون كله .
وهو سبحانه يعلم مَنْ خَلَق ، ويعلم في المخلوقين أفكارهم وتأويلها قبل أن تصدر وتتشكل ، وهذا معنى قوله تعالى: { إنَّهُ عَليمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ . سورة الملك الآية 13} أي المصادر . ثم بديهي أن يعلمها بعد ذلك وهي في طور الرمز قبل أن يؤولها المخلوق ويخرجها شكلاً أو قولاً أو كتابة، قوله تعالى :
{ وَأسِرُّوا قَوْلَكُم أوْ اجْهَرُوا بِهِ إنَّهُ عَليمٌ بذَاتِ الصُدُورِ . ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ . سورة الملك الآية 13 ـ 14 } .
فهو سبحانه يعلم تأويل كل شيء تأويلاً دفعياً أزلياً أبدياً، ومن ذلك تأويل متشابهات القرآن التي هو سبحانه أنزلها على قلب رسوله محمد (ص) ، يعلمها سبحانه كما يعلم المؤولين وما يؤولون من مقدمات الفكرة قبل أن تتبلور عند المفكر ، إلى المفكر قبل أن يؤول هو فكرته ، إلى التأويل وهو مستبطن ، إلى التأويل في ظهوره :
{ ألاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ }
ذلك بعض معنى قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأويلهُ إلاّ اللهُ}
أما نسبة علمه سبحانه إلى علم الراسخين ، كنسبة كرمه إلى الأكرمين من الناس ، أو نسبة قوته إلى الأقوياء ، أو نسبة نوره إلى المستنيرين به ، أو حلمه إلى الحلماء ، أو غناه إلى الأغنياء ، أو رحمته إلى الرحماء ، أو حكمته إلى الحكمـاء إلخ … وهي نسب ليس لها قياس ، لاستحالة قياس المحدود بالمطلق ، وهذا من معاني قوله عزت عظمته :
{ وَلهُ المَثَلُ الأعْلىَ فِي السَمَوَاتِ وَالأرْضِ(1) وَهُوَ العَزيزُ الحَكِيمُ . سورة الروم الآية 27 } .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال عزت عظمته : { مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَد ٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إلـاـهٍ إذَنْ لَذَهَبَ كُلُّ إلـاـهٍ بمَا خَلَقَ . سـورة المؤمنـون الآية 91 }
فشرط الإلـاـهية الخَلْقُ . وقد يدَّعي مخلوق أنه يخلق صورةً، تمثالاً ، بناية ً ، مدينةً نفقاً في جبل ، مركبةً فضائية ، قمراً اصطناعياً ، فبصرف النظر عن كونه يخلق اعتماداً على مواد ونواميس خلقها الله ، فهو لا يمكنه أن يخلق كما خلق الله وكما يخلق الله : هذا الكون الذي حارت الألباب في بداياته ونهاياته إذا كان له نهايات . كما حارت في كل خليقة على حدة ، من الذّرة إلى المجرة . والله عز وجل يدعوهم إلى التأمل والتفكر في خلقه ، ثم يقول سبحانه متعالياً متكبراً ، متعززاً بالقدرة والهيمنة والبقاء :
{ هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأروني مَاذَا خَلَقَ الّذينَ مِنْ دُونِهِ . سورة لقمان الآية 11 } ولكي يكون الإلـه إلـهاً حَقّاً ، ينبغي إضافة إلى خالقيته أن تكون له الأسماء الحسنى والأمثال العليا . وقد نبه سبحانه إلى بعض الظاهري في قوله عز وجل :
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
{ هُوَ اللهُ الذي لا إلـَهَ إلاّ هُوَ عَـاـلِمُ الغَيْبِ والشَّهَـاــدَةِ هُوَ الرَّحْمـنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللهُ الَّذي لا إلَـهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلاَمُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْركُونَ . هُوَ اللهُ الخَــاـلِقُ البَارىءُ المُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبحُ لَهُ مَا في السّمَـاـوَات والأَرْضِ وَهُوَ العَزيزُ الحَكِيمُ . سورة الحشر الآيات 22 ــ 24 } .
فأي بشر أو حجر أو مخلوق مزعـومـة إلآهيتـه ، أو مُدَّعَـى إلـا ـهاً ، يمكن أن يكون له شيء من هذه الأسماء التي لا يستطيع أن يحتمل منها ولو إسماً واحداً مع المثالية العليا لهذا الإسم ؟ أي مخلوق ، مهما عظم ، في هذا الكون الواسع الفسيح ، العريق العميق ؟
وفي قوله عزت عظمته : { لَهُ المَثَلُ الأعْلَى فِي السَّمَـاـوَات ِ والأرْض ِ … } أي المثل الأعلى مع كل إسم حسن ، لأنه وحده { لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى ـ سورة الحشر الآية 24 } وهذه الآية تماثل تلك { لَهُ المَثَلُ الأعْلىَ } ، وهاتين تماثلان قوله عز وجل : { لاَ إلـَهَ إلاَّ اللهُ . سورة محمد الآية 19 } .
فآية { لَهُ المَثَلُ الأعْلىَ } فيها إطلاق ، أي له المثل الأعلى دون أن يَحُدَّهُ حَدٌّ .
و { لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى } ، أي كل إسم حسن ، كذلك إطلاقاً ودون حدود . و { لا إلـه إلا الله } نفي للآلهة من دونه . وحده الإلـه الحق .
أما أن يسمّوا أي شيء أو مخلوق من دونه إلـهاً ، فذاك ظن ، أو زعم ، أو اشتباه ، أو شرك ، أو كفر منهم لإلآهيته الحقة التي لا إلآهية اطلاقاً سواها .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكلمة { مَثَل } هي عينها { مِثْل } وهو سبحانه { ليس كمثله شيء . سورة الشورى الآية 11 } أي ليس مثله شيء ، ولـه المثل
الأعلى ، فأيما مخلوق في الوجود ، إذا كان لا بد من قياسه أو مقارنته مع عزة الله ، فيكون قياس المحدود بالمطلق . فكل علم هو جهل نسبي بالنسبة إلى علم الله ، فما كان فيه من حقائق فهي من علم الله . وكل قوة هي ضعف مقارنة مع قوة الله ، وكل عظمة هي هوان أمام عظمة الله ، وكل سلطان هو محكوم بسلطان الله . وكل غنى هو فقر إلى غنى الله ، وكل كِبْر ٍ هو حقارة أمام كبرياء الله ، إلى آخر ما يعلم الإنسان وما لا يعلم ، من مقارنات أسمائه الحسنى وأمثاله العليا سبحانه وتعالى عما يصفون .
ثالثاً : معنى قوله تعالى :
{ وَمَا يَعْلَمُ تَأويلَهُ إلاَّ اللهُ والراسِخُونَ في العِلْم }
إن الرسوخ في العلم واجب كفائي ، يخلق له الله سبحانه ويختار من يشاء من عباده ، ويعلمهم العلم ويعينهم عليه :
{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللهِ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشْركُون . سـورة القصـص الآية 68 } .
وإنّ تعلّم العلم من الراسخين واجب عيني ، يؤاخذ على تركه أو التقصير فيه كل مكلَّف .
ومنذ القرآن الكريم ، يعتبر أول وأعظم وأوجب مصدر للعلم بعد الله جلّت عظمته ، هذا القرآن وما فيه من آيات بينات .
والمطلوب في مواجهة الآيات البينات ، سواء من الراسخين أو المتعلمين ، أولاً ـ التصديق بها ، وثانياً الإحاطة بعلم ما فيها نظراً وعملاً .
ويُؤاخَذُ الراسخون بالإخلال بأحد الأمرين ، وهو قول الله تعالى فيهم :
{ وَاتْلُ عَلَيْهمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَـاـهُ آيـَاـتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَيْطَـانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَـاـهُ بهـَا وَلَكِنَّهُ أخْلَدَ إلىَ الأرْضِ وَاْتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ
كَمَثَلِ الْكَلْبِ إنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ، ذاَلِكَ مَثَلُ القَوْم الَّذِينَ كَذَّبوُا بآيـَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّروُنَ . سورة الأعراف الآيات 175 ـ 176 } .
ويؤاخذ العوام بترك تعلمها من العلماء الصادقين المؤيَّدين من الله عز وجل ، إذا أخلّوا كذلك بأحد ركنيها : وهما التصديق والتطبيق نظراً وعملاً (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أي التصديق والتطبيق نظراً وعملاً بآيات القرآن الكريم تفصيلاً ، وبجميع ما بين دفتي هذا الكتاب المجيد إجمالاً . على أنه تنزيل من رب العالمين ، وعلى أنه كلام الله وكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، والذي هو تبيان لكل شيء . فمن ارتاب بشيء منه فقد كفر. كالذين يؤمنون ببعض القرآن ويكفرون ببعض ، ولعل ثلآث آيات كريمة في سورة آل عمران ، مفصلة تفصيلاً مذهلاً ، تتغلغل إلى أعماق المنافقين ، وتفضح أدق نواياهم ، لعلها تكفي بما تلقي من الضوء على هذين المقصدين : التصديق والتطبيق نظراً وعملاً . وكيف أنه هو سبحانه يعلمنا النظر ويعلمنا العمل ما دمنا في طاعته وحبه ، ويكملنا بهما الكمال الإنساني بين مجاهدتنا أنفُسَنَا وأعداءَنَا أعداء الله ، وبين ترقِّينا إلى عليين حيث منازل الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء . هذه الآيات هي قوله تعالى ، في الآية 118 من سورة آل عمران :
{ يَـأيُهَا الذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بطَانَةً مِنْ دونِكُمْ لا يألُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا ماَ عَنِتُّم قَدْ بَدَتْ البَغْضَاءُ مِنْ أفْوَاههمْ وَمَا تُخفي صُدُورُهُم أكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيـاتِ إنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ }.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وما أعظم هذا التعليم ، وهذه الكشوفات النفسية ، فيمن نحسبهم أصدقاء بينما هم من ألَدِّ الأعداء .
وما العمل معهم يا ربنا يا ذا الجلال والإكرام ويا أرحم الراحمين؟ العمل ، هو في قوله عزت عظمته ، بعد هذه الآية مباشرة ، متابعاً الكشف
عن نفوس هؤلاء ، ومتابعاً سبحانه تعليمنا سلوك الصراط السوي الذي لا سقوط معه ولا جنوح ولا انحراف ، أبداً نحن في الضوء ، ما دمنا من الصِدِّيقينَ والمطيعين الأبرار . قوله عز شأنه :
{ هَـاـأنْتُم أولاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بالكِتـابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وإذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بغَيْظِكُمْ إنَّ اللهَ عَليمٌ بذَاتِ الصُدُورِ آل عمران الآية 119}.
في هذه الآية بيَّنَ لنا سبحانه ارتيابهم بقِسْم ٍ من القرآن ، وربما بالقرآن كله ، ذلك عند قوله تعالى { وتؤمنون بالكتاب كله } والتضمين هو أنهم هم لا يؤمنون بالكتاب كله ، كما أَطْلَعَنَا كذلك على أحاسيسهم ومشاعرهم ، ومدى غيظهم من الصِدِّيقين أهْل ِ القرآن الكريم ، لدرجة أنهم يعضون أناملهم من شدة غيظهم على المؤمنين الصديقين ، حيث أنه سبحانه حفظهم وثبتهم ودفعهم عنهم فلا يستطيع هؤلاء المنافقون النيل منهم لا باليد ولا باللسان . وهنا علَّمنا تبارك وتعالى كيف نقابلهم سلوكيا ، فلا بالغضب ولا بالحزن وتوتر الأعصاب وإنما { قل مُوتُوا بغَيْظِكُمْ إنَّ اللهَ عَليمٌ بذَاتِ الصُّدُور } .
كما أطْلَعَنَا سبحانه على أعمق نواياهم على المؤمنين الموقنين :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
{ إنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تسُؤْهُمْ وَإنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بهَا وإنْ تَصْبروا وتتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُم شَيْئاً إنَّ اللهَ بمَا يَعْمَلونَ مُحيطٌ . سورة آل عمران الآية 120 } .
وكذلك أمرنا عز سلطانه ، أن نرتب على هذا الإطِّلاع موقفاً آخر وسلوكاً مناسباً له وهو قوله تعالى { وإنْ تَصْبروا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللهَ بمَا يَعْمَلونَ مُحيطٌ } . والحمد لله رب العالمين .
وذلك قول الله تعالى فيهم :
{ وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بآيـاـتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ . حَتَّىَ إذَا جَاؤُوا قَالَ أكَذَّبْتُمْ بآيـاـتي ولَمْ تُحيطُوا بهَا عِلْماً أمْ مَاذَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ . سورة النمل الآيات 83 ـ 84 } .
وفي هذه الآية الأخيرة : { حَتَّىَ إذَا جَاؤوُا قَالَ … } فيها ثلاثة معاتب مع الإستفهام الإستنكاري . وكلها مبطن بالوعيد والتخليد في النار ، كما في الآية التي قبلها { وَيَوْمَ نَحْشُرُ … } .
المعتب الأول ، قوله تعالى : { أكَذَّبْتُمْ بآيَـاـتِي } وهذا كافٍ كدليل دامغ على الكفران .
المعتب الثاني ، قوله تعالى : { وَلَمْ تُحِيطوُا بهَا عِلْماً } ، ومن عدم الإحاطة : الجهل بوجودها ، ولا تصديق مع الجهل ولا تكذيب . ومن عدم الإحاطة أخذ العلم بها مقروناً باللامبالاة . ومن عدم الإحاطة المبالاة بها ولكن معها عدم التدبر والفهم وعدم السؤال عن التأويل .
