سورة الأحزاب

تفسير سورة
الأحزاب
تحميل الصوت

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الأحزاب

      أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم . تفسير سورة الأحزاب ، وهي مدنية وهي ثلاث وسبعون آية ، ورقمها في المصحف الشريف ثلاث وثلاثون .

قال تبارك وتعالى : ( لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ) سورة النساء الآية 166.

 السورة المباركة أولها الآية الأولى بسم الله الرحمن الرحيم ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ).

 فقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ) أي كن في خشية وترقب من الله تبارك وتعالى (وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ) ولا تلتفت إلى ما يقولون وإلى ما يأفكون (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ) أي عليماً بما كان قبل كونه.

الآية الثانية: ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا )

وقوله جل وعز: ( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ) بعد أن نهاه عمن ذكرهم، أمره أن يطيع أوامر ربه ونواهيه ولا يتجاوزها ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ) أي لا يَخفى عليه شيء فيثيب على الأعمال ويعاقب في الدنيا والآخرة .

الآية الثالثة: ( وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) أي هو وليّك الله عز وجل ووكيلك وناصرك وترقب خيره ولا ترجو غيره .

الآية الرابعة: ( مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ).

فقوله عز وجل: (مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ) وهذا واضح أن يكون القلب لله وحده، لأنه كما قيل: “حظ الله من عباده القلوب، وإن الله تعالى لا ينظر إلى وجه عبده وإنما ينظر إلى قلبه. والإنسان بقلبه يحب، ولكي لا يشرك الإنسان المؤمن بربه في قلبه أحداً، لم يجعل له قلبين فيقع الشرك فيهما ولذلك قال سبحانه ما جعلنا لرجلٍ من قلبين في جوفه. ومعلومٌ أن الحب الأعظم ينبغي أن يكون لله وحده فهو سبحانه الحبيب الأعظم وحيث أن الإنسان يحب ما خلق الله، ملائكةً وبشراً وأشياء، وهذا الحب ينبغي أن يكون بعد أن يمتلىء القلب بحب الله جلَّ وعلا، فبما يفيض من حب الله على جوانب القلب للإنسان أن يحب بهذا الفائض من يحبهم الله أو من يأذن الله بحبهم أو ما يأذن سبحانه بحبه من الأشياء: كحبك مثل النهر أو الجبل أو أي شيء جميل حباً بالله ، ويجب على الإنسان دائماً أن يتذكر بصدد من يحب أو ما يحب أن هذا من خلق الله جلت عظمته.

أما قوله تعالى: ( وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ ) فقد كانوا في الجاهلية يطلّقون نساءهم هكذا، بأن يقول الرجل لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي فتحرم عليه.

وقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ) الأدعياء جمع الدّعي وهو الذي يتبناه الإنسان، بيّن سبحانه أنه ليس بإبن على الحقيقة ونزلت في زيد ابن حارثة ابن شراحيل، تبناه النبي (ص) قبل الوحي وكان قد وقع عليه السبي فاشتراه رسول الله (ص) بسوق عكاظ، فلما نُبّىء رسول الله (ص)، دعاه إلى الإسلام فأسلم، وقدم أبو حارثة وأرسل يسأل رسول الله (ص) إما أن يبيع له زيداً و إما أن يعتقه، فقال رسول الله: هو حر فليذهب حيث شاء فأبى زيدٌ أن يفارق رسول الله (ص)، فقال حارثة يا معشر قريش اشهدوا أنه ليس ابني فقال رسول الله (ص) اشهدوا أنه ابني، يعني زيداً فكان يدعى زيداً ابن محمد، فأنزل الله سبحانه: ( وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ) أي ما جعل الله من تدّعونه ولداً لكم وهو ثابت النسب لغيركم، وقوله تعالى:  ( ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ ) أي إنه قولٌ لا يعوّل عليه لأنه يخرج من الفم بدون أي تمعن أو تفكير أو تحمّل مسؤوليّة وقوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ) يعني قول الحقّ أن الزوجة لا تصير بالظهار أماً ولا يصبح الدعي بالتبني ولداً.

الآية الخامسة قول الله جل وعلا: ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )

 وقوله تعالى: ( ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ ) ادعوا هؤلاء الأدعياء الذين تدعون أنهم أبناؤكم، ادعوهم باسم آبائهم الذين ينتسبون حقاً إليهم ( هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ ) هذا هو العدل أو الأعدل عند الله ( فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ ) اذا كنتم تجهلون من هم آباؤهم فهم إخوانكم في الدين هكذا يجب أن تعتبرونهم ( وَمَوَالِيكُمْ ) والموالي جمع مولى، والمولى إما أن يكون سيداً و إما أن يكون تابعاً،  تقول : الله مولاي وتقول زيدٌ مولى رسول الله أي تابعه، ورسول الله مولى زيد أي سيده. ثم يقول تعالى: ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ قبل النهي وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ) ما قصدت قلوبكم بعد النهي (وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) لمن تاب توبةً نصوحاً .

الآية السادسة قول الله جل وعز: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا )

 وقوله جلّ وعلا: ( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ ) أي إذا دعتهم أنفسهم إلى شيءٍ ودعاهم النبي إلى شيء كانت طاعته أولى بهم من طاعة أنفسهم، وقوله تعالى: ( وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ) أي إن أزواج النبي أمهات للمؤمنين فقط في حرمة التزويج.

