يُدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض

يُدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض

سورة السجدة الآية 5

 

بين العرفان التقليدي والعرفان العلمي :

          المعرفة بالله جل شأنه لها قواعد تعبدية  يتناقلها أهل العرفان والصوفية ، حتى إنهم جعلوا لها مناهج مكتوبة أو شفوية يعلِّمها الواصلون للسالكين والسالكون أو المهاجرون إلى الله تعالى للمريدين ، وهؤلاء للمبتدئين الذين يراودون هذا العلم العالي  والمقدس .

          إلا أن هذه القواعد والمناهج ، ولو كانت تؤدي غالباً إلى نتائج مقبولة ، فيها الروحانية ، وبعض النورانية المريحة والمسعدة نسبياً ، إلا أنها أصبحت شبه مغلقة دون المجتمع العالمي ، والثورة العلمية التي باتت تسمي الأرض كلها قرية ، ذلك بسبب تواصل القارات التي كانت لآلاف السنين تفصل بينها وبين سكانها مجاهل المحيطات والصحاري والجبال التي كان اجتيازها من المعجزات .

          أما وقد بلغت ثورة التواصل ، عبر الأجهزة الكثيرة والمتنوعة والمدهشة ، من فتوحات الكمبيوتر ، إلى الهواتف النقالة ، إلى الأنترنيت … إلى الفضاء والأقمار التي ضيقت مساحة الأرض وكشفت مجاهلها ، فضلاً عن ألوف الوظائف المنوطة بها ، ما هو معلن منها وما هو في عداد الأسرار .

          إلى فتوحات علم الفلك المذهلة ، مواكباً أسرار الذرة والرياضيات والفيزياء وميكانيك الكم .

          والتغيرات المفاجئة وغير المألوفة في الكون ، من فتحات الأوزون والغيوم الحرارية ، والإزدياد المتسارع في حرارة الأرض ، مما يسبب الاضطرابات المناخية العنيفة ، فتصحُّر يزحف في مناطق كانت بالأمس القريب واحات خضراء وغابات وبساتين ، وفيضانات في مناطق قلما كانت تعرف الفيضانات .

          إلى شح ٍ وتناقص مطَّرد للمياه العذبة ، التي يقولون معها إن العطش كذلك يزحف إلى أهل الأرض عامة ، مما سيسبب حروباً وتزاحماً على مصادر المياه ينغص حياة المتزاحمين وحياة الناس أجمعين ، إلاَّ من رحم ربك ربُّ العالمين .

          لذلك كله ، مما ذكرنا ومما لم نذكر ، احتساباً للوقت الذي أصبح كذلك معه الربانيون والقرآنيون أكثر مسؤولية . لذلك ينبغي على المتصدين للعرفان الإلـهي ، منطلقين من القـرآن الكريم مهاجرين إلى الله جلَّت عظمته ، معرضين عن مجريات الكون ، وحالة المخاض التي يمرُّ بها العالم في قرنه العشرين وما بعده ، ينبغي عليهم أكثر من أي وقت مضى في تاريخ البشرية ، أن يواجهـوا بقرآنهم هذا الكريم وهذا العظيم ، مجريات الكون ، ويتصدوا لمعرفة أسرارها وأسبابها الإلـهية ، والتي يحكي عنها بأبلغ الكلام وأقوى الحجج وأسطع البراهين ، قرآننا هذا الذي { لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ . سورة فصلت الآية 42 } .

وباختصار شديد ، فإن معظم ما يحدث من السماء إلى الأرض في هذه الأيام ، هو من أشراط الساعة ، التي نبَّه الله إليها الخلائق في كتابه هذا المجيد ، والذي لا كتاب له غيره تحت هذه السماء الدنيا ، فيه كلامه ، وفيه أخباره ، وفيه معرفته ، وفيه كشف  أسرار هذا الكون .

          وكما أنه لن يتم فهم القرآن في معزل عن مجريات الكون ، كذلك لن يتم فهم الكون في معزل عن ينابيع النور ، والكشف ، ومعرفة أسرار الوجود ابتداءً وانتهاءً وما بين الإبتداء والإنتهاء ، وبعد ذلك كله  التخليد إما في السعادة الأبدية وإما في العذاب الأبدي .

          ذلك بأن النص القرآني ، هو النص الإلـهي الوحيد الصافي الخالص من أي إدخال عليه أو أي تحريف كما حصل للكتابين  المنزلين التوراة والإنجيل . حيث  أن الأوَّل كتبـه عزرا كبير الأحبار ، ( واسمه في القرآن عزير ) كتبه أثناء السبي في العراق ، بعد أن كان  نبوكد نصَّر قد أحرق جميع نسخ التوراة وهدم الهيكل في بيت المقدس وسبى جميع اليهود الذين كانوا بفلسطين ، إلى بابل في العراق ، حيث ظلوا هناك مائة سنة ، بعدها عطف عليهم بتأثير من أمه اليهودية قورش الملك الفارسي ، فبقي بعضهم في العراق ورجع البعض الآخر إلى فلسطين ، ليبكوا على أنقاض الهيكل الذي كانوا وما زالوا يعبدونه من دون الله .

          وحيث أن الثاني ، أي الإنجيل ، قد أصبح خمسة أناجيل يعارض بعضها بعضاً ، حيث يصعب فيها فصل الإلـهي عن غير الإلـهي .

          لذلك ذكر الله تبارك وتعالى أن القرآن المجيد ، معترف ببعض ما فيهما مهيمن عليهما ، وقد اعتبرهما في النص القرآني كتاباً واحداً . قال سبحانه مخاطباً رسوله محمّداً (ص) :

          { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ . سورة المائدة الآية 48 } .

          وما يهمنا من جملة مضامين الآية ، هو المعرفة اليقينية بأن القرآن الكريم متفوق على الكتابين المذكورين تقدُّمية ً وتفرداً في حقائق التوحيد وأسرار التوحيد ، نذكر الآن تَميُّزَهُ في أكبر مجالين يشمـلان عامة النشاطات البشرية : التشريع والعلم (*) كشفاً  ومواكبة .

نموذج عن التدبير الإلـهي في التشريع : 

          فهو ، أي القرآن الكريم ، يقر للملتين اليهودية والنصرانية ببعض التشريع وبعض الحقائق التي سلمت من تحريف الكلم عن مواضعه ، حيث قال سبحانه : { .. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ .. سورة النساء الآية 48 وسورة المائدة الآية 13 } .

          وباختصار شديد ، فإن الشرائع في التوراة فيها قسوة وتشدُّد ، مما جعل أتباعها بين قتلة بما يتوهمون أنه سيف العدالة،  وبين متفلتين من شريعتهم وأحبارهم ، واقعين في فوضى الفكر والكراهية والجريمة . وبذلك التقى الفريقان على بغض كل من هو غير يهودي ، وبالتالي على الإفساد في الأرض وقد تختصر هذه الآية الكريمة نظرتهم للذين آمنوا أي للمسلمين وكذلك نظرة النصارى ، وهي قوله تبارك وتعالى :

          { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ . سورة المائدة الآية 82 } .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)        تعرضنا في كتابنا ” العقل الإسلامي ” لأهم المواضيع  العلمية ربطـاً  بالقرآن الكريم ، وكذلك في هذا الكتاب . فراجع .

أما الشرائع في الأناجيل ـ على اختلافها ـ فقد جاءَت تصحيحية لما أفسده اليهود في الشريعة ، جاء بها السيد المسيح عليه السلام  ، فأتت سهلة متراخية ، وفي أقصى درجات التسامح ، ولكن الغرب لاحقاً ، ومعظمه مسيحي جنح إلى التفلت والإنحلال الخلقي وتفكك الأسر والمجتمع ، وشيوع  العلاقات  المحرمة ، حتى وتشريعها وتقنينها  سواء بين الذكر والأنثى ، أو بين المثلين ، الأمر الذي تتشدد في تحريمه جميع الملل . ولقد نتج عن كل ذلك  كوارث ليس أقلها أمراض الإيدز وانتشار الجريمة  بين المراهقين وحتى الأطفال ، فضلاً عن الموازين الجائرة فيما بينهم وفي نظرتهم إلى العالم . حيث تحوَّلت هذه الحضارة ، إلى قنبلة ، كأنما موقوته ، تكبر وتتضخم ، وقريباً ستنفجر وتدمر نفسها وما يمكِّنها الله من تفجيره وتدميره في أنحاء العالم .

و { إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ . سورة الفجر الآية 14 } .

          { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه . سورة الزلزلة الآيات ( 7 ـ 8 ) } .

          ولكي أعطي  دليلاً ـ كذلك مكثفاً ومختصراً ـ على قسوة اليهودية المؤدية للكراهية والإفساد ، وعلى تفريط المسيحية المؤدي إلى التفلت والإنحلال وعدم العدالة . ثم إنزال القرآن بعدهما على محمّد (ص) ليكون ـ بما أنزل عليه الله ـ حدَّ اعتدال بين إفراط اليهودية وتفريط النصرانية . أعتمد ثلاث حالات متقابلات في موضوع واحد ، هو حدُّ الزِّنى في كل ملة من هذه الثلاث .

          ففي التوراة ، حدُّ الزنى هو الرجم بالحجارة حتى الموت للرجل وكذلك للإمرأة .

          ولا حدَّ له في النصرانية ، لقول المسيح عليه السلام عندما أتاه الفريسيون ومعهم الناس ، بزانية أشهدوا عليها ، فقال: ” من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر ” ، وقيل ان الله تعالى جعل أمامه مرآة يرى فيها خطاياهم ، إذا هم أقدموا على رجمها ، فيدينهم بها . فعطَّل بذلك قسوة الرجم ، بالرحمـة والتسامـح ، حيث سحبـت هذه القاعـدة فيما بعد ـ خطأ ـ على الأزواج الزناة ، ففقد الزوج المتضرر بزنى زوجته حقه ، وكذلك فقدت الزوجة المتضررة بزنى زوجها حقها .

          ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، إذ أنَّ اللطف والتسامح والحرية غير المنضبطة  ، حوَّلت المجتمعات الغربية وبعض المجتمعات الشرقية ، عن طريق العدوى ، إلى بؤر فساد وفجور ، وانحلال ، وجرائم أخلاقية ، حتى شاهت حتى القوانين وشاهت النفوس  وشاهت القلوب والوجوه . ونتج عن ذلك ، الظلم والاستبداد والغرور بأسباب القوة  المدمرة ، تحت عناوين هشة وكاذبة ، تتستر بها مافيات الحكم في العالم ، من مثل الديمقراطية والعدالة والحرية …

          أما الإعتدال في القرآن الكريم الذي ضبط المجتمعات الإسلامية بنسبة عالية جداً ومميزة ، في جميع الجبهات الأخلاقية ومنها العلاقة الجنسية ، التي حصرنا فيها برهاننا ، فقد جاء في القرآن الكريم حكم الله تبارك وتعالى قوله :

          { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . سورة النور الآية 2 } .

          هذا هو النص القرآني الإلـهي  .

          وقد تلت هذا الحكم الإلـهي أحكاماً أخرى ، أتت في سياقه وكأنما فيها تعجيز دون كشف واقعة زنى تستوجب إيقاع العقوبة . وهذا التعجيز يختص بالإشهاد على الزانيين .

          ولنستعرض الآيات البينات ، قوله تبارك وتعالى :

          { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُون . إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ . وَالْخَامِسَـةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ . وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ . وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ . وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ . سورة النور الآيات ( 4 ـ 10 ) } .

          ففي الإشهاد على اثنين لإيقاع الحد عليهما ، ينبغي أربعة شهود ، فإذا جاء واحد يشهد على واقعة زنى أو اثنين أو ثلاثة ، جلد الجميع كل واحد ثمانين جلدة ، وردَّت شهاداتهم فيما بعد في أي حال من الأحوال ، ووصموا بالفسق وهو ما يقابل في لغة القانون ، إخراجهم من الحقوق المدنية ، إلاَّ أن يكونوا أربعة .

          والملفت جداً في الآية ، الثامنة ، قوله تعالى :

          { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ } .

     هذه الحال ، إذا رماها زوجها ، كما هو مفصل في الآيات . فيمنع عنها العذاب أن تقول أربع مرات :

          أشهد بالله إنه من الكاذبين فيما رماني به ، وتسمي زوجها ، وتقول في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين .

          وفي واقعة لعان أقامها رسول الله محمّد (ص) قال لها بعد الخامسة : ” ويلك إنها موجبة إن كنت كاذبة ” أي ان غضب الله واقع عليك لا محالة ـ أن كنت كاذبة  .