المعتب الثالث ، قوله تعالى : { أمْ مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلوُنَ } ، وهذا السؤال من مقام عزته وغضبه سبحانه ، فيه الداهية الدهياء : { مَاذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
كُنْتُمْ تَعْمَلوُنَ } ، ماذا كنتم تقرأون بعيداً عن القرآن وآياته ؟ فكراً عالمياً ؟ آداباً ؟ علوماً إنسانيةً ؟ عشراتِ الكتب ، مئاتِ الكتب ، بعيداً عن القرآن ، عن كلام الله عز شأنه ، وجلَّت عظمته ، كل ذلك والقرآن مهمل ، كل ذلك والقرآن مهجور . { مَاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلوُنَ } ؟ كَسْبُ العيش ؟ صحبة المرموقين من أهل الدنيا ، صحبة السوء ؟ المِهَن ؟ الإقتصاد ؟ الإستغراق في الدنيا حتى الغرق . ولا اهتمام بكتاب الله ، رغم أنه ليس في الأرض ولا تحت هذه السماء الزرقاء كتاب عزيز منزل غيره لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وصدق الله العليُّ العظيم قوله :
{ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقَولُ يَـاــلَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَسُولِ سَبيلاَ . يَـاـوَيْلَتى لَيْتَني لَمْ أتَّخِذْ فُلاَناً خَليلاً . لَقَدْ أضَلَّنِي عَن ِ الذِّكْر بَعْدَ إذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيطَـَانُ لِلإنْسَانِ خَذولاَ . وَقَالَ الرَّسُولُ يـارَبِّ إنَّ قَوْمي اتَّخَذُوا هَذّا القُرآنَ مَهْجورَا . سورة الفرقان الآيات 27 ــ 30 } .
{ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر }(1)
القرآن بين أصالة العربية والترجمة :
وبنعمة منه ورحمة للعالمين ، جعله عربياً ، أي واضحاً جلياً صافياً مشرقاً (2) ، إضافة لكونه باللسان العربي المتعارف بين لغات أهل الأرض . وهو سبحانه علَّم اللغات ، وهو تبارك وتعالى أدرى بالأفضل منها والأحسن والأسمى والأرقى . ففي حديـثٍ سئـل رسـول الله ( ص ) : أي المعـارف القـرآنية ذات شرف وفضيـلة أكثـر ؟ أجـاب ( ص ) : عربيتها ، وابحثوا عنها في الشعر . ومن هنا نفهم مدى إهتمام أمير المؤمنين علي عليه السلام بوضع قواعد النحو للغة العربية ، مكلِّفاً بذلك ذاك الألمعي ، أبا الأسود الدؤلي ، بوضع الأسس في علم النحو مُشْرفاً عليه السلام على عمله كلِّه ، موجِّهاً وموثِّقاً ، ومن هذا الأساس كان فيما بعد ، إعراب القرآن ، وتبعاً لذلك وضع حركات الإعراب ، وبعدها نقط الحروف المعجمة فيه ، وكل ذلك كان سبباً مهماً ، في قراءة وفهم القرآن الكريم خاصة ، وحفظ اللسان العربي عامة ، وذلك بفضل الله عز وجل وتدبيره وعنايته ورعايته .
ومن ثم يجب أن نوقن أن أيَّة ترجمة للقرآن الكريم ، لن تغني شيئاً عن الحق والحقيقة والأسرار ، والطاقات التي تحملها ( شيفرته) ورموزه وآياته ، ولا سيما ما يسمى بمفاتيح السور ، أو الأحرف النورانية ، أو المثاني كما سنعلم بعد قليل ، بإذنه تعالى في هذا البحث ، فهي قطعاً تخرج بالترجمة عن نورانيتها، ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- سورة القمر الآيات : 17 و 22 و 32 و 40 .
- أنظر كتابنا ( العقل الإسلامي ) .
كما تفارقها ، معانيها السرية وفاعلياتها . وتصبح كالجثة بلا روح ، أو كإنسان حي سوي بدلت أعضاؤه الرئيسة كالقلب والدماغ ، أو بدلت جوارحه الأصلية بأدوات اصطناعية ، بما يخرجه إخراجاً كبيراً عن خلقته السوية التي خلق بها .
وعلى هذه فقس ما سواها بالنسبة لبقية آيات القرآن الكريم التي شاءها الله هكذا محكمةً شكلاً ولفظاً وتركيباً ومعاني وباللغة العربية .
أمُّ الكتــاــــب :
هذا من وجه في قوله تعالى : { إنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبياً . سورة الزخرف الآية 3 } ومن وجه آخر إنَّـه أي القـرآن { وَإنَّهُ فِي أمِّ الكِتـاــبِ لَدَيْنَا لَعَليٌ حَكِيمٌ . سورة الزخرف الآية 4 } ، فيجب أن نفهم ما { أُمُّ الكِتـَاــبِ } وما { عَلِيٌ حَكِيمٌ } .
ففي اللغة العربية ، أمّ كل شيء رأسه وأصلُه ، فأم الكتـاـب إذن ، هي الأصل ، الذي فرق عنه الكتـاــب ، وهو المصحف الموجود عندنا بين الدفتين . وفيه المحكم والمتشابه والمثاني والقرآن العظيم .
وإن كل ما صدر عن { أمِّ الكِتـَاــبِ } ، إنما صدر بقدر الله وقضائه السابق على إهباط الإنسان إلى الأرض واستخلافه فيها . ثم أتبعه بالتعاليم تدريجاً ، { لِكُلِّ أمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوه . سورة الحج الآية 67 }. تلك هي الشرائع المتفاوتة ، بدءاً بمرحلة بهيمية الإنسان ( نتيجة للعقوبة بصدمة الإهباط وغربة المستقر ) ثم وعده بشريعة مفصلة مسعدة ، في قوله تبارك وتعالى :
{ … فَإمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى . وَمَنْ أعْرَضَ عَنْ ذِكْري فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكَا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيامَةِ أعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني أعْمى وَقدْ كُنْتُ بَصيراً . قَالَ كَذَلِكَ أتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى . سورة طه الآيات 123 ـ 126 } .
ثم ضبطاً لمناهج المجتمعات البشرية بين مبدأ الإنسان ومعاده اختص نوحاً بشريعة بدوية ، وإبراهيم بشريعة إجتماعية رعوية وموسى بشريعة كملت سابقتيها ، وعيسى : ” إنَّمَا بُعِثْتُ لإكمِّلَ الناموسَ لا لأنقُضَهُ ” . ومحمداً عليهم وعليه السلام بشريعة الإنسان المدني العالمي { مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } .
وكل شريعة من هذه الشرائع ، هي فرقان من أم الكتـاــب ، وبكلمة أخرى ، هي مجموع الأحكام التي عُمِلَ بها في النشأة الأولى ، ثم وزعت توزيعاً عادلاً ورحيماً على مراحل البشرية بعد الإهباط .
من هم الراسخون في العلم ؟
الراسخون في العلم مرتبة ثانية بعد مرتبة رسول الله وأهل بيته (ص) . فالراسخون هم ورثة الكتاب ، وهم كذلك معصومون، وإنما عصمتهم نسبية كما سنرى في الآية الكريمة ، وهم الذين عناهم الله تبارك وتعالى بقوله :
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتـاــبَ الَّذينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابقٌ باْلخَيْرَاتِ بإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبيرُ . جَنَّـاــتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُوءاً وَلِبَاسُهُمْ فِيْهَا حَريرٌ . وَقَالوا الحَمْدُ لِلهِ الذي أذهَبَ عَنَّا الحَزَنَ إنَّ رَبَّنَا لّغَفُورٌ شَكُورٌ . الّذي أحَلَّناَ دَارَ المُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ولاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ . سورة فاطر الآيات 33 ـ 35 } .
وورثة الكتاب هؤلاء (1) ، أو الراسخون في العلم ، هم الصفوة من علماء المسلمين ، هم الذين يصطفيهم الله سبحانه لكل عصر ولكل جيل ، إلى قيام الساعة . وهؤلاء هم الذين تركوا وسيتركون بصماتهم واضحة جلية في علوم القرآن الكريم بوجه خاص ، وفي بقية العلوم الدينية بوجه عام ، كل منهم في حقل الإختصاص الذي يسّره الله سبحانه إليه ، ولربما كلف بعضهم بأكثر من حقـل علمـي واحـد . ومن هذه الحقول العلمية والإجتهادية : التفسير والتأويل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
- عن السجاد عليه السلام أنه قال : لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللجج .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : إن من أحبِّ عباد الله إليه عبداً أعانه الله في نفسه ، فاستشعر الحزن ، وتجلبب الخوف ، فزهر مصباح الهدى في قلبه . إلى أن قال : قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى من الهموم ، إلا هماً واحداً إنفرد به . فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى ، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ، ومغاليق أبواب الردى ، قد أبصر طريقه ، وملك سبيله ، وعرف مناره ، وقطع غماره ، واستمسك من العُرى بأوثقها ، ومن الحبال بأمتنها ، فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس .
من كتاب الحقائق في محاسن الأخلاق للفيض الكاشاني قدس سره . ص 10 ـ ط : دار الكتاب العربي .
وإذا كان تفسير القرآن الكريم شائعاً ومتعارفاً عند العلماء أولي الخبرة في أدوات ومفاتيح هذا العلم ، فذلك لأن التفسير يعتمد ظاهر القرآن وظواهر آياته (1) ، مموِّلاً بذلك تاريخ الفقه ودراساته وبحوثه بتوضيح نصوص التشريع مُعَوِّلاً على حجِّية الظاهر فاتحاً أبوابه الوسيعة لإجتهاد المجتهدين واستنباط الأحكام من مصادرها الإلـاـهية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ورد في كتاب قرة العيون لمؤلفه العلامة المحدث الشيخ محمد بن مرتضى ص 446 ما يلي :
” فالتأويل يجري مجرى التعبير ، فالمفسر يدور على القشر ، ولما كان الناس إنما يكلمون على قدر عقولهم ومقاماتهم ، فما يخاطب به الكل يجب أن يكون للكل فيه نصيب . فالقشرية من الظاهريين لا يدركون إلا المعاني القشرية . كذلك ينظرون إلى الإنسان ويقفون عند قشره وهو ما في الاهاب أو البشرة من البدن ، فلا ينالون إلا قشر تلك المعاني وهي ما في الجلد والغلاف من السواد والصور .
وأما روحها وسرّها وحقيقتها فلا يدركها إلا أولوا الألباب ، وهم الراسخون في العلم ، وإلى ذلك أشار النبي (ص) في دعائه لبعض أصحابه حيث قال : اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل . ولكل منهم حظ قلّ أو كثر ، وذوق نقص أم كمل ، ولهم درجات في الترقي إلى أطوارها وأغوارها ، وأسرارها وأنوارها .
الفصل بين المحكم والمتشابه :
مما تقدم ، يمكن فهم الفرق بين المحكم والمتشابه في القرآن ، أي ( الكتـاــب) ، وبين العام والخاص ، وبين الناسخ والمنسوخ ، الخ … فان المحكم والعام والناسخ ، أمور وأحكام هي ( أم الكتـاــب ) ، وهي للنشأتين : للناس في الجنة قبل الإهباط ، وللناس في الأرض بعد الإهباط (1) .
وأما المتشابه والخاص والمنسوخ ، وما شاكل ، فهي أمور متعلقة بخصوصيات هذه الأرض الدنيا ، وخصوصيات أهلها بعد الإهباط ، ولله في خلقه شؤون .
وفي رأس المتشابه ، تلك الأحرف النورانية أو المثاني ، وقد اختص الله سبحانه ، بسبع منها (2) ، رسوله محمدا (ص) مع القرآن العظيم ، قوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَـاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالقُرْءَآنَ العَظِيمَ . سورة الحجر الآية 87 } وقد يختص غيره في الغابر والحاضر . ومن وجوه أسرارها العليا أنها من أسماء الله الحسنى ، ويختص الله بها من يختصه من عباده ، بعد أن يفنى في فنائه وحبه ، ثم يبعثه الله (3) وقد أصبح في الحياة الدنيا مؤهلاً لذكره عز شأنه بهذه الأسماء العاليه ، أو الثناءات أو ( المثاني ) كما سماها في القرآن الكريم . وذلك بترتيب لها وطريقة ، يستحيل على الناس التوصل إليهما ، إلا بتوفيق وهداية منه سبحانه وتعالى عما يشركون .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أنظر كتاب ( العقل الإسلامي ) للمؤلف .
(2) شرحناها في مكان متقدم من هذا البحث ، عندما شرحنا حرف (من) في الآية الكريمة : { وَلَقَدْ آتَيْنَـاكَ سَبْعاً مِّنَ المَثَانِي وَالقُرْءَآنَ العَظِيمَ . سورة الحجر الآية 87 .
(3) هو ( الصحو بعد المحو ) بلغة أهل العرفان .
وسنذكر لاحقاً إن شاء الله ، بعض ما يمكن ذكره ، من بقية شؤونها ، و أغراضها وأنبائها الجليلة .
وفي رأس المحكم آيات التشريع .
فإذا نحن استطعنا أن نحدد آيات متشابهات ، كانت سبباً للفتن الداميات المدمرات لهذه الأمة ، نكون من جهة قد جعلناها نموذجاً عملياً لأكثر المتشابهات ، التي اتبعها وما زال يتبعها الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها تأويلاً يحكمه السفه والضلال وهوى الأنفس . ومن جهة ثانية ، نكون قد فتحنا باباً واسعاً على فردوس بحث من فراديس القرآن ، غني بأنهاره وأطياره ، وكل خير وكل جميل .