وأما قوله تعالى: ( وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ ) فيه إحتمالان: الأول أن يكون أولوا الأرحام أولى ببعضهم من جميع الأصناف، والثاني أن يكون أولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين هم الأولى من بقية الأصناف، ولقد كان المسلمون قبل هذه الآية يتوارثون بالهجرة وبالأخوة في الإيمان حتى نزلت هذه الآية. أما قوله تعالى : ( إِلا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا ) فلما نسخ التوارث بالمؤاخاة والهجرة أباح الله تعالى أن يوصي المسلم لمن يتولاه بما يشاء من ثلث ما يملك وقوله تعالى (كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ) أي في اللوح المحفوظ.

الآية السابعة قول الله تعالى: ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) وقوله جل وعز: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ) من جميع الأنبياء الذين يمرون على البشرية في تاريخ الأرض إلى قيام الساعة، أخذ الله ميثاقهم في النشأة الأولى أو في الأزل والمعنى واحد، فأخذ منهم عهداً على أنفسهم أشهدوه سبحانه عليه وأشهدهم على أنفسهم. والعهد والخطاب كما هو واضح لرسول الله محمد (ص) يقول له ( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ) عهدهم ومنك يا محمد يا رسول الله  ومن نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وهؤلاء سمّاهم الله عز وجل لتميزهم بين الأنبياء والمرسلين ( وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا ) أي من جميع الأنبياء لقوله في أول الآية (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ) والميثاق الغليظ الذي فيه تشددٌ عليهم أي أنه يتعامل معهم ليس كما يتعامل مع بقية الناس وإنما لأن لهم أجراً أكبر وأعظم، فمسؤوليتهم أخطر في تعاملهم مع الله عزّ وجل وفي تبليغهم لرسالات الله.

الآية الثامنة قوله جل وعز: ( لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) المعنى واضح ننتقل إلى قول الله تعالى في الآية التاسعة.

الآية التاسعة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ) النعمة العظمى عليكم يوم جاءتكم جنودٌ من الأحزاب ومن عساكرهم بعددهم وعتادهم فأرسلنا عليهم جنوداُ لم تروها حيث أنكم لم تكونوا قادرين على مواجهتهم وعلى حربهم وقد علم الله ضعفكم عن ذلك فأرسل عليهم ريحاً طبعاً الريح واضحة بما فيها من بروق ورعود وفاعلية، وجنوداُ لم تروها هم من الملائكة من ملائكة الغضب شتتوا شمل الأحزاب ومزقوهم في البوادي.

الآية العاشرة قول الله تبارك وتعالى: ( إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا )

 فإذاً ( جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ ) وتقريباُ من جميع جهاتهم ( وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ ) الأبصار تزيغ، يتحول البؤبؤ في العين يهتز من شدة الخوف فكأنما يعشى فلا يعود يرى الإنسان بوضوح ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ ) والقلوب كذلك من شدة الرعب كأنما تصعد لتصل إلى الحنجرة فيضيق صدر الإنسان ويضيق تنفسه وهي تعبيرات جميلة جداً ورائعة عن كيفية خوف الإنسان في مواجهة الخطر الشديد (وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ) طبعاً الذين يظنون بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وهذه أوصافٌ هي للجبناء من الناس من المسلمين وهي للمنافقين وقد يكون لحق بها شيء ما للمؤمنين الصديقين وللشجعان لكثرة الجند آنذاك وكثرة الأحزاب التي أحاطت بالمسلمين وبخندقهم الذي حفروه ليحول بينهم وبين هؤلاء الغزاة.

الآية الحادية عشرة قول الله تعالى: ( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ) البلاء من جملة معانيه وأوجه معانيه الإمتحان. (هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ ) امتحنوا من قبل الله عز وجل (وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا ) أي اختضّوا في أنفسهم وفي أعصابهم وأبدانهم.

الآية الثانية عشرة قوله جل وعلا: ( وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ) المنافقون هم المشككون المترددون دائماً الذين لا يصدقون لا مع الله ولا مع رسوله ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ) من عدم الإيمان وهو الشرك بالله ( وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ) هم لا يصدّقون لا وعد الله ولا وعد رسوله.

الآية الثالثة عشرة قول الله جل وعلا: ( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا )

 ( وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ ) طبعاً المنافقون ( يَا أَهْلَ يَثْرِبَ ) يا أهل المدينة ( لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) لا مكان لكم هنا فارجعوا إلى دوركم ( وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ ) يطلبون منه الإذن ( يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌٌ ) أي إنها مكشوفة وغير محصنة ( وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ) هم يكذبون ( إِن يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا ) هم يريدون الهرب فقط من شدة الخوف والفزع.

الآية الرابعة عشرة قول الله جل وعلا: ( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا )

 ( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ ) الفتنة هنا بمعنى الشر أوالخيانة ( ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ ) هنا ( لآتَوْهَا ) أي لفعلوها وسلّموا المدينة إلى الداخلين أو الغزاة. أما قوله تعالى ( وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا ) أي لو حصل ذلك منهم لما استقروا في المدينة إلا قليلاً لأن الله سيقتلهم شر قتلة.