          وصحيح أن رسول الله (ص) أضاف الرجم على أسوأ صور الزنى . وذلك أن يكون كلاهما محصنين ، أو أحدهما محصناً فالرجم هو العقوبة على المحصن ، يعني الذي له زوج أو التي لها زوج .

          ومن البديهي أن تفصِّل السنة المطهرة ، هذا الموضوع إلى صور ،  فجعلت الرجم للمحصن المسافح ، والجلد لغير المحصن ، ذكراً كان او أنثى  ، وأن يكونا حرين ، أما إذا كانا من الرق أحدهما أو كلاهما فنصف الحد . وكل ذلك وبالضرورة ، بتعليم من الله تبارك وتعالى .

          ومن لطائف فقه السنة المطهَّرة ، أن المحكوم بالرجم رجلاً كان أم امرأة ، يوضع بحفرة ، ثم يأتي طائفة من المسلمين ، ـ والطائفة  ، قد تكون رجلاً واحداً فما فوق ـ كذلك في فقه اللغة ـ ثم يؤتى بالرجم ـ  فإن تمكن المرجوم أثناء ذلك من الهرب فيخلَّى سبيله .

          وفضلاً عن كل ذلك  ، فقد استنَّ رسول الله (ص) الرجم ، بعد تشدُّدٍ غريب وعجيب ، في وصف الشهود للواقعة ، فإذا كان فيها أدنى شك أو شبهة  ، فيرفع الحد ،  وكذلك في اعتراف الفاعل ، إذا لم يكن عليه شهود . ووضع ذلك قاعدة شرعية فيها متنفسات عجيبة مؤدية إلى رحمة الله ، وهي [ درء الحدود بالشبهات ]  .

          ومن كان حريصاً على التبسط في هذا الموضوع ، فليراجع السيرة  النبوية المباركة ، ولست أذكر اكثر من حالتين فقط أوقع فيهما النبي الكريم حدَّ الرجم : إحداهما على رجلين يهوديين شهد عليهما قومهما بالزنى ، محكِّمين بذلك رسول الله (ص) فنفذ فيهما حكم الرجم على شريعة موسى (ع) . والثاني قضية مالك بن عنز الذي جاء يعترف مختاراً عند رسول الله (ص) ، فأكثر النبي الكريم الأسئلة عليه ، لعله يجد شبهة في إقراره فيدرأ عنه الحد ، وإذ أصرَّ الرجل على اكتمال خطيئته ، وهو يعلم طبيعة الحد ، فأوقعه النبي (ص) عليه ، بعد أن أفهمه أن ذلك يحط عنه العذاب والسؤال في الآخرة  ، فمضى قرير العين بصدقه إلى رحمة ربه .

          ومن الأهمية بمكان ، أن أذكر قضية رجم اليهوديين ، لما فيها من الدلالات على قبح تعامل اليهود مع حكم الله ، ومحاولة التهرب منه والإلتفاف عليه وكيله بمكيالين ، وحتى كتمان هذا الحكم عن الناس :

          في تفسيره لآية :

          { يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . سورة المائدة الآية 41 } .

          أورد الطبرسي في مناسبة نزولها ما يلي (*) :

          ” قال الباقر (ع) وجماعة من المفسرين أن امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم وهما محصنان فكرهوا رجمهما فأرسلوا إلى يهود المدينة وكتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعاً في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسيد ، وشعبة بن عمرو ، ومالك بن الصيف ، وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم فقالوا : يا محمّد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدُّهما فقال وهل ترضون بقضائي في ذلك ؟  قالوا : نعم ! فنزل جبرائيل بالرجم ، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا بهِ . فقال جبرائيل إجعل بينك وبينهم إبن صوريا ووصفه له ُ ؟ فقال  النبـي  هل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)        انظر ” مجمع البيان في تفسير القرآن ” للطبرسي . م2 ج6 ص94 منشورات دار مكتبة الحياة ـ بيروت . لبنان .

تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال لهُ ابن صوريا ؟ قالوا نعم ! قال فأيّ رجل هو فيكم ؟ قالوا أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى (ع) . قال فأرسلوا إليه ففعلوا ، فأتاهم عبد الله بن صوريا فقال لهُ النبي : إني أنشدك الله الذي لا إلـه إلاَّ هـو الذي أنزل التّوراة على موسى ، وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون ، وظلّل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسّلوى ، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن قال إبن صوريا نعم ، والذي ذكرتني بهِ لولا خشية أن يحرقني رب التوراة إن كذبت أو غيرت ما اْعترفت لك . ولكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمَّد ؟

          قال إذا شهد أربعة رهطٍ عدول انهُ قد أدخلهُ فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليهِ الرّجم ، قال إبن صوريا : هكذا أنزل الله في التوراة على موسى . فقال لهُ النبي فماذا كان أول ما ترخصتم بهِ أمر الله ؟

          قال : كنا إذا زنى الشريف تركناه ، وإذا زنى الضّعيف أقمنا عليهِ الحدّ ، فكثر الزنى في أشرافنا حتى زنى إبن عم ملك لنا فلم نرجمه ، ثم زنى رجل آخر فأراد الملك رجمهُ فقال لهُ قومهُ لا ! حتى ترجم فلاناً يعنون إبن عمه . فقلنا تعالوا نجتمع فلنضع شيئاً دون الرَّجم يكون على الشريف والوضيع ، فوضعنا الجلد والتّحميم ، وهو أن يجلدا أربعين جلدة ثم يسوَّد وجوههما ثم يحملان على حمارين ، ويجعل وجوهما من قبل دبر الحمار ويطـاف بها ، فجعلوا هذا مكان الرَّجم ، فقالت اليهود لابن صوريا ما أسرع ما أخبرتهُ بهِ ، وما كنت لما أتينا عليك بأهل ولكنك كنت غائباً فكرهنا أن نغتابك . فقال أنهُ أنشدني بالتوراة ولولا ذلك لما أخبرتهُ بهِ فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجدهِ وقال : أنا أول من أحيا أمرك إذ أماتوه . فأنزل الله فيه : ” يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير ” قام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثمّ قال : هذا مقام العائذ بالله وبك أن تذكر لنا الكثير  الذي أمرت أن تعفو عنه ُ ، فأعرض النبي عن ذلك . ثم سألهُ إبن صوريا عن نومهِ فقال : تنام عيناي ولا ينام قلبي : فقال صدقت وأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيهِ من شبه أمهِ شيء أو بأمهِ ليس فيه من شبه أبيهِ شيء ، فقال أيهما علا سبق ماء صاحبهِ كان الشبه لهُ : قال قد صدقت : فأخبرني ما للرجل من الولد وما للمرأة منهُ . قال فأغمي على رسول الله طويلاً ثم خلي عنهُ محمرَّاً وجههُ يفيض عرقاً فقال اللحم والدمّ والظفر والشحم للمرأة ، والعظم والعصب والعروق للرجل . قال له صدقت أمرك أمر نبي ، فأسلم إبن صوريا عند ذلك وقال من يأتيك من الملائكة ؟ قال جبرائيل ! قال صفهُ لي ! فوصفهُ النبي (ص) فقال أشهد أنهُ في التوراة كما قلت ، وأنَّك رسول الله حقاً فلما أسلم إبن صوريا وقعت فيه اليهود وشتموهُ ، فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا  يا محمّد ! إخواننا بنو النضير أبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد إذا قتلوا منا قتيلاً لم يُقَد ؟ وأعطونا ديتهُ سبعين وسقاً من تمر ، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بهِ رجلاً منا ، وإذا قتلنا منهم قتيلاً قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقاً من تمر ، وبالرجل منهم رجلين منا ، وبالعبد الحر منا وجراحاتنا على النصف من جراحاتهم فاقض بيننا وبينهم ” فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات “. 

          هذه هي واقعة رجم اليهوديين بأمر النبي محمّد (ص) تنفيذاً لحكم التوراة .

          إلا أن في آخر القصة عبارة أوردها المفسِّر الطبرسي ، هي :

          [ فأنزل الله في الرجم والقصاص الآيات .. ]

          والحقيقة ، أنها شبهة قال بها أحد الصحابة ، زاعماً أن الله تعالى أنزل في الرجم آية ، ثم نسخها الله حكماً وتلاوة . وقد رفض المسلمون هذا الزعم بالإجماع ، لأن التلاوة لا تنسخ .

نظرة في التشريعات الثلاثة :

          تحت عنوان ، أن الله سبحانه { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْض }  نلاحظ كيف أنه جلَّت عظمته ربَّى البشر بمنطق العقل والحكمة ، أي بنفس منطق العقل والحكمة الذي علمهم إياه ، ليربوا به أنفسهم  وأولادهم جيلاً بعد جيل .

          وفي جملة مقاصده تبارك وتعالى ، أن يرفعهم ويدرِّجهم من مراحل البدائية ، التي فيها ظلام الجهل والشرك والوثنية وما ينتج عن ذلك من قسوة واستسلام لحكم الغرائز ، إلى كمال الإستنارة بالعلم الإلـهي ، أي بمعرفته هو تبارك وتعالى .

          ومن الأدلة على ذلك تعليمه لأمة الإسلام بقوله :

          { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ . سورة الحديد الآية 16 } .

          فالله عز وجلَّ أنزل على قوم موسى أحكاماً تلائم واقعهم الزمني وتركيبهم الثقافي والنفسي والإجتماعي . ولكنهم بمرور الزمن هم تشدَّدوا وقسوا على أنفسهم وكذلك على الآخرين .

          وكان الله سبحانه ناظراً إلى أمرهم بدءاً ونهاية واعداً إياهم بإرسال المسيح (ع) وبعده محمّد (ص) خاتماً للتعاليم والرسالات .

          فبعث المسيح عليه السلام ، يصـدم قسوتهم باللين والرحمة ، ويصـدم شركـهم وعبادتـهم للهيكل من دون الله ،( وقولهم ) إن عزيراً ابن الله أي ” عزرا ” عندهم ، بالدعوة إلى توحيد الله  ونصرة الله . فاستجاب له الحواريون مؤمنين برسالته ونبوته ، منتصرين لله جلَّت عظمته ، واحداً لا شريك له .  مما أغاظ الفريسيين ، بعد أن فضح نفاقهم وكَلَبهم على الدنيا وتزويرهم لأحكام التوراة ، فانتفضوا عليه ، وائتمروا به ليقتلوه ، وقد شرعوا بذلك عن تصور وتصميم . ولكن الله تعالى أنجاه من لؤمهم وحقدهم ورفعه إليه كما هو محقق في القرآن الكريم .

          قال تبارك وتعالى ، مخبراً عن هذه الحقبة بطولها وعرضها بين المسيح (ع) وبني إسرائيل ، ببلاغة هذه الآية واختصارها العجيب ؛ حيث تدعو لنصرة الله والإنتصار بتوحيده :

          { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ . سورة الصف الآية 14 } .

          فكانت مصداقية الآية الكريمة واضحة تماماً ، حيث غلَّب الله تعالى المسيحيين على أعدائهم اليهود الذين لم يؤمنوا بالمسيح عليه السلام وبأنه النبي الذي وعدهم به الله في التوراة والذي أرسله لينقذهم من الضلالة والغواية والعمى الذي هم فيه . غلَّب الله المسيحيين على اليهود إلى قيام الساعة  .

          ولكن اللين والرحمة والوداعة التي أرسل بها المسيح عليه السلام . حولتها الأجيال المسيحية اللاحقة عن مقاصدها الإيجابية ، واستعملتها فيما بعد كغطاء لكثير من المفاسد ، ضربت أولاً في أركان الكنيسة وتحت ثياب الكهنوت ، وزعمت الألوهة للمسيح عليه السلام .  مما أدخلها في بدع ٍ انتجت فيما بعد البروتستانتية التي تحللت من أخلاق المسيح وتعاليمه ، والتي طبعت أميركا بهذه الحضارة الزنديقة التي تحاول اليوم أن تقود بها العالم ظلماً وقهراً وبهمجية أين منها جنكيز وهولاكو وتيمورلنك .

          وإضافة إلى البروتستانتية التي أفرزتها حروب طويلة ودامية بين المسيحيين  أنفسهم ، فإن المسيحية تفرقت في مذاهب كثيرة يعادي بعضها بعضاً .

