بين المقهى وملعب كرة القدم :
================
قال الله تبارك وتعالى :
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأََمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ . سورة الحديد الآية 20 } .
قوله تبارك وتعالى { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَولاَدِ } فيه اعتباران ، الأول ، هو تصوير رائع لعمر الإنسان بمراحله ، منذ الطفولة ثم الصبا فالشباب مروراً ببقية مراحل العمر إلى أن يودِّع هذه الدار الدنيا . فاللعب ـ حسب طبيعة العمر ـ مختص بالطفولة ثم اللهو مقارن لمرحلة الصبا ، ثم التزين في أعلى درجاته رهن بالشباب ثم التفاخر ، عندما يبدأ الشباب الصراع الحقيقي لإمتلاك الدنيا ، زوجةً مميزة وداراً يبذل أقصى الجهد لأن يجعلها أحسن أو أفخم من دور أقرانه ، ثم التباهي بالسيارة حجماً ونوعاً وتألقاً ما أمكن له ذلك .. ثم يدخل في صراع آخر من أجل البقاء ، يخالطه إضافة إلى حب التباهي والتملك ، الخوف من المستقبل ، فيحرص على الإكثار من المال وتخزينه وكذلك إعداد الأولاد ، تعليماً وتوجيهاً وتثبيتاً للمساعدة والمشاركة في نيل هذا الهدف .
أما الإعتبار الثاني المفزعة صورته ، هو أن تجتمع هذه المراحل كلها في صورة واحدة على إنسان وذَّع المراحل التي يمكن الغفران معها ، وهي الطفولة والصبا وبعض سن الشباب ، ودخل سن الكهولة وما بعدها ، وظل يلعب ويلهو ويتصابى إضافة إلى التفاخر والتكاثر أموالاً وأولادا .. وهذه المرحلة من العمر فيها تشدد من الله سبحانه على عباده ، حيث لا يقبل منهم لا لعباً ولا لهوا ولا تفاخراً ولا تكاثرا ..
وأكثر من ذلك ، فإنه سبحانه كما هو وارد في الأخبار الموثوقة عقلاً ونقلاً ، يحب الشباب الوقورين الجادين ولا يحب الكهول الماجنين المتصابين .
وفي الآية الكريمة تأكيد لقبوله سبحانه أو محبته للإنسان الجاد الوقور ، يعني الإنسـان التقي ، وكراهيته لأهل اللهو والعبث والمجون . وذلك في قوله تبارك وتعالى : { .. كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ .. } وقبل أن أشرع بشرح المطلب ألفت إلى أن بعض المفسرين ، اعتبروا كلمة ( الكفار ) في الآية ، هي بمعنى الزراع ، وهذا ليس صواباً ، والصواب هو ظاهر القول ، وبداهة العقل واللغة ، فكلمة ( الكفار ) تعني الكفار بالله أو بدينه أو بتعاليمه بعضاً أو كلاً . فالنبات بخضرته ونضرته ، ليست رؤيته حكراً على الزراع ، بل هو يلفت جميع الناس ، ولا سيما كما هو مقصود الآية : الأكثر تعلقاً بالدنيا ومباهجها ومكاسبها ، وهم الكفار ، حيث ليس عندهم بديل عنها ، أوليس عندهم ـ باعتقادهم ـ ما هو أفضل منها ، بخلاف المؤمنين ، الذين قلما تشدهم مفاتنها من نبات وثمرات ، وإذا شدهم شيء من ذلك فليسبِّحوا الله ويعظموه ويشكروه على ما أبدع من جمال وجلال متعاً للعقل والقلب والعين ، وقد ورد في أدعية المؤمنين : ” اللهمَّ إنا نسألك من جمالك بأجمله وكل جمالك جميل ، اللهمَّ إنا نسألك بجمالك كله ” . فلا حرص ولا دهشة ولا تعلُّق ، بمغريات الدنيا وجناتها وبساتينها ودورها وقصورها ، إذ ما عند الله للمؤمنين ما هو خير وأجمل وأبقى . وهم لا يعيرون الدنيا إهتمام الكفار ، لأنهم يدركون تعليم الله في آياته الكريمات ، ولا سيما في هذه الآية التي بين أيدينا ، حيث يتابع سبحانه فيقول : { .. ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا .. } أي الغيث الذي يعجب الكفار نباته ، أي أنه يندثر ويتحطم ولا يبقى منه لأصحابه شيء . وهذا كناية عن موته عنهم وفنائه ، ثم كناية عن موتهم هم ، ولو كان ما يفتنهم من شأنه أن يعمر أكثر منهم إن كان من شجر أو حجر أو ما شابه ذلك ، فموتهم عنه ، فناؤه عنهم مجازاً ، وبالتالي هو إلى زوال ولو بعد حين .