وقوله جل وعز في الآية الخامسة عشرة: ( وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولا ) أي كانوا عاهدوا الله وأقسموا الأيمان أنهم (لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ) أي لا يديرون ظهورهم في الحرب لعدوهم بل يواجهونه ( وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً ) أي يتحملون مسؤوليته وجوباً في الدنيا والآخرة.

الآية السادسة عشرة قوله تعالى: ( قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ) فقل لهم يا رسول الله  لن ينفعكم هروبكم إن هربتم من الموت من مواجهة الموت أو القتل ( وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ) لأن الموت أو القتل سيدرككم بشكل أو بآخر.

الآية السابعة عشر قوله جل وعز: ( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا )

 ( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ ) طبعاً إجابةً على اعتقادهم أنهم إذا فرّوا من الموت أو القتل أنهم ينجون ( قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) من ذا الذي يعصمكم يحفظكم من الله، يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءً أو أراد بكم رحمة ( وَلا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ) لا ولياً يحفظهم ويحميهم ولا نصيراً ينصرهم.

الآية الثامنة عشر قوله جل وعز: ( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا )

( قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ ) أن الله يعلم يقيناً ( الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ ) المثبطين إخوانهم المقاتلين (وَالْقَائِلِينَ ) لهم ( هَلُمَّ إِلَيْنَا ) أي أقبلوا إلينا وتخلوا عن محمد (ص) وعن المسلمين وهم ( وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ أي القتال إِلا قَلِيلا ) يأتونه رياءً وسمعةً.

الآية التاسعة عشر قوله تبارك وتعالى: ( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا )

 ( أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ ) بخلاء بالإنفاق على أهل الحرب على المسلمين ( فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ ) أي جاءت الحرب ( رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ) ينظرون إليك يا رسول الله يريدون أن يحتموا بك ( تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ ) تزيغ أعينهم ( كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ) كالذي هو في نزع الموت في النزع الأخير ( فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ ) ذهب خطر الحرب وذهبت أهواله ( سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ ) سلقوكم آذوكم بألسنة سليطة (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ ) على كل خير بخلاء بكل خير  ( أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ ) أي لا ثواب لهم لأن جهادهم بدون إيمان فلا يستحقون الثواب وكان ذلك على الله يسيراً.

الآية العشرون قوله جلّ وعزّ: ( يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا )

 ( يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا ) يظنون أن الاحزاب ما زالوا محيطين بهم وأنهم لم يذهبوا إلى مكة، لم يرجعوا إلى بواديهم وإلى مكة ( وَإِن يَأْتِ الأَحْزَابُ ) وإذا أتى الأحزاب حقيقةً (يَوَدُّوا يودُّ هؤلاء المنافقون لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ ) في البادية في البوادي في الأعراب ( يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ ) ماذا حصل للمسلمين لمحمد (ص) ولأتباعه هل قتلوا؟ أم أنهم ما زالوا أحياء ( وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا ) أي ما قاتلوا إلا قتالاً يسيراً لأنه ليس لله جل شأنه وإنما يقاتلون رياءً وسمعة.

وننتقل إلى الآية الإحدى والعشرون إلى قول الله جل وعلا: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا )

 يقول يخاطب المؤمنين: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) أي تأسّوْا برسول الله تمثّلوا به قال أحدهم:

وإن الألى في الطّفّ من آل هاشم ٍ                     تآسوْا فسنّوا للكرام التآسي

أي واسى بعضهم بعضاً في القتال وفي بذل النفس. فإذاً ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) مثلاً كان لكم مثلٌ طيبٌ ( لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ ) لمن كان يرجو الخير عند الله في الدنيا وفي الآخرة  واليوم الآخر ( وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) وقلنا في ذكر الله الكثير أن لا ينس الله أبداً وأن الله معه مع الإنسان أينما كان.

الآية الثانية والعشرون قول الله تبارك وتعالى وفيها يثني على المؤمنين: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إيماناً و تسليماً )

أي تماماً بخلاف المنافقين والجبناء ( وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ) صدّقوا ما وعد الله وما وعد رسوله وقالوا ( وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) بينما المنافقون قالوا ( مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ) فإذاً وبقية الآية ( وَمَا زَادَهُمْ ) وما زاد المؤمنين إلا إيماناً بالله وتسليماً له ولرسوله.

الآية الثالثة والعشرون قوله جل وعز ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) كذلك ثناء على نوعية خاصة ومهمة من المؤمنين الصادقين مع ربهم ومع رسول الله (ص) الصادقين في دينهم ويقينهم، هم رجالٌ من المؤمنين ( صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) من الثبات والصمود وعدم الفرار من القتل أو الموت ( فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ ) قضى نحبه قتل واستشهد ( وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ) ينتظر القتل أن يقتل في سبيل الله شهيداً ( وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ) وما غيّروا مواقفهم ولا عقيدتهم في الله وفي حفظه لهم وفي تأييده لهم وفي إعطاءهم شرف الشهادة أو السلامة، يعني النصر أو الشهادة.