          وقد جمِّدت الحالة الروحية في المسيحية  انطلاقاً من قوانين وتشريعات وضعية وتعسفية كانت تصدر عن الكنيسة ويغذيها اليهود ، الذين استطاعوا أن يربوا بعض أولادهم على الإزدواجية بين الدين اليهودي والدين المسيحي ، كاتمين يهوديتهم مزايدين على المسيحيين بتعصب كاذب للمسيحية ، مما جعلهم يتمكنون من بلوغ أعلى الرتب الكهنوتية ، التي توصلوا من خلالها إلى الكرسي البابوي .

          وبالحقد اليهودي المتأصل فيهم على المسيح الذي كانوا وما زالوا ينعتونه بالكذب والدجل وينعتون أمه القديسة مريم عليها السلام كذلك ، طاعنين في شرفها وأخلاقها ، استطاعوا أن يشوهوا الدين المسيحي ، ويضيعوا المسيحيين عن حقيقة الرسالة التي بعث الله بها عيسى بن مريم  .

          وهكذا  استطاعوا  أن يمنعوا كل تقدم علمي أو ثقافي أو أخلاقي في القارة الأوروبية كلها ، مما أدخل هذه القارة بجميع دولها ذلك العصر ، في ليل دامس من الجهالة والأميّة ، والطبقية ، التي في رأسها السلطة ورجال الكهنوت ، ثم عامة الشعب الرازح  تحت وطأة استلاب حقوقه والفقر والضياع .

          وقد زاد من تفاقم الأمر في العصور الوسطى  هذه التي استمرت بضعة مئات من السنين ، عقوبات الإحراق بالنار ثم بالمقصلة ، ولا سيما للعلماء والباحثين ، ولكل من يجاهر برأي علمي أو تحرري أو نقدي ، وذلك  منذ القرن الثاني عشر وما بعده . وقد نصَّ القانون الصادر عن المجمع الديني المنعقد في مدينة ( ورون ) على أن جزاء  الهراطقة الخارجين على الدين هو الإعدام بالمقصلة . ثم جاء البابا جيورجيوس التاسع ، ووضع محاكم التفتيش بقوانينها التي تتنافى بقسوتها ورهبتها كلياً مع تعاليم المسيح عليه السلام  وذلك في سنة 1233 للميلاد ، وفي هذه القوانين ، أن يحرق بالنار كل من يدان بالإعتقاد بعقيدة تخالف الدين المسيحي ، طبعاً حسب تحريفهم وتشويههم لهذا الدين .

          وكانت لهذه المحاكم سلطة واسعة في التحري والتفتيش  حتى في البيوت والمدارس ، وكانت عقوباتها الصارمة بانتظار أي طالب يتجرأ على سؤال غير مألوف أو خارج عن القواعد الدينية التي هم وضعوها .

          في هذا الوقت كانت تتقدم وتتوسع الحركة العلمية في العالم الإسلامي ، متميزة بحرية البحث والمناقشة حتى لو تعارضت  مع مذهب أو رأي ديني ، وحتى في أحلك فترات الحكم في التاريخ الإسلامي كأيام بعض الخلفاء العباسيين .

          ولو أن النقد الذي وجهه مثلاً ، الإمام الصادق (ع) وهدم به نظرية بطليموس في الأرض والنجوم وعلم الفلك ، تصدى له باحث من أوروبا في تلك العصور ، لكانت عقباه الإعدام والإحراق بالنار  .

          وهناك قول سائد ومعروف ، هو أن أسس الحضارة العلمية في الغرب اليوم إنما نقلوها من الشرق الإسلامي وحتى لا نقع في الإسهاب نذكر على سبيل المثال لا الحصر ، أرجوزة ابن سينا في الطب ، التي نقلت إلى الغرب ، ووضعت لها ترجمة باللاتينية . وقلَّ من لم يحفظ أو يقرأ الترجمة لهذا المرجع بين أطباء الغرب في تلك الفترة .

          ومن الشائع الثابت ، أن الإمام الصادق (ع) كان على علم بخواص الأشياء مفردة ومركبة . وأنه درَّس علم الكيمياء في مدرسته قبل اثني عشر قرناً ونصف ، وقد اشتهر من تلامذته في هذا العلم ، هشام بن الحكم المتوفي (199هـ) وله نظرية في جسمية الأعراض كاللون والطعم والرائحة .

          ومن تلامذة الإمام الصادق الذين اشتهروا ببراعتهم في الكيمياء والعلوم الطبيعية ، جابر بن حيان الصوفي الطرطوسي الذي ألَّف ودوَّن خمسمائة رسالة من تقريرات الإمام (ع) في الكيمياء والطب .

          وقد أكبر المؤلفون منزلة جابر ، وعدُّوه مفخرة من مفاخر الإسلام ، ولا بدع فإن من تزيد مؤلفاته على ثلاثة آلاف كتاب ورسالة في مختلف العلوم ، انتقلت كلها إلى الغرب لَجدير بالتقدير والإكبار .

          وصحيح أن هذه الفتوحات العلمية ، نقلت إلى الغرب فشكلت الأساس للنهضة في أوروبا ، إلا أنها ويا للأسف ، كانت نهضة ، كما نراها اليوم ، مادية مفرغة من روحانية المسيحية وروحانية الإسلام . حيث عمل اليهود وما زالوا يعملون ، بمنتهى الحقد ، ليس فقط على أتباع هذين الدينين ، وإنما الحقد على كل من هو غير يهودي ، وهم ـ في تقريراتهم  التي أصبحت معلنة ـ قد  وضعوا خططاً لتدمير البشرية حيث ما وجدوا ، لعلهم يحيِّدون  هم أنفسهم ، ويصبحوا أسياد هذا الكوكب .

          ولا يخيفنَّ هذا الأمر أحداً من أنصار الله ، لأن الله كتب عليهم الذل والمسكنة ثم السُّقوط من علوهم الكبير الذي صاروا إليه ، وجعل نهايتهم على أيدي عباد له سبحانه أولي بأس شديد ، وعسى أن يكون ذلك قريبا .

يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض ـ طبعاً ـ مروراً بأمريكا .

          في جملة ما يدبره الله تعالى من أعالي السماوات إلى جميع الكرات الأرضية على اختلاف أحجامها في الكون ، هذا الكوكب أو الكويكب الصغير ، الذي هو أرضنا ، وفيها القارات الست المعروفة ، وبينها البحار والمحيطات ، التي تشكل حوالي ثلثي مساحتها .

          ولن أتحـدث الآن عن تدبيره سبحانه لجملة هذا الكويكب ، ومن فوقه أبراج السماء ، والفلك الذي تعبت فيه أرقام وأدمغة الرياضيين والأجهزة العملاقة ، ولا عن تدبير الرزق وتأمين العدالة والحرية والكفاية ، لوحوش الغابات الهائلة ، والمحيطات البعيدة أغوارها ، والصحاري المترامية أطرافها ، ولا عن فتحات الأوزون ، أو انشقاقات السماء او انفطارها ، كما هو خبر القرآن ،  ولا عن الغيوم الحرارية ، التي  طفقت تذيب القارة الجليدية في القطب الجنوبي  ، لترفع منسوب البحار ، وتغرق أوروبا وصولاً إلى نيويورك وشواطىء الهند والصين ، ولا حتى عن البشر في القارات الأربع المتعبة ، التي تتلظَّى وتتكوَّى وتتلوَّى ، تحت جحيم وطغيان ووحشية إنسان القارة الخامسة أمريكا .

          إذن أريـد ،  بإذنه تبارك وتعالى ، أن أتحدث عن أمريكا .

          ولن أتحـدث عن كل أمريكا . فنصفها الجنوبي بائس فقير محكوم بغطرسة الشمال .

          أريد أن أتحدث عن هذه الأمريكا الغنية بالمال والقوَّة  الأخطبوطية ، والتي  إسمها الرسمي : الولايات المتحدة الأميركية . غير متعرض لتاريخها الأسود الدمويَّ ، حيث أن سكانها اليوم أتوا كباحثين عن الذهب ، فقط عن الذهب ، والبحث عن الذهب  يقتضي ولعاً بالدنيا دون الآخرة ، وبأساً إجرامياً ، لا يوقفه دين ولا إيمان ولا شيم ولا قيم ولا أخلاق . فذبحوا السكان  الأصليين ، الهنود الحمر ، وأقاموا مكانهم حضارتهم  الزنديقة . هذا هو أصل حكام أمريكا وشعوب أمريكا اليوم ، أي أنهم حَفَدَة أولئك المجرمين ، وكما في الحديث ” الأصل دسَّاس ”  أو العرق دسَّاس ” .

          أكتب الآن ، بُعيد تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك ، في 11 أيلول 2001 م ، ومع البرجين ، وفي نفس الوقت ، تدمير جانب من البنتاغون ـ مقر القيادة العسكرية الأميركية في واشنطن ، عاصمة أميركا .

          في هذه الأيام ، أي بعد تدمير هذه الرموز العملاقة  في أميركا . أعلنت أميركا الحرب . مستنفرة حلفها الأطلسي ببوارجه وغواصاته التي تملأ البحار ، وطائراته التي تغطي مساحات من السماء وبمخزونها ومخزون  انكلترا من الرعب النووي والبيولوجي والكيميائي . وكذلك مخزون روسيا ، وبقية الخزانات التدميرية في العالم ومعها خزان إسرائيل . لتشن بكل ذلك حرباً على من ؟!  ـ صدِّق أو لا تصدق  ـ . ولكن هذه هي الحقيقة ، لتشنَّ أو ليشنوا بذلك كله حرباً ضروساً على أضعف وأفقر وأبأس الدول في العالم .

          طبعاً ، امتلأت الصحف الحرة ، بالتنديد ، وما أقلها ، وشهرت الأقلام الحرة ، في وجه عمالقة الحرب هؤلاء ، مهاجمة ومتحدية ، ومناقشة ، ومستغربة . وفي كل سبيل حق يكتب مفكرون شجعان ، ويتكلم بعالي الصوت قادة وساسة أحرار ، في جميع أجهزة العالم ، وفي الشعوب الشريفة الحرة ، مظاهرات ، واحتجاجات ، وشهداء في الأنظمة القمعية ، وكل  ذلك . لم يزحزح أميركا عن عدوانيتها ، ولا عدوانية من تقودهم طوعاً أو كرهاً . بل زادت لتهدِّد دين الإسلام ، والعرب والمسلمين ، تحت كل كوكب ، ومعها أفعوانان عالميان : في الغرب إنكلترا وفي الشرق إسرائيل .

حقائق إلـهية تحكم الوقائع :

          طبعاً فيما كتبت آنفاً ، لعلي لم أزد شيئاً ذا أهمية كبيرة على ما يكتب أهل الحق  الغاضبون الثائرون ، المستعدون حتى للإستشهاد دفاعاً عن الناس والأوطان والعدالة والحرية .

          ولكن بالمنطق الروحاني ، الذي زاغ عنه أهل الأرض في هذا العصر ، إلاَّ القلة النادرة ، أكتب مبشراً أهل الإيمان الأحرار ، الذين لا يشركون بربهم الرحمان شيئاً . ومنذراً عبيد الدنيا وعبيد أميركا ، الذين  نسوا الله ، وألَّهوا المال ومظاهر القوة حيثما كانت في الأنظمة المتجبرة الطاغوتية وقادتها ، بالرغم من أنهم خونة لربهم ولشعوبهم وللإنسان وحريته وشرفه واستقلاله .

          مبشراً أنصار الله ومحبيه والمتحصنين بآياته وبعزته وبقوة وجوده معهم أينما كانوا ، ولو قامت قيامة الحروب عليهم أو على من دونهم ، بأشكالها المتقمصة بالرعب والمتلبسة بالموت الملوَّن . فإن الله قادر أن يحميهم ويحفظهم سالمين  سعداء ، حتى في الدنيا ، إذا كان شاء الله استكمال آجالهم ،  وإلا فليكونوا شهداء سعداء ، فموتة في شرف ، وفي رضىً من الله ورضوان ، أفضل بما لا يقاس ، من حياة الجبناء ، البائعين  دينهم وشرفهم وأوطانهم وشعوبهم ، للقادة الطواغيت .

          مذكراً بقول الله لأنصاره :

{ .. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ .. . سورة الحديد الآية 4 }

 

وبقوله جلت عظمته للخونة من أعدائه وأعداء دينه وأعداء الإنسانية :

          { ..لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلاَ هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ . سورة الأنبياء الآية 43}.

          وصدق الله ، ومن أصدق من الله قيلا ، ومن أصدق من الله وعداً ووعيدا ! …

          ولأفصِّلنَّ بإذنه عزَّت عزته ، بآية الكرسي وما حولها ، عن أمريكا وبقية أعداء الله . نعم ! .. ومطبقاً آيات القرآن على مصاديقها ، لأنه هكذا القرآن في كل عصر ، وإلى قيام الساعة وبعدها أيام الجحيم أو أيام النعيم .

          قلت نعم ! .. متعجباً ومتحدياً الكثرة الهائلة من المثقفين المعوَّل عليهم في  الملمات ، ممن أحترم أقلامهم النخيَّة ، ونفوسهم الأبية ، ولكن آسفاً لضيق آفاقهم ، بخصوص الفكر الديني والمعارف الحقيقية عن الله ، وعزته ، وقوته ، وحاكميته وهيمنته على الوجود ، وإحاطته بكل شيء .

          إذ أن منهم من لا يعتقد بحاكمية الله في الدنيا ، ولا بثوابه فيها وعقابه ، ولا برعايته وحفظه وصيانته من جهة ، ولا ببطشه الشديد وانتقامه من جهة ثانية ، ولا بأنه قائم على كل نفس ، ولا بأنه الأول والآخر والظاهر والباطن وأنه بكل شيء عليم ، بكل شيء ،  مما دقَّ وصغر وكبر وعظم . ومن الأشياء التي شاءَها ، أجزاء الإنسان ، من دماغه إلى قلبه ، إلى آخر ذرة أو جزيء ذرة من ذراته ، وبرئيس الولايات المتحدة ورؤساء البلاد المسعورة بشبق الحرب على الآمنين والمستضعفين ، وكذلك بالرؤساء الإمَّعات الخونة ، وكذلك بالأتباع الجبناء ، وكذلك بالشجعان بالحق ، وكذلك بالصارخين في وجه الباطل ، وكذلك بالمستشهدين  في سبيل عزته ، أسياد شباب الجنة .

          أما الآي ، التي وعدنا بها ، فقوله تبارك وتعالى وهو من المشهورات :

1 ـ      { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ .. } يعني الحاكم الفريد للكون دون مساعد ولا شريك ، والألوهة لا تتجزأ ، فلا أحد من خلقه له حظ منها ولا بمقدار . حي لا يمـوت ، قائم على كل نفس ، وعلى كل شيء .

2 ـ      { .. لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ .. }  لاينام ،  ولا  يعتريـه أدنى سهو ٍ ولا أدنى غفلة ، ذلك كمال اليقظة  والإحاطة بالأمور ، ظواهرها وأسرارها وأسرار أسرارها .

3 ـ      { .. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ .. } يعني مـا في الوجود ، غيوبه وشهوده ، ما نعلم منه ، وما لم يحط مخلوق بعلمـه ، وله أميركـا وحاكمـوها ، ولـه أدق مقوماتها ، وله إنكلترا وروسيا التي كانت لأميركا ندَّة  ، ولكن لكثرة ما تنكرت لله ، هزمتها أمريكا وداست شرفها وكرامتها ، وما زالت  تتآمر على تجويعها ، إمعاناً فـي إذلالها . وله أيضاً ـ أي لله ـ  بنـو إسرائيـل الذيـن يتقلبون  كالأفاعي  ويغتذون  بدماء البشر ، واليابان  التـي خرجت  بوثنيتها لتنصر أميركا عدوتها اللدودة سابقاً .

ولله  جميع  الدول  والشعوب ، ومصـر والاردن  و .. ولبنان وسوريا ، وفلسطين …

وأنت وأنا ،  لله ، العالم كله لله . هذا بعض معنى هذا الجزء من الآية : {.. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ..}.

4 ـ      { .. مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ(*).. } ولا أحد من المخلوقين يستطيع أن يتوسط  لمخلوق آخر بشيء  ينفعه عند الله إلاَّ إذا أذن لأحدٍ سبحانه بذلك ، فيكون هو الشفيع سبحانه والمخلوق  شفيع بالتبع . فمن رجـا  أمراً  فـلا يوسِّطنَّ بينه وبين الله أحدا ، لأنه ليس بينه وبين مؤمـن صادق الإيمان حجاب .

5 ـ      { .. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ .. } يعلم ما بين ايدي سكان السماوات وسكان الأرضين من كل جنس  ولون ، يعلم نواياهـم وخططهـم وسلوكهـم وماذا سيفعلـون ، ومصائرهـم ، وكما فـي السماوات هو إلـه كذلك  في الأرض هو إلـه . قال تعالى :

{ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأََرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ . سورة الأنعام الآية 3 } .

 

          وقال سبحانه :

{ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ . سورة الزخرف الآية 84 } .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)          في كتابنا ” دعوة إلى الله ” عقدنا فصلاً مسهبـاً عن موضـوع الشفاعة . فمن أراد الإستزادة فليراجع .

 

6 ـ      { .. وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ .. } هذه الحضارات وما ظنَّ الإنسان أنه ابتـدع فيها ما ابتـدع ، منذ الأبجدية الرمزية إلى الصوتية .. إلى جزيئات الذرة ، إلى الأقمار الآلية ، إلى زيارة الكواكب ، إلى أساطيـل أميركا وحلفائها ، البحرية منها والجوية ، إلـى دبابـة الميركافا الإسرائيلية ، إلى الصاروخ الذي هتكها  وأذلها بأسراره وناره ، إلى ما لا يحصى ولا يعدُّ من  فتوحات علمية في الأرض وكذلك في السماء ، فجميع ذلك ، وما سيزاد عليه ، هو من علم الله ، ومن أسرارعلمه ، ولولا أنه شاءَها للبشرية ، لما استطاعت أن تتقدم  أنملة هـي حِكْمَتُه ، وهو قدره وهو قضاؤه الذي لا يناقش .

             {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ . الأنبياء 23 }

 

لا ظالماً ولا مزاجياً ، وإنما جباراً علـى الجباريـن ، حرَّاقاً على الحرَّاقين ، بناره في الدنيا وبناره في الآخرة ، رحماناً ورحيماً بالمؤمنين الصِّديقين .

             { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ . الأنعـام 18 } .

          إذاً .. ما شأن الأفغان ؟ وما شأن طالبـان ؟ وقبلهما مـا شأن أمريكا عنده سبحانه ؟! …

          بعونه تعالى ، وبإرشاده وتسديده ، نبدأ بتقويم شديد الإختصار ، لهذه الأمريكا . فنجعل الحديث عنها تحت ثلاثة عناوين :

          1ـ أميركا في ضلالاتها ، 2ـ أميركا المقهورة المعذبة ، 3ـ أميركـا الجنكيزية ( نسبة إلى جنكيزخان ) .

فأولاً :

ضلالات أميركا التي فاقت كل حد ، على جميع المستويات الأخلاقية والإنسانية . وبلا أخلاقيتها ولا إنسانيتها تحكَّمت مدة قرن تقريباً من الزمان بأكثر من نصف العالم ، حتى إذا ابتلاها الله بإسقاط الإتحاد السوفياتي وجعله من خدمها وأتباعها ، أصبحت تتحكم بكل العالم ، وأدوات تحكُّمها الرهيبة ثلاث : قوة المال ، وقوة السلاح الإرهابي ، وسفالات المخابرات .

          ورغم أن الله سبحانه خزاها في مواقف ومواجهـات كثيرة وعلى أيدي شعوب حرة ، نذكر منها على سبيل التذكير لا الحصر : فيتنام . كوبا . إيران الإسلام … إلا أنه مع ذلك أبقاها ، مختارةً ، تمارس إجرامها الأخلاقي الداخلي ،  وإرهابها في الخارج  . وضمـن هـذه المعـادلة القرآنيـة المدهشـة ، قوله تعالى :

{ قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا. سورة مريم الآية75 } .

          وقبل أن أتكلم في الدلالات المشرقة في الآية ، والتي من مصاديقها الأكيدة ، هذه الأمريكا . أقدِّم ، بقصة الخزي الأخلاقي السافل والقبيح ، والتي كان بطلها ، رمز أمريكا ورئيسها آنذاك : بيل كلنتون .

          يأنف قلمي ولو من بعض تفاصيل  علاقتـه باليهوديـة لوينسكي …

          فرمز أمريكا هذا ، ورمز بنات أمريكا تلك ، بعد أن برأت المحاكم العليا الأمريكية ساحتهما ، ولقد رضي الشعب الأمريكي بهذه التبرئة ، بل وفرح بها . سيكون هذان الرمزان بعد ذلك وبالضرورة ، قدوة لجميع الأمريكان ، ولا سيما الجيل المراهق ، من ملايين الطلبة شباباً وفتيات : نعم ! لقد شُرِّع الزنى في أميركا ، وبشخص رمزها ورئيسها ومحاكمها العليا وقضاتها العباقرة …

          ومن المفارقات الملفتة كذلك ، أن هذا الرئيس الرمز لأمريكا ، هو أول من وعد في حملته الإنتخابية . بتشريع الشذوذ الجنسي في الجيش الأميركي ، الذي كان ما زال يعتبر ـ لزوماً ـ أنظف مؤسسة في الحضارة المتلاطمة في تلك البلاد الغنية الشاسعة . وطبعاً ، فقد وفى بوعده بعد نجاحه ، بالرغم من بعض الإعتراضات الباهتة من بعض القادة .

          يومها ، وقبل أن تبرىء ساحته المحاكم ويبرىء ساحته الشعب الأمريكي ، وأثناء المحاكمات . كنا نروي لجلسائنا قصة عن المجوس ، واعتبرناها معياراً لموقف الشعب الأميركي من كلينتون ولوينسكي .

          ففي الأثر التاريخي ونقلاً عن أئمة أطهار ، جعلت الجزية على أهل الكتاب إذا لم يسلموا ، والسيف أو الإسلام لأهل الشرك . وقد عومل المجوس معاملة أهل الكتاب . فكيف هم أهل كتاب ؟ وأي كتاب ؟ فقيل :

          كان لهم كتاب منزل ، فزنى أحد ملوكهم بعد أن خمر ، فتداول بذلك الأقطاب ، وتداول بذلك الشعب فأنكروا عليه ذلك لمقامه ، ولزوم عفته وشهامته ، كونه الرمز والقدوة ، ثم رضوا بفعلته ، وثبتوه في حكمه وملكه . فغضب الله على أمة المجوس بأجمعها ، ورفع الكتاب الذي كان سبحانه أنزله عليهم ، من بين ظهرانيهم . ثم أهلك أمة المجوس ، إلا القليل القليل لحكمة ٍ منه سبحانه .

          كنا نعقِّب كل مرة بعد أن نروي هذه القصة ، وقبل إصدار الحكم النهائي من المحاكم ومن الشعب على رئيسهم ، بأنه إذا أدين وعزل ، وإذا أنكر شعبه الكبير فعلته ، أطال الله عمر أميركا ، وأطال ابتلاء الأحرار بحضارتها الزنديقـة المعقدة . وإذا برَّأته المحاكم وبرَّأه شعبـه ورضي بفعلته ، فإن الله سبحانه غاضب ومدمدم على أمريكا لا محالة …

          والذي حصـل ، أنهم رضـوا بخيانة رمز أمريكا لربه ولشعبه . وانتظرنا وترقبنا … ولم يطل الإنتظار والترقب ونحن نشهد كل يوم ، طغيان أميركا وظلمها وقمعها للشعوب من العراق إلى فلسطين إلى البلقان ، إلى لبنان ، إلى كوريا … وغيرها وغيرها تحت كل كوكب . حتى هزَّ انهيار أبراجها وعاصمتها العالم  . فقد قصم الله ظهرها في عقر دارها .

          ولم يدعها الله سبحانه تسترجع أنفاسها ، فقد أرسل جراثيم أبابيل (1)  ، أقضت وما زالت وستبقى ، والله أعلم ، تقض مضاجع رؤسائها وشعبها المتوج بتمثال الحرية ، الحرية الجنسية والطاغوتية وإرهاب الشعوب الفقيرة والبائسة والمستضعفة .

ثانياً : أميركا المقهورة المعذبة :

ـــــــــــــــــــ

          نعم ، شاهدنا بأم أعيننا ، وبعيون قلوبنا وجراحنا ، في الشرق الأوسط ، وفي أنحاء العالم  شهدنا سقوط تمثال الحرية  والديمقراطية العفنة ، من عليائه ومن تعاليه ، ليغرق في وحول برجي التجارة العالمية في نيويورك وتصدُّع البنتاغون في واشنطن ، وزعزعة البيت الأبيض فيها ، وهروب رئيسها منها ،  لفترة ، ليعود بعد هروبه إلى عاصمة العالم هذه يهدد منها الأشباح ، تحت وطأة أنهم هم أذلوا أميركا التـي كانـت يومـاً / بزعمها /  فوق البشر .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)          الجمرة الخبيثة .

          ومع كل ذلك ، ما اعتبر وما ارعوى ، والله لا يهدي القوم الظالمين .

          أما قوله تبارك وتعالـى ، في سياق آيـة الكرسي  التي ما زلنا في ظلالها  :

{ .. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ . }

 

          فمعناها أنه سبحانه شمل حكمه الكون جملة وتفصيلا ، بحيث لا تفوته ذرة في السماوات أو في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، إلاَّ وهي تحت سلطانه ، لا شيء في الوجود خارج سلطانه .

          أما قوله تعالى : { ولا يؤده حفظهما } فمعناه لا يتعبه أدنى تعب حفظ هذا الملك ، وهذه الأكوان ، وهذه الخلائق ، بأصنافها وأخبارها ، ومنها هذا الإنسان ، كل إنسان ، إذا شاء حفظه وكل جزء وجزيء فيه ، طبعاً ويحفظ الدول والأنظمة كلاً ضمن حساباته وحكمته سبحانه . فلماذا إذاً لم يحفظ سيدة هذا العالم الأرضي أمريكا ؟! …

          قالى تعالى :

          { أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ . إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ . الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ . وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ . وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ . الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ . فَصـَبَّ عَلَيْهـِمْ رَبُّكَ سـَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ . سورة الفجر الآيات ( 6 ـ 14 ) } .

          هذا هو الجواب ، ضمن حروف هذه الآيـات .  فالقرآن الكريم لم يجعله الله سبحانه ليقف أولوا الألباب فقط عند حروفـه . بل ليتعدَّوا حروفه ، ويقرأوا ما بين حروفه ، ويـروا أمريكا هذه ،  بعيون هذه الآيات ، وفي عمق دلالاتها ، وأن في جملـة مقاصد هذه الآيات في تاريخ البشرية ، هذه الأمريكا وأحلافها الذين هم أولياء الطاغوت .

          لذلك نقول للمسلمين  في أقطار الأرض ، وللعالم أجمع إقرأوا كتاب الله هذا العظيم وتدبروه ، ينجيكم من جحيم الدارين الدنيا والآخرة . وما نزَّله الله سبحانه ليكون حكراً على المسلمين بل هو للعالمين ، فليقرأوه ، وليفقهوه وليغتنموه قبل أن تدمِّرهم أمريكا فيمضون خاسرين خائبين غير شهداء .

          ومعاً ، لنرى رأي الله تعالى في أمريكا عبر هذه الآيات التي هي أول سـورة الفجر .

          فأنت لو بدَّلت في الآيات فقط إسم المكان وإسم الأمة التي ضرب بها المثل ، لوجدت أميركا وإنكلترا وإسرائيل وغيرها يتحركون ضمن حروف الآيات ، ويتحركون وسيتحركون تحت انصباب سوط العذاب ، الذي صبَّه الله على عاد إرم وثمود وفرعون ذي الأوتاد .

ثالثاً : حكام أمريكا أم خلفاء جنكيزخان(1)  ؟! …

ــــــــــــــــــــــــ

          وفرعون ذي الأوتاد ، أشبه ما يكون به ، بوش الأب ، أو بوش الإبن ، أو أي رئيس للولايات المتحدة الأميركية في عصرنا الحاضر .

          أما أوتاد فرعون ، فهي ذات مصداقين : الأول أنها أوتاد حقيقية كان يربط بها الذين يعذبهم ويذلهم ويسلب حرياتهم . والمصداق الآخر ، هم الولاة والرؤساء الذين يزرعهم في قطاعات الناس والقبائل ليجبوا له الضرائب ويتحكموا قاهرين بمن تحت أيديهم .

          ولم يتغير شيء بالنسبة لأمريكا والطغاة رؤسائها ، سوى أن الدنيا كبرت واتسعت بازدياد أعداد البشر والثورات الصناعية والتكنولوجية وغيرها ، وبدلاً من أن تربط أمريكا أشخاصاً ، فهي قد ربطت شعوباً مستضعفين ، تعذبهم تارة بالسلاح وتارة بالتجويع سارقة أموالهم وثرواتهم ، ودائماً بسـلب حرياتهم . وينبهر أشباه الرجال فيهم بحضارتها الزنديقة ..

          هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، بدلاً من أن تزرع ولاة وزعماء قبائل ، فهي قد زرعت أنظمة ، تارة دموية أفعوانية فاجرة كإسرائيل في الشرق الأوسط ، وتارة أنظمة قمعية كأكثر الأنظمة العربية . وتارة دبلوماسية ميكيافيلية رقطاء كإنكلترا في الغرب ، إضافة إلى الأنظمة المخابراتية التي أصبحت جميعها ، في العالم ـ إلاَّ من تحصَّن بعزة الله ـ تابعة ، طوعاً أو كراهية ، لـ C.I.A   المركزية في أميركا .

          وهل أفاد أميركا كل هذا ؟! أبداً ، لا هي ولا أتباعها ، فجولة الباطل ساعة . وجولة الحق إلى قيام الساعة .

          ومن ضمن جولة الحق ، الآيات التي نحن بصددها .

          أما مجمل معانيـها الإنطباقية على حضارات اليوم ، فهي أن ( عاد إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ) ، كناية عن حضارة عمرانية فاقت جميع الحضارات المادية مما مضى ومما بقي من عمر الزمان على هذا الكوكب . وإذاً تشبهها في الجانب العمراني حضارة الغرب في القرن العشرين وما بعده .

          وأما حكاية ( ثمود الذين جابوا الصخر بالواد ) فهي لون حضاري آخر مدهش ، من أمثلته أن أهل تلك الحضارة المادية أيضاً ، استطاعوا أن يقطعوا الصخور الصلبة بسهولة فائقة ، تشهد عليها آثار رائعة من أعاجيب النحت والبناء والأحجار الضخمة جداً والمنقولة من مكان ، ربما بعيد ، إلى آخر . من هذه النماذج المدهشة ، القلعة الموجودة  في بعلبك ـ لبنان .

          وأما الحضارة الفرعونية فالكلام عنها كثير ، وهي كذلك كانت حضارة مادية ، وإنما أبرز شيء فيها عند الله عز وجل ، هو ما أبرزه في الآيات الكريمات . هي ظلم الفراعين ، وفسادهم وإفسادهم ، وقد لخَّص الله عزت عزته ، لخَّص الحكم وحيثيات الحكم الذي نفذه فيهم شاملاً لهم في الدنيا والاخرة ، بكلمات باهرات ، قوله تعالى ، بعد أن أدانهم بمادية حضاراتهم :

 

{ الذين طغوا في البلاد . فاكثروا  فيها الفساد . فصبَّ عليهم ربك سوط عذاب . إنَّ ربك لبالمرصاد } .

          ومن أروع الإختصارات لاتصال العذاب واستمراره ، بين الدنيا والآخرة ، هذا الإعجاز اللغوي { فصَّب عليهم ربك سوط عذاب } ، كناية عن السوط ، أثناء الجلد المبرِّح فيه ، لا ينفك عنهم صاعداً هابطاً دون توقف ، في العذاب الأدنى الدنيوي ، والعذاب الأكبر الأخروي المخلَّد .

          أما قوله عز شأنه : { إنَّ ربك لبالمرصاد } فهي أكثر استدعاءً لمنتهى الإعجاب ، فاسمعي يا أميركا ، يارؤساء ويا شعب ويا عالم : إن ربك لبالمرصاد ، يعني حاضر ناظر ، لا يفوته شيء مما تخفون ومما تعلنون ، وهو يمهل ولا يهمل ، وهو الصبور ، وهو الحليم الكريم ، الرحمان الرحيم ، وهو المنتقم الجبار ، الذي إذا غضب لا يقوم له شيء .

          وإني لأرى غضبه سبحانه وقد هوى على أميركا ، بادئاً بأبراجها ، رمز عزتها وغطرستها وماديتها ، منتشراً في ساحاتها وأجوائها ، سوطَ عذاب ٍ ، لن يفوته أي ظلاَّم أو جبار أو متغطرس ٍ ، أو  عدو لدين الله وعباد الله فيها ، أو في أوتادها في العالم ، من تابعين وعملاء وجبناء .

ختام لآية الكرسي وما حولها :

          بعد آية الكرسي التي كنا في ظلالها آنفاً ، ورد مباشرة ، قوله تبارك وتعالى :

          { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ سورة البقرة الآية 256} .

وبعده قوله تبارك وتعالى :

          { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . سورة البقرة الآية 257 } .

 

          وقبل أن أتعرض لبعض التفصيل في الآية الكريمة ، أذكِّر بأننا ما زلنا ضمن العنوانين الفرعيين لكتابنا ، وهما العرفان الذاتي والعرفان العلمي العملي . مفضلين العلمي العملي ، على الذاتي ، خشية الوقوع في الرهبانية في هذا الأخير ، إذ لا رهبانية في الإسلام .

          فقوله جل شأنه : لا إكراه في الدين … الآية ،  إلفات إلى الأدلة المجملة في آية الكرسي { الله لا إلـه إلاَّ هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم .. إلى آخرها } بعد الأدلة والبراهين المفصلة في عموم كتابيه العظيميـن : القـرآن والكون  .

          فبعد ثبوت الأدلة على وجود الله ووحدانيته وحاكميته وتدبيره للكون جملة وتفصيلا ، وبعد إنزاله تعاليمه التي هي لإسعاد الإنسان إذا عمل بها ، وإذا تخلى عنها انزلق إلى أودية العذاب . بعد ذلك ، جعل الإنسان مخيراً بنسبة عالية ، تتناسب مع فردانيته سبحانه وعزته وجلاله ، وإحاطته بالكون ظاهره وباطنه وبكل شيء فيه ، ولا يتناهى الكلام عن قدرته وعن أسمائه الحسنى وأمثاله العليا ، ولو ملأنا جوف الكون كتباً نثراً وشعراً عن آياته ، فكيف بالكلام عن ذاته القدسية التي بنورها كانت الأكوان  وقامت العوالم .

          فإذاً خيَّر الإنسان بنسبة عالية ، وليس كلياً ، رحمة بالإنسان ، لأن هذا المخلوق ، كجميع خلـق الله ، يستحيل عليه أن يقوم وحده لأن أصل قيامه ووجوده ، وحياته ومصيره ، إنما هو بالله سبحانه ، فإذا لجأ إلى الله ألجأه ، وإن تباعد عن الله ، أغراه سبحانه بالرجوع  وبرحمته ، فإن أصرَّ مستكبراً معانداً هوى في الظلمات كما سنرى في الآيات  .

          وفي معنى قوله تعالى : { لا إكراه في الدين } .

 

قوله عز شأنه :

          { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر والله غني عن العالمين } .

         

          وهذا الذي ذكرناه يقودنا إلى فهم بقية الآية الكريمة ، قوله تعالى :

{ فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } .

          لأن ما ذكرناه مستفاد منها ومن عامة تعاليمه سبحانه .

          أما الطاغوت ، فقد حكى عنه رسول الله محمّد (ص) عندما سئل عن قوله تعالى : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } قال (ص) : الطاغوت هو كل ما دون الله ، وقوله هذا (ص) يلقي ضوءاً كذلك على مقولته المشهورة : ” أصدق كلمة قالتها العرب ، هي قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ” .

          هذا إجمالاً . أما في شيء من التفصيل والخصوصية  ، فكلمة طاغوت ، واضح أنها مشتقة من طغى يطغي ، فهو طاغ ٍ وهو وهي طاغية . وطاغوت يذكر ويؤنَّث .

          ومن هنا ، عند أهل العرفان العلميين العمليين ، أن أميركا طاغوت ، وحلفاؤها على الباطل ، وأوتادها في العالم ، هم طواغيت ، لأنهم هم كذلك عند الله جل جلاله .

          وهكذا فـ { قد تبين الرشد من الغيِّ ، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم } .

          والعروة الوثقى ، هي رباط متين في حبل متين ، تذكرنا بقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } . أما قوله تعالـى { لا انفصام لها }  فليحول به دون احتمال أحد ، أن هذا الرباط قد ينفصم ، أي ينقطع ، فإن الإيمان به سبحانه والإعتصام بعزته وبكتابه الذي هو حبل بين السماء والأرض ، هو ضامن  سبحانه له أن لا ينقطع فذلك هو حبل الله المتين .

          أما قوله { وهو السميع العليم }  أي لا يفوته شيء من المعاني والأصوات بدرجاتها ولغات الخلق في السماوات والأرض ويعلم السرَّ وأخفى .