ولو أن الأمر انتهى هكذا ، بفنائهم عن الدنيا أو فنائها عنهم ، لكان من السهولة والراحة بمكان ، أن ينظم الإنسان حياته على هذا الأساس . ثم ينام قرير العين نومـة أبدية ، لا حياة بعدها ولا حساب ولا عقاب . إلاَّ أن الحق أعظم من ذلك وأعدل ، فالحق أحق أن ينتصر ، والباطل أولى أن يخزى وأن ينهزم . وبقية الآية الكريمة تأكيد لهذا الحق ، قوله تبارك وتعالى: {.. وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ } . يعني نهاية الإنسان باختصار شديد : إما إلى جنة إما إلى نار . والحياة الدنيا ، كل ما فيها ليس له قيمة حقيقية ، فهو لباس يبلى وأثاث يفنى ، إلاّّ الصالحات من الأعمال مع الإيمان توحيداً بغير شرك ولا نفاق. فهذا هو الزاد الذي يُقبل ويتنامى في الآخرة حيث يجده أصحابه في موازينهم يوم القيامة . وهذه آيات كريمات تفصح خير إفصاح عن عدالة الله عزت عظمته ، وعن مسؤولية الإنسان في سلوكه وتطلعاته ، وصدقه أو كذبه ، وعن منزلته ونتائج أعماله في الدار الآخرة .
قال تبارك وتعالى :
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ . فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ . وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ . تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ . أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ . قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ . سورة المؤمنون الآيات ( 101 ـ 107 ) }.
فحكاية الموازين هنا ، هي التي توزن فيها الأعمال ، أي تقوَّم من حيث جهاد أصحابها في سبيل الله ومواقفهم منتصرين له ومنتصرين به سبحانه . إلى الجود بالأنفس والأموال وبكل ما يملك الإنسان تقرباً إلى الله عزَّ وعلا ، فكل ذلك مما يثقل الميزان لصالح الإنسان المؤمن الموحد . وخلاف ذلك اللاعبون اللاهون المستهزئون بآيات الله ، وبالمؤمنين وعشقهم لله ، بل وفنائهم في حبه . { قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ . رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } أي أنهم يتضرعون يومها إلى الباري ليخرجهم من النار وعذابها ، فيتلقون الصدمة المزلزة لكيانهم ، قوله تعالى : { قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ . إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ . فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ . إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ . قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأََرْضِ عَدَدَ سِنِينَ . قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ . قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ . سـورة المؤمنـون الآيات ( 108 ـ 115 ) } .
هذه الآية الأخيرة ، قوله تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } لها مصاديق كثيرة في المجتمعات البشرية ، أناس عبثيون ، ضائعون ، يهربون من أنفسهم تارة ، ومن الحقائق القوية التي تواجههم تارة أخرى ، وأكثر ما يلجأون لنفض المسؤولية عن أنفسهم ، إلى اللهو واللعب . وأماكن اللهو واللعب للكبار أكثر من أن تعد أصنافها ، وهي بين حرامٍ وحلالٍ مزعوم ، تفوق عدد بيوت العبادة والمكتبات والنوادي الثقافية مئات المرات . إلاَّ أن بؤرتين أصبحتا أكثر أماكن اللهو استقطاباً للناس هما المقاهي وملاعب كرة القدم .
أما المقاهي ، ويتفرع عنها الكباريهات والكازينوهات وغير ذلك مما هو ظاهر فوق الأرض أو مخبَّأ تحت الأرض ، فهي تؤوي المترفين من الجنسين ، وفي معظمها يباع الفسق وأنواع الفجور غير القمار والمراهنات الكبيرة والصغيرة حسب أحوال روادها ومستوياتهم .
يبقى أن نستثني بعض أهل الفكر ، الذين لهم مفاهيمهم أو منتدياتهم التي يقصدونها إما لكتابة أو لمطالعة ، أو للإجتماع بأقران لهم ، في مستويات تتراوح بين مراودة الإلحاد أو مراودة الإيمان .