الآية الرابعة والعشرون قوله تبارك وتعالى: ( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا )

( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ ) من المجاهدين ( بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء) إذا تاب هؤلاء المنافقون وصدقوا مع الله وندموا على ما فات فإن الله  يتوب عليهم (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا ) لمن يتوب التوبة النصوح ولمن يستغفر الله. قال رسول الله (ص): ما أمركم الله  بالإستغفار إلا  ليغفر لكم ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا).

الآية الخامسة والعشرون قوله جلّ وعزّ: ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) أي وردَّ الذين كفروا من الأحزاب المشركين من أهل مكة وحلفائهم من عامة أهل الشرك، ردّهم بغيظهم حانقين غاضبين لهزيمتهم النكراء ( لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ) بل أحاط بهم الشر من كل جانب ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ) كفى الله المؤمنين القتال نصر عبده وأعزّ جنده وهزم الأحزاب وحده فلا قوة إلا بالله ولا إله إلا الله وحده وحده وحده.

الآية السادسة والعشرون قوله جلّ وعزّ: ( وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا )

(وَأَنزَلَ الله الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم ) الذين أعانوهم الذين أعانوا الأحزاب أي اليهود، هم الذين حالفوهم بعد أن خانوا عهد رسول الله (ص) وهم يهود بني قريظة ( وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم ) أنزلهم ( مِن صَيَاصِيهِمْ) أي من حصونهم ( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ) طبعاً بعد أن هزم الله الأحزاب في الخندق حول المدينة أمر الله المسلمين وقد أصبحوا قادرين وحدهم على قتال بني قريظة فذهبوا وحاصروا حصنهم وأنزلوهم من صياصيهم يقول الله عزّ وجلّ ( وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ ) من حصونهم هو الله وحده ( وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ أيها المسلمون وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ) وكان الله جلّ وعزّ قد أذن لمحمد أن يسمح لسعد ابن معاذ، وكان سيد الأوس في المدينة وكان حليف اليهود حليف بني قريظة بشكل خاص في الجاهلية، فحكّمه رسول الله (ص) في هؤلاء اليهود بعدهم رضُوا أن ينزلوا على حكم سعد، فحكم فيهم سعد وكان جريحاً مشرفاً على الموت، حكم بقتل الرجال وبسبي النساء والذرية وبمصادرة الأموال، وهذا ما نُفّـذ حرفياً في المدينة وكان رسول الله عندما سمع  حكم سعد فيهم  كبّر ثلاثاً وقال: والله إنه لحكم الله فيهم من فوق سابع سماء.

ثم الآية السابعة والعشرون قوله جل شأنه: ( وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) طبعاً متابعاً وصف بعض التفاصيل عن هذه الواقعة (وَأَوْرَثَكُمْ ) أيها المؤمنون أيها المسلمون المجاهدون أرض بني قريظة وحصنهم وديارهم وبساتينهم وأموالهم ( وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا) أي يعني بذلك أرض حصن خيبر الذي لم يكن قد فُـتح بعد وعد به المسلمون ( وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ) واضح فإنه سبحانه وتعالى لا يعجزه شيءٌ في السموات ولا في الأرض. وهذه القصة أو الواقعة هي للإستفادة الجليلة منها وللإعتبار وخلاصتها أن لا يقنط المؤمنون الصادقون مع ربهم، الصادقون بدينهم في أي زمن وفي أي مكان ولو كانوا قلةً قليلة العدد، قليلة السلاح، ضعيفة الموقع، فإن الله تعالى يبتلي المؤمنين غالباً بكثرة أعدائهم ولكن إذا صدقوا وصمدوا فإنه سبحانه ينصرهم لا محالة، إما بسلاحهم، وإما بقوةٍ من عنده من الملائكة أو عناصر الطبيعة من قصفٍ وخسفٍ ورياح عاتية وغير ذلك. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإنه جل وعلا يميز الخبيث منهم والطيب، والصادق الإيمان والمنافق، ليجزي كل واحد بموجب اعتقاده في الدنيا والآخرة.

 ثم ينقلنا الله عزّ اسمه من أجواء الحرب مع الأحزاب ومع يهود بني قريضة الى الآية الثامنة والعشرين وآياتٍ بعدها وفيها كلام عن بعض خصوصيات محمد (ص).

يقول الله ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا )

وقول الله تبارك وتعالى ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ) مخاطباً رسوله محمداً (ص)( قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ) وكان قد وقع خلافٌ إشكالٌ بين رسول الله وبين زوجاته، فكان بنتيجته أن أمره الله جلّ وعلا أن يخيرهنّ بين أن يتبْن إلى الله توبةً نصوحاً وأن يخترْن بين الله ورسوله أو أن يطلقهنّ رسول الله صلوات الله عليه وآله فإذاً (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يعني الطلاق وَزِينَتَهَا ) ( فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ ) أعطيكن ما يأذن الله به من المتاع (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ) وأطلقكن.

( وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) الآية التاسعة والعشرون. يعني( كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) أي البقاء بدون طلاق يعني أنكن لا تردن الحياة الدنيا وإنما تردن الآخرة ( فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ ) هيّأ ( لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ) وسيأتي تفصيل ذلك في الآيات اللاحقات.

في الآية الثلاثين قوله جل وعز: ( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا )

( يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ ) بذنبٍ أو خطيئةٍ ما واضحةٍ عليها البينة (يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ) أي إذا كان العذاب واحداً على غيرهن من النساء، يصبح عليهن ثلاثة أمثال لأن ضعف الشيء مثله أي إثنان، وضعفا الشيء ثلاثة.