وعلى هذا الأساس ومع جلاء آيات التشريع المحكمات ، يتضح القسم الكبير الثالث من القرآن المجيد ، الذي لا هو محكم ولا متشابه ، وهو يشمل في جملة ما يشمل ، القصص والفلك والأمثال ، وغير ذلك من مواضيع هذا الكتاب المعجز الزاخر بالعظائم ، والذي لا تنفذ مناجم لؤلؤه ولا ينابيع أنواره .
فمن الآيات المتشابهات حمالة الوجوه التي أراد الله بها شيئاً فألبسوها نقيضه :
(1) آية { إنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِِّرَكُمْ تَطْهيرَا . سورة الأحزاب الآية 33 } .
أراد الله بها محمداً وعلياً وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم فذهبوا بها إلى نسوة أغضبن الله ورسوله إلى أبد الآبدين وأولوها ابتغاء الفتنة ، واتّبعوها ابتغاء تأويلها (1) تأويلاً معلناً فيه العصيان لرب العالمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هذه الآية الكريمة { إنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنْكُمُ الرجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرَا } وقع تأويلها في بيت أم سلمة إحدى زوجات الرسول (ص) . وقد ورد في ذلك ما ينوف على أربعين حديثاً عن طريقي السنة والشيعة ، أكثرها عن طريق السنة ولا سيما في صحاحهم . وجميع هذه الأحاديث تؤكد حقيقة واحدة هي أن هذه الآية الكريمة نزلت في بيت أم سلمة بعد أن استدعى رسول الله (ص) عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وجمعهم تحت كساء وبشكل ملفت قصد منه أن يبقى حدثاً تاريخياً له أبعاده ومراميه وعبره ، مما جعل أم سلمة رضوان الله عليها ، وهي تراقب بدهشة هذا الحدث ، تطمع بمزيد من الخير ، فتسأل النبي (ص) : أأدخل معكم يا رسول الله ، فيجيب (ص) ، ” لا يا أم سلمة أنت على خير ” أو كما قال (ص) .
فما دام الأمر كذلك ، فلماذا أسقط هذا الحدث عمداً ، وأسدل عليه الذين في قلوبهم زيغ ستائر وحجبا ، ليقولوا إنما المراد بأهل البيت ليس أهل بيت النبي هؤلاء ، وإنما … وكثرت الإفتراضات عندهم ، وكلها تصب في مصب واحد ، هو ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويل الآية الكريمة المشهورة هذه ، تأويلاً فاسداً فيه رد على الله سبحانه وفيه المعصية الغموس .
(2) آية المباهلة في قوله تعالى : { الحَقُّ مِنْ رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِنَ المُمْتَرينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وأبْنَاءَكُمْ ونِسَاءَنَا ونِسَاءَكُمْ وأنْفُسَنَا وأنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَىَ الكَاذبينَ . سورة آل عمران 60 _ 61 } .
جعلهـا الله عز شأنه حكرا على الحسنين ممثلين لأبناء الأمة ، وعلى فاطمة ممثلة نساء الأمة ، وعلى عليّ ممثلاً نفس محمّد (ص) ومحمّد ممثلاً نفس الأمة (1) .
فأولوها ابتغاء الفتنة ، وذهبوا فيها المذاهب ، كحاطب ليل وكخابط خبط عشواء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ومختصر التأويل الحق لهذه الآية الكريمة ، هو أن وفداً من نصارى نجران ، على رأسه كهنة الكنيسة التي كانت تمثل نصارى شبه الجزيرة العربية آنذاك وعلى رأس هؤلاء الكهنة كبيرهم ( العاقب ) ، وفدوا على رسول الله محمّد (ص) بعدما ملأت أخباره الآفاق ، أتو مستفسرين مستنكرين ، واجتمعوا به (ص) واستمعوا إليه واستوقفهم عند إنسانية المسيح عليه السلام وأنه رسول من رسل الله عزت عظمته ، ونفى عنه الألهانية ، فاستنكروا ذلك واستكبروا وشككوا بنبوته صلى الله عليه وآله ، وقد أنزل الله سبحانه عليه : { إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب … } وقوله تبارك وتعالى : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْنَاءَكُمْ … الآية } إلى قوله عز وجل : { ثُمَّ نَبْتَهلْ فَنَجْعَلْ لعْنَتَ اللهِ عَلىَ الكَاذبينَ . } .
فدعاهم رسول الله (ص) إلى المباهلة ، وذلك أمر كان متعارف في ذلك التاريخ ، وهو أن يختلف فريقان من الناس ، فيستنفر كل فريق نفيره ، ويجمع عشيره وقبيله ، ويقابل الفريق الآخر معتقداً كل فريق أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحق بجانبه وأن خصمه على باطل ، ويدعـون الله ويسـألونه إحلال غضبه ولعنته بمن كان على الباطل ، من جهة ، وإظهار أهل الحق من جهة ، فتنزل عند ذلك بالمبطلين ألوان من الكوارث بين خسف ومرض ونكبات تحل في ديارهم وأنفسهم ومتعلقاتهم .
وهكذا كان ، فلبوا دعوة النبي (ص) وإنما ائتمروا تلك الليلة فيما بينهم قبل حلول الموعد في الغد . وقرروا بموجب علمهم ودرايتهم ، أنه لو وافاهم محمّد (ص) بخيله وأبهته وأنصاره ، عارضاً قوته وسلطانه ، باهلوه ، إذ لا يفعل هذا الفعل نبي ، وإنما دَعيٌّ يريد الملك . أما إذا أتى بما هو دون ذلك من أمور الظاهر ومظاهر الدنيويين ، فننظر في الأمر هناك ونقرر في حينه .
وكان اليوم التالي ، وتلاقوا في المكان المقرر . وكانت هنالك المفاجأة التي أربكت وفد نجران : ذلك هو محمّد (ص) قد وافاهم ، وإنما ببضعة نفر ، عجباً ، لا يتجاوزون الخمسة . وأكثر من ذلك ، ففي الوفد رجلان فقط ومعهما إمرأة واحدة وطفلان . أجادٌّ محمّد (ص) في ذلك ؟ أبهؤلاء أتى يباهل وفد نجران الذي يمثل نصارى الجزيرة العربية ؟
= من الرجل معك يا محمّد (ص) ؟
= هذا عليّ بن أبي طالب إبن عمي وصهري وخليفتي من بعدي
وهو صنو نفسي .
= وتلك المرأة المحتجبة وراءكما ؟
= هي إبنتي فاطمة الزهراء زوج عليّ ، وهذان ولداهما الحسنان ،
سيدا شباب أهل الجنة .
= أمْهِلْنَا هُنَيْهَةً يا أبا القاسم .
وكان القرار الحكيم من وفد نجران :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن في هذا النفر القليل عدده ، العظيم سره عند الله ومقامه ، لآيات لا قِبَلَ لنا بها ، قال كبيرهم ، في حدسي ، إضافة لما في كتبنا ، أنه لو باهل بهؤلاء أهل الأرض مجتمعين ، لاستجاب له الله سبحانه ما يسأله ، فالحكمة اجتناب المغامرة واجتناب التعرض لسخط الله جلت عظمته .
ثم رجعوا لمحمّد (ص) يعتذرون عن المباهلة ، فيلزمهم تبعات انسحابهم جزية يؤدونها ، مالاً وأقمشة وثياباً للمسلمين .
هكذا ، سجل تاريخ النقل والتدوين ، الذي يكاد يكون حبره ما زال يلمع على شرائح الجلد الرقاق والقراطيس ، هكذا سجل على أرض الواقع ، وشهد بذلك النصارى والمسلمون آنذاك وبعد ذلك ، هكذا سجل عمليا تأويل هذه الآية العظيمة الكريمة : { فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالوْا نَدْعُ أبْنَاءَنَا وَأبْنَاءَكُمْ … }
وهذا التأويل الساطع ، التاريخي ، المؤيد بالشهداء ، أسقطه الذين في قلوبهم زيغ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله سفهاً وجرأةً على الله وبغضاً وحسداً لأولياء الله المجتبين الأخيار الأبرار الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا .
(3) { إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولَهُ والّذينَ ءَآمَنُواْ الّذينَ يُقيمُونَ الصَّلواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ . وَمَنْ يَتَوّلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ والّذينَ ءَآمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الغَـاـلِبُونَ. سورة المائدة الآيات 55 ـ 56 } .
فأولوها ابتغاء الفتنة (1) ، وصرفوها عن صاحبها الأصيل عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، عناداً واستكبارا وظن السوء ، فأداروا دائرة السوء على الأمة وما زالت تدور .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هم اتبعوا التشابه الذي في هذه الآية الكريمة والذي هو في قوله تعالى { وَالَّذِينَ ءَآمَنوُا } لأنها بصيغة الجمع . علما أن الأحاديث تضافرت عن أكثر محدثي أهل السنة وفي أكثر تفاسيرهم ، وكذلك الروايات عن شيعة محمّد (ص) وآل بيته (ع) أن الآية أنزلت في عليّ بن أبي طالب إذ كان يصلي في المسجد وجاء سائل يسأل فأشار له عليّ (ع) بخنصره وهو راكع ، فتقدم السائل وأخذ خاتمه .
هكذا كان التأويل الحق لهذه الآية الكريمة { إنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللهُ وَرَسُولهُ وَالَّذِينَ ءَآمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلواةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوَاةَ وَهُمْ رَاكِعوُنَ } فلفظة { وَلِيُّكُمْ } هي محور الكتاب كله من حيث أصالة التوحيد ، وكذلك هي في هذه الآية ، لأن أصل الولاية وأصل الإتباع هو لله عز وجل أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً { هُوَ الأوَّلُ وَاْلآخِرُ والظَّاهِرُ وَاْلبَاطِنُ وَهُوَ بكُلِّ شَيءٍ عَليمٌ . سورة الحديد الآية 3 } . ومن حيث وجوب الإتباع أصالة لله عز وجل قوله تعالى : { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلْ اللهُ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأنىَّ تُؤفَكُونَ . قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدي إلىَ الحَقِّ قُلْ اللهُ يَهْدي لِلْحَقِّ أفَمَنْ يَهْدي إلىَ الحَقِّ أحَقُّ أنْ يُتَّبَعْ أمَّنْ لاَ يَهْدّي إلاَّ أنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمونَ . سورة يونس الآيات 34 ـ 35 }.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولذلك سبحانه وتعالى عما يشركون ، بدأ آية الولاية بإفراد { إنَّمَا وَلِيُّكُمْ } ولم يقل إنما أولياؤكم . فجاءت الولاية لرسول الله (ص) ولعليّ (ع) بالتبع ، وهي أمر من الله ملزم بطاعة الرسول (ص) وإتباعه ، تماماً كما هو ملزم بطاعة الإمام عليّ (ع) وإتباعه . أما لفظة الجمع قوله تعالى { وَالَّذِينَ ءَآمَنوُا } ففيها معنيان متداخلان في حقيقة واحدة ، أولهما تكريم من الله سبحانه لإمام الأمة عليّ (ع) وثانيهما يعني ما في صلب عليّ من الذرية المعصومة بالنص ، الحسن والحسين (ع) كما أشرنا في التعليق على آية التطهير .
(4) { يَا أيُّهَا الرَسُولُ بَلِّغْ مَا أنْزِلَ إليكَ مِنْ ربِّكَ وإنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رسَالَتَهُ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَاس إنَّ اللهَ لاَ يهْدي القَومَ الكَافِرينَ . سورة المائدة الآية 67 } .
أمر من الله سبحانه من فوق سابع سماء ، بتنصيب عليّ بن أبي طالب (ع) خليفةً لرسول الله محمّد (ص) . وإذ نزلت أقام (1) الرسول لها مهرجاناً شعبياً تاريخياً في غدير خم وخطب وبلَّغ : ألا من كنت مولاه … فأنزل الله سبحانه في نفس اليوم :
(5) { اليَوْمَ يَئِسَ الّذينَ كَفَروا مِنْ دينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخْشَوِْنِي اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَليكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلـاـمَ دِينَا . سورة المائدة الآية 3 } .
وشهد الشهود ألوفاً مؤلفة ، وشهد الخاصة قبل العامة . ثم نكثوا ونكصوا وأوَّلوهما ( الآيتين ) كعادتهما مع بقية المتشابهات فباؤوا بغضب من الله على غضب ، وما زال غضبه سبحانه ماثلاً على هذه الأمة لتاريخه .
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) عن آل البيت وجابر وابن عباس ، أن الله سبحانه أوحى لرسوله محمّد (ص) أن يستخلف علياً ، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من أصحابه ، فنزلت هذه الآية الكريمة . وكان رسول الله (ص) قافلاً بمئات من المسلمين من حجة الوداع . حتى إذا نزلوا بمكان اسمه غدير غم ، أمر فنصب له منبر عال من أقتاب الإبل ، صعد إلى قمته وأصعد معه علياً بن أبي طالب ، فأشرف على الجموع ، وخطب خطبة الوداع ، الشهيرة في التاريخ الإسلامي ، وكان أبرزها إستخلاف عليّ بن أبي طالب إماماً للأمة بعد رسول الله (ص) ، حيث جاء فيها بخصوصه : أيها الناس ، ألست أولى بكم من أنفسكم ، قالوا بلى . قال . ألا فمن كنت مولاه ، فهذا عليّ مولاه ، ـ وأخذ بيد عليّ ورفعها ليرى ذلك جميع
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من حضر ـ اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله وأدر الحق معه كيف دار . ـ أو كما قال ـ ، إلى آخر الخطبة . ثم أمر فنصب لعليّ سرادقاً ، فأخذ يتوافد عليه المسلمون يهنئونه بهذا الحدث التاريخي الأهم في تاريخ الإسلام بعد الرسالة الميمونة . وكان في مقدمة من دخل عليه ، الصحابيان أبو بكر وعمر ، فهنأه كل منهما بقول ، على أن مقالة عمر له تناقلتها الركبان : بخ ٍ بخ ٍ لك يا عليّ ، لقد أصبحت مولاي ومولى كل مسلم ومسلمة .