          وخلاصة القول عن الإيمان بالله والكفر بالطاغوت ، أو الولاء لله ، والولاء للطاغوت ، هي في الآية التي أسلفنا عنها كلاماً مسهباً في هذا الكتاب . ونريد الآن ، بإذنه تعالى ، أن نطبقها على مصاديقها المعاصرة لنا ولأهل الأرض ، بعد أن انتقم الله من أميركا بأول ضربة تفكيكية لسلطانها وجبروتها وتحكمها بعباد الله المستضعفين ، وذلك بتاريخ 23 جمادي الآخرة 1422 هـ الموافق 11 أيلول 2001 م .

          فقوله تبارك وتعالى : { الله ولي الذين آمنوا } يعني الذين تستعديهم أميركا وتتهمهم بالإرهاب ، وهم أشرف فئات البشر ، لأنهم ثوار يقاومون ويقاتلون دون حقوقهم ومقدساتهم ، يستثنى منهم فقط  الذين يكفرون بالله ، أو يشركون به أحداً سبحانه ، وكذلك كلُّ خوَّار جبان لا يثق بقوة حضور الله , ولا بحاكميته ، ولا بأنه سبحانه ينصر من ينصره ويخذل من يخذله .

والجبان وإن كان على درجة من الإيمان ، فهي درجة دنيا ، وإيمانـه مختـرق : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . سـورة الأحقـاف الآية 19 } .

         

          فالمؤمن بشكل عام ، هو الموحد الصديق المصدق  بآيات الله ووعده ووعيده ، وهو المقاوم أعداء الله  أينما كانوا ، سواء كان بقلمه أو بمواقفه ، أو بسلاحه ، أو بقلبه وذلك أضعف الإيمان .

          فالمؤمنون الذين تستكمل فيهم شرائط الإيمان ، يتولاهم الله تعالى ، برعايته  وتسديده وحفظه ، ويدرجهم في مدارج النور ، أي الفهم والعرفان والإسعاد ، ويخصهم بمعرفته ، ويؤهلهم لعبادته ، ويهيِّم قلوبهم لإرادته ، ويجتبيهم لمشاهدته ، ويفرِّغ قلوبهم لحبه … ذلك من درجات النور ، في معنى قوله تعالى في بقية  الآية الكريم { .. يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ .. } 

 

          وفي مواجهة أمريكا وأحلافها وأتباعها من الطواغيت ، يرزقه إحدى الحسنيين وما أجلَّهما : النصر على أعداء الله أو الشهادة في سبيله قدِّس إسمه ، وهل أجلُّ من ذلك وأجمل في مصائر البشر ؟! …

          وأما قوله تعالى  : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .

          فالمعادلة المعاصرة النسبية هنا ، هي : أن تكون مع أميركا الطاغوت الأكبر وبقية حلفائها الطواغيت . فإن كنت كذلك ، وأنت في الأصل مؤمن، فإن الله تعالى يخرجك من نور إيمانك الفطري ، من النور القدسي الذي فيه سعادة الدارين ، إلى الظلمات ، وهي كذلك درجات ، وكل درجة هي لون من العذاب الذي قال الله تعالى في بعض أنواعه :

          { فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ  الذِّكْرَى . سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى . وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى . الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى . ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا . سورة الأعلى الآيات ( 9 ـ 13 )  } .

أفغانستان بين أميركا وطالبان وقوات التحالف الشمالي :

أفغانستان ، تلك البلاد الجافة ، التي معظمها مناطق جبلية يبلغ بعض ارتفاعاتها فوق 5000 متر . وهي بعد جبال هملايا وقمة أفرست(1)  من أعلى جبال العالم . تبلغ مساحتها حوالي : (636،267) كلم٢ ، وعـدد سكانـها حوالـي  : (… … 19) ، يحدها من الغرب إيران أي الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، ومن الشرق والجنوب باكستان ، ومن الشمال ما كان يعرف بجمهوريات الإتحاد السوفياتي .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)          جبال هملايا في شبه القارة الهندية ، وهي سلسلة جبال أعلاهـا قمة أفرست ويبلغ إرتفاعها 8848 م وهي أعلى قمة في العالم .

          وأفغانستان من أفقر بلاد العالم وأكثرها جدباً وأكثر مناخات العالم قساوة ، ويتميز شعبها على بؤسـه ، وربطـاً بهذه الطبيعة الصعبة بالشجاعة  وطول النفس والصبر على التحمل .

قوانين إلـهية تحكم العالم :

           وكأنَّ الله عز وجل وضع هذا الشعب في هذه البقاع من الأرض وجعل بنيته وتركيبه ، كبنية جبال أفغانستان وتركيبها . وطبيعته كطبيعتها ، ليكون مشغلة ً وصخرةً كأداء ، تتحطم عليه القوتين العظميين في الأرض ، الإتحاد السوفياتي وأميركا ، وقد حصل . وتحطمت قرون السوفيات بمساعدة السلاح والخطط الأميركية من جهة ، وبالمال العربي والإسلامي المقدم  لأميركا من جهة ثانية ليكون في جملة مكاسبها العظيمة في خسران الإتحاد السوفياتي وخروجه مهزوماً هارباً من أفغانستان  .

          والآن ، وقعت أميركا في الفخ الإلـهي ، وأخذت تنطح هذه الصخرة الأفغانية ، لتتحطم عليها قرونها عاجلاً أو آجلاً ، لا فرق .  وإنما ستتحطم بإذن الله تعالى ، ولعلًّ ذلك ليكون مؤشراً على نهاية أميركا ، كما كان مؤشراً على نهاية الإتحاد السوفياتي كدولة عظمى من الوجود .

          وليس معنى هذا ، أن تسْلَم أفغانستان .

          فالحقيقة أن هناك معادلات إلـهية وقوانين ، تكاد تعجزعن فهمها العقول العادية ، حتى وقد ترفض حيثياتها وتغضب من عرضها والمقارنة بها ، ولكن لا يعجز عن إدراكها أولوا الألباب الذين اختصهم الله بمعرفته ، أو ببعض معرفته واستلهام قوانينه .

          وقبل أن أعطي مثلاً أو أكثر عن القوانين التي عنيت ، أنبِّه إلى عدم جواز المقارنة مع الوقائع التي أوذي  فيها أو ظلم أنبياء الله ورسله في تاريخ البشر ، من قتل بني إسرائيل المزعوم لرسل الله ، وأقول المزعوم ، لأن الخبـر يعني أنهم عزموا وصمموا ، فكتب عليهم أنهم قتلوا ، ولو لم يكونوا  قد نفذوا فعلاً بشخص أي رسول ، لأن الله سبحانه كان عند شروعهم بالتنفيذ ، يرفع رسوله ، ويشبه لهم بمجرم ٍ يستحق القتل فيقتلونه . ومن أصدق  من الله قيلا ، قال سبحانه :

          { ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ . سورة يونس الآية 103 } .

          وليس في القرآن الكريم أي خبر صريح عن أن أحداً قتل رسولاً لله بشخصه .

          وأما القول عن زكريا (ع) أنه اختبأ في جذع شجرة فنشرها بنو إسرائيل بالمنشار فقتل فيها ، وأن ولده يحي (ع) قتل وقطع رأسه وقدِّم على صينية إلى يغي من بغايا إسرائيل ، وأن المسيح  (ع) قتلوه وعلقوه على الصليب ، وكذلك الكلام عن قتل غيرهم من رسل الله سلام الله عليهم . فكل ذلك هراء ليس فيه أية إشارة في أي نص ٍ في القرآن المجيد . وأما نسبة ذلك إلى أحاديث أو روايات ، فهي مردودة بالقرآن الكريم ، وهي إما شبهات أو إسرائيليات . وخسأ بنو إسرائيل يخادعون الله وهو خادعهم .

          أما أولياء الله الصديقون الأبرار ، بلى ، فقد ابتلاهم الله تعالى بالشهادة ، فضلاً عن الأذى والظلم الذي يلحق الأنبياء والمرسلين . ابتلاهم وابتلى بهم أعداءَه سبحانه ، من كفرة وفجرة ومنافقين . وقد جعلهم الله رموزاً للبشرية ، ومنائر يهتدى بها بعد كل رسول من رسل الله جل جلاله . وليست فتنة صفين وما قبلها ، والتحكيم الجائر ، ونزوات المرتدين فيها ببعيدة ، وكذلك ليس ببعيد زلزال كربلاء .

          وإني تمثلت بكل هذا ، لأقول إنه لا يقاس عليه ، لأنَّ في حكمة الله ومقاصده فيه ، دروسه وعبره ، استثناءات عن القواعد العامة التي وعدنا بعرضها ، كمعادلات وقوانين إلـهية ، تعني الناس من غير الرسل ، وغير أولياء الله المنتجبين .

          أما المعادلات والقوانين التي يتحرك ضمنها البشر عامة فيهلك ضمن مقاصدها وأسرارها من يهلك ، ويصاب من يصاب،  وينجو برحمة من الله من ينجو . فهي كثيرة نذكر منها ثلاثة نماذج ، هي بالضرورة من كتاب الله وكلام الله مجِّد اسمه.

أولاً قوله تعالى :

{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ . سورة الأعراف الآية 96 } .

 

وثانياً قوله تعالى :

{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ . سورة النحل الآية 112 } .

 

وثالثاً قوله تعالى :

          { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . سورة فصلت الآيات (30 ـ 31) } .

          فأين نذهب بهذه الآيات التي هي تقارير من الله وأحكام ؟ وكيف نتعامل معها ؟ وهل يجوز أن نتجاوزها ونهملها ؟ ونحن إن فعلنا ذلك ، نكون قد خرجنا من دين رب العالمين ، أو على الأقل نكون قد عصيناه ، وحشرنا  أنفسنا  مع  الفسَّـاق  أو الملاحدة أو المنافقين .

          إلاَّ أن في القرآن الكريم سورة  البروج  ربما ينسحب بعض مضمونها على الفريق الحيادي في أفغانستان ، أي الفريق الذي لم يقع في فتنة الإقتتال الداخلي ، أو فتنة الإئتمار بأمر الطاغوت الأمريكي ، أو فتنة جلب البلاء للإسلام والمسلمين ، بسلوك هو أقرب إلى الإنسان الحجري ، منه إلى انفتاح الإسلام على الأرض والسماوات ، وأخلاق الإسلام السامية ، ومقاصده الشريفة النبيلة ، التي يستطيـع أن يعيش في ظلالها جميع أهل الأرض ، بحرية حقيقية ، وديمقراطية صادقة ، وكفاية ، بل ورفاه في عيش كريم .

بين حضارة طالبان وحضارة امريكا وحلفائها :

           طالبان سفَّهت الأخلاق الإسلامية ، وجهَّلت العلم ، وخنقت الحرية باسم الإسلام . وشوهت وجه الإسلام الرسالي المحمدي العالمي البريء والجميل .

          أما أسوأ صورة في أفغانستان ، فهي هذه : أميركا تحلق بآخر وأدهى ما توصل إليه العلم الجهنمي من قاذفات قنابل ، تزن كل واحدة بضعة أطنان ، تزرعها فوق شعب أفغانستان، كما يبذر الفلاح القمح في حقله ، وشتان بين زرع القمح ، وزرع النار التي تذيب حتى الحديد ، في سقوف بيوت الأفغان ، علماً أن أكثر سقوفهم ما زالت من تراب .

          وتحت هذه البيوت ، وبينها ، يدفن بين الموت والحياة ، أطفال وأطفال ، ونساء وشيوخ ، لا ذنب لهم إلا أنهم مسلمين  . فلا هم من طالبان ، ولا هم من القوات المشتركة أو قوات التحالف الأفغاني ، الذي يزحف تحت غطاء من الجحيم الأمريكي ، ليقتل أفغانيين مسلمين مثله ، وحقد الفريقين الأفغانيين على بعضهما ينهش قلوبهم ، وتكتمل الصورة ، بحقد أعظم ، وسم أنقع ، وغضب ناري شيطاني تصبه أميركا على الأطفال ، وتصرح وتقول : لئلا يكبر هؤلاء ويصبحوا إرهابيين .

          أما السورة التي ذكرناها وهي ( سورة البروج ) ، وأما مضمونها الذي من مصاديقه الفريق الحيادي البريء في أفغانستان وفيه آلاف الأطفال الذين يعانون هم وأهلهم من الجوع والبرد والتشرد والهول والفزع ، وكل ذلك كمقدمـات للموت السريع أو البطيء :

فقول الله تبارك وتعالى :

          { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ . إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ . وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ . الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . سورة البروج الآيات(4 ـ 9) } .

          والاخدود ، حفرة كبيرة جمع فيها حطب كثير وأشعلت فيها نار هائلة . وملخص القصة التي وردت عن فحـوى الآيات ، أن قوماً من اليهود ، نقموا على قوم من النصارى . فقط لأن هؤلاء النصارى آمنوا بالسيد المسيح عليه السلام وبما جاء به من الدعوة إلى توحيد الله تبـارك وتعـالى . فاعتقلوهم جميعاً بما فيهم النساء والأطفال الأبرياء  ، وعرضوهم على النار المذكورة ، وخيَّروهم  بين أن يرجعوا عن الدين الجديد الذي دانوا به ، وبين إلقائهم  في تلك النار ، وهذا  من البلاءات الكبيرة في تاريخ الإيمان بالله وبوحدانيته ، وقد تكرَّر مثله في التاريخ السابق ، وما زال يتكرر مثله في التاريخ الحديث والمعاصر ، وهذا نمط مثله واضح فاضح في أفغانستان .

          والجدير بالذكر في نتيجة هذه القصة التاريخية ، أن أولئك النصارى ، تحدُّوا اليهود بإيمانهم بالله وبرسوله ، وارتضوا بالنار الدنيوية هذه ، التي لا يدوم عذابها إلا لحظات ، هذا إذا كان فيها عذاب ، وإلا فالمرجو ، أن يكون الله جلَّت عظمته ، قد جعلها عليهم كنار إبراهيم ، برداً وسلاماً .

          المهم أن هؤلاء المؤمنين ثبتوا على إيمانهم فألقوهم تباعاً في النار مع أطفالهم .

          وفي القصة هذه أمر يطيب لنا ذكره ، وليس هو على الله بعزيز ، وهو أن امرأة تحمل رضيعها وهو ابن بضعة شهور ، فأخذتها عليه شفقة ، تكون عادة حتى عند قساة القلوب ، فكيف هي عند أم ٍ على فلذة كبدها . فترددت ، وأرادت أن تتراجع عن إيمانها ، فقط حرصاً على وليدها ، واليهود أمامها يتجبرون ويتوعدونها بحرقه معها . فما كان إلا أن نطق الطفل الرضيع : تقدمي يا أمي ، فإن الله سيجعل هذه النار علينا برداً  وسلامـا ـ أو كما قال ـ فتقدمت ، موقنة برحمة الله ولم تدع لليهود فرصة فتنتها عن دينها .

          فقتل أصحاب الأخدود في أفغانستان الذين أشعلوا جحيم النار فيها بين الأرض والسماء ، فقتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ الأمريكان ” عليها قعود ” مشرفين على الحرب هذه  المتوحشة الضارية ، قعود بالدم البارد في عواصمهم وعواصم العالم يديرون حرباً ، تكاد لا تصدق ، بين أقوى وأغنى دول العالم مجتمعة ، وبين هذه الدويلة البائسة الفقيرة ، أفغانستان :

          { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }

 

          وما نقمت دول العالم المتحالفة على الشر ، والتي تلهب أحقادها وتتلاعب بعقولها دولة الصهاينة وامتداداتها السرطانية في العالم وخاصة في أميركا . وما نقمت دول الشر هذه إلا أن يؤمـن الحياديـون الأبريـاء في أفغانستان وفي غير أفغانستان { بالله العزيز الحميد . الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } . الله شهيد على ما يفعلون  يسجِّل عليهم كل حركة وكل نفس ، وكل نية تتبيَّت في السر ، أو تفضح من خبثهم في العلانية :

          { قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ . سورة النحل الآية 26  }  .

القيامة على الأبواب والناس يرجون النصر من عند غير الله . والله معهم أينما كانوا وهو على كل شيء شهيد .

 

لمحات عن العالم في ظل الآيات الثلاث :

ـــــــــــــــــــــــــــــ

          الآيات التي قلنا إن البشر في تاريخهم إلى قيام الساعة يتحركون ضمن حروفها ، وهذه مقدماتها للتذكير :

1 ـ      ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض … والقذائف والألغام ،  طبعاً  ليسـت بركات من السماء والأرض .

2 ـ      وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة … فكفرت … فألبسها الله لباس الجوع والخوف … والقرى والمدن سيَّان .

3 ـ      إن الذين قالوا ربنا الله ثم  استقامـوا تتنـزل عليهـم        الملائكة ألاَّ تخافوا ، ولا تحزنوا نحن  أولياؤكـم فـي الحياة الدنيا … يعني إن الذين يقولون ربنا الله ، دون أن يستقيموا ، لا تتنزل عليهم الملائكة ، أي رحمة الله وعونه وبركاته ، لا في الدنيا ولا في الآخرة .

          أما الكلام عن القيامة ، وأنها على الأبواب ، فقد عقدنا فصلاً عنها وعن أشراطها المتحركة ، التي يواكب بعضها بعضاً ، والماثلة للعيان ، في كتابنا ” العقل الإسلامي ” (1) فراجع .

          وهذه لمحات سريعة جداً عن العالم ، منذ الإسلام ، بين السلب والإيجاب :

ـ         العهد الميمون لنبوة محمّد (ص) رسول الإسلام ، لإنقاذ البشرية من جاهلياتها وظلامهاالدامس ، إلى سعادة القلوب المؤمنـة الموحدة ، والعقول المستنيرة بنور الله ، النور الذي بنيت به حضارة الإسلام ، حضارة دين رب العالمين .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        صدرت منه الطبعة الثانية عن دار الأضواء . بعد أن نفذت الطبعة الأولى . 

ـ         عصر ما سمي بعصر الخلفاء الراشدين .

ـ         العصر الأموي ، وبحسبك من سلبياته التاريخية  ،  أنـه انحـرف  انحـرافاً عـن الإسـلام مروعـاً ، إذ  كان ” ميكيافيللي ” (1) . ذلك العصر ومؤسسه معاوية بن أبي سفيان ، إبن هند آكلة الأكباد (2) . ثم إبنه يزيد الذي زلزل التاريخ الإسلامي ، بقتله حفيد رسول الله (ص) وسيد شباب أهل الجنة  الحسين بن علي (ع) مع ثلة من أهله وأصحابه ، في وقعة كربلاء .

          ومن أبرز ما كان في العصر الأموي ، عداء الأمويين وحقدهم على بني عمومتهم الهاشميين . وهم عشيرة رسول الله محمّد (ص) والتنكيل بهم .

          إلا أن بقعة بيضاء في عصر بني أمية ، عبَّرت عن حقيقة الإسلام الحضاري ، نسبياً ، أصدق تعبير .

          فقد عرف الشرق والغرب ، في دراستهما للتاريخ الإسلامـي ، أن عهـد عمـر بن عبـد العزيز ، أحد الخلفاء الأمويين،  قد أعطى انطباعاً عن الحاكم ، وعن اختياره لجهازه البشري ، بنظام الشورى ، وعن عامة الناس  في أيامه ، بأن الإسلام ، وليس غيره ، كنظام إلـهي ، يستطيع أن ينعم بظله أهل الأرض  ، وهم مكفيون آمنون سعداء .

          ونحن هنا نورد رواية أحد المستشرقين ، عن هذا العهد ، كمراقب موضوعي يهمه معرفة الحقيقة عن الإسلام ، يقول :

          ورث عمر بن عبد العزيز الخلافة ، وليس في بيـت المال ، درهم ، فقد كنسه من كانوا قبله . ومعلوم أنه أصبح على رأس دولة مترامية الأطراف ، لها جيشها وموظفوها ، ومؤسساتها ، فأسقط في يده ، وبادر يستعين بالولاة في الأمصار، وقد كتب إليهم أن مدُّونا ما استطعتم بالمال . وهنا وقعت مفارقة عجيبة ، أن الولاة أيضاً وقعوا في حيرة ، فإن مصادر المال الذي كانت توفره الجزية من الكتابيين ، وخصوصاً النصارى ،

قد انقطعت ، إذ حبَّاً بسمعة الخليفة العتيد عمر بن عبد العزيز أخذ النصارى يدخلون في دين الله الحنيف ، دين التوحيد ، زرافات ، ووحدانا .” فما العمل يا أمير المؤمنين ” ؟! …

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)          ” ميكيافيللي ” هو أحد رؤساء الوزارة في إيطاليا ، ألَّف كتاب الأمير ، ليكون دليلاً للحاكم ، وكان أبرز ما فيه من مساوىء نظرية ” إن الغاية تبرر الوسيلة ” وقد اعتمدها فيما بعد جميع قادة الغرب .

(2)          حاولت أن تأكل قطعة من كبد حمزة بن عبد  المطلب  بعد إستشهاده فما استطاعت ازدرادها .

          وأخذ ذلك الرجل ، الذي أصبح أميراً للمؤمنين ، يفكر في ليل طال عليه ، ثم اتخذ

 قراره . ونادى على بعض الكتبة .

فكتبوا رسائل إلى الولاة في أقطار العالم الإسلامي آنذاك ، يعظهم فيها بتقوى الله ، وبحسن التوكل عليه  سبحانه  ،  وبعدم الخوف من الحاجة لأن الله وليهم … إلا أن أبرز ما في الرسالة ، هذه العبارة :

          ” تقولون أن أهل الكتاب (1) ، يدخلون في دين الله زرافات ووحدانا وبذلك انقطع مصدر كبير من مصادر المال . فاعلموا أنه ، أن يدخل ذمي واحد في دين الإسلام خير مما طلعت عليه الشمس ، وإنما بعث محمّد (ص) هادياً ولم يبعث جابيا ، وإنَّا حسبنا الله الحي القيوم هو المغني وهو الكافي وهو خير الناصرين “.

          ثم بعد ذلك حصل العجب ، فما إن مرت أسابيع حتى تقاطرت الأموال ، فملأت بيت المال . فوطَّد بها حكمه وأرضى الناس .

          ثم كانت المفاجأة الثانية : الخليفة يعلـن على الأمصار : ألا من كان بحاجة إلى مال ، فليأتنا ، وله نفقات سفره ، أو فليكتب إلينا نرسل إليه .

          ثم كانت المفاجأة الثالثة : أن قلة قليلة جداً ، هي التي طلبت ، وكان المتوقع أن يفد الناس بكثرة فالمال مطغ ٍ جذاب . السبب أن الله قد جعل الناس  لتقواهم ، وبركة خليفتهم وولاتهم ، في كفاية ومع الكفاية ، ما هو أهم ، التعفف ، وغنـى النفـوس بالله ، الذي هو معهم أين ما كانوا ، والذي هو أقرب إليهم من حبل الوريد ، وهو خير الرازقين . فهذا هو الإسلام ، وهذا هو الإيمان الحقيقي بالله رب العالمين .

          وهكذا ، كانت البلاد ، عهده ، مصاديق للآيات الثلاث ، التي نحن بصددها ، وذلك في مضامينها الواعدة . ونذكِّر بأن أول هذه الآيات ،  قوله تعالى :

          { ولو أن أهل القرى آمنو واتقوا لفتحنا عليهم بركات ٍمن السماء والأرض …}.  

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)          نسب خطأ إلى عمر بن عبد العزيز أن برغم إعفائه أهل الكتاب من الجزية إلا أنه وضع عليهم قيوداً تميزهم عـن المسلميـن . والحقيقة أن هذه القيود إنما وضعها قبلاً الخليفة الثاني عمر بـن الخطاب ، فالتبس الأمر على بعض المؤرخين . ولقد دوِّنت بنود هذا الميثاق منسوبة إلى الخليفة الثاني بصيغ مختلفة . انظر ابن عساكـر ج1 ص 178  ومـا بعـدها . و ” المستطرف ” ج1  ص 100 وما بعدها .

          أما المصاديق الأموية ، للمضامين المتوعِّدة ، في هذه الآيات الكريمات ، فهي أن سلسلة الخلفاء ، قبل عمر  بن عبد العزيز وبعده ، اختاروا خلاف ما اختار ، هو اختار الله ، وتقوى الله ، وحسن التوكل عليه ، والزهد والورع . وهم اختاروا الأبالسة ، والطعن في نحر الدين ، وأولياء الله الصالحين ، واختاروا الكَلَب على الدنيا وتقليد ملوك الدنيا وعبيد الدنيا ، والكذب الذي لطَّـفوا من إسمه وأسموه دهاء ، واختاروا سفك دماء المؤمنين ، وتقديم الفجار، وتأخيرالأخيار. والله تعالى بالمرصاد ، يجمِّع عليهم السقطات ، والجرائم والهفوات…

          ثم كان يومهم الذي لا بد منه ، بموجب قوانين الله جلَّت عظمته :  ولكنه يوم أمطر دماءً غزيرات ، أفجعهم في أقطار الأرض وأفجع أبناءَهم .

          فقد أرسل عليهم ثورة عارمـة ، من الذين امتلأوا منهم وجعاً ، وامتلأوا عليهم حقداً . ثار عليهم  بنو أعمامهم ، بنو العباس ، فأغرقوهم في برك من دماء .

          وأذكر حادثة واحدة ، عن مدى الفتك الذي أوقعـه الله بهم . فقد تدخل بعض المعتدلين ممن يستمع إليهم الخليفة الجديد ، أبو العباس ، السفَّاح ، وهذا لقبه الرسمي . مدخلاً في روعه ، أن لم يبق من بني أمية ، إلاَّ بضع مئات ، متخفين عن الأنظار، هاربين في الأمصار ، وقد وطِّد حكمك ، ولا أحد يجرؤ بعد على المسِّ بملكك . وهؤلاء بنوعمومتك ، فعليك بالرَّحِم فهو من الرحمة .

          فرضي أبو العباس . ودعاهم بعد أن أعلن لهم الأمان ، فخرجوا من مخابئهم ، وأكثرهم كانوا سادة وقادة في بني أمية وفي حكومتهم . وبعد أن استقر بهم المجلس ، وهو في صدر الإيوان . دخل عليهم رجل ، كان منكوباً بهم وبجورهم ،  فنفر من هذا المشهد ، وعزَّ عليه ، أن يعود هؤلاء المجرمون ، إلى جوار السلطان وهم الأحق بالعقاب . فجاش صدره  ، وحمي أنفه غضباً وارتجل بيتين من الشعر أنشدهما للسفَّاح :

          لا يغرَّنْكَ ما تـرى من أنـاس ٍ     إنَّ بينَ الضُلوع ِ دَاءً دَوياً

فارفع السوطَ واشهرالسيف حتى     لا ترى فوق ظهرها أمويا

          وما كان أسرع استجابة أبي العباس ، فدعا زبانيته ، فأبادوهم في مقتلة واحدة . وهكذا انتهت دولة بني أمية التي دامت حوالي المائة سنة .

          قيل في التاريخ الذي درسناه ، إنه لم ينج من الأمويين ،  وهم كانوا ألوفاً مؤلفة ، إلاَّ رجل واحد ، هو عبد الرحمن الداخل ، ولقِّب بالداخل ، لأنه هرب متنكراً ودخل بلاد الأندلس . حيث أسس فيها مملكة كذلك أموية ، وهي كذلك لم تدم طويلاً .

          وهكذا كانت الدولة الأموية بشقيها  في التاريخ ، مصداقاً للآيات الثلاث ، ونكتفي بذكر الآية الأولى : {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأََرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } .

          فحظُّ فجار الأمويين من الآية قسمها الأخير ، إذ أنهم كذبوا فأخذهم الله بما كانوا يكسبون .

          وقبل أن نودعهم ، نذكر بعض سجاياهم متمثلة بالوليد بن عبد الملك :

          سكر ذات يوم ، وتناول القرآن واستفتح ، كفعل أهل الورع ، فإذا في رأس الصفحة ، قوله تعـالى : { وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } . فبدلاً من أن يفزع ويستغفر ، ويُقلع عن خمره تائباً توبة نصوحاً . استشاط غضباً ، وممن ؟! … ونصب القرآن على شجرة في حديقة قصره ، وأخذ يرميه بالسهام ، ويقول  وقد جاشت شاعرية الشيطان فيه :

          تهددنـي  بجبـار  عنيـد            فها أنا ذاك جبـار عنيد ُ

          إذا ما جئت ربك يوم حشر ٍ       فقل يا رب مزَّقني الوليد

          ولنطمئن إلى الجواب على هذا السؤال ؛ لماذا أذن الله تعالى بتلطيخ القرى في أبهة العصر الأموي بالدم ؟! نقول لأن الناس على دين ملوكهم . فقد أخذ المجتمع يفسد بفساد الخلفاء ، فيباع الناس ويشترون بالمال حتى النساء وحتى بعض الصحابة ، فقد اشترى معاوية جعدة بنت الأشعث الكندي بمال ٍ واعداً إياها كذباً ، بأنه إن سممت زوجها الحسن بن علي بن أبي طالب (ع) زوَّجها من يزيد ، واشترى بمال ٍ الصحابي سمرة بن جندب فحدَّث كاذباً لمصلحة معاوية عن رسول الله (ص) ، واشترى من سمَّم مالك الأشتر النخعي وهو في طريقه ليكون والياً على مصر ، وقال معاوية قولته المشهورة ” إن لله جنوداً من عسل “.

ولا تنتهي جرائم معاوية مؤسس الدولة الأموية . أما الأحرار والعلماء الأصيلين فقد قمعوا قمعاً شديداً .

          وأورث معاوية يزيداً ابنه الخلافة  ، وهو الأشقى في التاريخ الإسلامي ، حيث أنه أول ما دعَّم ملكه بأفظع جريمة كذلك في التاريخ الإسلامي ، وهي مقتل الحسين بن علي (ع) وأصحابه ، في وقعة كربلاء ، وكان يزيد أول من عاقر الخمر وشهد مجالس الطرب وربى الكلاب والقردة في الإسلام .

          ولنطمئن كذلك أكثر ، إلى فاعلية الآيات الثلاث ، نضيف كذلك خبراً عن الوليد إياه ، حيث سهر مع جارية له حتى الفجر  وغدا مخموراً مما شرب ، وأذَّن المؤذن للصلاة ، وكان هو يؤم المصلين ، فقالت له قم وصل ٍ بالناس . فقال لها ، لا ، وخلع عمامته وألبسها إياها وقال قومي أنت صلِّ بهم .

وهذه لمحات عن العصر العباسي وأمبراطوريته ..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

          وسننظر إلى هذه الدولة ، مقوِّمين فيها ما يسمى بالحضارة الإسلامية ، بقطع النظر عن المناقشات المذهبية ، وعن أحقية من كان يجب أن يخلف رسول الله محمّداً (ص) في التاريخ ، وهو بحث طويل يبدأ بفتنة السقيفة ولا ينتهي إلى قيام الساعة . ونحن هنا إنما نحاول أن نقدِّم الإسلام باختصار وبدون تعقيد ، بإيجابياته كحضارة ورسالة هي في الأصل لإنقاذ العالم والبشرية جمعاء ، وبسلبيات الذين حالوا دون تألقه وانتشاره ، أو أخفقوا بإدارته ، فيما مضى من مراحل تاريخه . ونحاول أن نتمشى في كل ذلك ـ وهذا هو المهم ـ بين الآيات الثلاث التي ما زلنا بصددها . ويقيناً إننا ، والناس ، بأمس الحاجة لهذا الأسلوب الجديد من العرفان العملي .

          نعم خلال أكثر من سبعمائة سنة تقريباً ، قامت حضارة في العصر العباسي ، إسلامية ، انفتحت على بقية الحضارات المعروفة ، وتلاقحـت معها ، وأنتجت مدنية خلاَّبة ، ما زال يشهد لها الغرب قبل الشرق .

          وقد بزَّت هذه الحضارة ، جميع الحضارات المعروفة المعاصرة لها ، وتفوقت عليها ، وكان أبرزها الفارسية والرومانية وقبلها الحضارة الإغريقية .

          وإنما كان سبب تفوقها وتألقها ، علمياً واقتصادياً واجتماعياً وقوة عسكرية ، استكملت بها الفتوحات ، حتى بلغت أرمينيا وأذربيجان وطشقند ، بعد آسيا الصغرى ، وغيرها مما كان يعرف بجمهوريات الإتحاد السوفياتي في عصرنا هذا ، واصلة إلى الصين شرقاً . مؤسسةً في الغرب حضارة هي أفخم ما عرفه التاريخ الإنساني ، وأجمل ما عرفته الحضارات ، هي الحضارة الأندلسية .

          نعم ، كان سبب تفوق الحضارة الإسلامية في عصر بني العباس ، أنها كانت ذات مفهومين ، أو نهجين متعارضين ، عمَّر أحدهما وثبت ، بمعارضة النهج الآخر وبالخشية من إثاراته : النهج الأول هو النهج السلطوي الدنيوي ، الآخذ بأسباب الملك والقوة ، وبسط النفوذ ، حتى على أقوى أمبراطورية(1) كانت  ما زالت  قائمـة واسعـة النفوذ ، فخلخل أركانـها باسم الإسلام . آخذاً من الإسلام شكليـاته يتزين بها ، وينفلت في نفس الوقـت على الخمر والرفاه وكثير من المنكرات .

          أما النهج الآخر ، فهو النهج الروحاني ، المعارض انتصاراً لله ولدين الله ، الرافع لواء الرسالة وتعاليمها العالمية المنجية ، ويتمثل هذا النهج ، بآل بيت النبيّ(ص) ، والمؤمنين الأبرار ، المتميزين في التاريخ بثوريتهم ، وبطاعتهم للعلماء المستنيرين .

          ويبـدو أن اختيار الله جلت قدرته ، وهو الذي { يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ .. سورة السجدة الآية 5 } يبدو أن اختياره  لأئمة الدين ـ عبر التاريخ ـ ليكونوا فقط ثواراً ، وفقط معارضين ، ليصححوا دائماً المسارات الفاسدة ، والتحولات  الخطيرة عن الإسلام ، والحقيقة ، نقولها لوجه الله ، أن الإسلام قد صانه الله تعالـى من الزوال ، بهؤلاء وبجميع أولياء الله العرفانيين العمليين ، الذين اجتباهم في التاريخ .

          لذلك ، تجلَّت الحضارة الإسلامية ، واصلة إلى الأوج ، بمقياس تلك الأيام ، تجلت بأبهة الملك وفتوحاته وانتصاراته وحركته العمرانية والإقتصادية من جانب ، ومن الجانب الآخر الديني ، بالمدارس الجامعية ، لأولياء الله الصالحين والعلماء الأعلام .

          فهذا العالم الأميركي سارثون(2)  فـي عرضـه لتاريـخ العلوم وذكره لمآثر العرب والمسلمين في ميدان العلوم الإجتماعية  وغيرها في ذلك العصر يقـول (3) : ” إن الجانـب الأكبر من مهام الفكر الإنساني حمل أعباءه المسلمون . فالفارابي أعظم الفلاسفة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)              هي الأمبراطورية الرومانية التي كانت تحكم من عاصمتها بيزنطة أكثر بلاد المشرق  .

(2) +(3)     أنظر تاريخ العرب . د. فيليب حتي . و د. ادوارد جرجي . و د. جبرائيل جبور .

كان مسلماً وأبو كامل (1)  وابراهيم ابن سنان (2)  أعظم علماء الرياضيات كانا مسلمين والمسعودي أعظم رجال الجغرافيا والموسوعات كان مسلماً وكذلك قل في الطبري أعظم المؤرخين ً.

          ومعلوم أن الأئمة الأبرار ، وكذلك أتباعهم ، قد عزفوا عن الملك وعن السلطان ، وحتى عن التقرب إلى السلطان ، إلاَّ إذا اضطر أحدهم ـ أي الأئمة وشيعتهم ـ لذلك مكرهاً  بضغط من السلطان ذاته . وقد تفرغوا للعلم والتعليم بجميع  مستوياته ،  فلقد عرفت تلك الحضارة من خلالهم ما لم يكن يعرفه العالم من قبل . مثل العرفان الإلـهي إنطلاقاً من القرآن الكريم . ثم الفلك والرياضيات بأنواعها الأصلية ، والكيمياء والفيزياء ، وغير ذلك من المباحث العميقة التي لم تعرف تقريباً إلاّ في العصر الحديث ، مثل حقيقة المكان والزمان وتركيب الهواء ، ومعرفة بعض الغازات ، مثل الأوكسجين ، علماً أن أول من اكتشف الأوكسجين  وتحدث عنه كبداية ، هو لافوازييه بعد أكثر من ألف سنة .

        

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)          شجاع ابن أسلم المصري الذي نقح  في أوائل القرن العاشر كتاب الجبر ” للخوارزمي ” .

(2)          حفيد ثابت بن قرة أما طريقته لتربيع الشكل المخروطي فكانـت أيسر الطرق قبل اختراع حساب التمام والتفاضل .

 

موقع العقل الاسلامي ونهاية العالم الشيخ عبد الكريم آل شمس الدين