 ثمّ قوله تبارك وتعالى في الآية الواحدة والثلاثين: ( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا )

 فقوله تعالى: ( وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ) أي يا نساء النبي (وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ ) يطع منكن الله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين نؤتها أجرها مضاعفاً كذلك ( وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ) أي هيّأْنا لها أعددنا لها رزقاً كريماً في الدنيا وفي الآخرة. روى حمزة الثمالي عن زيد ابن علي (ع) أنه قال: “إني لأرجو للمحسن منا أجرين، وأخاف على المسيء منا أن يضاعف له العذاب ضعفين كما وُعد أزواج النبي”.

ثم الآية الثانية والثلاثون وما زلنا في سورة الأحزاب قول الله جلّ وعزّ: ( يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا )

 قوله تبارك وتعالى: ( فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ ) أي لا تُلِيّـن الكلام وتظهرن بشخصيات ضعيفة، وهذا الأمر فريضة على كل إمرأة مسلمة، وهو ألاّ تظهر الرّقة والتميّع أمام الرجال الأجانب. أما قوله تبارك وتعالى ( فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) أي في قلبه نفاق وفجور ورغبة الزنى (وَقُلْنَ قَوْلا مَّعْرُوفًا ) أي الجدية في الموقف والجدية في الكلام.

ثم الآية الثالثة والثلاثون قوله جلّ وعزّ: ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا )

قوله تعالى: ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ) أي وامكثن في بيوتكن واثبتن في بيوتكن أي لا تخرجن إلا لضرورةٍ قصوى ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) ( وَلا تَبَرَّجْنَ ) التبرج هو الظهور أمام الناس وأمام الرجال بشكل مكشوف أو بشكل فيه شهرة. والتبرج من البرج، البرج المكان العالي، فإذاً ( وَلا تَبَرَّجْنَ ) يا نساء النبيّ تبرج الجاهلية الأولى حيث كان الناس في الجاهلية النساء يخرجن ولا يتقيدن بحجابٍ ولا يتقيدن بسترٍ ولا حشمةٍ زائدة. وقوله تعالى (تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ) ليس قبل الجاهلية التي كانت قبل الإسلام جاهلية ثانية نعلمها فإذاً يكون المقصود الجاهلية الثانية التي تفلّت فيها الناس عن وصايا الله تبارك وتعالى ومن دينه ومن تعاليمه في أنحاء الأرض وهي هذه التي نشاهدها اليوم ونحن في القرن الخامس عشر الهجري وفي القرن الواحد والعشرين الميلادي، فإذاً هي الجاهلية الثانية بما فيها من أوصاف نافرة وبما فيها من شذوذ عن العرف وعن التقاليد وعن التعاليم، التعاليم السماوية بشكل عام سواء كان في التوراة أو في الإنجيل أو في القرآن المجيد. وقوله تعالى (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) واضح ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) هذه خصوصية لأهل البيت سلام الله عليهم، وهم كما ورد في النصوص و كما هو التحقيق في التفاسير وفي التاريخ، إنما نزلت في أهل بيت رسول الله وهم علي ابن أبي طالب ابن عمه وابنته فاطمة الزهراء وولديه منها الحسن والحسين سلام الله عليهم، وطلب النبي (ص) من أم سلمة كساءً فجاءته به فطرحه على نفسه وعلى أهل بيته هؤلاء ودعا الله دعاءً فنزلت هذه الآية ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ) ولقد أّذهب الله تبارك وتعالى عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

ثمّ ننتقل إلى الآية التي بعدها الآية الرابعة والثلاثين قوله جلّ وعزّ: ( وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا )

عودٌ إلى نساء النبي ( وَاذْكُرْنَ يا نساء النبي مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) ما يتلوه رسول الله (ص) وما تَرَيْنه من الحكمة في سلوكه وسنته (إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ) محيطاً بما تفعلن وبما تحفظن وبما تسمعن.

الآية التي بعدها الآية الخامسة والثلاثون: ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ) مفردات هذه الآية الكريمة واضحة وقد ذكر الله طبعاً كما سمعنا الصفات المحببة عنده للمسلمين والمسلمات، ووعدهم بأن لهم منه في الدنيا والآخرة مغفرةً وأجراً عظيماً، ولاسيما أجرهم في الآخرة حيث الخلود في نعيمه ورحمته ورضاه ورضوانه.

ثمّ قوله جلّ وعزّ في الآية السادسة والثلاثين: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا )

فإذاً ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ) أي إذا أوجب الله ورسوله أمراً، وألزماه وحكما به أن يكون لهم الخيرة أي الإختيار من أمرهم على اختيار الله تعالى، والمعنى أن كل شيءِ أمر الله تعالى به أو حكم به  فليس لأحدٍ مخالفته وترك ما أمر به إلى غيره. وقوله تعالى ( وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا ) أي جنح عن الحق إلى الباطل والضلال المبين هو الضلال البعيد الذي ليس بعده هداية.