ومنذ ذلك الحين ، وقبل وفاة رسول الله (ص) ، اشتهر عليّ عليه السلام بلقبين لا يكادان يفارقان اسمه : الإمام وأمير المؤمنين ، وقد كانا حكراً عليه ، حتى ذرت الفتنة قرنيها منذ السقيفة ، فشاركه باللقب الثاني ( أمير المؤمنين ) حتى الفسقة الفجرة فيما بعد ، ولا سيما من بني أمية وبني العباس . إلا أن لقب الإمام ، فما زاحمه ، مجرداً ، عليه أحد ، وإلى قيام الساعة ، بحيث أنه إذا قيل الإمام ولم يذكر اسم بعده ، فذلك يعني أنه عليّ بن أبي طالب عليه السلام وكرم الله وجهه .
وهكذا صرفت الآية الكريمة : { يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلّْغ مَا أُنْزلَ إليْكَ مِنْ رَبِّكَ … } عن وجهها الصحيح ، وعن حقيقتها الناصعة ، ليتبعها الذين في قلوبهم زيغ ويؤولوها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها بما أفسد على الأمة أمورها الجليلة ، وحرمها من أعظم النعم : التوحيد الحق ، والوحدة المؤيدة من رب العالمين . والتي لا يمنحها سبحانه العزة والمنعة والقوة ، إلا إذا نبذت المحازبة لغير الله ولغير أوليائه الحقيقيين المنصوص عليهم . وإلا إذا رجعت عن التأويل الباطل للآيات المتشابهات ، وأخذت بالتأويل الحق كما أراده سبحانه وتعالى عما يشركون .
هذه خمسٌ ، وما نريد إحصاءً ولا حصراً ، إنما نريد الخلاص لهذه الأمة ، ولا يكون ، إلا بالعلم المؤيد بالبينات القاطعة والبراهين القرآنية الدامغة ، ابتغاء النجاة وإصلاح ذات البين لهذه الأمة التي أصبحت على شفير . فعسى الله أن يتوب علينا ويقرب لنا وعده بميراث الأرض والفتح المبين .
ولن يكون كذلك ، إلا إذا صدعنا بأوامره التي تبرق وترعد بها آياته البينات ، وإلا إذا اتخذنا في أوليات شعاراتنا ، أقواله الحبيبة التي تدعونا إلى الوحدة والتوحيد ، وأن نتقيه حق تقـاــته ، وما أوضحها وما أكبرها ، قوله تعالى :
{ وَإنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أمَّةً وَاحدَةً وأنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ . فَتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْب ٍ بمَا لَدَيْهِمُ فَرحُونَ. فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حين ٍ . أيَحْسَبُونَ أنَّمَا نُمِدُّهُمْ بهِ مِنْ مَال ٍ وَبَنيـنَ . نُسَارعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَات ِ بَلْ لاَ يَشْعُرُونَ . سورة المؤمنون الآيات 52 ـ 56 } .
وقوله تعالى :
{ يَا أيُّهَا الّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتنَّ إلاَّ وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ . سورة آل عمران الآية 102 }.
ثم هذه الآية العظيمة ، التي يكفي العمل بها بصدق لإحياء أمة ، والتي يجب أن يخاف من وطأتها كل من لا يعمل بها مخلصاً قلبه وجوارحه وكل كيانه لله وحده لا شريك له ، قوله جل جلاله :
{ واعْتَصِمُوا بحَبْل ِ اللهِ جَميِعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذْكُرُواْ نِعْمَتََ اللهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبكُمْ فأصْبَحْتُمْ بنعْمَتِهِ إخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىا شَفَا حُفْرَة ٍ مِنَ النَّار فَأنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَالِكَ يُبَينُ اللهُ لَكُمْ ءَآيـاـتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . سورة آل عمران الآية 103 } .
ثم يُرْدِفُهَا بهاتين الآيتين الكريمتين ، مبشرا دعاة التوحيد والوحدة ، الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر ، ومنذراً دعاة التفرقة (1) المُصِّرين على الخلاف من بعد ما جاءتهم البينات ، بالعذاب العظيم ، بقوله عز شأنه :
{ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلَىَ الخَيْر ِ وَيَأْمُرُونَ بالْمَعْرُوف ِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَر ِ وَأولَـَائِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ . وَلاَ تَكُونُوا كالِّذينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَـاتُ وأوْلَـَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظيمٌ . سورة آل عمران الآيات 104 ـ 105 } .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دعاة التفرقة ، المصِّرون على الخلاف ، ليسوا هم الذين يشاقون اليوم عليّاً بشخص عليً وأشخاص آل بيت النبّوة ، وإنما هم الذين يشاقون أنصار الله وأتباعه الذين أمرهم بإتباع محمّد وعليّ ، أي الشيعة بشكـل عام . وما ذنب الشيعة في الحقيقة ، إلا أنهم رفضوا أن يتبعوا متشابهات القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها بالباطل . أي أنهم في الحقيقة كما رأينا ، أخذوا بتأويل الآيات كما رأوا تأويلها على أرض الواقع . تعاضدهم في ذلك ، الوقائع ، كما تعاضدهم الأحاديث ولا سيما المروية عن طريق إخوانهم من أهل السنة في صحاحهم . حرصاً يجب ألا يوازيه حرص آخر في حياة الإنسان الفرد ، وحياة الأمة . هو
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحرص من جهة ٍ على نجـاة الفرد من غضب الله في الدنيا ومن التخليد فـي العـذاب في
الآخرة . ومن جهة أخرى على نجاة الأمة مما آلت إليه عبر عمرها المليء بالفتن والأخطاء والأحقاد . حتى أن المسلمين دمروا بعضهم أكثر مما دمرهم ويدمرهم أعداء الله وأعداء دينه .
فهل المطلوب من فريق التأويل الحـق ، أن يعود إلى التأويل الباطل ، الذي كما رأينا كان سبباً في الإفساد والتمزيق وهلاك هذه الأمة ، أم العكس هو الصحيح ، أن يعود الأخوة الذين ورثوا التأويل الفاسد لمتشابهات القرآن الكريم ، ليعيدوا النظر في التاريخ وتقويم الأشخاص بالنظـر العقلـي والمنطقي ، لا بعين التعصب والمزاجية والإنفعال ، هذه الأمورالتي تغذيها الثقافة الجاهزة ، التي نهى الله سبحانه عنها نهيا فيه العتب وفيه الغضب ، قوله تعالى :
{ قَالوُا أجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا…. سورة يونس الآية 78 } .
وقوله سبحانه :
{… قَالُوا بَلْ نَتَّبعْ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أوَلَوْ كَانَ الشَّيطَـَانُ يَدْعُوهُمْ إلَىَ عَذَاب ِ السَعِير ِ . سورة لقمان الآية 21 } .
فهذا العصر الذي يبدو أنه يشارف الساعة ، يعني أن الوعد الحق بنصرة المسلمين قبل القيامة إن شاء الله وشيك . ومن ذلك قوله سبحانه :
{ يَـاأيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يأتِي اللهُ بقَوْم ٍ يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَهُ أذِلَّـةٍ عَلَـىَ المُؤمِنيـنَ أعِزَّةٍ عَلَـىَ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكَـافِرينَ يُجَـاهِدُونَ فِي سَبيل ِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِم ٍ ذَالِكَ فضْلُ اللهِ … سورة المائدة الآية 54 } .
فلنكن جميعاً بجميع مذاهبنا أمة واحدة مطيعة لربها العظيم ، مجاهدة منتصـرة لله وبالله ولدين الله ، من قبل أن نباغت بالساعة ، أو
بدواهٍ دهياء كما نرى ونسمع ، قد تنفع معها ندامة النادمين ، إذا رجعوا لربهم وتابوا التوبة النصوح فـ { … إنَّ اللهَ يُحِبُ التَّوَابينَ … سورة البقرة الآية 222 } أما إذا كانت الهلكة ووجد الإنسان نفسه مصداقاً لقول الله عز وجل :
{ وَقَالَ إنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِن دُونِ اللهِ أوْثَـاـناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحَيوَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ القِيـاــمَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ ببَعْض ٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ومَأوَاكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَـاـصِرينَ . سورة العنكبوت الآية 25 } .
أما مودة أهل البيت ففيها نص دامغ ، صحيح أنه لا يدفع أصالة أن يكون الحب الأعظم لله عزت عظمته وجل جلاله { … يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ والّذينَ ءَآمَنُوا أشَدُّ حُـبّاً للهِ … سورة البقرة الآية 165} لأن حب أي مخلوق مهما عظم ينبغي أن يكون مما يفيض من حب الله بعد أن يطفح القلب بحبه سبحانه وتعالى عما يشركون . إلا أن النص في مودة أهل البيت عليهم السلام فماثلٌ ملزم ، قوله تعالـى مخاطباً رسـوله (ص) : { … قُلْ لاَ أسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاّ المَوَدَّةَ في القُرْبىا … سورة الشورى الآية 23 } وأمّا غيرهم فلنتق الله في الحماس الجارف لهم ، ولنتأمل .. ولا نكونن في بلاهة من كتب على قبر حجر بن عدي رضوان الله عليه : هذا قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي رضي الله عنه قتله صبراً معاوية رضي الله عنه لأنه كان شيعة لأمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وليس المهم أن نترضى على هذا أو على ذاك ، أو أن لا نفعل . المهم هو بأيهم نقتدي ؟ بسلوك هذا أم بسلوك ذاك ؟ فأيهما أرضى الله وأيهما أغضبه سبحانه ؟ وعلى هذين فقس ما سواهما .
ومن نافلة القول ، أن نذكر أننا بالنسبة لأعداء الإسلام ، لسنا مستهدفين كسنّة علـى حدة ، ولا كشيعة علـى حدة ، وإنما نحن جميعاً
مستهدفون لأننا مسلمون لله تبارك وتعالى . { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُم ْ إلاَّ أنْ يُؤْمِنُوا باللهِ العَزيز ِالحَميدِ . سورة البروج الآية 8 } . فمتى نعي هذه الحقيقة ، ونوحد الله ، ونتوحد في سبيله ؟
نسأله تعالى أن يغفر لهذه الأمة قاصيها ودانيها ، وأن يرفع عنها غضبه ، وأن يهديها لمرضاته وحبه ، وأن يقرِّب لها وعده بنصر عزيز ، وحضارة حرة رحيمة عادلة ، تكشف الحضارة الزنديقة التي يعيشها العالم اليوم ، إنه سميع مجيب .
لماذا نورانية ؟
لماذا سميت الأحرف المقطعة في أوائل السور ، الأحرف النورانية ؟
أولاً : تواترت الأحاديث بتسميتها كذلك ، حتى وجد المسلمون أنفسهم وفي جميع أقطارهم ومراحل تاريخهم ، يطلقون عليها هذه التسمية وكأنها تحصيل حاصل . كما أسموا بقية الأحرف التي لم ترد فيها ظلمانية .
ثانياً : من البديهي أن يكون اسمها كذلك ، منذ نزولها باللسان العربي ، ذلك لأن الله عز وجل ، شاء لها شرف ان يُدعَى سبحانه بها ، وأن تُنطَقَ بها أسماؤه الحسنى ، وأن يُسبّح بها ويُحمَدَ ويُمجّد ، في أعلى درجات التسبيح والحمد والتمجيد ، كما تنزه هو ، وكما حمد نفسه هو ، وكما هو تمجّد ، مما لايستطيع المخلوق أن ينشئه انشاء ، حتى ولا أن يستوعبه ويدرك جميع مضامينه . إذ لا طاقة لمخلوق ، ولا قدرة له على تمجيد الخالق وتسبيحه وحمده كما ينبغي لكرم وجهه ، بإنشاء المخلوقين حتى لو كانوا أنبياء ومرسلين .
ثالثاً : أن لهذه الأحرف النورانية من أسرار الفعل والدفع والتأثير ، والحصول على الإجابة السريعة ، دائماً جلباً للخير ونفعاً للأخيار ، ودفعاً للشر وتحصناً من الأشرار ، ما لا يستطيع علم من علوم الإنسان التقنية وأجهزته أن يوفره بنفس السرعة ونفس الأبعاد ونفس الشمول . وإذا ادّعينا أنها في بعض حالات المرض الخطيرة ، هي أسرع وأضمن من غرفة العناية الفائقة ، فسيكون ادعاؤنا مدهشاً عند الصديقين ، ومجلبةً للهزء والسخرية والتندُّر عند المغترين المكذبين . ولذلك جعلها الله لمن يؤمن هدايةً وشفاءً ، وفرجاً ومخرجاً ، وللمكابر الظالم الغاشم صمماً وعمىً وخسارا .
قال تبارك وتعالى :
{ ونُنَزِّلُ مِنَ القُرءَآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلمُؤمِنينَ وَلاَ يَزيدُ الظَـالِمينَ إلاَّ خَسَارا. سورة الاسراء الآية82}.
وقال عز شأنه :
{ يَـاأَيُّهَا النَاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصّـدوُر وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنينَ . سورة يونس الآية 57 } .