أما الأكثرية الساحقة من أنواع هذه المقاهي . فهي مجتمعات خاوية خالية من أي معنى إنساني أو أخلاقي أو إجتماعي ، خلاصتها تدخين وألعاب تتداول على الطاولات بين شخصين أو عدة أشخاص . سألت مرة جماعة يلعبون” الورق “: بماذا تتحدثون وأنتم تجلسون ساعات طويلة ، بين الثلاث والأربع ساعات على كل لعبة ؟ قالوا لا شيء وإنما نلعب . قال أحدهم نردد ، جميعنا ، كل واحد بدوره أربـع كلمـات : هـي ” بستوني وكُبَّا وديناري وسباتي ” وهي أسماء عالمية لأصنـاف ” الورق” الذي يلعبون به بين أعلى مستويات القمار وأدنى مستويـات التفاهة . والخلاصـة في أحسـن حالات اللهـو
” البريء ” هذه ، هي : هدر الساعات الطويلة ، مع كل لعبة من عمر هذا الإنسان اللاعب اللاهي الذي يهرب من مواجهة الحقائق الناصعة التي لخصتها الآية الكريمة التي نحن بصددها.
هؤلاء هم المترفون ، والترف ليس بالضرورة أن ينتج عن ثراء ، فالترف هو حالة استكانة واسترخاء ذهني وفرار من المسؤولية ، وهو سواء كان ناتجاً عن ثراءٍ أو عن استعداد للتكاسل وعدم احترام الذات ، فقد قبَّحه الله سبحانه وقبَّح أصحابه وتوعدهم بالعقوبة والعذاب ، قال تبارك وتعالى :
{ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ . فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ . لاَ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ . إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ . سورة الواقعة الآيات ( 41 ـ 45 ) } .
أما تقويم الأمر بين الحلال والحرام ، والإدعاء بأن أنواع اللهو هذه مباحة ، ولذلك إقدام الكثرة الكاثرة من الناس عليها ، فالحقيقة ، في هذا الموضوع مناقشة ، لمن أفتوا بحلية هذه الألعاب بأنواعها والتلهي بها . وأدنى هذه المناقشة هي أولاً مواجهتهم بالآية الكريمة التي نحن بصددها ، وما يساندها من الآيات ، كالتي ذكرنا عن المترفين . وآية سورة الدخان ، قوله تعالى : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ . الآية 9 } وقولـه جلَّت عظمته : { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . سورة الأنبياء الآية 2} . وإذا كان الإستنباط يقتضي أول ما يقتضي إعتماد كلام الله وتعليمه في كتابه الوحيـد المجيد ، فما معنى اطِّراح هذه الآيات وغيرها الكثير من نمطها في كتاب الله ؟! هـذا أولاً ، وثانياً ، لماذا عدم التصدي لطرح بدائل فيها الجدّ وفيها الإستقامة وفيها تحمُّل المسؤولية أمام الله وأمام عباده ، من كل ما يحفظ كرامة الإنسان وشرف الإنسان وشهامته ومصيره في الدنيا والآخرة . وهذه البدائل كذلك مبثوثة في كتاب الله العزيز ، والإستنباط منها سهل يسير لمن كان له قلب أو ألقى السَّمع وهو شهيد .
قد يتأفف من لا يعي حقيقة مسؤولية العباد في حياتهم الدنيا ، أمام ربهم ومصيرهم إليه سبحانه في يوم الفصل ووضع الموازين : { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ . فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ . وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ . فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ . سورة القارعة الآيات ( 6 ـ 9) } .
” روِّحوا عن قلوبكم ساعة بعد ساعة ، فإن القلوب إذا ملَّت كلَّت ” حديث صحيح ، ونحن معه قولاً وتطبيقاً ، في السلوك الشخصي ، وفي المجال الوعظي والتربوي ، والترويح عن القلوب وعن الأنفس يتم بجماله وكماله بعيداً عن أنواع اللهو، هذه التي هي أشبه بسجن للقلوب وتكبيل للأعصاب . الترويح عن القلوب وعن الأنفس ، يتم بسلامة واستقامة وعبادة مقبولة بين عالمي الفكر والطبيعة ، بروائعهما جمالاً وجلالاً وفتوحات جمال وجلال ، وحفاظ بينهما على العقل والقلب والنفس من الإنحلال والتهتك والخسران المبين .
وإليكم أهمَّ مثل عن تهتك العقل وسقوطه إلى مستوى الأقدام ، تقوده فينقاد ، متلبساً كرة مطاطية تتقاذفها أمام الجماهير المهووسة أقدام اللاعبين .