الآية السابعة والثلاثون قوله تبارك وتعالى: ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا )

 ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ) أي زيد بن حارثة وقد أنعم الله عليه بالهداية والاسلام وأنعمت عليه بالتبني سابقاً وبالعتق تقول له ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ) أي لا تطلقها ( وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ ) وهو وعد الله لك بها يا رسول الله (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ) أي لمّا قضى زيدٌ حاجته من نكاحها ولم يكن في قلبه ميل إليها ولا وحشة من فراقها فطلقها، فجئت يا رسول الله تقول له ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ) يا زيد. فإذاً قول الله تبارك وتعالى: ( زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا)  ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ) بأن غيّر هذه العادة التي كانت في الجاهلية وهي أن يحرّم الرجال على أنفسهم أزواج أدعيائهم أي أزواج الذين تبنَّوْهم وادّعوهم لأنفسهم بغير حق، والواجب أن ينسبوهم إلى آبائهم الحقيقيين. ولكي يؤكد الله تعالى إبطال هذه العادة التي كانت في الجاهلية، جعل لها نموذجاً أولياً هو رسول الله (ص) ليكون قدوةً في الناس والمسلمين فيما بعد، فألهم زيداً ابن حارثة طلاق زوجته زينب وأمر رسول الله بالزواج منها وكان قد وعده بها سبحانه.

الآية الثامنة والثلاثون قوله تبارك وتعالى: ( مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا )

( مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ ) ما كان عليه من ضيق لأنه نفّذ أمر الله جلّ وعزّ فيجب أن يكون مرتاحاً لتنفيذ أمر الله ولتبليغ رسالته ( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ) أي فرض له سنة النبيين الذين مضوا من قبل ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا ) ( قَدَرًا مَّقْدُورًا ) أي أمراً قضاءً محكماً مفصّلاً على قدر حاجات الناس في سلوكهم وفي علاقاتهم الإجتماعية بما فيه مصالحهم وبما فيه رضا الله عليهم في الدنيا والآخرة.

ثمّ قول الله تبارك وتعالى في الآية التاسعة والثلاثين: ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) أي كفى بالله كافيا، إن الله تبارك وتعالى يتعامل مع الذين يبلغون رسالاته ويخشونه ولا يخشون أحداً غيره من خلقه، ويتحملون أذى المؤذين وتكذيب المكذبين وافتراء المفترين وتجريح المجرّحين، يتحملون كل هذا في سبيل الله راضين بالله وهم في عينه وفي رعايته، فإذا فعلوا ذلك فالله هو حسيبهم في الدنيا والآخرة أي كافيهم يدفع عنهم ويحفظهم ويعزهم ويكرمهم وينصرهم في النهاية نصراً عزيزاً. وهذا بعض معنى قوله جلّ وعزّ ( وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) أي كفى بالله كافياً من جميع جهات النبي أو الرسول الذي كلّـفه وأرسله.

ثمّ قوله تبارك وتعالى في الآية الأربعين: ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )

وقوله تعالى: ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ) أي ما كان أبا زيد الذي كان ادّعاه قبل أن يُنبّأ وإنما زيدٌ هو ابن حارثة ابن شراحيل، وقد أنزل الله ما يصحح هذا الوضع الذي كان في الجاهلية ( مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) فقوله تبارك وتعالى: ( وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) ولم يقل خاتم المرسلين، وفي ذلك تأمل على أساس أن النبيين قد لا يكونون مرسلين، فليس كل نبيٍ رسول ولكن كل رسولٍ هو نبيٌ بالضرورة. وقد استفاد بعض العلماء والأولياء هذا الفارق من قول الله تعالى في سورة الجمعة ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ، وآخرين منهم لمّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ) وقوله تعالى ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ليس لها تفسير واضح، إلا أن يكون بعث رسولاً في الأميين وآخرين من الأميين أي ورسلاً آخرين من الأميين ( لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) أي لم يظهروا فيهم بعد، وتلزم النحويون بهذا الفهم كلمة ( لمّا ) التي هي محور كل هذا الكلام وقوله تعالى ( وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ) معناها لمّا يلحقوا بهم زمن محمد (ص) ولكن سيلحقون بهم بعد زمن محمد صلوات الله عليه وآله وإلى قيام الساعة. وقوله تعالى (وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) أي بكل شيء محيطاً في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل وفي كل شيء كان قبل أن يكون.

ثمّ الآية الإحدى والأربعون قوله جلّ وعزّ: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) الذكر الكثير هو ألا تنساه أبداً.

ثمّ بعدها الآية الثانية والأربعون: ( وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ) والتسبيح من جملة  ذكر الله، وفيه  تنزيه الله تعالى عما لا يليق به. قيل جاء جبرائيل (ع) إلى رسول الله محمد (ص) قال: يا رسول الله يا محمد قل: ” سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله عدد ما علِمْ وزنة ما علِمْ وملء ما علِمْ ” فإن من قالها كتب الله له بها ست خصال، كُتب من الذاكرين الله كثيراً، وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار، وكُنّ له غرساً في الجنة أي هذه الكلمات وتحاتت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة، وينظر الله إليه ومن نظر الله إليه لا يعذبه.

 ثمّ قوله جلّ وعزّ في الآية الثالثة والأربعين: ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) الخطاب هنا ما زال للذين آمنوا (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ ) أي الله تبارك وتعالى يصلي عليكم أيها الذين آمنوا، والصلاة من وصل الفعل الثلاثي يصل وهي من الصلة، فهو يصِلكم الله تبارك وتعالى بحفظه و برعايته وبهدايته وبتسديده وبما فيه صلاحكم في الدنيا والآخرة. هذا بعضٌ من معنى قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) أي ليكون الملائكة معكم حفظة. وسنرى بعد قليل بعد هذه الآية أنه سيصلي، الله عز وجل سيصلي وملائكته على محمد و آل محمد وذلك في الآية السادسة والخمسين من نفس هذه السورة سورة الأحزاب. فالله عز شأنه إذاً كما يصلي هو وملائكته على المؤمنين والمؤمنات كما في نص هذه الآية هو وملائكته، كذلك يصلي على محمدٍ وآل محمد، والعكس صحيح كما يصلي على محمد وآل محمد يصلي كذلك على الذين آمنوا ليخرجهم من الظلمات إلى النور (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ) بعامة المؤمنين.

ثمّ قوله جلّت عظمته: ( تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ) أي تحية المؤمنين لبعضهم بعضاً يحيي بعضهم بعضاً يوم يلقون رحمته في جنته. و (سَلامٌ ) السلام من كل آفة، والسلام بمعنى الراحة التامة في رضى الله ورحمته ورضوانه.

ثمّ قوله جلّ وعزّ في الآية الخامسة والأربعين: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) أي شاهداً على قومك ومبشراً بنعيم الله وبعطاءاته وبالأجر العظيم عنده للمطيعين الشاكرين وللموحدين ونذيراً للكفرة والفجرة والمشركين والمنافقين.

الآية السادسة والأربعون: ( وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ) أي داعياً إلى الله لا إلى نفسه، إفتخرَ بالعبودية ولم يفتخر بالنبوة، ليصحّ له بذلك الدعاء إلى سيده فمن أجاب دعوته، صارت له الدعوة سراجاً منيراً.

ثم قوله جلّ وعزّ في الآية السابعة والأربعين: ( وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا ) فضلاً زيادةً تفضلاً منه تعالى جوداً وكرماً.

الآية الثامنة والأربعون: ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا )

وقوله تعالى: ( وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ ) فسرناه في أول السورة ثمّ قوله تعالى ( وَدَعْ أَذَاهُمْ ) أي دع أذاهم في قتالٍ أو ما يشبه ذلك وكان هذا قبل أن يؤمر بقتالهم، وقوله تعالى (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ) أي واعتمد على الله وفوض أمرك إليه وكفى به سبحانه حافظاً وولياً ونصيراً.

ثمّ في الآية التاسعة والأربعين تابع في تعاليمه الشريفة سبحانه قوله: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ) إذا عقدتم عليهن ( ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ) من قبل دخولكم عليهن ( فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ) لأنكم لم تمسّوهن. فإذاً (مَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ) هذا إذا لم تكونوا قد سميتم صُداقاً أي مهراً، فإذا كنتم سميتم مهراً فلها نصف المهر، وإذا لم تكونوا سميتم شيئاً فمتّعوهن بمالٍ أو متاعٍ كلٌ على قَدَرِهِ وقدْره. وقوله تعالى ( وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ) أي بالتفاهم والتراضي وإذا أمكن بدون تعقيدات.

ثمّ قوله جلّ وعزّ في الآية الخمسين: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )

قوله تبارك وتعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَيْكَ ) أي من الغنائم والأنفال، وكانت من الغنائم ماريا القبطية أم إبراهيم ومن الأنفال صفية وجويرية أعتقهما (ص) وتزوجهما (وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ ) ثم نسخ شرط الهجرة في التحليل (وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا ) أي وأحللنا لك امرأة مصدقةً بتوحيد الله تعالى فإن كانت خلاف ذلك فلا تحل لك.

ثمّ الآية الواحدة والخمسون قوله تعالى الآية الواحدة والخمسين: ( تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا )

 وقوله تعالى: ( تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ ) أو تؤجل من تشاء ( وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء) وتلجئ إليك تستدعي إليك من تشاء ( وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) ثمّ إذا أردت إحداهن من اللواتي عزلتهن ( فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ) فلا إثم ولا لوم، أباح الله له سبحانه ترك القسم بين النساء وقد فضله الله تعالى بذلك على جميع الخلق. وقوله تعالى ( ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ) فمعناه نزول الرخصة من الله تعالى أقرّ لأعينهنّ وأدنى إلى رضاهن بذلك لعلمهنّ بما لهن في ذلك من الثواب في طاعة الله تعالى، ولو كان ذلك من قِـبَلِك أي من عندك لحزنّ وحملن ذلك على ميلك إلى بعضهن ( وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ ) أي من الميل الى بعض النساء دون بعض ( وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا).

 ثمّ الآية الثانية والخمسون قوله تبارك وتعالى: ( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ وَلا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا )

( لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاء مِن بَعْدُ ) أي لا يحل لك غير النساء اللائي خيرتهنّ فاخترن الله ورسوله وهنّ تسع نساء وصرت ممنوعاً من غيرهنّ.

وقوله تعالى ( إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ) أي من الكتابيّات.