وقال جلت عظمته :
{ … قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَآمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي ءَآذاَنِهمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُوْلـَائِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ . سورة فصلت الآية 44 } .
أما طاقات هذه الأحرف ونورانيتها المنفعلة والفاعلة ، التي تخترق الحجب في حدود مجالاتها ، فشبيهة بها ، ولو بنسبة الشمعة للقمر المنير ، أداة ( الريموت كونترول ) المستعملة في جهاز التلفزة لتوجيه الموجات واللاقط وغير ذلك . فكما أن هذه الأداة تنبعث منها طاقة نورانية لا سلكية ولا مرئية ، ومع ذلك هي تفعل وتُرى فاعليتها . كذلك الأحرف النورانية ، كذلك مواقع النجوم في القرآن الكريم ، تفعل وترى وتلمس فاعليتها . إلا أن الله سبحانه جعل فاعليتها مشروطة بالإيمان به وبكتابه وباليوم الآخر إيماناً عملياً ، وذلك لأن الفارق بين ما يصنع هو سبحانه وبين ما علّم الإنسان أن يصنع ، فارق عظيم بدون قياس .
ولأجل أن يفهمنا الله سبحانه أسرار الأحرف النورانية شيئاً فشيئاً ، فقد يسّر للإنسان ما يسّر من علوم الألكترون وأسراره وتقنيته ، فلم يعد صعباً أن نقول ما نقول عن أسرار الحروف القرآنية عامة وعن النورانية فيه خاصة ، وبالصوت العالي ، بعد ما علّم الله سبحانه ضعفاء خلقه من الناس أن يصنعوا تلك الالآت الألكترونية ( المحدودة النورانية في مقابل صنيع الله ) التي تخاطب وتتخاطب بالرموز القليلة ، منتجة معلومات ضخمة وقواعد معقدة ، وعمليات حسابية هائلة العدد أرقاماً وقوانين ومستحدثات ملايين المسائل ، تحل دفعة واحدة بضغطة مفتاح ، وحتى بجزء من أكثر من مليار جزء من الثانية .
إذا عرفنا هذا ، ينبغي أن نعلم أنه سبحانه إنما علّم ذلك لأهل الغرب عامة في هذا العصر ، ليفهم أهل الشرق عامة ، أن ما آتاهم الله من فضله ، من أسرار دينه وكتابه القرآن المجيد ، هو أعظم بما لا يقاس ، مما آتى اليابان وأمريكا وأوروبا من علوم . فلتحل عندهم عقدة الضعف ، وليعلموا أن التمسك بحبله المتين وعروته الوثقى وكتابه الحبيب ، هو لهم أعز وأنفع وأبقى في الدارين . وفارق ما بين ما علَّمَهُمْ إياه الله ، وهم الصديقون الصابرون المجاهدون ، وبين ما علَّم الجاحدين الظالمين المعتدين من أهل الغرب ( أهل الشمال ) ، هو كفارق ما بين جنته وناره . هذا إذا صدق الشرقي الموّحد مع ربه ، وجاهد في سبيله سبحانه جِهَادَيْهِ : الأصغر قتالاً شرساً لأعداء الله وأعداء دينه وأعداء البشرية ، والأكبر ، وهو جهاد النفس وتأديبها بتأديب الله ائتماراً بأوامره وانتهاءً بنواهيه ، وإلا فقوله تبارك وتعالى :
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ نُؤْمِنَ بهَـاـَذاَ القُرْءَآنِ وَلاَ بالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَىا إذِ الظَّـَالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلَىا بَعْض ٍ القَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لَوْلاَ أنْتُمْ لَكُنَّا مُؤمِنينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ أنَحْنُ صَدَدْنَـاكُمْ عَنِ الهُدَىا بَعْدَ إذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ بَلْ مَكْرُ الَّّيْل ِ وَالنَّهَار إذْ تَأمُرُونَنَآ أن نَكْفُرَ باللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أنْدَاداً وَأسَرُّواْ النَّدَامَةََ لَمَّا رأوُاْ العَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلـَاـلَ فِي أعْنَاق ِ الَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ يُجْزَوْنَ إلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . سورة سبأ الآيات 31 ــ 33 } .
ويصبح كل ذلك عند أولي الألباب أوضح وأرسخ في اليقين ، كلما رَدَّدْنَا قوله تبارك وتعالى كمفتاح لهذه الكشوف عندهم في دنياهم ، وعندنا في ديننا :
{ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبيِّنـَاــتِ فَرحُوا بمَا عِنْدَهُمْ مِنَ العِلْم ِ وَحَاقَ بهمْ مَّا كَانُواْ بهِ يَسْتَهْزءُونَ . فَلَمَّا رأوْا بَأسَنَا قَالُواْ ءَآمَنَّا باللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بمَا كُنَّا بهِ مُشْركِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمـَاـنُهُمْ لَمَّا رَأوْا بَأسَنَا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكَـَاـفِرُونَ . سورة غافر الآيات 83 ــ 85 } .
وقوله عز شأنه :
{ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بهِ فَتَحْنَا عَلَيْهمْ أبْوابَ كُلِّ شَيءٍ حَتَّىا إذَا فَرحُواْ بمَآ أوُتُواْ أخَذنَـاهُمْ بَغْتَةً فإذَا هُمْ مُبْلِسُوُن َ . سورة الأنعام الآية 44 } .
وقوله عزت عظمته :
{ سَنُريهمْ ءَآيـاـتِنَا فِي الآفَاقِ وفِي أنْفُسِهمْ حَتَّىا يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحَقُّ أوَ لَمْ يَكْفِ برَبِّكَ أنَّهُ عَلَىا كُلّ ِ شَيْءٍ شَهيدٌ . ألاَ إنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَآءِ رَبِّهمْ ألاَ إنَّهُ بكُلّ ِ شَيْءٍ مُحِيطٌ . سورة فصلت الآيات 53 ــ 54 } .
لماذا قراءة القرآن :
إذا كان أعظم وأعز مطلب في عمر الإنسان ووجوده ، هو اليقين بوحدانية الله عز وجل ، وبالتالي فهم التوحيد : ( لا إلـه إلا الله ) ، والتوحيد الأعظم ( الله أكبر ) ، فكل ذلك يحتاج إلى وسائل ، أظهرها وأكبرها ، وأفصحها وأخصرها ، القرآن الكريم .
والقرآن أنزله رب العالمين لجميع الناس بجميع طبقاتهم ودرجاتهم ، واتاح لكل منهم أن يفهم من القرآن ما يكفيه للإطمئنان النفسي ، والخلاص من الحرج والضلالة ودوخة الشكاكين ، وما يعينه على التدرج في معراج اليقين إلى رحمة رب العالمين ورضاه ورضوانه ، وإلى خير الدارين وسعادة الدارين ، مخترقاً بنور من الله يهدي قلبه ، كل ظلام يعترضه في الأرض أو في السماء .
وذكر الله عز وجل فريضة ، وعبادة مستحبة مؤكدة ، ومنجاة من تلاطم أمواج العمر ، وسعادة تتنامى وتزيد مع حسن الذكر وزيادته .
وأحسن الذكر ، أحسن الحديث :
{ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتـَاباً مُتَشـَابهاً مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلوُدُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلوُدُهُمْ وَقُلوُبُهُمْ إلىا ذِكْرِ اللهِ ذَالِكَ هُدَى اللهَِ يهدِى بهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لهُ مِنْ هَادٍ . سورة الزمر الآية 23}.
وأحسن ما في الأحسن ، هذه المثاني التي في الأحرف النورانية . والأحرف النورانية ، ليست التي فقط في مفاتيح السور، وإنما هي مبثوثة في جميع سور القرآن بشكل عام ، وفي السور ذات المفاتيح بشكل خاص .
إذن ، أفضل الذكر لله تعالى ، هو في القرآن المجيد :
{ أفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلإسْلـَاـمِ فَهُوَ عَلَىا نُور ٍ مِنْ رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَـَاـسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّنْ ذِكْر ِ اللهِ أولَـَائِكَ فِي ضَلـَال ٍ مُبين ٍ . سورة الزمر الآية 22 } .
والقرآن نعم القائد إلى الجنة لمن جعله أمامه ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار .
والقرآن هو الحديث الفريد الذي يجوز أن نتحادث به مع الله وقلوبنا مطمئنة لعدم الخطأ فيه أو الزيادة أو النقصان عما لا يليق بساحة قدس الله وعظمة الله وجلاله .
يقول سبحانه :
{ تِلْكَ ءَآيـَاـتُ اللهِ نَتْلُوُهَا عَلَيْكَ بالْحَقِّ فَبأىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وءَآيَـاـتِهِ يُؤْمِنُونَ . سورة الجاثية الآية 6 } .
ثم نلاحظ أنه سبحانه جعل أصنافاً من العذاب لمن لا يستجيب لآياته ولا يتعهدها ولا يتدبرها ، ولا يبني على معانيها حاضره ومستقبله ، دنياه وآخرته .
فالويل ، والعذاب الأليم ، والعذاب المهين ، وعذاب عظيم، وعذاب من رجز أليم . هذه الأنواع المفزعة المحطمة من العذاب، هي لمن يعرض عن آيات الله ، عن أحسن الحديث الذي هو القرآن الكريم ، ويقتصر على غيره من أحاديث بقية الكتب وأحاديث المخلوقين .
فننظر ـ مستعيذين به سبحانه ـ إلى مواضع هذه الأصناف من العذاب في أطراف هذه الآيات من 6 ـ 11 في سورة الجاثية :
{ تِلْكَ آيـَاــتُ اللهِ نَتْلوُهَا عَلَيْكَ باْلحَقِّ فَبأىِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَءَآيـَاــتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلّ ِ أفَّاك ٍ أثِيم ٍ (7) يَسْمَعُ ءَآيـَاتِ اللهِ تُتْلَىا عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبراً كَأنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بعَذّاب ٍ أليمٍ (8) وَإذَا عَلِمَ مِنْ آيـَاـتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أولَـَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَآئِهمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِى عَنْهُمْ مَّا كَسِبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللهِ أوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَـاَذَا هُدىً والَّذِينَ كَفَرُواْ بآيـَاـتِ رَبِّهمْ لَهُمْ عَذّابٌ مِنْ رجْز ٍ أليم ٍ (11) .
إن الله لا يغفر أن يشرك به (1) :
في مجال فهم التوحيد ، إلى من يلجأ الإنسان ، ولمن يتعبد، وبمن يربط مصيره ، وعلى من يعقد آماله ، ومن يدعو ، وبمن يستغيث ، وبمن يعلق كل ثانية من ثواني عمره ، وكل نَفَس ٍ من أنفاسه ؟
إذا ظن امرؤ أنه يجوز له أن يعتمد في شيء من هذا على الله وعلى أحد من عباد الله ، فقد ضل وهلك . اسمعه تبارك وتعالى يحدثنا إما مؤانسة أو تنبيهاً أو تقريعاً ، لكل حسب أحاسيسه وحسب اختلاف الأحايين . يقول عز شأنه :
{ قُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَسَلـَامٌ عَلَىا عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىا ءَأللهُ خَيْرٌ أمّا يُشْركُونْ . سورة النمل الآية 59 } .
فيحس القارىء المفكر المتدبر ، أن الله عز وجل ، إنما يجيبه على سؤال ملحّ طالما ضيع كثيراً من الناس وأوقعهم فيما لا غفران معه : في الشرك الظاهر أو الشرك الخفي ، وذلك في جميع الملل ، وهو كيف أتعامل مع النبي الفلاني أو الإمام الفلاني أو الولي الفلاني أو مجموعهم ؟ والسائل عادة يضمر إعظاماً وإجلالاً وحباً لهؤلاء المخلوقين ، يتجاوز تعظيم الله وإجلاله وحبه ، قال تعالى :
{ … وَالَّذِينَ ءَآمَنُواْ أشَدُّ حُباً لِلّهِ … سورة البقرة الآية 165 }
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة النساء الآيات 48 , 116 .
وقد وصل بهم الأمر إلى تأليه بعضهم كما حصل لعيسى
عليه السلام . وما زال يصـل إلى تأليه آخرين ، وحتى في
المذاهب الإسلامية ، ولا سيما السنة والشيعة . وكم وقف الناس أمام هؤلاء المخلوقين ، ناسين الله عز وجل ، منشغلين عنه بعبيده وبفقراء خلقه من الأنبياء والأئمة والأولياء ، وجميع خلقه إليه فقراء . فهم تارة يدعونهم وينادونهم بأسمائهم ، وتارة يستجيرون بهم ويستغيثون . ويذكرونهم أكثر مما يذكرون الله جلّت عظمته ، في مجالسهم وفي مناسباتهم ، وفي أفراحهم وفي أحزانهم ، ومجموع هذه العلاقة هو عبادة لهم . ويقرأون في كتاب الله العزيز ولا يفهمون ، قوله تعالى :
{ وَمَنْ أضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ اللهِ مَن لاَّ يَسْتَجيبُ لَهُ إلَىا يَوْم ِ القِيـَاـمَةِ وَهُمْ عَن دُعَآئِهمْ غـَاـفِلُونَ . وَإذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أعْدَاءً وَكَانُواْ بعِبَادَتِهمْ كـَاـفِرينَ . سورة الأحقاف الآيات 5 ـ 6 } .
يقرأون هذا ولا يفهمون ، { أفَأنْتَ تٌسْمِعُ الصُمَّ أوْ تَهْدِى الْعُمْىَ وَمَن كَانَ فِي ضَلـَاـلٍ مُبين ٍ . سورة الزخرف الآية 40 } .