عجيب هذا الإنسان القاعد في مدرَّج ملعب كرة القدم ، أو أمام التلفاز ، صالباً وجهه ساعاتٍ ، بل وأياماً متتاليات وعيناه مزروعتان في كرة القدم وأقدام اللاعبين ، وفكره يعدو مع هذا اللاعب ويركض مع ذاك ، ويتأزم تارة ويفرح أخرى بين اللحظة واللحظة ، أو بين القذفة والقذفة ، إلى أن تنتهي اللعبـة ، فينهض إما غاضباً ومن أي شيء ؟ من لا شيء . وإما سعيداً من أي شيء ، كذلك من لا شيء . حسب منطق العقل لا منطق الهوَس .
هذا الوصف الذي وصفته ـ موجزاً ـ للإنسان المتفرج على هذه اللعبة ، أو هذا اللاعب بعقله ، ينسحب على الستـة مليارات إنسان الذين هم اليوم يسكنون أرضنا إلاَّ قليلاً ، يعني إلاَّ من رحم ربك .
ففي أيام ” المونديال ” ، وهو الإسم العالمي ، للعبة كرة القدم ، حيث تتبارى بها دول العالم ، حسب أنظمة وتشريعات دقيقة ، وربما معقَّدة ، وكلها متوجهة إلى أقدام اللاعبين وحركاتهم وسكناتهم ، حتى إذا قذف قاذف الكرة وأرساها في هدف خصمه ، هاجت جماهير المؤيدين وماجت ، وعلا الصياح والهرج ، وكما في الملعب ، كذلك في مدن العالم وقراه والشوارع والأحياء ، وأعماق الدور والأكواخ والقصور .
فما هو السر يا ترى في كل ذلك ؟ فالأمر عجب ، وفيه أكثر من غرابة . منذ زمن وأنا أفكر في هذه اللعبة التي تستقطب الجماهير العالمية ، وفي غيرها من الألعاب ، مثل الكرة الطائرة وكرة السلة ، وقد أكون مارست بعضها في شبابي وقبـل ذلك في صباي ، وأنا الآن أتذكر وأفكر ، فلم أجد لذلك سراً ولا نكهة مميزة ، لا عقلية ولا نقلية ولا جدلية ، سوى أنها لعب .
فهل بلغ مستوى الست مليارات عالم ، إلاَّ قليلاً ، أن تداس أفكارهم وآمالهم تحت أقدام لاعبي كرة القدم ؟
فمن هم هؤلاء اللاعبون يا ترى ، وأين سر قوتهم وعبقريتهم ، وما هو مستوى ثقافاتهم ، حتى استطاعت حركـات أرجلهم أن تهيمن على ستة مليارات من البشر إلاَّ قليلاً ؟
صدق الله العليُّ العظيم ، قوله تبارك وتعالى : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ . مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ .. . سورة الأنبياء الآيات ( 1 ـ 3 ) } .
بين اللعب العبثي والرياضة المفيدة :
=================
اللعب أخضع حتى الدول لعبثيته . فهي تتنافس بتوتر وحماس شديد لبضعة عشر لاعباً يمثلون كل أمة ، أو كل دولة . ويشدون أبصارهم وأعصابهم ، قيادات وجماهير ، معلقين كرامة شعب بأكمله ، على النتيجة التي تحصِّلها زمرة اللاعبين ، إما انتصاراً وإما انكساراً . وملايين الناس تمثلهم الزمرة اللاعبة تمثيلاً قسرياً ، يعني شاؤوا أم أبوا .
والحقيقة أن المشكلة هي في الناس الناعقين مع كل ناعق والمائلين مع كل ريح . والذين مثلهم في هذا المجال ، كمثل القرعاء التي تفرح بشعر إبنة خالتها . حيث أنهم متفرجون قاعدون ، لا عن فوائد الرياضة وحسناتها فحسب ، بل هم يهدرون ، إضافة إلى الوقت الثمين ، أعينهم وأعصابهم .
ويا حبذا لو يمارس الرياضة جميع الناس ، ومن كل سن ، تلك هي الحقيقية المطلوبة ، لا لعباً ولا لهواً ، وإنما بدافع الواجب ، الذي هو الحفاظ على أنفسهم وعقولهم وأبدانهم لتبقى سليمة معافاة . فالأنفس والأبدان أمانات هي لله تبارك وتعالى ، وإهمالها أو إتلافها بشكل من الأشكال ، بما يضرها ، أو تعريضها للضعف والوهن ، كل ذلك خيانة نسبية لهذه الأمانة ، والتي هي ضمن الأمانة الكلية ، عنيت بها دين رب العالمين . وخير ما نختم به موضوعنا هذا ، هو قوله تبارك وتعالى :
{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاَ . سورة الأحزاب الآية 72 } . أي بخيانتها كان ظلوماً جهولاً . وإلاَّ فهو من أولياء الله المقربين المحبوبين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .