سورة الزمر

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الزمر ورقمها تسع وثلاثون وآياتها خمس وسبعون، ( لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ). ). وأقرأ من السورة خمس آيات الآيات الأول.

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

( تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ، إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ، أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ، لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأِجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ).

قوله تبارك وتعالى: ( تنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ ) العزيز الأحد الذي ليس كمثله شيء، والحكيم المعلم الحكمة، والمعلم الحكمة والحكيم فيما يفعل وفيما يقول، وتنزيل الكتاب هو تنبيه إلى عظمة الكتاب وإلى أهمية الكتاب الذي هو القرآن المجيد.

والآية الثانية: ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) تأكيد على التنبيه على عظمة الكتاب، الآية الثانية أنزلناه إليك يا محمّد بالحق وبعدُ يا كلَّ مسلم ويا كلَّ مؤمن بكتاب الله ( إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ) أي مخلصاً له الدين مخلصاً له من شرك الأوثان، ومن شرك الناس البشر، أن تشركهم بالله تعبدهم وتتخذ منهم آلـهة أو أشباه آلـهة وكذلك الأصنام.

 ( أَلاَ لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ) الدين الذي لا يخالطه رياء ولا سمعة، الدين الخالص هو الذي ليس فيه بدع، والدين الخالص هو الإعتقاد الواجب في التوحيد والعدل والنبوة والشرائع والإقرار بها والعمل بموجبها.

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ) وهي الآية الثالثة ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ) من دون الله أي أنهم يعتقدون اتخذوا أولياء يعتقدون فيهم الألوهة أو الخلود في الدنيا يقولون ( ما نعبدهم ) طبعاً هنا تضمين في القول ( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ) يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى أي أنّا نتقرب بهم إلى الله نتقرب بعبادتهم إلى الله. الله عز وجل يقول: ( إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) والحكم طبعاً يكون على كذبهم وعلى زعمهم ودعواهم ( إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ) تنبيه أي إن الله لا يهدي المصرِّين على ولاية غير الله لا يهديهم إلى الحق .

الآية الرابعة: ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ).

وقوله تعالى: ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ) على ما يزعمه هؤلاء من زعمهم أن الملائكة بنات الله، ومن زعمهم أن المسيح ابن الله على قول النصارى، وأن عزيراً هو ابن الله على زعم اليهود، وعلى زعم من يزعم من غيرهم من أن في بعض أولياء الله نسبة من الألوهة، فلذلك هم يتعبدون لهم ويدعونهم ويسألونهم حاجاتهم ويسألونهم الشفاعة، علماً أن السؤال والطلب والدعاء لا يجوز أن يكون إلاَّ لله وحده سبحانه، الله عز وجل يقول: ( لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاء ) لاختار من خلقه ما يريد سبحانه بل هو منزّه عن ذلك وهو عالٍ علواً كبيراً عن مثل هذا الإفتراض وهو الله الواحد القهار بوحدانيته وبعزته وبحاكميته.

الآية الخامسة: ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ) جاء في القرآن كذلك في هذا المعنى ( يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا سورة الأعراف الآية 54) وجاء ( يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ سورة الحديد الآية 6). ثم قوله تبارك وتعالى: ( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأِجَلٍ مُسَمًّى أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) وسخر الشمس والقمر بأن علقهما دائبين بدون عمد، ولكل منهما فوائده الجسيمة ( أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) العزيز في مقامه، العزيز كما قلنا في حاكميته وفي حكمته وفي خلقه وفي قوته وجبروته ولا تنتهي الصفـات والأسماء الحسنى لله تبارك وتعالى ( أَلاَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ ) الذي مع عزته ومع عظمته ومع جبروته يغفر لمن يستغفره ويتوب على من يتوب إليه ويرحم من استرحمه. وفي الآية فائدة أنّ من قدِر على خلق السماوات والأرض كما قال الله تبارك وتعالى، ومن قدِر على تسخير الشمس والقمر بالحال الذي نراه والحال الذي قلناه، وبإدخال الليل في النهار والنهار في الليل، وهو منزه عن اتخاذ الولد والشريك فإنّ ذلك من صفة المحتاجين .

 ننتقل إلى الآية السادسة طبعاً وما زلنا في سورة الزمر قوله تبارك وتعالى: (خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ).

وقوله جلَّ وعلا: ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ) أي من آدم ( ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ) أي حواء أما قوله تعالى: ( خَلَقَكُم ) مخاطباً البشرية فإنه سبحانه خلق الذّرّية خلقكم ذرّيةً في صلب آدم، وليس مهماً أن نعلم إن كان سبحانه خلق حواء قبل الذريـة أو خلق الذرية قبل حواء. ( وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ) الأنعام مذكورة أصنافها في سورة الأنعام وهي الإبل الجمال والبقر والضأن الغنم والماعز ومن كل صنف من هذه الأصناف خلق ذكراً وأنثى، ولأهمية هذا الخلق ـ خلق الأنعام ـ ذكر ذلك ضمن كلامه تبارك وتعالى عن خلق البشر، وواضح أنّ الأنعام رافقت البشرية منذ بدء الخليقة وما زالت وستبقى إلى قيام الساعة ويبدو أنه لا غنى عنها لمدى منافعها للبشر، وأما قوله تبارك وتعالى: ( يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ) وهذا من أعاجيب خلقه ومن أعاجيب آياته أنه خلق الإنسان خلق هذه الخلائق في الظلمات، النطف في ظلمة أصلاب الرجال أصلاب الذكور، وثم ظلمات الأرحام، ثم ظلمات البطون، فهو خلق الإنسان كما هو منصوص عليه في القرآن الكريم وكما هو معلوم علمياً بعد ذلك من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم من عظام ثم كساه لحماً ثم أخرجه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين، هذا الخلق الذي هو على أجمل ما يكون وعلى أحسن ما يكون وعلى  أدق ما يكون من عجائبه أنه سبحانه خلقه في الظلمات، بينما الإنسان إذا أراد أن يقلد هذا الخلق على هامش الخلق، على هامش القوانين الإلـهية المعقدة والعجيبة، فإنما يلجأ الإنسان إلى أقوى الأشعة وأقوى الإضاءة ليسلّطها على ما يحاول أن يضعه تحت عين المختبر أو تحت عين المجهر مشتغلاً بالخلايا وأعاجيب خلقها وتعقيداتها وقوانينها الإلـهية. فإذاً ( خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ). فإذاً الله عز وجل الذي خلق هذه الخلائق بملياراتها عبر عمر البشرية من نفس واحدة، والذي خلق الأنعام يتداولونها ويتعاملون معها وينتفعون بها في عمر البشرية وإلى قيام الساعة، والذي خلق هذه الخلائق في ظلمات ثلاث وهذا من أعاجيب خلقه وآياته، من يفعلُ ذلك غير الله؟ ( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ ) له ملك العالم وله ملك الكون وله ملك كل شيء ( لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ) أتفترضون إلـهاً غير الله؟ فماذا خلق الآلـهة التي تزعمون أنهم آلـهة؟ ماذا خلقوا من هذا الخلق الذي ذكره الله تبارك وتعالى؟ فأين تذهبون؟ وأنَّى تُؤفكون وكيف تكذبون؟ تكذبون على أنفسكم  وتكذبون على عقولكم، والحقائق ساطعة، والحقائق واضحة ولا يختلف فيها اثنان عندهم ذرة من العقل.

ننتقل إلى الآية السابعة إلى قوله تبارك وتعالى: ( إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) وبعد هذه الحقائق الواضحة لكل ذي عينين ( إِن تَكْفُرُوا ) أيها الناس بهذه الحقائق وإن تكفروا بعزة الله وبقوة الله وبخالقية الله وبقدرة الله ( إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ) الله غني عن عباده، وإيمانكم لا يزيد شيئاً في خلقه ولا في عظمته ولا في قدرته وإنما هو الإيمان مصلحة لكم (وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ ) وهذا دليل على أنه لا يريد لعباده الكفر لأنه لو أراد الكفر لعباده لرضيه منهم ( وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ) إن تشكروا الله على نعمه وعلى عطاءاته وعلى نعمه العظمى التي لا تعد ولا تحصى، إن تشكروا الله يرضى الشكر لكم ويثيبكم عليه ( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ) أي الوزر هو الحمل، الثقل (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ ) الوازرة النفس أي أنها لا تحمل مثقلةٌ ثقل أخرى، أي لا يؤخذ أحد بذنب غيره، لا يؤخذ الوالد بذنب ولده ولا الولد بذنب والده وهكذا (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) إلى الله المصير فيخبركم تفصيلاً بما كنتم تعملون في الحياة الدنيا ( إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) حتى إنّ علمه تبارك وتعالى يكون بالنوايا، بالفكرة التي تتلجلج في الصدر قبل أن تخرج تصدر إلى الخارج هو عليم سبحانه بها.

إلى الآية الثامنة إلى قوله تبارك وتعالى: ( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) نعوذ بالله ونستجير بالله.

فقوله تعالى: ( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ ) إذا أصابت الإنسان مصيبة أو ابتلي بابتلاء أو أصابه مرض أو أي شيء ممّا يضرّ بالإنسان ( دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ) لجأ إلى الله أناب إلى الله رجع إلى الله، موحداً غير معتمد ومتوكل على أحد غيره ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ ) فإذا شفاه وعافاه وخوّله نعمة، التخويل الهبة الكبيرة والعطاء الكبير ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ ) من الله عز وجل ( نَسِيَ الإنسان مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ) نسي الله ونسي الموضوع الذي كان يدعو إليه من قبل ( وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا ) جعل لله شركاء، الندّ هو الشبيه هو المساوي، فلان قوي مثلك أو عنده مثل قوّتك وعنده مثل مالك، وعنده مثل علمك فهو ندٌّ لك فإذا ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ) نعوذ بالله يجعل لله أمثالاً ويجعل لله خلقاً من خلقه، يعتبرهم مثل الله في قدرته وفي نعمه وفي خلقه وفي عطاءاته وفي هيمنته على الكون ( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ ) فمن يفعل ذلك فقد كفر وجحد بالله وبنعم الله وبقدرة الله وبقيومية الله ( قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً ) من السنين  مهما طال العمر في الحياة الدنيا فهو قليل ( إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ) من المخلدين في العذاب ونعوذ بالله من شر النار ومن عذاب النار.

إلى الآية التاسعة إلى قوله جلَّ وعلا: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) إذاً بعدما ذكر الله عز وجل عن الإنسان الذي يكفر بنعم الله ويجحد بعزته، وأنه يجعل لله الذي يجعل لله أنداداً فيكفر كذلك بأنه لا يقدّر الله حق قدره فيكون من الكافرين، يقارن الله عز وجل هذه النماذج الكافرة الجاحدة بنموذج آخر بالمقابل قوله تبارك وتعالى: ( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ ) أي هل تستوي هذه النماذج من البشر النماذج الكافرة الجاحدة مع من هو قانت آناء الليل ساجداً لله في صلواته وقائماً مجاهداً في سبيل الله ( يَحْذَرُ الآخِرَةَ ) يخاف عذاب الآخرة ( وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ) في الآخرة وفي الدنيا والآخرة ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) قل يا رسول الله يا محمَّد وقل يا قارىء القرآن وقل يا أيها المؤمن يا ولي الله ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ) وصنّف القانت السّاجد لله الذين يصلون صلاة الليل ويتعبدون لله ساجدين وقائمين ومجاهدين في سبيله، صنّفهم من العالمين من العلماء، وقال أنّهم لا يستوون هم والذين لا يعلمون من الذين ذكرهم من الكفرة والجاحدين ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) طبعاً الجواب أنهم لا يستوون ( إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) إنما يتذكر هذه الحقائق ويفصلون بين الحق وبين الباطل أولوا الألباب، أي ذوي العقول الذين يتفكرون ويتدبرون ويتأملون في خلق الله ويستدلون بذلك على وحدانيته وفردانيته وقدرته.

الآية العاشرة: ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) قل يا رسول الله يا محمَّد، وقل يا ولي الله ( قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا ) يا عباد الله الذين آمنوا ( اتَّقُوا رَبَّكُمْ ) خافوه واحذروه، فإنه كما أنه يثيب كذلك يعاقب ( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ) أيها الناس الذين يعملون الصالحات منكم يا عباد الله الذين يعملون الصالحات في هذه الدنيا طبعاً لهم في هذه الدنيا حسنة،  لهم من الله العطاءات والخيرات والبركات والدفع والإمتحانات التي يعينهم فيها على إنجاحهم، لهم في هذه الدنيا حسنة وكذلك في الآخرة ( وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ) فمن شعر منكم بضيق ومن وجد نفسه أنه لا يستطيع لسبب أو لآخر أن يتعبد لله تبارك وتعالى كما يحب الله وكما علم الله فليهاجر فإن أرض الله واسعة فسيجد مراغما كثيراً وسعة كما قال الله تعالى في مكان آخر من القرآن الكريم ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) ولكن إذا كان هذا الإنسان كذلك  لسبب أو لآخر لا يستطيع  الهجرة من المكان الذي هو فيه فليصبر بالله ( إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) وقيل في ذلك أنه عندما تُنشر الدواوين وتُنصب الموازين، لا يُنصب ميزان ولايُنشر ديوان لذوي البلاء إنما يوفّون أجرهم بغير حساب جزاءً لهم بما صبروا بالله وتوكلوا على الله.

ثم قوله تبارك وتعالى في الآية الحادية عشر من سورة الزمر:

( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ) بعد قوله: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَقُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ… قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ، وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي، فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) حتى الآية الخامسة عشرة.

فإذاً ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ) قل يا محمد إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وإخلاص الدين هو تخليصه من كل شائبة ومن كل زيادة، ومن كل ما لم ينزل الله به من سلطان، وهو إخلاص الدين من الشرك ومن البدع. ثم قوله: ( وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ) قول محمد (ص) وأمرت لأن أكون أول المبادرين إلى الإسلام وإلى طاعة الله تبارك وتعالى.

ثم في الآية الثالثة عشرة ( قُلْ يا محمد إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ يوم قيام الساعة قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ) تأكيد على الآية الحادية عشر في قوله: ( قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ ) فهي استجابة من رسول الله (ص) لأمر الله، أمْره مرة ثانية ( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي ) وهو إصرار على تخليص الدين من الشرك، من أنواع الشرك الظاهر وأنواع الشرك الخفي، ومن كل بدعة تُلصق أو تُلحق بهذا الدين الحنيف. يا أيها الناس ( فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ) بعد أن أظهر لكم المطلوب منكم، وهو أن تعبدوا الله كما أعبده مخلصاً له الدين، وأن تبادروا في أي زمن كنتم وفي أي مكان إلى أن يكون أحدكم أول المسلمين، ولتكونوا جميعاً أول المسلمين، لتكونوا جميعاً أولاً أيها العباد يا عباد الله، وأن تكونوا أن تخافوا إن عصيتم الله عزّ وجل عذاب يوم عظيم، والتأكيد ( قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي) وهذا واجب على كل مؤمن وعلى كل مسلم أن يقوله الله أعبد مخلصاً له ديني كما قلنا من كل أنواع الشرك ومن كل أنواع البدع ( فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ) يا أيها الناس ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) هم الذين لم يطيعوا ما أمرني الله به، والذين لم يتأملوا في هذه الآيات البينات هم الخاسرون ( الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) فإذا كان هذا الخاسر هذا النوع من الخاسرين إذا كان أهله في الجنة وهو في النار فقد خسرهم، وإذا كان أهله في النار وهو في النار فكذلك خسرهم وفي كل الحالين ذلك هو الخسران المبين.

( لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ) فإذاً الآية السادس عشرة ( لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ ) والظلل جمع ظلّة وهي السحابة وهي المظلة فإذاً ( لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ ) نوع من المظلات أو من السحب النارية الشديدة الحرارة والوهج وكذلك ( وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ) نعوذ بالله ونستجير بالله وهم معلقون على هذا الأساس بين أرض وبين فضاء لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل كذلك من النار ( ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ) ذلك يُحذّر الله منه عباده ويقول ( يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ) خافوني وخافوا عذابي وخافوا وعيدي الذي لا بدّ هو آتٍ ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا.

ثم الآية السابعة عشر: ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) الآية الثامنة عشر هذه. فإذاً نعود ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ) هنا الطاغوت أنّـثها جعلها مؤنث، وفي الأصل نستطيع أن نقول هذا الطاغوت وهذه الطاغوت فهو يُذكّر ويُؤنّث، والطاغوت كل ما يُعبد من دون الله، قال تبارك وتعالى: ( الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ سورة النساء الآية 76) والطاغوت هنا باعتبار تأنيثها، الطاغوت كل ما يطغى ويتجبّر ويظلم وينحرف عن سبيل الله تبارك وتعالى، والطاغوت في الأساس هو الشيطان ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ) تأنيثها هنا أنها النفس الأمارة بالسوء، النفس الأمارة بالسوء هي طاغوت، فمن يطيع نفسه الأمارة فقد أطاع طاغوتاً، وقد تعبّد لهذا الطاغوت فالعبادة للطاغوت هي طاعته. فإذاً ( وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ) اجتنبوا نفوسهم الأمارة أن يطيعوها التي تأمر بالهوى ( وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ ) رجعوا إلى الله، سلّموا إلى الله، أسلموا إلى الله (لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) فإذاً أبشروا يا عباد الله الذين جاهدوا أنفسهم الجهاد الأكبر، الذين عصوا أنفسهم حين أمرتهم بالسوء وحين أمرتهم بالمعصية وأنابوا إلى الله ورجعوا إلى الله أبشروا يا عباد الله ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) وأحسن القول تحت هذه السماء الدنيا هو قول الله وهذا شيء لا يناقش فيه عاقل ولا يناقش فيه لبيب، أحسن قول تحت هذه السماء هو قول الله تبارك وتعالى. فإذاً ( فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) يستمعون القرآن ويتّبعون آياته ويعملون بآياته وبتعاليمه وبتوجيهاته فهو كلام الله تبارك وتعالى ومن أحسن من الله حديثاً. وإذاً هؤلاء الذين اتبعوا ما أُنزل على محمد (ص) واتبعوا ما أُمر به محمد أن يعبد الله مخلصاً له الدين واتبعوا وصارعوا أنفسهم وعصوها عندما أمرتهم وعندما تأمرهم بأن يعصوا الله عز وجل هؤلاء الذين يستمعون القول قول الله فيتبعون أحسنه ( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ) أولئك هم أولوا العقول، أولئك هم السّابقون الصدّيقون، أولئك هم المستقيمون على صراط الله العظيم.

( أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ يا محمد أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ) يا أيها القرآني، يا أيها الصادق المخلص دينه لله عزّ وجل، إنّ الذين كفروا وأصروا على كفرهم، وعصوا وأصروا على معاصيهم، ونافقوا وأصروا على نفاقهم، وأشركوا وأصروا على شركهم، فقد حقت عليهم كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار يا أيها الولي من أولياء الله.  

       ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ) بخلاف ذلك الذين اتقوا ربهم وصدّقوا بآياته وصدّقوا بقرآنه وعملوا بما أنزل ( لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ ) لهم بنايات شاهقة مشرفة مطلّة منشرحة ( تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) ومن أصدق من الله بوعده، ومن أصدق من الله كذلك بوعيده، فلهم البشرى هؤلاء الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه وأسكنهم غرفاً مبنيةً تجري من تحتها الأنهار له الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

ثم قوله تبارك وتعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ ) إذاً ألم تر يا رسول الله يا محمد؟ ألم تر يا ولي الله؟ ألم تر أيها المسلم بعينك وبقلبك وبعقلك؟ ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً وليس أحد غير الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض ( ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ) كما ترى في الطبيعة ( ثُمَّ يَهِيجُ ) هذا الزرع ( فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ) يهيج يتغير لونه، يميل إلى الصفرة فتراه مصفراً ( ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ) ثم يتيبّس فيجعله الله حطاما ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ ) فكذلك الإنسان بعد أن يكون بعد أن يخلقه الله عز وجل طفلاً نضراً ثم شاباً ثم كهلاً ثم يتحوّل باتجاه الشيخوخة فكذلك يهيج فتراه مصفراً ثم يكون الإنسان حطاماً بعد موته إن في ذلك لذكرى لأولي العقول لمن يتفكرون ولمن يتذكرون.

       الآية الثانية والعشرين: ( أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ).

( أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ ) يشرح الله صدر الإنسان للإسلام إذا كان يحب الله ويحب ذكر الله، إذا كان مؤمناً موقناً بالله وبما أنزل الله وعاملاً مطيعاً لله تبارك وتعالى الله عز وجل يشرح صدره للإسلام ( فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ) الله عز وجل يجعل له نوراً في قلبه وفي عقله ويخرجه من الظلمات إلى النور (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ) هناك أناس وواضح هذا نراه بأم الأعين في مجتمعاتنا، أعطينا مثلاً قوله تبارك وتعالى: ( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) هؤلاء الذين قال الله فيهم ( فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ) الله يقول عنهم أنهم في ضلال بيّن وفي خروج عن صراط الله وعن طاعة الله وعن الإيمان بما أنزل الله.

       فنتابع قوله عز وجل في الآية الثالثة والعشرين: ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ).

فإذاً ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ) القرآن الكريم( كِتَابًا مُّتَشَابِهًا ) آياته يشبه بعضها بعضاً من حيث الإرشاد إلى الغاية وإلى الهدف الذي هو بالنتيجة الله الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ ) المثاني جمع مثنى، والمثنى فيه ثلاثة معانٍ. المعنى الأول أنه المثنى بعد الأول، مثاني لغة أهل الملكوت أول والمثاني بعد لغة أهل الملكوت لغة أهل الناسوت لغة أهل الأرض هي مثاني بعد الأوائل التي هي لغة أهل الملكوت. والمعنى الثاني للمثاني أنها ثناء على الله عز وجل سواء كانت لغة أهل الملكوت أو لغة أهل الناسوت فالمثاني جمع مثنى من الثناء على الله تبارك وتعالى ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ) هي الثناء على الله وهذا الكتاب في مجموعه الثناء على الله تبارك وتعالى. والمعنى الثالث أنّ مثاني جمع مثنى والمثنى هو الزمام، الزمام الذي تُزمّ به الدابة وتُقاد به الدابة ومثاني هنا القرآن الكريم هو مثاني أزمّة للشياطين تُقاد بها وتُطرد بها وتُلجم بها، والمثاني هي ما علمناه من الله تبارك وتعالى أنها مفاتيح السور أو ما يسمى بالأحرف النورانية، وقد أقمنا لهذا شرحاً مستفيضاً في ما كتبنا في كتابنا العقل الإسلامي وفي بعض ما كتبناه وقلناه في غير مواقف. فإذاً ( اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ) فإذاً هذا الكتاب بآياته عند تلاوة آياته ولاسيما تلاوة المثاني لمن يدرك أسرارها أو لمن يدرك بعض أسرارها تقشعر من قراءته ومن تلاوته ومن سماعه جلود الذين يخشون ربهم، وهذا شرط المتقين لأنه من صفات أهل الإيمان أنهم يخشون ربهم، وإذا كانوا يخشون ربهم فإن جلودهم ستقشعر لا محالة عندما يتلون القرآن أو يسمعون (…) ثم تلين جلودهم هذه في البدايات عندما يفاجأون بالمعاني ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله في بقية الأيام العادية في صلواتهم وتلاواتهم لآيات المصحف الشريف ( ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء ) هذه الهداية الذين يعرفون أن القرآن هو أحسن الحديث وأنه كتاب متشابه آياته متشابهة وأن فيه المثاني التي ذكرنا معانيها ولا سيما الثناء على الله تبارك وتعالى ولا سيما بالأحرف النورانية التي هي لغة أهل الملكوت أولاً ولغة أهل الناسوت ثانياً ذلك هو الهدى الحقيقي الذي يهدي الله به من يشاء من عباده، يهدي به من يشاء من عباده الذين يريدون الهداية ويعملون لها. ثم قوله تبارك وتعالى: ( وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) كذلك إن الله لا يضل الذين يريدون الهداية، الله يضل من يريدون الضلالة ومن يصرّون على الضلالة، من يتخذوا قرارهم بالبعد، بالتنكر لآيات الله، وبتكذيب آيات الله، وبعدم العمل بآيات الله، فهم بعد أن اتخذوا قرارهم بذلك بالضلالة يضلهم الله عز وجل لأنها لا تتقدم مشيئة على مشيئته ( وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) وهؤلاء الذين يضلهم الله بناءً على ضلالتهم، وعلى اصرارهم على ضلالتهم ما لهم من هادٍ يهديهم لا من الجن ولا من الإنس ولا من الملائكة ولا من جميع خلق الله.

       الآية الرابعة والعشرين: ( أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ).

وقوله تبارك وتعالى: ( أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) من هؤلاء الذين يضلون عن سبيل الله وهنا صيغة السؤال سؤال العارف، والجواب أنهم سيتّقون بوجوههم سوء العذاب يوم القيامة، ويُقال للظالمين يومئذ ذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون في دار الدنيا، بما كنتم تكسبون من الضلالات وبما كنتم تجحدون بآيات الله.

       الآية الخامسة والعشرين: ( كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) كذّب الذين من قبلهم بأخبار الله، وكذّب الذين من قبلهم بآيات الله، وكذّب الذين من قبلهم بوعود الله ووعيده بوعد الله ووعيده ( فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ) وكذلك هؤلاء مثل أولئك كذّبوا بآيات الله وكذّبوا بوعد الله وبوعيده وكذّبوا بما أنزل الله فسيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون سواء كان في الدنيا أو في الاخرة وذلك قوله جل وعزّ في الآية السادسة والعشرين: ( فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) الخزي المذلة والمهانة في الحياة الدنيا، ويكفيهم ذلّة ومهانة أنهم عبدوا غير الله، وأنهم أطاعوا غير الله، وأنهم تولّوا شياطينهم من الإنس والجن ونفوسهم الأمّارة.

       فإذاً ( فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ثم ينقلنا الله عز وجل إلى الآية السابعة والعشرين ويقول: ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) العزّة لله ولله الحمد ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ) فما تحتاجه أيها الإنسان من حكمة ومن أمثال ومن مخارج لمشاكلك التي تمرّ بها على جميع جبهات الحياة فإنّك ستجد حلاًّ لها في هذا القرآن، وستجد إجابات لها على كل سؤال ممّا تسأل وممّا تكون فيه محرجاً. فإذاً ( وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) إذا احتاجوا لحلول مشاكلهم ( لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ) القرآن وما في القرآن هذا المجيد.

الآية الثامنة والعشرون:( قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ).

 ( قُرآنًا عَرَبِيًّا ) عربي اللغة العربية واضح، وإنما كلمة عربي في اللغة العربية تعني الوضوح والفصاحة وأنه غير مبهم وأنه غير معقّد وكل ما فيه واضح وصريح ( قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) فيه الإستقامة وفيه الهداية وفيه الرشاد (لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) لعلهم يخافون الله فيأخذوا طريق السلامة وصراطه المستقيم.

       من جملة الأمثال التي ضربها الله عز وجل في هذا القرآن المجيد قوله تبارك وتعالى في الآية التاسعة والعشرين من سورة الزمر: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) فإذاً هذا المثل أن الله عز وجل ضربه ضرب مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون من الرجال عليه أن يخدمهم جميعاً، الذين اشتركوا في هذا الرجل بمالهم أو بأي شكل من أشكال الإستملاك استعبدوه، فهو لهم عبدٌ وهو يجب أن يكون في خدمتهم جميعاً، وإذا خدم واحداً أكثر من واحد نَقَمَ عليه الآخر وإذا تقرّب من أحد أكثر من غيره من هؤلاء الشركاء نقموا عليه، وهكذا تجده ممزّقاً بينهم ممزّقة نفسه وممزّقاً شكره وهذا شيء طبيعي جداً. الله عز وجل يقول: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ ) مختلفون متنافرون فيما بينهم هو التشاكس، ورجلاً في المقابل سلماً لرجل، في المقابل رجلاً يملكه رجل واحد، ولاسيما إذا كان هذا الرجل المالك قوي وغني وعادل وراحم، فكم سيستريح وكم سيكون رابحاً هذا الرجل الذي هو سلمٌ لرجل واحد. فالله عز وجل يقول: ( هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً ) طبعاً لا يستويان. فالرجل الذي فيه شركاء متشاكسون قلنا ممزّق بينهم، والرجل الذي هو سلمٌ لرجل واحد ما أحسن أيامه وما أحسن عاقبته، طبعاً والمثل واضح أن الإنسان إذا عبد الله وحده وجعل همّه الله وحده كان مستريحاً رابحاً في الدنيا والآخرة، وأما إذا ترك الله وتخلّى عن الله أو أشرك بالله و كان جعل لله شركاء فسيكون ممزّقاً بينهم والله عز وجل يتخلّى عنه لأنه لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، والله يعقب الآية بقوله: ( الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) بل أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق وهذه الفروق الهائلة بين أن يكون الإنسان من أهل التوحيد من أهل توحيد الله فيرتاح في الدنيا والآخرة ويربح في الدنيا والآخرة، وبين أن يكون واقعاً في الشرك فسيبقى ممزقاً في الدنيا وخاسراً الخسران المبين في الدار الآخرة.

       إلى الآية الثلاثين قوله عز وجل: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) فيا رسول الله إنك ميت لا محالة وإنهم ميتون، وهذا ردٌّ على الذين يعتبرون النبي خالداً في الدنيا وأنه حي يرزق في الحياة الدنيا، هذا ردٌّ عليهم وهناك ردود أخرى سنمرّ عليها إن شاء الله، فكما أن غير محمد من الأنبياء والرسل قد ماتوا فمحمد لا محالة سيموت وقد مات صلى الله عليه وآله أماته الله ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم ) الذين هم حولك من الناس والذين سيأتون بعدك ( مَّيِّتُونَ ) كذلك لا محالة، والله عز جل كتب على الناس الموت ولا منجاة منه.

       فإنتقالاً إلى الآية الواحدة والثلاثين: ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) يا رسول الله ويا أيها الناس ويا أيها الناس عامة ( إِنَّكَ مَيِّتٌ يا رسول الله وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) كلٌ يقدّم بيّناته ويقدّم حججه، ومن أصدق من رسول الله عندما يحاكم وعندما يُقارن به خصومه وأعدائه.

       نتابع بإذن الله تعالى في الآية الثانية والثلاثين قوله تعالى: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ والآية التي بعدها وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ، لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ، لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) حتى الآية الخامسة والثلاثين.

وقوله جل وعلا: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ) عنوان عام يشمل جميع أنواع الكذب على الله جل جلاله، وإنّما نذكر من أنواع الكذب على الله مجيء هذه الآية بعد قوله سبحانه: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) فإنه ما زال من الناس وعلى أعلى مستويات رجال الدين بل معظمهم من يدّعي وجود رسول الله محمَّد صلى الله عليه وآله في جميع العصور، وكذلك وجود علي بن أبي طالب عليه السلام وبقية الأئمة عليهم السلام، وأنهم يتلقون عبادات أي النبي وأي الأئمة وأنهم يتلقون عبادات الخلائق ويرفعونها هم إلى الله تعالى على أساس أنهم حجّاب الله أو الوسائط بينه سبحانه وبين خلقه، فهاتان الآيتان المترابطتان تكذبانهم وهما قوله جل شأنه: ( إِنَّكَ أي يا رسول الله إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) أي جميع الناس طبعاً بما فيهم الأئمة الأطهار ميتون ( ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ، فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ) فإن الذين يزعمون حياة محمَّد (ص) وحياة الأئمة بعد أن ماتوا يكذبون على الله، والله سبحانه بناءً على ذلك قال: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وبعدها وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ ) فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه والصدق هو قوله عز وجل في الآية التي قبلها: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) طبعاً جميع الناس بدون إستثناء، وطبعاً المقصود في الحياة الدنيا لأنه لا موت بعد قيام الساعة. ثم إن قوله تعالى: ( فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ) فعبارة ( فَمَنْ أَظْلَمُ ) أي أن الذين يزعمون خلاف ما أنزل الله ويعارضون آياته سبحانه هم أظلم خلق الله فهم إذاً أكفر خلق الله ولذلك ذيَّل الآية الكريمة بقوله: (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ) فهؤلاء إذاً حكم الله عليهم بتخليدهم في عذاب جهنم فنعوذ بالله ونستجير برحمته من الكذب على الله ومن مخالفة نصوص آياته العظيمات.

ثم قوله جلت عظمته: ( وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) الآية الثالثة والثلاثون، والذي جاء بالصدق وصدق به هو محمَّد (ص)، والصدق الذي جاء به من عند الله هو القرآن الكريم بجميع آياته بين الدفتين، وخلاصة هذا الصدق أو خلاصة هذا القرآن هي التوحيد، هي شهادة أن لا إلـه إلاَّ الله، وهي الدعوة إلى الله، قال تعالى: ( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ سورة فصلت الآية 33) ثم إن قوله عز وجل: ( أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) بعد قوله (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ) يعني أن الذين اتبعوا محمَّداً (ص) والقرآن الذي أنزل على محمَّد ووحّدوا الله مخلصين له الدين ودعوا إلى الله ونفوا عنه الشرك الظاهر والشرك الخفي قال تعالى: ( يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ سورة النحل الآية إثنين) وهؤلاء هم كذلك جاؤوا بالصدق من عند الله وصدّقوا به فإذاً هم المتقون الأصليون كما قال الله عنهم سبحانه وهكذا يبشرهم الله تعالى بقوله: ( لَهُم مَّا يَشَاءونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ) أي لهم ما يريدون ولهم ما يتمنون ولهم ما يطلبون من ربهم وعند ربهم في الآخرة ولأنهم عند الله محسنون الله تعالى يقول: ( ذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ ) أي العطاءات التي بغير حساب من جود أجود الأجودين وأكرم الأكرمين رب العالمين. أما قوله سبحانه: ( لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) الآية الخامسة والثلاثون، فهذه الآية الكريمة هي من أكرم وعود الله على أهل خاصته، على أوليائه الذين جاؤوا بالصدق وصدقوا به سواء كانوا في العصور المتقدمة القريبة من رسول الله محمد (ص) أمثال الأئمة الأطهار (ع)، أو في العصور المتأخرة لا سيما هذا العصر الأخير من عصور الدنيا، فإن فيه ولله الحمد أناساً تفضل الله عليهم بأن اصطفاهم واجتباهم وأفردهم دعاة إليه سبحانه وإلى توحيده، وإلى تدبر قرآنه المجيد وكشف معظم أسراره وأسرار آياته، هؤلاء منّ الله تعالى عليهم بقوله: ( لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) وهذه لهم خصوصية كما كانت لمحمد (ص) خصوصية مشابهة وهي قوله له سبحانه في اول سورة الفتح: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا، وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ) أما الفارق بين الآيتين أو بين الوعدين فهي كلمة ( أَسْوَأَ ) في قوله تعالى: ( لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا ) فإنه يرشح من خطابه لرسوله محمد (ص) أن محمداً لم يفعل الأسوأ من الذنوب، بل إن ذنوبه صلى الله عليه وآله كانت طفيفة إذا قيست بذنوب غيره حتى من المجتبين ولذلك اقتضى التنويه.

ننتقل ولا قوة إلاَّ بالله إلى الآية السادسة والثلاثين قوله جل وعلا : ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) هذا السؤال الذي هو في أول الآية السادسة والثلاثين من سورة الزمر والذي هو من أربع كلمات قوله تعالى: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) يتحدى الله به الإنسان بكل أنواع  العتب والغضب والكرم والكفاية والتحصين أو الإهلاك والإسعاد أو الإشقاء هذه الحقيقة تجهلها الأكثرية الساحقة من البشر وهي أنه إذا أراد أحد من عباد الله أن يكتفي بالله يعني أن يكون الله وحده ربه، وأن يكون الله وحده إلـٰهه، وأن يكون الله وحده رازقه، وأن يكون الله وحده حصنه، وأن يكون الله وحده طبيبه، وأن يكون الله وحده مدبره ومدبر من له بهم عناية، وباختصار شديد أن يكون الله تعالى وليَّه في جميع شؤون حياته ومماته وآخرته، فإن الله تعالى يكفيه كل ذلك بما يشاء وكيف يشاء، بالأسباب وهو سبحانه مسبب الأسباب، أو بكلمة كن فيكون، بشرط حسن التوكل، وعدم التواكل وبشرط الجهادين الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس تقرباً إلى الله وجهاد أعداء الله إذا اقتضت الضرورات ذلك. جاء في حديث قدسي: إذا اعتصم عبدي بي دون جميع خلقي فتحت له أبواب السماوات والأرض وإذا دعاني استجبت له وإذا استغفرني غفرت له، وإذا اعتصم عبدي بأحد دوني من جميع خلقي أقفلت دونه أبواب السماوات والأرض وإذا دعاني ما استجبت له وإذا استغفرني ما غفرت له.

ثم بعـد قولـه جـل وعـلا: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ) قـال سبحـانـه (وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ) والمعنى يخوفك شياطين الجن والإنس ويخوفك المشركون والكافرون والمنافقون يخوفك كل هؤلاء يا أيها الإنسان لأنهم لم يعرفوا الله حق معرفته فلذلك هم ينظرون إلى جميع مراكز القوى الدنيوية ويتعبدون لها. وهذه القوى منها قوة السلطان، قوة النافذين في المجتمع مالية كانت أو عسكرية أوسياسية أو حتى نسوية أو حتى لا أخلاقية أو حتى قوى الجن المزعومة إلى غير ذلك من قوى الشر التي تملأ الأرض، ولا سيما في هذا العصر الذي هو آخر العصور، نعم يخوفونك بكل ذلك وينسون أن الله هو الحي القيوم الحاكم المطلق، القائم على كل نفس بما كسبت، والذي هو بالمرصاد للأفراد، وبالمرصاد للأمم بحكامها وعساكرها وشعوبها، هذا كله والقرآن الكريم كتاب الله يصدح ويردد قول الله تعالى واعداً متوعداً: ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ، وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ).

فكم وكم من الناس الذين يلجأون لغير الله ويعتمدون على غير الله ويستجيرون بغير الله ويدعون غير الله من البشر، يدعون الأنبياء والأولياء أمواتاً وأحياءً وهم يقرأون القرآن ويجوّدونه ويقرأون في جملته قوله جل وعز ( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ) ولكن يخِرُّون عليها صماً وعمياناً، هؤلاء  يضلهم الله تعالى بضلالهم، هم اختاروا الضلالة والغواية والتكذيب ولكي لا تسبق مشيئتُهم مشيئةَ الله سبحانه لأن له الكبرياء وحده في السماوات والأرض كذلك يكون له السبق دائماً في الفعل وفي الحكم وفي التنفيذ، ولذلك قوله تعـالى: (وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) ومن يستطيع من خلق الله من الملائكة أو الأنبياء أو الأئمة أن يهدي من يضله الله جلت عظمته أو أن يضل من هـداه الله كما في الآيـة التاليـة السابعة والثلاثين، في  قوله تعالى: (وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ ) بلى إن الله عزيز ذو انتقام ينتقم بعدله غير ظالم، ينتقم بعد أناته وصبره ووعده ووعيده، حتى إذا لؤُمَ عبده وأصرَّ على لؤمه وعناده وتنكره لله ولآيات الله، وجب عند الحق الإنتقام منه، قال تعالى: ( إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ، وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ سورة البروج الآيات ( 12ـ 16 )). قال تبارك وتعالى في مكان آخر من القرآن: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ. سورة سبأ الآية الثانية والعشرون). وقال عز وجل: ( وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَـؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ سورة النحل الآية السادسة والثمانون).

ننتقل بإذن الله تعالى إلى الآية الثامنة والثلاثين قوله تعالى: ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ) والمعنى أنك لو سألت الناس وأكثرهم مشركون يلجأون لغير الله ويدعون غيرَ الله، لو سألتهم من خلق السماوات والأرض  ليقولن الله، فحتما سيقولون الله خلق السماوات والأرض وهذا أمر بديهي ولا يستطيعون إنكاره ويتابع سبحانه ( قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ) هنا يلقي الحجة الدامغة عليهم، ما دمتم أقررتم بأن الله خلق السماوات والأرض يعني أن الله وحده هو القادر على ذلك وأنه على كل شيء قدير ويعني أن غير الله من خَلْقِ  الله لم يخلقوا شيئاً ولا يستطيعون فكيف تدعونهم، تدعون من لا يخلق ولا يقدر، حيث أن القوة لله جميعاً كما قال سبحانه، ثم يلقي سبحانه عليهم حجة دامغة ثانية متابعاً في الآية الكريمة قوله: ( إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ ) أي إذا أراد الله تعالى أن يصيبني بضرر ما بمرض يطول أو يقصر أو يميت، أو بضرر في النفس وأمراضها وأحوالها، أو في المال أو في العيال، فهل أحد من خَلْقِ الله يستطيع أن يكشف الضرر الذي يريد الله أن يوقعه بعبده أو بمجموعٍ من عباده؟ هَل تستطيع كل دول العالم وجيوشُها أن تمنع ضرراً قضاه الله على عبدٍ أو على مجموعٍ من عباده؟ ثم إنه سبحانه يتابـع قائلاً: ( أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ ) كذلك يعني إذا أرادني الله تعالى برحمة يرحم بها نفسي وبدني كأن يشفيني من مرضٍ نفسيٍّ أو مرض بدنيّ أو يغفر لي ذنباً أذنبته قولاً أو عملاً، أو يتفضل علي تفضلاً من عنده دون إستحقاق من قِبَلي، أو ينعم عليَّ نعماً أو يرد عني نقماً، فمن من خلق الله يستطيع أن يمسك عني عطاءً من هذه العطاءات أو رحمة من هذه الرَحمات، إذا كان الله تعالى أرادها وقضاها لي أو لعبد من عباده أو لمجموع من مجاميع عباده؟ بديهي أنه لا أحد يستطيع أن يردَّ رحمة أراد الله أن يوقعها حيث يشاء أو ينزلها على من يشاء، ولا دولة ولا عصابة، ولا جميع أهل السماوات والأرض من الملائكة أو الإنس أو الجن أو الحيوان أو النبات أو الجماد، فإذاً لا أحد ولا شيء يستطيع أن يرد ضرراً أراد الله إيقاعه بمن يشاء، أو رحمة يتفضل الله بها على من يشاء، وهذا المعنى هو خلاصة هذا القسم من الآية الشريفة، ثم ينقلنا الله تعالى إلى الفَرَج، إلى التعليم العالي، إلى التوحيد علماً وعملا قائلاً سبحانه: ( قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ) قل حسبي الله يا رسول الله، قل حسبي الله يا ولي الله، قل حسبي الله يا أيَّ عبدٍ من عباد الله، قل حسبي الله يعني يكفيني الله، والآية هنا فيها عود إلى قوله تعالى: أليس الله بكاف عبده وهي تأكيد على روحها ومضمونها حيث إن المتوكلَ على الله هو في الحقيقة الذي يسلم أموره كلها لله صابراً مجاهداً مردداً ( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ سورة التوبة الآية 51).

ثم يتابع تعاليمه سبحانه في الآيتين التاسعة والثلاثين والأربعين: ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ، مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) والمعنى كذلك قل يا رسول الله وقل يا أي داعٍ إلى الله مكلفاً من الله، قل عندما تجد أن قومك لا يصدقونك ويركبون رؤوسهم في شركهم وفي بدعهم وفي الإصرار والإستمرار على ما وجدوا عليه آباءهم من الإنحراف عن الله وعن تعاليم الله وعن آيات الله، قل لهم بعد ما بذلت ما أمكنك الله تعالى من جهد وصدق في التبليغ والهداية إلى ما فيه خلاصهم ( قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ ) أي على منزلتكم عند الله وهي البعد عن الله تبارك وتعالى ( إِنِّي عَامِلٌ ) والمعنى إني عامل على مكانتي عند الله جلت عظمته وعز شأنه، عاملٌ بالتوحيد وبالدين المخلص من أنواع الشرك الظاهر والشرك الخفي ومن جميع أنواع البدع التي ألحقتموها بهذا الدين الحنيف أنتم وآباؤكم ( فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ) يعني ما كان من العذاب قاتلاً على كفر أو على شرك أو نفاق. قال الله تبارك وتعالى: ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنصَرُونَ سورة فصلت الآية 16). أو ما كان من العذاب موقعاً في فتنة جهلاء أو ضلالة عمياء، أو ما يلحق من عذاب الخزي بالأخسرين أعمالاً الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. أما قوله تعالى: ( وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ) آخر الآية الكريمة فواضح أنه عذاب الأبدية أو التخليد في عذاب الآخرة، فسمعاً وطاعة يا ربنا يا رب العالمين، لك الحمد ولك المجد، ولك الشكر ولك الحمد كما تحمد نفسك وكما تشكر نفسك وكما ينبغي لكرم وجهك.

ننتقل إلى الآية الواحدة والأربعين إلى قوله تعالى: ( إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ).

       قوله عز وجل: ( إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ) أولاً: الكتاب هو القرآن الكريم أنزله ليس ليبقى عند محمد (ص) وإنما ليعمّمه على الناس وقد فعل بما آتاه الله عز وجل من الإمكان والقدرة، وقوله (بِالْحَقِّ ) ( إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ ) فالحق ضد الباطل أي الكتاب الذي فيه الحق أي لمواجهة الباطل الذي في أهل الأرض بهذا الحق الذي هو في الكتاب ( فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ ) فمن اهتدى بما في هذا الكتاب من توجيه وتعليم وتشريع وأمر ونهي فإنما يهتدي لأجل نفسه فينجيها من عذاب أليم ومن خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ومن ضلّ عن هذا الكتاب وعن آيات هذا الكتاب، وعن مضامين الآيات، وعن الأمر والنهي الذي في هذا الكتاب، من استكبر وعصى ما في هذا الكتاب ( فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ) أي على نفسه وما يضر إلا نفسه ( وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) يا رسول الله يا محمد، فإنما أنت رسول من لدن الله تبارك وتعالى وما عليك إلا البلاغ، فإن اهتدوا فلأنفسهم وإن ضلوا فعليها.

       ثم قوله عز وجل في الآية الثانية والأربعين: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

هذه الآية من الآيات التي لها ظهور وبطون، ونقول في تفسيرها أولاً بإذنه تعالى قبل أن ننتقل إلى تأويلها، نقول على أساس الظاهر، ظاهر الكتاب، فالظاهر حجة. قوله عز وجل: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)  أي أنه تعالى يتوفى الإنسان حين موته، ويتوفاه وهو لم يمت في منامه. فجعل توفي النفس في المنام مشابهاً للموت، ولو أن الموت هو أمر نهائي باعتبار ظاهر الكتاب هنا، وأنَّ توفِّي النفس في المنام وانفصالها عن صاحبها يشبه الموت، ولكنه موت غير نهائي. ثم قوله عز وجل: (فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ) أي يحبسها عنده، أو يجعلها في مكان ما من الملكوت أو في البرزخ  أو في أي مكان آخر إذا كان  صاحبها غير برزخي، وأهل الخاصة هم من غير البرزخيين. فإذاً ( فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) فإذاً التي يقضي عليها موتاً نهائياً لا عودة معه إلى الأرض، يمسكها سبحانه وتعالى، ويرسل النفس الأخرى التي توفاها في النوم إلى أجل مسمى ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) هذه العبارة في الآية الكريمة، هي من مفاتيح التأويل، لأنها ملفتة إلى أن في هذه الآية آيات ولكن لقوم يتفكرون ويتأملون ويتدبرون القرآن ويتدبرون المعارف الإلـٰهية. ونحن بين التفسير والتأويل نقول قوله عز وجل: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فقوله جلَّ شأنه: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) أي يتوفى الأنفس للشخص الواحد، يتوفى أنفس الإنسان الفرد دفعة واحدة، حيث أن للإنسان العادي ثلاث أنفس: النفس الكلية الملهمة وهي التي تخلد في الآخرة إما في النعيم وإما في الجحيم، والنفس العصبية وهي حياة الجهاز العصبي الذي هو الدماغ وامتداداته عبر النخاع الشوكي وتفرعاته في البدن، وخلايا الجهاز العصبي لا تتبدل ولا تزيد ولا تنقص منذ الولادة حتى الموت، إلاَّ إذا قدِّر لها أن تصاب بشكل أو بآخر، والنفس الثالثة هي نفس البدن، وتسمى النباتية، وهي التي يحيا بها جسم الإنسان العادي، وخلايا هذا الجسم تتغيَّر وتتبدَّل كل عشر سنوات مرة. هذه الأنفس الثلاث هي للإنسان الفرد العادي ملازمة له بشكل أو بآخر طيلة حياته الدنيوية. وأثناء النوم تنفصل عنه النفس الكلية، ويبقى معه أثناء نومه النفس العصبية التي فيها حياة الجهاز العصبي، والنفس البدنية التي فيها حياة البدن، وبهما يحيا أثناء النوم. وبمفارقة النفس الكلية له أثناء النوم كذلك تفارقه الروح التي بها يعقل والتي هي العقل. طبعاً الروح هنا بالمعنى الخاص، حيث إن للروح معاني عديدة  ذكرناها في آيات أُخر، ولأن الروح تواكب النفس الكلية ـ طبعاً  بالمعنى الخاص هنا ـ  في جميع أحوالها الدنيوية، فإذا اقتضى الإنسان أمرٌ ما أن ينتبه من النوم، أعاد الله إليه العقل والنفس الكلية، أي النفس الكلية والروح معها في الوقت المناسب، فعاد إليه وعيه وإدراكه وحياته العادية. إلى هنا نعتبر أنفسنا بين تفسير الآية الكريمة وتأويلها. وندخل الآن بإذن الله تعالى في التأويل فقوله تبارك وتعالى: ( اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ) يعني جميع هذه الأنفس الثلاث الكلية والعصبية والبدنية. وأما قوله تعالى: ( وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا ) فيعني أنه سبحانه يتوفى الأنفس كلها كذلك من شخص واحد في حال النوم، ولكن دون أن يقضي عليه موتاً نهائياً. ثم يفسِّر الأمرين كليهما بقوله تعالى: ( فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ ) أي التي قضى عليها موتاً نهائياً، (وَيُرْسِلُ الأًُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ) أي بعد أن يتوفاها يرسلها في الحياة الدنيا، أي أنه تعالى يحي صاحبها إلى وقت معلوم عند الله، ليرفعه فيما بعد إليه سبحانه رفعاً. إنما يكون التوفي أثناء النوم في ليلة واحدة، والإحياء بعدها. قال الله تعالى عن النبي إدريس عليه السلام: ( وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا سورة مريم الاية 57) وقال تعالى: ( إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى  إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ  سورة آل عمران الآية 55 ) وقال عزَّت عزته: (يُعْرَجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ سورة السجدة الآية 5 ). أما آخر الآية قوله عز وجل : ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) فقد تحدثنا عنها في قسم التفسير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

       ننتقل إلى الآية الثالثة والأربعين قوله عز وجل: ( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ).

( أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ شُفَعَاء ) بل اتخذوا من دون الله شفعاء بين إنس وبين جن وبين أصنام وأوثان اتخذوهم من دون الله شفعاء، الله عز وجل يقول: ( قُلْ ) يا محمد وقل يا أي وليّ من أولياء الله، ويا أي مسلم مؤمن ( قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ ) فإن كانوا بشراً حتى ولو كانوا أنبياء أو أولياء فإنهم لا يملكون شيئاً في هذا الوجود لأن الملك لله وحده، وقوله ( وَلا يَعْقِلُونَ ) وإن كانوا جماداً أصناماً وأوثاناً فهم كذلك لا يعقلون، وفي جميع الحالات الشفعاء المفترضون هم لا يملكون شيئاً، إما أنهم لا يملكون شيئاً وإما أنهم لا يعقلون ويعطي الجواب الحاسم في الآية الرابعة والأربعين بعد هذه: ( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

       ( قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا ) أي أنه إذا كانت الشفاعة موجودة وهي منصوص عليها فهي لا تكون إلا بإذنه، قال تعالى: ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ) في آية الكرسي، فإذاً ( لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ملك الوجود الكون كله ( ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أيها الناس فتحاسبون، فمنكم شقي ومنكم سعيد.

      

فـ ( وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) قلنا إنّ الذين لا يؤمنون بالآخرة إذا ذُكر الله وحده اشمأزت قلوبهم، والإشمئزاز هو النفرة والإمتعاض والضيق، فإذاً المعنى هكذا إذا ذكر الله وحده نفرت قلوبهم وامتعضوا وتضايقوا من ذكر الله وحده، وقلنا إنهم اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم وتطمئن قلوبهم إليهم وإلى ذكرهم أكثر مما تطمئن إلى ذكر الله، وذلك لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ولا يتقون الله، لأنهم يعتبرون نهاية وجودهم هي بموتهم في هذه الحياة الدنيا لذلك لا يقدّرون الله حق قدره، ويتأثرون بغيره من خلقه من شخصيات سياسية أو دينية أو إقتصادية أو مالية أو أي شخص يكون في مركز قوة حكومية أو عسكرية أو مدنية، فهم يعظمون هؤلاء الناس ويكبرونهم وإذا ذُكروا من دون الله تنشرح لذلك صدورهم بل وتنفر من ذكر الله تعالى وذلك معنى قوله عز وجل: ( وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ أي من دون الله إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ).

       ( قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) قل يا رسول الله ويا أي ولي من أولياء الله ويا أي موقن بالله ( قُلِ اللَّهُمَّ ) قل يا الله يا ( فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) يا خالقهن ومبدعهن ( عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) أنت يا الله يا عالم الغيب في الأكوان وفي الوجود وعالم الشهادة ما يظهر من الناس من أعمالهم وما يبطنون ( أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ )  وليس أحد غيرك يحكم، أنت تفصل بين أهل الحق وأهل الباطل.

       ثم قوله عز وجل: ( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) الآية السابعة والأربعون.

       قوله تعالى: ( وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي الكافرون والمشركون والمنافقون وإن الشرك لظلم عظيم (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ ) ما في الأرض من ذهب وفضة وجوهر وعقارات ومكاسب في هذا العصر ما يلفت وما يُسعى إليه من سيارات ومن أصنافها وألوانها ومن مقتنيات، لو أن لهم من هذه المكتسبات ملء الأرض ( مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ) ومثل هذا معه أضعافاً ( لافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لقدّموه فدية لأنفسهم، فدية عن أنفسهم من شدة العذاب يوم القيامة ( وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ ) أي وظهر لهم من الله عز وجل ما لم يكونوا يتوقعون ولا ينتظرون من ألوان العذاب وأهوال العذاب.

       الآية الثامنة والأربعون: ( وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

قوله تعالى: ( وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا ) أي ظهرت لهم أعمالهم السيئة يوم القيامة ( وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ) وطوّقهم العذاب بما كانوا منه يسخرون أي من آيات الله ومن الإيمان بالله ومن العمل بما أمر الله ثم ( فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ) إلى آخر الآية لجأ إلينا، إذا مس الإنسان ضر دعانا وسأل الله العفو والعافية والفرج بعد الضيق ( ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا ) ثم إذا خولنا الإنسان منحناه تفضلنا عليه بنعمة من عندنا ( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ ) نسي ما كان يدعو إليه، وزعم لنفسه هذه النعمة وأنه بقدرته وبقوته وبمهارته حصل عليها، الله عز وجل يقول ( بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ ) أي هو امتحان له ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) أكثر الناس لا يعلمون هذه الحقائق، وهي أن الله عز وجل هو المنعم أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

( قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) قد زعم لأنفسهم أناس غير هؤلاء زعموا لأنفسهم أنهم هم بقوتهم وبقدرتهم وبمهارتهم حصلوا على النعم ( فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) فلم يغنِ عنهم شيئاً كسبهم وما تملّكوه في الحياة الدنيا وما جمعوه من أموال ومن عقار ومن مكاسب حيث وجدوا أنفسهم في مواجهة العذاب والحساب وجهاً وجه.

( فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) فأصاب الأوائل ممن أساؤوا الظن بالله عز وجل أصابهم سيئات ما كسبوا في الحياة الدنيا من المعاصي والذنوب ( وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاء) الناس الذين تعايشهم يا محمد ومن هؤلاء الناس الذين نعايشهم في هذا العصر ومن الناس في كل عصر سيصيبهم سيئات ما كسبوا ( وَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ) وما هم بمعجزين الله تبارك وتعالى حيث أنه هو الحاكم القادر المهيمن المحيط بهم وبكل شيء في هذا الوجود، القادر عليهم وعلى كل شيء في هذا الوجود.

( أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) طبعاً هذه الآية الثانية والخمسون، هم ينسبون لأنفسهم النعم وينسبون لأنفسهم المكاسب ( أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ) أنّه يوسّع على من يشاء من الناس ويضيق على من يشاء ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يفقه هذه الحقائق القوم الناس الذين يؤمنون بالله عز وجل العارفون بالله وبآياته وبمضامين هذا القرآن الكريم.

( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ).

وقوله عز وجل: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ ) إلى آخر الآيات الثلاث هذه الآية الثالثة والخمسون والرابعة والخمسون والخامسة والخمسون. قيل فيها أنها أرجى آية في كتاب الله وهي قوله: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فيا عباد الله ( يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ ) وأذنبوا وعصوا ( لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ) لا تيأسوا من رحمة الله ( قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ سورة الحجر الآية 56 ) كما قال ابراهيم عليه السلام نبي الله ابراهيم. يتابع الله عز وجل ( لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ) يغفر جميع الذنوب دون استثناء ( إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ما أغفره وما أرحمه وما أكرمه ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ) ولكن هذا الغفران لجميع الذنوب كأنما هو مشروط بالإنابة إلى الله قوله عز وجل: ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ) مشروط بالتوبة والإسلام لله أسلموا كلياً لله، وحسن التوكل عليه ( وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ) قلوبكم ونفوسكم وأموركم ( مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ ) من قبل أن يأتي العذاب من أنواع عذاب الدنيا ثم لا تجدون ناصراً لكم ومن يستطيع نصركم من دون الله  ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم ) هذا القرآن المجيد هو أحسن ما أنزل الله على عباده من توجيه وتعليم وإرشاد ( مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) بغتة أي فجأة وفيها إشارة إلى قيام الساعة تأتي بغتة، قال تبارك وتعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ سورة الزخرف الآية 66).

ثم يتابع سبحانه: ( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) الآيات السادسة والخمسون والسابعة والخمسون والثامنة والخمسون والتاسعة والخمسون.

( أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ) يوم القيامة يلوم الإنسان نفسه ويقول: ( يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ ) أي على ما أهملت وما باليت بتعاليم الله، يا حسرتي على ما لم أقم به من واجبات العبادة وواجبات الطاعة لله عز وجل ( وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ) الساخرين تأكيد على أنه كان من الساخرين بأوامر الله وبنواهيه وبالدعاة إلى دين الله ( أَوْ تَقُولَ هذه النفس لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ هذه النفس حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) لو أن لي رجعة ( كَرَّةً ) رجعة إلى الحياة الدنيا فأكون من المحسنين في العمل ومن المحسنين في الطاعة ومن المحسنين في العبادة. الله عز وجل يجيبهم يقول: ( بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي يا أيها الإنسان فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ) واضح التكذيب بالآيات والإستكبار عنها والكفر بها ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ ) الله عز وجل يتابع في الآية ستين ( وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ) كذبوا على الله أن الله قال ولم يقل، وأن الله أمر ولم يأمر، وأن الله نهى ولم ينهى، وكذبوا بآياته، وأكثر من هذا اعتمدوا على الروايات وتخلوا عن الآيات، وأكثر من هذا هم اتخذوا من دون الله أنداداً يحبونهم كحبّ الله ( وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ سورة البقرة الآية 165) وأكثر من هذا هم استغاثوا ويستغيثون بعليّ وبالمهدي والله عز وجل يقول: (ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ سورة فاطر الآية 13) ومعنى قوله تبارك وتعالى: ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ) القطمير هو الغلاف الرقيق الذي تغلف به نواة التمر أو البلح ويكاد يكون بلا قيمة، وواضح انه لا أحد من خلق الله يملك شيء من دون الله، والله جلت عظمته هو مالك الملك، يملك الخلق وما يملكون، فلا جميع أنبياء الله ورسله وأوليائه لا ابراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا محمد ولا علي ولا المهدي يملكون قوة أو قدرة من دون الله ولا يملكون شيء في هذا الوجود ولا ملائكة الله المقربين فكيف تدعونهم، ويتابع الله سبحانه يقول: ( إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ سورة فاطر الآية 14).

 ويتابع الله جل وعلا قوله في ثلاث آيات الواحدة والستين والثانية والستين والثالثة والستين: (وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ).

وقوله تبارك وتعالى: ( وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

( يُنَجِّي اللَّهُ ) ينقذ الله عز وجل من العذاب ( الَّذِينَ اتَّقَوا ) الذين خافوا الله وعملوا بطاعته واستقاموا في الحياة الدنيا، الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ينجيهم (بِمَفَازَتِهِمْ ) والمفازة مكان الفوز ومكان النجاة والخلاص ( لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ ) واضح ( وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ) بل يستبشرون برحمة الله وبغفرانه وبنعيمه وبعطاءاته الكريمة.

( اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ) الله عز وجل خالق كل شيء في هذا الوجود جملة وتفصيلا ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) أي إنه تعالى لم يوكل أحد غيره بشيء مما خلق ولا بأحد ممّا خلق، لم يوكل أحداً غيره من ملائكته أو من الإنس أو من الجن بشيء مما خلق، بأفراد ما خلق، وبمجاميع من خلق، هو القيوم على كل شيء، هو القائم على كل نفس بما كسبت، هو يحاسب وهو يثيب وهو يعاقب في الدنيا وفي الآخرة، وهو المدعو يجيب الدعاء وهو يشفي ويعافي ولا أحد غيره، هو يرزق ولا أحد غيره، هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، أمر الطبيعة، وأمر السماء، وأمر ما بين السماء والأرض، وأمر الأرض، وأمر المناخ وما يتعلق بالمناخ من تفاصيل، وهو يدبر الناس أفراداً فرداً فرداً، ومجاميع ومجتمعات ودولاً وشعوب، ولا أحد يدبر كل ذلك.

أما قوله عز وجل: ( لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ومقاليد جمع مقلاد، وهو المفتاح و( مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) مفاتيح السماوات والأرض لله تبارك وتعالى، وهي من أسرار الله في كتابه المجيد، يعطيها أو يعطي منها ما يشاء لمن يشاء من أهل خاصته، ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وبمضامينها وبأسرارها أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ) وقاريء القرآن الموقن بالقرآن وبربّ القرآن الذي أنزل هذا القرآن المجيد ولو كان لا يعرف هذه المقاليد بأعيانها وبأسرارها، إلا أنه وبرحمة من الله عندما يقرأ القرآن موقناً بآياته، فبهذه المقاليد تنفتح له أبواب السماوات والأرض بالخيرات وبالبركات من لدن الله تبارك وتعالى، هذا إذا كان غير واقع في شرك ظاهر أو شرك خفي.

       أما قوله تبارك وتعالى: ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ) الآية الرابعة والستون، وقل يا محمد يا رسول الله أفغير الله تأمروني أعبد يا أيها المشركون؟ وكانوا يساومونه على عبادة آلهتهم، أن يعبدوا هم الله إلى آلهتهم إلى أصنامهم وأوثانهم، وأن هو يرضى بأن يعبد أوثانهم إضافة إلى عبادة الله وهذا القول تعليم من الله عز وجل ( قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ فإذاً قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ ) يا رسول الله يا محمد وإلى الذين من قبلك من الأنبياء والرسل ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) والآية في ظاهرها خاصة وفي باطنها عامة لقول الله تبارك وتعالى في آخر سورة الشورى قوله عز وجل: ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) فقوله عز وجل: ( وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا ) هذا الذي أوحينا إليك هذا الروح الذي أوحيناه إليك جعلناه نوراً ( نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ) في أي زمان وأي مكان، نعود ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ ) طبعاً الشرك الظاهر واضح وهو عبادة الأصنام وعبادة الأوثان وعبادة الإنسان ممن خلق الله تبارك وتعالى أو عبادة الملائكة أو أي شيء من دون الله ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) هذا الشرك الظاهر، وأما الشرك الخفي وهو الذي ينبّهه الله تعالى عليه، هو أن يعتمد على غير الله، أو أن يتوكل على غير الله، أو أن يستشفي بغير الله، أو أن يسترزق غير الله إلى آخر ما هنالك من خفيات المعاني في التعامل مع غير الله على أساس أن كل التوكل وكل التسليم يجب أن يكون لله تبارك وتعالى وهذا هو معنى الإسلام الحقيقي. فإذاً ( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) كل عملك الذي عملته وكل جهادك الذي جاهدته يسقط عند الله ويصبح عدماً كأنك لم تعمل شيئاً هذا إذا وقعت في الشرك يا رسول الله، طبعاً وإنما المقصود بشكل عام هو كذلك إذا وقعت يا أيها الإنسان في أي لون من ألوان الشرك (وَلَتَكُونَنَّ في النتيجة مِنَ الْخَاسِرِينَ ) إذا وقعت في الشرك وعبدت وتوكلت ودعوت واستغثت بغير الله (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) حصراً الله الذي لا إله إلا هو، هو المعبود وهو المستحق وحده للعبادة ( وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ ) يا رسول الله يا محمد ويا كل وليٍّ من أولياء الله ويا كل إنسان في تاريخ البشرية.

       ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) طبعاً نحن تجاوزنا الآن الآية الرابعة والستين والآية الخامسة والستين والآية السادسة والستين وننتقل الآن إلى الآية السابعة والستين إلى قوله جل وعز: ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ).

فإذاً ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ) الناس جميعاً بجميع أصنافهم، ما عظّموا الله حق عظمته، وما كبّروا الله حق تكبيره، وما قدّسوا الله حق تقديسه، وما عرفوا الله حق معرفته ( وَالأَرْضُ ) الله ( وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) والأرض هي جميع الأراضي الموجودة في السماوات السبع، وقد نصّ عليها الله عز وجل بقوله: ( خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ سورة الطلاق الآية 12) أي سبع أراضٍ بالنصّ، ثم إن العلم قد اكتشف ـ علم الفلك ـ قد اكتشف كثيراً من الكواكب التي هي من مادة الأرض الكواكب التي نعرفها الدوّارة أو الكواكب السيّارة حول شمسنا هذه، ثم الكواكب التي تكاد لا تحصى حول كل شمس من شموس مجرّتنا ومن شموس غير مجرتنا، وقد اكتشف العلم في السنوات العشر الأخيرات ونحن الآن في القرن الخامس عشر الهجري في الواحد والعشرين الميلادي، قد اكتشف العلم أنّ كثيراً من الشموس ويمكن أن يكون عامة الشموس أن حول كل شمس كواكب سيّارة كما هو الشأن والحال حول شمسنا هذه والتي يدور حولها أحد عشر كوكباً كل كوكب منهم من مادة الأرض، فكل هذه الكواكب التي من مادة الأرض يُطلق عليها الأرض مجتمعة ومنفردة. فإذاً ( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) أي تحت هيمنته وتحت سيطرته وهو محتوٍ لها بشكل أو بآخر بقدرته وبقوته (وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) ويمين الله قدرته، فإذاً ( وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) والسماوات هي حجب بين كل أرض وأرض من الأراضين السبع الأساسية الأصلية، وحيث أنّ السماوات حجبٌ بين كل أرض وأرض الله عز وجل يزيلها ويطويها يوم القيامة، وقد قال في مكان آخر من هذا القرآن المجيد (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ سورة الأنبياء الآية 104 ) والسجل هو الملف الذي توضع فيه الرسائل، ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) كفاية الآية السابعة والستين، ( سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ) سبحان الله، تبارك الله، وتنزّه الله عن خلقه وعن مخلوقاته وتعالى عن ما يشركون به من أصناف الأصنام وأصناف الناس وأصناف خلقه.

الآية الثامنة والستون ننتقل إليها: ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) الله أكبر والعزة لله ولله الحمد، فإذاً ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ) الصور هو البوق الذي ينفخ فيه إسرافيل كمقدمة لقيام الساعة، وهو كما حدّث عنه رسول الله محمد (ص) بوق هائل يحمله إسرافيل وهو جاثٍ على ركبتيه، وكان كلما ذكره رسول الله محمد (ص) ذكر منظره يمتقع وجهه ويتغير لونه فيُسأل تغير لونك يا رسول الله فيقول تذكرت نافخ البوق في جثيته أي في ركوعه استعداداً لتلقي الأمر بقيام الساعة. فإذاً ( وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ ) والصعقة هي نوع من الإغماء قريب من الموت ليس موتاً، وإنما هو حالة شديدة من الإغماء فيصعق جميع من في السماوات و من في الأرض ( إِلا مَن شَاء اللَّهُ ) أن يبقيهم أحياء ينظرون ويسمعون ولكن بدون أن يتعذبوا ويتأذوا مما يرون ويسمعون، ولله خاصة له شأن فيهم وبإبقائهم أحياء وهو كرامة من الله تبارك وتعالى ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ) هذه النفخة الثانية بالبوق أو بهذا الصور ( فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ) فيقوم الناس بأعدادهم الهائلة، فيقومون واقفين ( يَنظُرُونَ ) ينظرون بأبصارهم، وينظرون بمعنى ينتظرون يتوقعون من الله، من يتوقع الثواب فهو ناظر للثواب، ومن يتوقع العقاب فهو ناظر للعقاب فإذاً ( ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى ) فإذا الناس ( قِيَامٌ يَنظُرُونَ ).

       الآية التاسعة والستون: ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ).

       ( وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا ) يوم لا نور إلا نور الله تبارك وتعالى والله نور السماوات والأرض وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وما أعظم وما أروع هذه الإشراقة طبعاً الأرض كما قلنا هو جميع الأجرام السماوية التي هي من مادة الأرض ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ ) كتاب الأعمال، أعمال البشرية طبعاً ولا بدّ أن نقف وقفة هنا عند كلمة الكتاب، فَلِكَيْ لا نتصوره ورقاً أو كالكتب العادية التي هي بين أيدينا نقرأ فيها، وإنما يجب في هذا العصر أن نأخذ فكرة عن أن الكتاب هو نوع من الكومبيوتر المتقدم جداً عمّا علمه الله للبشر من أنواع الكومبيوترات المتقدمة والحواسب المتقدمة، علّمهم بعض ما يعلم علمهم من بعض ما يعلم، من القليل القليل الذي يعلمه الله واحتفظ بعلمه، يعرض كذلك بعضه يوم القيامة ومن جملة ما يعرض من علمه هذا الكتاب الهائل الذي يعرض أعمال البشر منذ بداية البشرية وإلى قيام الساعة، وبالسرعة التي يحصل عليها كل إنسان ليرى أعماله ويرى ما فعل في الحياة الدنيا، الله عز وجل يقول: ( وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ سورة القمر الآية 50) فيشهد الناس كل على حدة ما في هذا الكتاب وبالسرعة الغير متوقعة والغير معروفة في الأرض. ( وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ) النبيون يشهدون على من أُرسلوا إليهم في أجيالهم وفي أيامهم، وكذلك من خصصهم الله عز وجل بأن يكونوا شهداء على الناس فيشهدون ( وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ ) قُضي بين النبيين والشهداء من جهة بالحق وبالعدل وبالرحمة من الله عز وجل، وقُضي على جميع الخلائق كذلك بالحق وبالعدل وبالرحمة لمن هو أهلٌ لرحمة الله عز وجل، أما من ليس هو أهلٌ لها فيأخذه الله بعدله ( وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) والله ليس بظلام للعبيد كما قال وردّد في أكثر من آية في هذا القرآن المجيد .

       ننتقل إلى الآية السبعين: ( وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ).

( وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ) أُعطيت كل نفس ما عملت تمام ما تستأهل من الثواب أو العقاب ( وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ ) وهو أعلم، الله أعلم بما كان يفعل الناس في الحياة الدنيا.

       الآية الواحدة والسبعين ننتقل إليها: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ نعوذ بالله ونستجير بالله.

فإذاً: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ) سيق طبعاً من السوق وهو أن تدفعهم الملائكة أمامهم، أن تدفع الناس الذين كفروا تدفعهم الملائكة تسوقهم سوقاً إلى جهنم، زرافات زرافات زمر مجموعات مجموعات ( حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا ) إذا وصلوا إلى الجحيم إلى النار الكبرى ( فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) نعوذ بالله ونستجير بالله (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا فإذاً فُتحت ابوابها فإذاً ما زلنا في سورة الزمر وفي الآية الكريمة الواحدة والسبعين في قوله تبارك وتعالى ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ وصلنا إلى هذه العبارة في التفسير  (وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ) أي خزنة النار أي بوابوها من الملائكة، وهم الملائكة الغلاظ الشداد ملائكة العذاب قال لهم خزنتها حرّاس النار بوابوها قالوا لهم للناس للكفرة لأهل الجحيم ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا ) ألم يأتكم رسل من لدن الله يقرأون عليكم آيات الله في كتاب الله ويفسرونها لكم ويشرحونها لكم؟ طبعاً بناءً على طلبكم ولا يمكن هذا أن يتم إلا بناءً على طلب الناس من رسلهم أو رضاهم بهؤلاء الرسل أو تصديقهم أو بتصديقهم لهؤلاء الرسل ( أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا) ويخوفونكم من لقاء يومكم هذا يوم القيامة يوم الحساب يوم الفصل يوم الموقف بين يدي الله (قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ) فاعترفوا بأنه إنما جاءتهم رسل وجاءتهم الآيات وسمعوا بها ولكنهم كذبوا بها وتولوا عنها وعن الرسل وعن الآيات وعن الكتاب فـ ( حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ إذاً عَلَى الْكَافِرِينَ ) أي وجبت كلمة العذاب، وكلمة العذاب عنوان لأنواع العذاب ولدرجات العذاب حسب مستحقيه من الناس، لدرجات الكفر ولدرجات النفاق ولدرجات الشرك التي وقعوا تحت وطأتها في الحياة الدنيا.

       ننتقل إلى الآية الثانية والسبعين إلى قوله تبارك وتعالى: ( قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) وقيل لهؤلاء الذين استحقوا العذاب وعند أبواب جهنم قالت لهم الملائكة من خزنة النار ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) إذاً ( ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ أي جهنم خَالِدِينَ فِيهَا ) أبد الآبدين لا موت فيها ولا انقطاع عن عذابها نعوذ بالله ونستجير بالله، نعوذ بالله ونستجير بالله من النار ومن عذاب النار ( فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) تقول لهم الملائكة ( فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) وهو واقع الحال بئس المثوى في مقابل المقام في نعيم الله الذي هو نعم المثوى كما يقول وكلمة بئس تقال لما يؤنف منه ولما يُستجار بالله منه وهي كلمة بشكل عام للذم ( فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ) (…) وعن التصديق بالله وبوحدانيته وتكبروا عن سماع آياته وتكبروا عن تدبر قرآنه وتكبروا عن طاعته إلى آخر ما هنالك من أنواع التكبر والإستكبار.

       ننتقل إلى قوله جل وعز وتبارك وتعالى الآية الثالثة والسبعين: ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) اللهم لك الحمد ولك الشكر ولك الشكر ولك الحمد (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ).

 

فإذاً ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا ) تسوقهم ملائكة الرحمة تدلهم على الطريق على الدروب المؤدية إلى الجنة ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ ) الذين خافوا ربهم الذين قدّروا الله كما استطاعوا أن يتوصلوا إلى فهم الله ومعرفته، حريصين على طاعته، حريصين على حبه، حريصين على خشيته، هؤلاء الذين اتقوا ربهم سيقوا إلى الجنة زمرا كذلك جماعات جماعات زرافات زرافات ( إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ) الواو هنا هي واو الرحمة وواو الفرج وواو العلم، وقد وردت في مكان آخر من القرآن الكريم في سورة الكهف: ( وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ سورة الكهف الآية 22) فجاء قول الحق في الواو هذه التي مُيِّزت عن بقية القول. فإذاً ( وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ) فُتحت أبواب الجنة أبواب الجنات ( وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ) بوّابوها وحراسها ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ ) طبعاً من ملائكة الرحمة قالوا لهم (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) والسلام والأمن من الله تبارك وتعالى وهو تحية الإسلام ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) طبتم من الطيبة، والطيبة من الطوبى من طاب يطيب طيبة وطوبى على وزن الحسنى (طِبْتُمْ) من الطيب كذلك وهو الرائحة الزكية الطيبة، كل هذه المعاني في تحيتهم ( سَلامٌ عَلَيْكُمْ) وفي قولهم ( طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ) أبد الابدين كذلك لا موت فيها في الجنات ولا انقطاع عن نعيم الله وعن رحمة الله وعن بركات الله فمخلّدين فيها أبد الآبدين.

الآية الرابعة والسبعون: ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) فإذاً قوله عز وجل عن أهل النعيم عن الذين تفضل الله عليهم بإدخالهم جنانه ونعيمه ( قَالُوا ) من الطبيعي والبديهي جداً أن تكون الكلمة الأولى التي يقولونها ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ) ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا ومن أصدق من الله وعدا ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ ) صدقنا ما وعدنا به في الحياة الدنيا في كتابه وفي آياته وعلى ألسن رسله وأنبيائه (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء ) وأورثنا الأرض بدرجاتها التي تحدثنا عنها هذه الكواكب التي لا تكاد تعد ولا تحصى أورثنا إياها الله عز وجل، ويمكن أن يكون لكل مؤمن متقٍّ لله يكون له كوكباً أن يكون له كوكب من هذه الكواكب أو أكثر على كثرة هذه الكواكب وما كشف العلم الحديث عنها كشفاً مؤكداً مقارناً بهذه الزاوية الصغيرة جداً من مجرتنا درب التبانة والتي تشكل مجموعتنا الشمسية التي تدور الكواكب الإحدى عشر التي تدور حول شمسنا هذه بينما مجرة درب التبانة فيها مليارات الشموس ومليارات الكواكب كما كشف العلم في العشر سنوات الأُخر من هذا العصر. فإذاً (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء ) كل حسب درجته ومقامه الذي قرره الله له ( فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) آخر الآية فنعم ما أعطى الله وما تفضل الله به على العاملين بآيات الله الذين آمنوا وصدّقوا وأطاعوا وكانوا حريصين على ذلك ليس نظرياً وإنما كذلك عملياً فنعم أجر هؤلاء العاملين.

       ننتقل إلى الآية الأخيرة من سورة الزمر إلى الآية الكريمة المباركة إلى قوله تبارك وتعالى وجل وعلا: (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).

فإذاً قوله تبارك وتعالى: ( وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ ) وترى الملائكة يا محمد يا رسول الله، وترى الملائكة يا أي ولي من أولياء الله، وترى الملائكة يا أي إنسان قضى الله له بدخوله الجنة أي درجة من درجات الجنة، ترى الملائكة بأشكالهم الرائعة وأحجامهم وأجنحتهم اللازوردية بألوانها المتعددة وبما يقومون به من عروض حول العرش تجذب المشاهد وتؤنس المشاهد ( يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ) يسبحون بحمد الله ويذكرون الله ويشكرون الله ويحمدون الله تبارك وتعالى ( وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ ) قُضي بين الملائكة كذلك بالحق وقُضي بين الخلق جميعهم بالحق ( وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد ولك الشكر، ولك الشكر ولك الحمد، كما تحمد نفسك وكما تشكر نفسك، وكما ينبغي لكرم وجهك، ربنا يا لا إله إلا أنت يا إله العالمين سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت اغفر لنا وتب علينا.