ويدّعون على الله وعلى قرآنه المجيد أنهم فيما يفعلون على حق . وأنه سبحانه يرضى بأن يمجدوا عباده من دونه وأن يتعبدوا لغيره تقرباً إليه . { أفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَآهُ حَسَناً فَإنَّ اللهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهمْ حَسَرَات ٍ إنَّ اللهَ عَليمٌ بمَا يَصْنَعُونَ . سورة فاطر الآية 8 } .
كذلك الوثنيون كانوا يفعلون . كان النزاريون مثلا ، يحجون بيت الله ويلبّون هكذا : لبيك اللهّم لبيك ، لبيك لا شريك لك إلاّ شريك هو لك ، ملَّكته وما ملك .
وهؤلاء المتعبدون للأنبياء والأئمة والأولياء ، أو لبعض القادة والنافذين والزعماء ، من رجال دين أو زمنيين ، قال فيهم سبحانه :
{ وَإذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأزَّتْ قُلوُبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ وإذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إذَا هُم يَسْتَبْشِرُونَ . سورة الزمر الآية 45 } .
وقد رأينا فريقاً من هؤلاء الناس بأم أعيننا ، ولاحظنا إنكارهم واستنكارهم لذكر الله وحده في عيونهم وعلى وجوههم وفي فلتات ألسنتهم . ووثنيو اليوم كوثني الأمس ، على أن مسؤولية إنسان اليوم ، أكبر وأعظم ، لكثرة الدروس التاريخية وكثرة العبر ، ومستوى الثقافة والعلوم ، الذي تيسر له أكثر مما تيسر للسابقين في عمر البشرية .
فلننظر في ردّ الله عز وجل على السؤال المطروح بشكل خاص ، وهو كيفية التعامل مع الأنبياء والأئمة والصالحين ، ثم تقريره إلـَاـهيته سبحانه ، ووحدانيته وهيمنته على الوجود بكل دقائقه وتفاصيله ، وعلى الإنسان ورعايته وإجابة دعائه واستخلافه في الأرض ، وغير ذلك من المعاني الرائعة ، في بضع آيات من سورة النمل ، تهز النفس من أعماقها هزاً عنيفاً :
{ قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلـَامٌ عَلَىا عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَىا ءَأللهُ خَيْرٌ أمَّا يُشْركُونَ (59 ) أمَّنْ خَلَقَ السَّمَـَاوَات ِ والأرْضَ وأنْزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأنْبَتْنَا بهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أن تُنْبتُواْ شَجرَهَا ءَإلـَاـهٌ مَّعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلـَاـلَهَا أنْهـَاـراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حَاجِزاً ءَإلـَاـهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (61) أمَّن يُجيبُ المُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَـَفَآءَ الأرْض ِ ءَإلـَاـهٌ مَّعَ اللهِ قَليلاً مَّا تَذَكَّرُون (62) أمّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمـَاـتِ البَرِّ والبَحْر ِ وَمَن يُرْسِل ِ اْلرّيَـَاـحَ بُشْرا بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ءَإلـَاـهٌ مَّعَ اللهِ تَعَـَاـَلىَ اللهُ عَمَّا يُشْركُونَ (63) أمَّن يَبْدؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقَكُم مِّنَ السّمَآءِ والأرض ِ ءَإلـَاـهٌ مَّعَ اللهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَـَانَكُمْ إن كُنْتُمْ صَـاـدِقِينَ (64) قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِى السَّمَـَاـوَاتِ والأرْض ِ الغَيْبَ إلاَّ اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِى الآخِرَةِ ، بَلْ هُمْ فِى شَكٍ مِنْهَا بَلْ هُم مِنْهَا عَمُونَ ( 66) .
وواضح من أول آية في هذه المجموعة ، أن الحمد هو من الذكر ، فالحمد هو لله ، لأن الذكر المفروض هو ذكر الله عز وجل ، أما السلام فليس ذكراً ، وإنما دعاء بالأمن والأمان والسعادة والطمأنينة والرضى والرضوان من الله سبحانه ، يستجيبه ما دام هو أمر به عز شأنه . ثم قوله تعالى { ءَأللهُ خَيْرٌ أمْ مَا يُشْركوُنَ } ، فيه دمغ للسائل والمتسائل ، وقمع للشاك المتردد ، وزيادة يقين للموحدين . أما بقية الآيات في هذه المجموعة ، فكان يكفي أن تكون وحدها حجة على عقل الإنسان ونفسه وتفكيره ، لولا أن الله عز وجل كان أرأف وأرحم ، إذ تفضل على البشرية بعموم هذا القرآن الكريم وما فيه من هداية ورحمة وتسديد وترشيد .
ثم إنه من أعظم الإفتراءات على الله عز وجل وعلى كتابه الكريم ، دعوى من يدّعي أنه لا يقرأ القرآن لأنه لا يفهم القرآن . وقد أجرم بعضهم أكثر من ذلك عندما أمروا الناس بقراءة القرآن تعبداً ، وعدم السؤال عن معانيه ، يخوفونهم بذلك ويعطلون فيهم عقولهم وقلوبهم وتأملهم وتفكيرهم . سبحان الله ، وهؤلاء يقرأون في القرآن قوله عز وجل ، الموجه إلى جميع الناس على إختلاف درجاتهم ووصولهم وعقولهم :
{ أفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْءَآنَ أمْ عَلَىا قُلُوب ٍ أقْفَالُهَا. سورة محمد الآية 24 } .
وهو سؤال فيه تقريع وذم لمن لا يفكر في معاني القرآن ولا يجتهد في تحصيلها تفسيراً وتأويلاً وائتماراً بأوامره وانتهاءً بنواهيه وتطبيقاً عملياً لجميع تعاليمه ، سواء على صعيد الفرد أو على صعيد المجتمعات الإقليمية أو على صعيد المجتمع العالمي كله .
وأشد إجراماً من هؤلاء وهؤلاء فريق ينصح بعدم قراءة القرآن أصـلاً ، مدّعياً الإكتفاء بأخـذ الدين مـن الأحاديث والروايات . وسواء كان هؤلاء فقهاء باحثين ، أو مثقفين عاديين أو من عوام الناس ، فإن الله عز وجل يهددهم بما في القرآن من شكوى الرسول (ص) يوم يشكوهم :
{… يَـارَبِّ إنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَـَاذَا القرءَآنَ مَهْجُوراً . سورة الفرقان الآية 30 } .
وفي هذه الآية الكريمة إنكار شديد على المعرضين عن كتاب الله المجيد ، وندب واضح لقراءته يترتب على مخالفته قسوة القلب والفسوق والضلال عن الصراط المستقيم :
{ ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءَآمَنُواْ أن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْر ِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلاَ يَكُونُواْ كالَّذِينَ أوتُواْ الكِتـَاـبَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ فَـاـسِقُونَ . سورة الحديد الآية 16 } .
ولا يمكن أن تخشع القلوب وأن تنجو من القسوة المنكرة المبغّضة عند الله سبحانه إلاّ بذكر الله ولذكر الله وما نزل من الحق كما تقول الآية الكريمة هذه ، والمقصود بـ { مَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِ } آيات الله البينات ، وهي مجموع القرآن الكريم .
أما الذين كذبوا بالقرآن ويجادلون في صحته ونسبته إلى الله عز وجل أو يجادلون في آيات الله بشكل عام ، وأعرضوا عن قراءته لعدم إيمانهم به ، فلهم عند الله شأن آخر من أشد العذاب : سحب بالسلاسل في الحميم ، وسجرهم في النار كما التنور بالحطب . يقول سبحانه في سورة غافر :
{ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بالكِتَـَاـبِ وَبمَا أرْسَلْنَا بهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إذ الأغْلـَاـلُ فِي أَعْنَـَاقِهمُ والسَّـلـَاـسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِى الحَمِيم ِ ثُمَّ فِى النَّار يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْركُونَ (72) .
ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر :
هذه الآية الكريمة مكررة أربع مرات في سورة القمر . ولن يتذوّق معناها ومؤداها ، ولن يشعر بكامل الخشوع والإستجابة ، إلاّ إذا قرأ السورة كاملة . من هنا نعلم أن الله عز وجل جعل من التركيب القرآني كائناً حياً ناطقاً مؤثراً أبلغ الأثر ، بكليات سوره ، ثم بمجاميع آياته ، ثم بكلماته ، ثم بحروفه ، وعبر ذلك كله بحركاته وسكناته . ولا تغني فيه سورة عن سورة ، ولا مجموعة عن مجموعة ، ولا آية عن آية . فمن أراد تمام الفائدة ، وكمال البشرى وكذلك الإنذار ، أي كمال العظة ، وعلى جميع المستويات العلمية والفكرية . فليقرأنَّ جميع ما بين دفتي هذا القرآن العظيم ، وليتمعَّنَنَّ فيه ، وليتدبَرنَّ معانيه ومغازيه ، ثم ليصبحنّ إن شاء له الله من العلماء ومن الأولياء لله ومن السعداء في دار الإنقطاع هذه ثم في دار الخلود .
والقرآن الكريم رغم كونه ( أحْسَنَ الْحَدِيثِ ) كما قال عنه سبحانه ، يعني أنه أعظم كلام معروف في الأرض وأرقاه ، وأعزه وأسماه ، وأبلغه وأجمله وأمسّه لشغاف القلوب ، وفيه وحده مفاتيح السماوات والأرض . ورغم أن فارق ما بينه وبين كلام المخلوقين ، كفارق ما بين الله في عزته وجبروته وعظمته وجماله وجلاله وأسمائه الحسنى ، وبين عباده الفقراء إلى غناه وإلى رحمته . فمثل واحد على تفرد القرءآن وتميّزه ، قوله تعالى :
{ وَإذَا قَرَأتَ القُرءَآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً . سورة الإسراء الآية 45 } .
فأيما كلام من كلام المخلوقين ، يستحيل أن يدعي لنفسه اختزان مثل هذه الطاقة التي ثبت برهانها عملياً عند كثير من المؤمنين . رغم ذلك كله ، وهو كلام الله ، فقد يسره سبحانه لجميع الناطقين من خلقه :
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْءَآنَ للذِكْر فَهَلْ مِنْ مُدّكِرْ } .
يسره سبحانه ، أحكاماً وتشريعاً ، هداية ً وتربية ً ، تسامياً وتصعيداً ، ويسره نوراً من السماء ليس كأنوار الأرض ، يكشف أبعاد العقل وأغوار النفس ، وأعماق الوجود . ويكشف في جملة ما يكشف تاريخ ما مضى وتاريخ ما بقي . وما أبلغ وأروع عبره ، لو صدّقه وأيقن المعتبرون . ومع كل ذلك يدَّعي سَفَهاً عدم فهمه ويتهيب من مقاربته ثلاثة : جاحدٌ ختم الله على قلبه ، وجاهل يَدَّعِي عِلماً ، وببغاء مقلدٌ لهذا ولذاك . أما أولوا الألباب فيقرأون قوله عز وجل :
{ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْءَآنَ للذِكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدّكِرْ } .
فيفهم من التحضيض الذي فيها ، كل على شاكلته : إما تهديداً ووعيداً ، وإما إغراءً وترغيباًً ، وإما مناجاةً ومؤانسةً . وكذلك كلام الله جلت عظمته ، وَهُوَ اللهُ الَّذِى لا إلـَه إلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلـَامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ ، سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يُشْركوُنَ .
لو أنزل هذا القرآن على جبل .. :
قال سبحانه : { لَوْ أنْزَلْنَا هَـَاذَا القرءَآنَ عَلَىا جَبَلٍ لَرَأيْتَهُ خَـَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الأمْثَـَالُ نَضْربُهَا لِلنَّاس ِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الحشر الآية 21 } .
ونقارن هذه الآية بقوله تبارك وتعالى :
{ إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَىَ السَمَـاـوَاتِ والأَرْض ِ والجِبَالِ فَأبَيْنَ أن يَحْمِلْنَهَا وأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَـَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً . سورة الأحزاب الآية 72 } .
فنجد معادلتين متشابهتين : فالجبال ـ وهي مخيّرة ـ أبت أن تحمل هذا الدين أمانة ، من عناصرها قراءة هذا القرآن وتدبره والعمل به .
وكذلك لو أنزل الله ، ربنا المجيد ، هذا القرآن على جبل ، لخشع الجبل وتصدّع خوفاً من الله ، والتصدع ، الشقوق الكثيرة العميقة التي يسمع لها صوت ، يعني لو أنزل هذا القرآن على جبل لتفسخ وتهدم بشكل يصدم المشاهد ويذهله .
فما بال هذا الإنسان ، وقد اختار وهو مخّير كذلك ، حمل هذه الأمانة قبل المجيء إلى الأرض ، فرضي بحملها ، ثم إذا هو بعد الإهباط ، بين جاحد ومعرض ومتخذ هذا القـرآن ظهريا . وقليل هم الصديقون القرآنيون .
هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، قوله تعالى { لَوْ أنْزَلْنَا هَـَاذاَ القُرْءَآنَ عَلىا جَبَلٍ } لا يعني أن يوضع القرآن هذا الذي دفتاه وما بينهما من ورق مقوَّى وغير مقوى على الجبل . وإنما المقصود مضامينه ، المقصود الآيات ، والمقصود بالآيات معانيها الظاهرة ثم الباطنة ، وذلك للدرجات السبعين التي بين التكذيب والشك واليقين . والله سبحانه { يُؤْتِى الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أوتِىَ خَيْراً كَثيراً وَمَا يَذّكّرُوا إلاّ أوْلوُا الألْبَـابِ . سورة البقرة الآية 269 } .
مضامين القرآن يتصدع لها الجبل إذا أنزلت عليه ، وليس للجبل في الظاهر سمع ولا بصر ولا فؤاد ، وهو غير مسؤول عن حمل الأمانة .
أما الإنسان الذي اختار حمل الأمانة ، والذي من أجل ذلك جهزه الله عز وجل بالسمع والبصر والفؤاد ، فمسؤوليته جد حساسة ، وحسابه دقيق ، فأين هو من هذه المسؤولية وهذا الحساب ؟
{ وَلِكُلٍّ دَرَجَـآتٌ مِمَّا عَمِلُوُاْ وَلِيُوَفِيَهُمْ أعْمَـَاـلَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . سورة الأحقاف الآية 19} .
يقول عز وجل : { وَلَقَدْ مَكَّنـَّاـهُمْ فِيمَآ إنْ مَكَّنـَّاـكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وأبْصـَاـراً وأفْئِدَةً فَمَا أغْنَىآ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أبْصَـاـرُهُمْ وَلاَ أفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بآيـَاتِ اللهِ وَحَاقَ بهم مَّا كَانُواْ بهِ يَسْتَهْزءُونَ . سورة الأحقاف الآية 26 } .
صحيح أن هذه المعادلة فيها عدالة الله ، لكن عدو الله فيها هو الخاسر . أن يجحد فريق من البشر بآيات الله فيعطل الله سمعهم وأبصارهم وأفئدتهم .. هذا كثير في القرآن ، وذلك يشبه قوله عز وجل :
{ وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بـآيَـآتِ رَبِّهِ فَأعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبهمْ أكِنَّةً أن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَآذانِهمْ وَقْراً وإن تَدْعُهُمْ إلى الهُدَىا فَلَنْ يَهْتَدُواْ إذاً أبَداً . سورة الكهف الآية 57 } .
ففي الآية الأولى { ولقد مكّنّـاـهم … } لا يفيد الإنسان سمعه ولا بصره ولا فؤاده إذا هو جحد بآيات الله ، أي أنكرها وأعرض عنها . ويزيد على عقوبات الدنيا هذه ، عقوبة الأبدية في الآخرة ، حيث يحيق بهم ما كانوا به يستهزئون .
وفي الآية الثانية إنسان يذكّر بآيات ربه فيعرض عنها ، فينسى ذنوبه صغائرها وكبائرها وإهماله لآيات ربه .. فيجعل الله بسبب ذلك كِنّاً على قلبه يمنعه به من فهم القرآن الكريم ، ومن فهم أي أية فيه فهما صحيحاً مراداً للصالحين . ويجعل في أذنيه ثقلاً لا يسمع معه نبرة الإصلاح والتسديد والتقويم { إنَّ هَـَاذَا القُرْءَآنَ يَهْدِى لِلّتِى هِيَ أقْوَمُ … سـورة الإسراء الآية 9 } . وأخيراً ينتج من كل ذلك أن أيما مخلوق يدعو هذا الإنسان إلى الهدى ، إلى الحق ، إلى الله ، فإن هذا الإنسان لن يستجيب ولن يهتدي أبداً . فقد أصبح مغلقاً حقَّ عليه غضب الله سبحانه وحقت عليه كلمة العذاب .
وذكِّرْ فَإنَّ الذِكْرَى تَنْفَعُ المُؤمِنينَ :
قوله تبارك وتعالى : { وَذَكِّرْ فَإنَّ الذِكْرَىا تَنْفَعُ المُؤمِنينَ . وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ . مَآ أريدُ مِنْهُمْ مِن رزْقٍ وَمَا أرِيدُ أن يُطْعِمُونِ . سورة الذاريات الآيات 55 ـ 57 } .
هذه الآيات الثلاث تركز على ثلاثة مبادىء أساسية تدور كلها حول محور التوحيد :
المبدأ الأول : أمر الله بالذكر لكل عاقل ، ثم التنبيه إلى أن الذكر
أو الذكرى تنفع المؤمنين خاصة . فإذا انتفع المؤمن
بذلك فهذا كفاية ، والله الكافي . والدليل علـى أن
الأمر إلـاـهيٌ وهو لجميع العقلاء ، قوله تعالى :
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْر ِ الرَّحْمَـَاـن ِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـَاـناً فَهُوَ لَهُ قَريْنٌ . سورة الزخرف الآية 36 } .
المبدأ الثاني : وجوب طاعة أمر الله في لزوم الذكـر ، لأنـه
سبحانه وتعالى إنما خلق الإنسان ليطيعه سبحانه ، إئتماراً بأوامره وانتهاءً بنواهيه وذلك معنى قوله عزت عظمته { وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ والإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ } .
المبدأ الثالث : أن طاعة الخلق له تبارك وتعالى ، إنما هي حدود
وضوابط ورياضات ، تصب دائماً في مصالحـهم
الشخصية البحتة . وأن الله عز وجل ، ليس له
مصلحة ولا منفعة ينالها من وراء ذلك . فهو المصلح المنجـح وحده لا شريك له . وهو الغني عن عباده ، والعباد هم الفقـراء إليه سبحانه :
{ يَـأيُّهَا النَّاسُ أنْتُمُ الفُقَرَآءُ إلَىَ اللهِ واللهُ هُوَ الغَنِيُّ
الحَميدُ . سورة فاطر الآية 15 } .
وذلك مما عناه في قوله عز شأنه في المبدأ الثالث
الـذي نحن بصدده : { مَا أريدُ مِنْهُمْ مِن رزْقٍ وَمَا أريدُ أنْ يُطْعِمُونَ } ثم يذيّل الآيات هذه بالحقيقة الأزلية الأبدية التي هي مضمون قوله له الحمد :
{ إنَّ اللهَ هُوَ الرَزَّاقُ ذُو القُوَّةِ المَتِينُ . سورة الذاريات الآية 58 } .
هو الرزاق وحده لا شريك له ، ذو القوة المتين ، القوة المطلقة التي لا يقف في وجهها شيء ، ولا يعجزها شيء ، وفي هذا الإطلاق قوله عز شأنه { إنَّهُ عَلىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} ، وهذا المعنى مكرر في عشرين آية ونيّف.
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْر الرَّحْمَن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـاـناً فَهُـو لَـهُ قََريـنٌ :
الشيطان في المفهوم الإسلامي :
أولاً : في لغة العرب : جاء في اللسان لإبن منظور في باب شيط ، ما يلي : شاط الشيء شيطاً وشياطة : إحترق . وأشاط فلان فلاناً إذا أهلكه . وأصل الإشاطة الإحراق ، واشتاط عليـه : التهب . والشيطان : فعلان من شاط يشيط . انتهى .
و ( شيطان ) كـ ( إنسان ) كلاهما إسم نوع ، يعني الفرد ويعني المجموع ، ومثلهما في اللغة كثير ، مثل : هذا عدوٌ وهؤلاء عدوٌ ، ومثل طفل وصديق …
ثانياً : في القرآن الكريم : من عشرات الآيات التي ورد فيها ذكر الشيطان ، اخترنا كنماذج ، أربع آيات ، لصلتها بهذا البحث وهي قوله تبارك وتعالى :
- { الشَيْطَـَانُ يَعِدُكُم الفَقْرَ وَيَأمُرُكُم بالفَحْشَآءِ واللهُ يعِدُكُم مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . سورة البقرة الآية 268 } .
- { إنَّ الَّذِينَ تَوَلَّواْ مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَىَ الجَمْعَانِ إنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَـاـنُ ببَعْض ِ مَا كَسَبُواْ … . سورة آل عمران الآية 155 } .
- وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْواَلَهُمْ رئَاءَ النَّاسِ وَلاَ يُؤمِنُونَ باللهِ وَلاَ بالْيَوْم ِ الآخِر وَمَنْ يَكُنْ الشّيْطَـاـنُ لَهُ قَريناً فَسَاءَ قَريناً. سورة النساء الآية 38 } .
- { الَّذِينَ ءَآمَنُواْ يُقَـاـتِلُونَ فِي سَبيل ِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَـاـتِلُونَ فِـي سَبيـل ِ الطَـاـغُوتِ فَقَـَاتِلُوا أوْليَاءَ الشّيْطـاـن ِ إنَّ كَيْدَ الشَيْطَـاـن ِ كَانَ ضَعِيفَا . سورة النساء الآية 76 } .
ثم من مرادفات الشيطان ، الطاغوت ، ولو كانت كلمة الطاغوت أعم من ذلك ، فهي من طغـىا يطغى ويطغو ، أي تجاوز تجاوزاً كبيراً { إنَّا لمَّا طَغَا المَاءُ حَمَلْنَـاـكُمْ فِي الجَاريَةِ . سورة الحاقة الآية 11 } .
أ) أن كل ما يعبد من دون الله هو طاغوت لعابده ، وقد لا يكون كذلك لذاته .
- الشيطـاـن : إفراداً وجمعاً ، إنسياً أو جنياً ، صغيراً مما دقّ فلا يرى إلا بمكبر ، أو كبيراً كما نوّه سبحانه عن فصائل منه ، من شياطين الجن والإنس وآلات الإنس : { إنَّا زَيَّنَّا السّمَاءَ الدُنْيَا بزِينَـةٍ الكَواكِبْ . وَحِفْظاً مِن كُل ِ شَيْطَـاـن ٍ مَّارد ٍ . ّلا يَسَّمَّعُونَ إلَىَ المَلاَءِ الأعْلىَا وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ . دُحُوراً وَلَهُمْ عَذّابٌ وَاصِبٌ . إلاّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ . فَاسْتَفْتِهمْ أهُمْ أشَدُّ خَلْقاً أم مَنْ خَلَقْنَا … . سورة الصافات الآيات 6 ــ 11 } .
ثم ما لا يرى إطلاقاً إلا ما شاء الله : { يَـاـبَنِي ءَآدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطـاـنُ كَمَا أخْرَجَ أبَويْكُم مِّنَ الجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُريَهُمَا سَوءَاتِهِمَا إنّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إنَّا جَعَلْنَا الشَّيـاـطِينَ أوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ . سورة الأعراف الآية 27 } .
وكذلك النفس الأمارة بالسوء ، شيطان ذاتي لصاحبها ، أو طاغوت ذاتي كما هو مبين في جملة معاني قوله تبارك وتعالى:
{ والَّذِينَ اْجْتَنَبُواْ الطـَّاـغُوتَ أنْ يَعْبُدُوهَا وأنَابُواْ إلَىَ اللهِ لَهُمُ البُشْرَىا فَبَشِّرْ عِبَادِ . سورة الزمر الآيـة 17 } .
وقد يختصر كل ذالك ويوضحه إيضاحاً بيِّناً قوله عز وجل :
{ لاَ إكْرَاهَ فِي الدِّينِ . قَدْ تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بالطَّـاـغُوتِ وَيُؤْمِنْ باللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بالعُرْوَةِ الوُثْقَىا لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . سورة البقرة الآية 256 } .
بعد هذا الإستعراض لمفهوم الشيطان وأصنافه ومعانيه وأحجامه وخفائه وظهوره ، أصبح ممكناً أن نفهم بشكل أوضح وأدق وأشمل معاني قوله جل جلاله :
{ وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْر الرَّحْمَـاـن ِنُقَيِّضْ لَهُ شَيْطـَاـناً فَهُوَ لَهُ قَرينٌ . وَإنَّهُمْ لَيَصُدَّوْنَهُمْ عَنِ السَّبيل ِ وَيَحْسَبُونَ أنَّهُم مُهْتَدُونَ . حَتَّىا إذَا جَاءَنَا قَالَ يـاـلَيْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرقَيْن ِ فَبِئْسَ القَرينُ . سورة الزخرف الآية 38 } .
في اللغة ( يعْشُ ) يتعامى ، ( نُقَيِّضْ لَهُ ) نتيح له ، نسبب له ، نجيء له به و ( شَيْطـَاـناً ) كما أسلفنا ، منه الجمع والإفراد ، الكثير والقليل ، الصغير بحجم الذرة والميكروب ، أو أدنى من ذلك وأكبر بما يشاء الله عز وجل . وهكـذا يكـون من وجوه معنى ( وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الْرَّحْمَـانِ … الآية ) . أنه من يتعامى عن ذكر الله ـ وفي رأس الذكر قراءة القرآن وتدبره ـ نوظف له شيطاناً فرداً ، أو مجموعاً ، مما يرى أو مما لا يرى ، مما صغر أو مما كبر، أو من جميع هذه المسميات ، ونجعل ذلك أو كل ذلك قريناً لهذا المتعامي عن ذكر الله سبحانه وتعالى عما يشركون .
ويفسر وجهاً من وجوه هذه الآية فضلاً عما ذكرنا ، قوله تبارك وتعالى :
{ وَقََيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ ايْديهمْ وَمَا خَلْفَهُمُ … . سورة فصلت الآية 25 } .
والقرناء أو القرين ، قد يقيّض للإنسان في نومه ، رجُلاً كان أو امرأة ـ ولعلّه للنساء أكثر، والعوام يسمونه ( القرينه) ـ لعقوبة أو درس أو توجيه . وقد يقيّض في اليقظة وفاعليته عند ذلك أخطر، ويصل خطر ذلك إلى أقصاه ، إذا كان حقّ القول على الغافل عن ذكر الله ، المتعامي عنه ، كما في سيـاق آيـة ( وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ … ) قوله عز شأنه :
{ … وَحَقَّ عَلَيْهمُ القَولُ فِي أمَم ٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الجِنِّ والإنْس ِ إنَّهُمْ كَانُوا خَـاـسِرينَ . سورة فصلت الآية 25 } .