 ثمّ قوله تبارك وتعالى في الآية الثالثة والخمسين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا )

( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ ) واضح ( إِلا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ ) إلا اذا دُعيتم إلى طعامٍ دون أن تنتظروا نُضجه حتى يصبح صالحاً للتّناول (وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ ) إذا أكلتم ( فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ) أي تفرقوا أخرجوا من الدّار من البيت ( وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) متنصتين لحديثٍ ( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُم ) كان منهم من يأكل ويقعد فيستريح في الدار ويستمع إلى ما يجري من كلام وكان ذلك يؤذي رسول الله (ص) فيخجل أن يقول لهم أخرجوا. والله يقول الله عزّ وجلّ (واللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ) أي لا يترك إظهار الحقّ، وقوله تعالى ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا ) أي غرضاً من الأغراض ( فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَاب) أي من وراء سترٍ يسترهنّ عنكم (ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) واضح ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ ) أي من بعد فراقه لهنّ بالموت أو بغير الموت ( إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمًا ) أي إنّ مخالفة ذلك كان عند الله إثماً عظيماً.

الآية الرابعة والخمسين: ( إِن تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )

ثم قوله تبارك وتعالى في الآية الخامسة والخمسين: ( لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا )

 ( لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ ) لا إثم عليهنّ (فِي آبَائِهِنَّ واضح وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاء أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ ) يريد في نِسَائِهِنَّ يريد نساء المؤمنين لا نساء اليهود ولا النصارى  فيصفن نساء رسول الله لأزواجهنّ. ثم قوله: ( وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ ) يعني من خصيان العبيد والإماء، لأن الخصيّ ليس له شهوة الرجال ( وَاتَّقِينَ اللَّهَ ) يا نساء الرسول اتقين الله من تمكين الرجال من مشاهدتكنّ ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ) العزّة لله ولله الحمد.

الآية السادسة و الخمسون قوله جلّ وعزّ: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) وقد ذكرنا كيف يصلّي الله جل شأنه و كيف تصلّي ملائكته على المؤمنين في تفسيرنا للآية الثالثة والأربعين من نفس هذه السورة سورة الأحزاب. وقوله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ ) أي بقولكم اللهمّ صلّ على محمد و آل محمد (وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) أي بالدّعاء وفيه “السّلام عليك يا رسول الله”.

الآية السابعة و الخمسون: ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) وهم الذين يصفون الله تعالى بما لا يليق به و يكذبون عليه وعلى رسوله. والحق أن الله تعالى لا يلحقه أذىً ، إنّما يعتبر إلحاق الأذى برسوله بمثابة الأذى لعزّته تكريماً و تشريفاً لرسوله . أمّا قوله تعالى ( لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ) أي أبعدهم من رحمته هؤلاء الذين يؤذون رسول الله أبعدهم من رحمته في الدنيا وفي الآخرة طبعاً ( وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا ) العذاب المهين هو العذاب الذي فيه إهانة و إذلال مخلدين فيه .

الآية الثامنة والخمسون قوله تبارك وتعالى: ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا ) قوله تعالى ( بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا ) أي بدون أن يفعلوا ما يوجب أذاهم والبهتان هو الكذب على الغير يواجه به ( وَإِثْمًا مُّبِينًا ) إثماً عظيماً.

 وقوله تعالى في الآية التاسعة والخمسين: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا )

قوله تعالى: ( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ) الجلابيب واحدها  جلباب وهي الثّياب و القميص والخمار وما تتستر به المرأة ( ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ ) فقوله تعالى ( يا أيها النبيّ ) هذه الآية منسوخة بقوله في سورة النور بالآية الإحدى والثلاثين: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ… ) الى آخر الآية المعروفة من أراد فليراجعها.

الآية الستون: ( لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ) لئن لم ينته المنافقون عن أذاك وعن رميك بالكذب وكذلك الّذين في قلوبهم مرض من الشرك، ( وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ ) المفترون بإشاعة الأخبار ( لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ) بقتلهم ( ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا ) أي في المدينة لأنّ الله سيقتلهم شرّ قتلة.

الآية الواحدة والستون: ( مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا ) أينما ثقفوا أينما وجدوا.

( سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا ) في الّذين خلوا من قبل  في الذين سبقوهم  دمّر الله عليهم و أبادهم.

الآية الثّالثة والستون: ( يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا )

 الآية الرابعة والستون: (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ) السعير النار

الآية الخامسة والستون: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا )

الآية السادسة والستون: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا)

 ثمّ بعدها الآية السابعة والستون: ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) السّادة والكبراء هم علماء الضّلالة والقادة بشكل عام.

الآية الثامنة والستون: ( رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا )

 الآية التاسعة والستون: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) ( آذَوْا مُوسَى ) من حيث أنّهم نسبوه الى السّحر والجنون والكذب ( وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا ) أي رفيع القدر والمنزلة.

الآية السّبعون: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا )

الآية الواحدة والسّبعون: ( يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)

الآية الثانية والسبعون: ( إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا )

ثمّ الآية الأخيرة الآية الثّالثة والسّبعون: ( لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) قوله جلّ وعزّ إنا عرضنا الأمانة الآية الأمانة هي معرفة أن الله وحده هو مالك المُلك خالق الخلق باسط الرزق له المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو على كل شيء قدير.