وتقييض شيطانٍ لإنسانٍ ما ، إنما يكون نسبياً كمَّاً وكيفاً وزماناً ومكاناً ، بنسبة التعامي عن ذكر الله . فلو أن إنساناً تعامى وغفل كلياً ، فهي القاضية ـ إذا لم يمدد له الرحمن مدا ، ليبتليه ويبتلي به ـ إما بشيء عضال … وإما بإهلاكٍ قبل استكمال عمره المكتوب له : { … هَلْ يُهْلَكُ إلاَّ القَوْمُ الَظَّـاـلِمُون . سورة الأنعام الآية 47 } . { فَهَلْ يُهْلَكُ إلاَّ القَوْمُ الفـاـسِقُونَ. سورة الأحقاف الآية 35 } .
وفي هؤلاء قال سبحانه :
{ إسْتَحْوَذَ عَلَيْهمُ الشَّيْطـَاـنُ فأنْسَـاـهُمْ ذِكْرَ اللهِ أولَـَائِكَ حِزْبُ الشَّيطـَاـن ِ ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطـاـن ِ هُمُ الخَـاسِرُونَ . سورة المجادلة الآية 19 } .
والإستحواذ على إنسان ما ، هو أخذه بكليته ، نفساً وبدناً. ولو أن إنساناً تعامى نسبياً ، فبنسبة تعاميه يكون تقييض الشيطان له ، ميكروباً كان أو جنياً أو أنسياً ، قليلاً أو كثيراً .
ولماذا لا يتمرّد الضحية على شيطانه أو شياطينه بشتى أصنافهم ؟ ذلك لآن الضحية يحسب أنه مهتد ٍ وأنه على خير . وهذا نعرفه في المجتمع العالمي بشكل عام ، وقد نراه يومياً حولنا . وهو أن أكثر الناس ، أميل إلى التحلل مما أوجب الله عليهم سبحانه ، في أكثر شؤونهم الحياتية والسلوكية : بين ملحد وعلماني ومشرك ومتردد ومتحير وشكاك . فإن كل واحد من هؤلاء ، مع قرينه أو قرنائه الذين يصدونه عن السبيل الحق ، إنما يحسب أنه هو المهتدي وهو المصيب وهو الأعقل والأفهم ، لا سيما إذا قارن نفسه ، بالمؤمنين المتدينين ، المتهمين عادة بأنهم متحجرون ، وأنهم متزمتون ، وأنهم ثقلاء على الأنفس المتحررة ، وعلى أبناء الحياة وأهل الإنفتاح ، كما يزعمون لأنفسهم .
وهذا المعنى ضمّنه سبحانه فـي الآيـة التي تلي قولـه له الحمد : ( وَمَنْ يَعْشُ … ) وهي : ( وإنَّهُمْ ليَصُدُّونَهُمْ عَنِ الْسَّبيلِ وَيَحْسَبوُنَ أنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . سـورة الزخرف الاية 37) .
ثم بعد هذه مباشرة ، كما رأينا ، قوله عز وجل : { حَتىَّا إذَا جَاءَنا قَالَ يَـَاليْتَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرقَيْن فَبئْسَ الْقَرينُ . الزخرف الآية 38 } . وهذا المعنى يفهمه معظم قراء القرآن والمفسرين أنه ( حَتىَّا إذاَ جَاءَنَا ) يوم القيامة . والحقيقة أن هذا المعنى المتداول هو جزئي بالنسبة للمعنى العام ، إذ أن عموم معنى ( حَتىَّا إذَا جَاءَنَا ) يشمل الحياة الدنيا كذلك ، وذالك في قوله سبحانه :
{ وَهُوَ الَّذِي فِي الْسَّمَآءِ إلـَاـهٌ وَفِي الأرْضِ إلـَاـهٌ وَهُوَ الحَكِيمُ العَلِيمُ . سورة الزخرف الآية 84 } .
وقوله تبارك وتعالى :
{ … وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَ مَا كُنْتُمْ … . سورة الحديد الآية 4 } .
وقوله عزت عظمته :
{ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى بَيْنَ ثَلاَثَة ٍ إلاَّ هُوَ رَابعُهُمْ وَلاَ خَمْسَة ٍ إلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أكْثَرَ إلاَّ هُوِ مَعَهُمْ أيْنَمَا كَانُوا … . سورة المجادلة الآية 7 } .
{ … وَهُوَ الْسَّمِيعُ الْبَصِيرُ . سورة الشورى الآية 11 } . فمعنى ( حَتىَّا إذَا جَاءَنَا ) من وجه ، هو عندما يصاب الإنسان الغافل بمصيبة ما في نفسه أو بدنه أو متعلقاته ، فإذا ذكر الله بعد نسيان طويل أو قصير ، يكون قد جاء الله سبحانه فيندم على غفلته ، ويندم على تعاميه عن ذكر الله وعن كتابه وعن عبادته وعن توليه مع كل نفس من أنفاسه . ويعي أن قرينه أو قرناءه إنما هم له أعداء ، فيقول لقبيل شياطينه ، كما قال عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال سبحانه :
{ حَتىَّا إذَا جَاءَنَا قَالَ يَـَالَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المَشْرقَيْنِ فَبئْسَ الْقَرينُ . الزخرف الآية 38 } .
حتى إذا استفاق الإنسان ورجع إلى الله بعد كل مصيبة من مصيباته . أما إذا لم يستفق ، فلا بد هو ذاكر ذلك في نزعه الأخير في يوم الفراق ، فراق الدنيا وفراق القرناء ، عند مواجهة الموت ، وكذلك يوم القيامة ، وكذلك يوم الحشر ، وكذلك يوم التوزيع إما إلى جنة إما إلى نار ، وإلى أبد الآبدين .
وسوسات النفس الأمّارة :
في خواطر كثرة من المؤمنين وعلى ألسنتهم أسئلة كثيرة يتطارحونها هنا وهناك ، من مثل : لماذا القرآن ؟ ألا يكفي ـ بدون القرآن ـ الإيمان بالله والعرفان بالله وتوحيد الله والخلوص من أنواع الشرك ما ظهر منها وما بطن ؟ وألا يكفي مع ذلك ، الإنتصار على الشياطين ، وهذا ممكن جدا مع ذكر الله بدون القرآن الكريم ، ومع اللجوء الدائم إليه سبحانه في ليل الإنسان ونهاره ، وحركاته وسكناته .
هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، لماذا لا يكون القرآن كتاب تشريع وأحكام ، يعتمده أهل الحكم وأهل الحل والربط ، وأهل الإختصاص ، فيوفر على الناس ، قراءاته وتلاوته والتعبد بذلك كله ؟
هذا ، إلى أسئلة كثيرة حول موضوع القرآن وقضية الإلزام بذكر الله .
والجواب على كل ذلك ، هو أنه بالرغم من كون القرآن المجيد ، هو دستور لكل فرد على حدة ، وهو دستور لكل أسرة على حدة ، وهو دستور لكل دولة مسلمة لله بالحقيقة ، ومن ثم يفترض أن يكون دستور العالم برمته . فهو فضلاً عن ذلك كله كنز أسرار يتفتّق عنها حسب الحاجة لدى الفرد أو المجموع ، وهو خزانة تعليم ، تسبر أغوار النفس البشرية مفردة ، والنفوس مجتمعة ، وتكشف مكامن غيب أو شهادة ، في حاضر الإنسان الفرد ومستقبله ، كما وحاضر الجماعة ومستقبلها ، كما وحاضر العالم ومستقبله ، في الصراع الدائم الدائر بين الفريقين العالميين : أهل الإيمان وأهل الكفران .
قلنا في بعض حديثنا آنفاً ، أن هناك أمر جد حساس ، وجد خطير ، هو الشيطان الذاتي ، أو الطاغوت الذاتي ، وهو تسمية حقيقية قرآنية ، للنفس الأمارة كما أسلفنا .
والنفس الأمارة بالسوء عند الفرد ، تصبح إذا تعددت ، نفوساً أمارة عند الجماعة ، فتصبح الجماعة أو في الجماعة ، مجموعة شياطين . تبقى حيناً يطول أو يقصر ، حتى تنقذ بذكر الله عز وجل وبالركون إليه سبحانه ، فإذا لم تركن إلى الله ، بقيت مجموعة شياطين ، وقد تحكم دولاً ، وقد تحكم أمماً ، وقد يطول بها الزمان ، حتى يقضيَ الله أمرا كان مفعولا .
ووحده القرآن الكريم وتعاليمه وآياته ، يهدي الأنفس الأمارة أو الشياطين الذاتية ، إذ بدونه وبدون تعاليمه ، تبقى النفوس في حيرة وارتباك وتردد ، بصدد ما يجب أن تفعل ، وهي دائماً أميل للجريمة والمعصية ، والإنفعال مع الشهوات ، شهوات القوة ، والسلطة ، والسيطرة ، والظلم ، والجنس ، إلى آخر ما هنالك من إغراءات شيطانية وإنحرافات أخلاقية وإجتماعية .
وعلى مدى ضبط القرآن الكريم ، وفوز المؤمنين بالإلتزام بتعاليمه ، نضرب مثلاً آية كريمة ، من مئات الآيات الموجهة والضابطة لسلوك الفرد وسلوك الجماعة ، قوله تعالى :
{ يَسئَلوُنَكَ عَنِ الشَّهْر ِ الحَرام ِ قِتَال ٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبيل ِ اللهِ وَكُفْرٌ بهِ والمَسْجِدِ الحَرَام ِ وَإخْرَاجُ أهْلِهِ مِنْهُ أكْبَرُ عِنْدَ اللهِ والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْل ِ ، وَلاَ يَزَالُونَ يُقَـاـتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينكُمْ إنِ اسْتَطَـَاـعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولـَائِكَ حَبطَتْ أعْمَـاـلُهُمْ فِي الدُنْيَا والآخِرَةِ وأولـَائِكَ أصْحَـاـبُ النَّار ِهُمْ فِيهَا خَـاـلِدُونَ . سورة البقرة الآية 217 } .
وفي الآية كما هو واضح :
أولاً : جهل بحلية القتال في الشهر الحرام ـ أي شهر من الأربعة وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مفرد ـ أو بحرمته . وذلك بعد أن حرّم النسيء الذي هو إبدال شهر مكان شهر … فكان التعليم : أن القتال فيه كبير ، أي إثم كبير. طبعاً وفي ذلك استثناءات يعتني بها الفقه الإسلامي ، أبرزها أنه لا حرمة لمن لا يعتقد بهذه الحرمة ، فيقاتَلُ في كل مكان .
ثانياً : ما لم يكن يعلم المسلمون ولا المشركون ، أن الصدّ عن سبيل الله ، أي دينه ، والكفر به سبحانه أو بسبيله ، وكذلك الصد عن المسجد الحرام وعـن الحج إليه ، وكذلك إخراج أهله منه ، وهم رسول الله (ص) وأصحابه والتابعون لهم بمعروف إلى يوم يبعثون ، كل ذلك هو أكبر عند الله وأعظم إثماً من القتال والقتل في الشهر الحرام .
ثالثاً : هذه القاعدة الرائعة ، ذات الأبعاد العميقة ، والتي تدعو إلى التأمل والإعجاب الشديد الممزوج بالخشوع والخشية ، وهي قوله عزت عظمته : { والفِتْنَةُ أكْبَرُ مِنَ القَتْل ِ } . أي أن يُرَدَّ الإنسان فيرتد عن إيمانه بعد إذ آمن بالله ورسوله وكتابه ، فذلك أشد من أن يقتل ، يعني أن يقتل هذا الإنسان وهو على إيمانه فيخلّد في نعيم الله الأبدي ، أفضل له بما لا يقاس ، من أن يُفتَنَ ويردَّ أو يرتدَّ عن دينه ، نتيجةً لأنواع الضغوط الخارجية والذاتية ، فيخلَّد في نار جهنم .
رابعاً : سبر أغوار نفوس المشركين والكفرة وأعداء الإسلام والمسلمين هؤلاء الأعداء لن ينفكوا عن قتال المسلمين حتى يردّوهم عن دينهم ، وذلك ثابت حتى يحكم الإسلام العالم إن شاء الله العزيز الحكيم .
خامساً : هذا الحكم الساري المفعول عند الله سبحانه ، والذي لا يقبل الإستئناف ولا الإعتراض ولا المناقشة ، وهو أن { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ … } دون توبة ولا رجوع عن ارتداده ، فذلك يحبط عمله ، أي تعتبر أعماله صفراً ، عدماً ، ولو كانت جبالاً من النفع والخير والصالحات . ثم يدخل النار مع أصحاب النار ، ويكون فيها من المخلدين .
وهكذا .. { طَاعَةٌ وَقوْلٌ مَعْرُوفٌ فإذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُواْ اللهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ . سورة محمد الآية 21} .
وهكذا .. لولا هذه الآية { يَسْئَلوُنَكَ عَنِ الْشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فيهِ … } لاضطرب المؤمنون وتنابزوا وفشلوا فيما بينهم من جهة ، وفي مقابل أعدائهم من جهة ثانية ، إضافة إلى ما يلحقهم من آثام فردية وآثام عامة ، قد تستدعي ـ كما نعلم من القرآن الكريم إذا كثرت وكثر أصحابها ـ غضب الله وسخطه ، يعني عقوباته النسبية ، التي أدناها قحط وغلاء ، وحروب أهلية وحروب عامة ، وخوف وفوضى وفلتان ، وضمن ذلك كله العقوبات الفردية في الأنفس والأبدان والمتعلقات من مال وأهل وولد وأحباب وخلان .