سورة السجدة

تفسير سورة
السجدة
تحميل الصوت

بسم الله الرحمن الرحيم

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم، تفسير سورة السّجدة وهي مكية وهي ثلاثون آية ورقمها في المصحف الشريف الثانية والثلاثون قال الله تبارك وتعالى: ﴿ لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا﴾ سورة النساء الآية 166.

 أما السورة المباركة فهي التالية قوله جلّ وعزّ: بسم الله الرحمن الرحيم ( الم) وبخصوص ( الم ) راجع موقعنا على الإنترنت islamicbrain.org تحت عنوان العقل الإسلامي مفاتيح السور أو الشيفرة القرآنية، ( الم ) معتبرة هنا آية.

 ثمّ قوله عزّ وجلّ في الآية الثانية: ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ) أيّ القرآن المجيد ( لا رَيْبَ فِيهِ ) لا شكّ فيه إطلاقاً أنّه تنزيل ( مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) وليس من أحدٍ غيره من خلقه طبعاً وهذا يعطي القرآن من الشرف ومن المكانة ومن العظمة الشيء الكثير كونه تنزيل من ربّ العزّة والعظمة ربّ العالمين.

الآية الثالثة: ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ).

 ( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ) إفتراه إختلقه أو إخترعه أو إدّعاه عن محمد صلى الله عليه وآله ( بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ ) الكلام الثابت الأصيل الذي فيه الخير وفيه الحقائق العليا والحقائق العظمى ( بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) لتدلّهم على الأخطار التي أمامهم في الدنيا وفي الآخرة ( مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ ) من نبيٍّ أو رسول يدلّهم ويخيفهم من هذه الأخطار التي أمامهم ( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) رجاء أن يهتدوا إلى ربهم فيعرفونه بوحدانيته وفردانيته ويعرفون أنّه هو الحاكم في الدنيا وفي الآخرة وأنهم إذا عرفوه سبحانه إهتدوا إلى النعيم المقيم ونجوا من العذاب الأليم من العذاب المقيم كذلك. 

فالآية الرابعة قوله جلّ وعزّ: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ).

 قوله تعالى: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ ) هي بعد قوله ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) وهي بعض التعريف عن عزّته. ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) طبعاً ليس من أيام أرضنا، هذه الأيام ليست من أيام أرضنا وسمائنا الدنيا، لأن اليوم عندنا تشكل بعد خلق السماء والأرض بدورة الأرض حول نفسها أمام الشمس، وكذلك أيام بقية الكواكب السيارة من أخوات أرضنا، كلّ كوكب له يوم يكون أطول من يومنا أو أقصر تبعاً لحجم كلّ كوكب، وبذلك يكون طول اليوم الكوني عبارة عن مليارات السنين ولا يعلم مدى هذا اليوم وحقيقة طوله إلا الله المحيط وحده بالأكوان كلّها، أما لماذا في ستة أيام فذلك ليقول للإنسان أن تأنّى ولا تعجل واعمل بحكمة وإحكام  فإن ربك القادر إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون  خلق السماوات والأرض في ستة أيام. أما قوله عزّ وجلّ ( ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) أيّ عمد إلى إدارة الأكوان وتدبيرها من عرش عزّته وعظمته والعرش هو الأعظم في خلق السماوات والأرض. بعده قوله تعالى ( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) أي ما لكم من دون الله الحاكم لهذه الأكوان المهيمن عليها وعليكم والقاهر فوق خلقه ( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ ) يتولاّكم برعايته وعنايته وحبّه وتسديده إذا أطعتموه ( مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ ) يشفع بكم ولا يشفع لكم ولا يُعِنُكم بشيء لأن الشفاعة في النتيجة لله جميعاً ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) أي ( أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) نشأتكم الأولى وخطيئتكم التي أهبطتكم إلى الأرض فارعووا وتوبوا توبةً نصوحاً وقد فتح الله لكم في الدنيا باب التوبة من رحمته وكرمه وجوده فبادروا إلى هذا الباب الكريم.

ثمّ قوله جلّ وعزّ في الآية الخامسة: ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ).

 ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ) قُرِأت ثمّ يُعْرَج إليه ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) قوله تعالى ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ) أمر الخلائق أمر الأكوان في جميع تفاصيلها ودقائقها، من حفظ الفلك الدّوار وحفظ ما فيه وحفظ ما تحت السماء الدنيا مما يراه البشر وفوق السماء الدنيا مما لا يراه أكثر البشر ولا يعرفه أكثر البشر، فإذاً يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء، سواءً في مجال السماء أو السماوات أو في مجال الأرض في يابستها وفي بحارها وفي أنهارها وفي خلقها في إنسانها وفي حيوانها وفي نباتها وفي جميع التفاصيل التي دوّخت الإنسان وهو يقيم لها الموسوعات ويصنّف لها الكتب، الله عزّ وجلّ يدبّر أمر كلّ ذلك ويديره سبحانه ثمّ يَعْرج إليه على قراءة يَعرج أي الأمر ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) أو يُعْرَج إليه في اليوم الآخر يوم الحساب يُعْرَج إليه أي الناس يُرفعون يَعرجون في السماء كلٌّ إلى مكانته إما في النعيم وإما في العذاب المقيم. وقوله تعالى ( فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) أي هذا اليوم الذي يَعرج فيه الإنسان على قول أن العروج هو للإنسان في يوم لو أراد الإنسان أن يقطعه بوسائله الدنيوية المعروفة ولو بسرعة الضوء لاقتضى ألف سنةٍ مما يعدّ البشر ولو بالسنوات الضوئية، وإنما بقدرة الله عزّ وجل يُقطع تُقطع هذه المسافات الهائلة في يوم واحد هو الذي يكون مقداره ألف سنة مما يعدّ الناس في العصور العلمية المتقدمة.

ثمّ الآية السادسة قوله جلّ وعزّ: ( ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) أي طبعاً استطراداً قوله في الآية الثانية ( تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ) ثمّ تعريفه عن عزّته ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) ثمّ قوله جلّ وعزّ ( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الأَرْضِ ) إلى آخر الآية ( ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ    وَالشَّهَادَةِ ) أي الغيب ما لا يراه الناس وما لا يحيطون به من أعاجيب خلق الله وأعاجيب الأكوان، وَالشَّهَادَةِ الحضور أي ما يراه الناس تحت السماء الدنيا جملة وتفصيلا فإذاً ( ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ ) في حكمه ( الرَّحِيمُ ) بالمؤمنين الذين يطيعونه ويحبونه ويسترحمونه من خلقه.

ثمّ قوله تعالى في الآيات الثلاث السابعة والثامنة والتاسعة: ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ ) وقوله جلّ وعزّ ( الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ) الذي أحسن، أتمّ، أتقن وأحكم كلّ الأشياء التي خلقها في الوجود ( وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ) أيّ البشر كلّهم في النشأة الأولى فأكلوا جميعاً من شجرة الخطيئة فجعل تناسلهم ( مِّن مَّاء مَّهِينٍ ) كما في الآية الثامنة وذلك هو الماء الذي ينسلّ من صلب الرجل ( مَّهِينٍ ) أيّ لا قيمة له ثمّ يغدوا ذا قيمةٍ بعد تسويته وذلك في قوله تعالى ( ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ) فسوّاه جعله سوياً معتدلاً ليس فيه أي نقص ولا أي تشويه في الأساس ( وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ) نفخ فيه العقل بعد أن كان بهيمياً قبل هذه النفخة ( وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ ) واضح لكي تسمعوا بآذانكم ( وَالأَبْصَارَ ) لكي تروا بأعينكم بعيونكم ( وَالأَفْئِدَةَ ) لكي تفقهوا بها ( قَلِيلا مَّا    تَشْكُرُونَ ) والله جلّ جلاله يقول (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ سورة ابراهيم الآية 7) لئن شكرتم لله نعمه وكرمه يزيدكم من نعمه وعطاءاته وجوده، ولئن كفرتم بهذه النعم ولم تشكروها ولو أنكم كنتم مؤمنين بالله جلّ وعزّ فإنّه يعذبكم على جحودكم وعلى لؤمكم أنكم لا تشكرون نعمه ولا تشكرون كرمه.

ثمّ قوله جلّ شأنه في الآية العاشرة: ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) ( وَقَالُوا ) قال الكفار الجاحدون ( وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ ) وهم يشكّون في البعث ويشكون في قيام الساعة ويشكون بالجنّة والنار ويشكون بلقاء الله ( قَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) ( أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ ) أي ضعنا في الأرض تقول إذا أضعت شيئاً في كومة تراب مثلاً تقول ضلّ هذا الشيء عني وذلك قولهم ( أَئِذَا ضَلَلْنَا ) أي إذا ضعنا في الأرض وأصبحنا رمماً بالياً ( أَئِنَّا بعد ذلك لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ) أنُبعث أسوياء بشراً كما كنا نمشي ونتحرك ونجيء ونروح ( بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُونَ ) الله عزّ وجلّ يقول ( بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ) أي بيوم الحساب وبقيام الساعة هم (كَافِرُونَ ) هم غير مؤمنين.

الآية الحادية عشرة يقول الله عزّ وجلّ: ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) فأجبهم يا رسول الله بقولك بل ( يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ) المكلّف بتوفيكم (ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ) يوم القيامة للحساب.

ثمّ الآية الثامنة عشرة قوله تعالى: ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ ).

 ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ) الكافرون الذين لا يؤمنون بيوم القيامة ولا بالحساب ولا بالجنّة ولا بالنار لو تراهم وهم ناكسو إذ هم ( نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ ) خافضي رؤوسهم من الندامة عند ربهم ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ) أي يقولون ( رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا ) رأينا الحقائق العظمى في يوم القيامة ورأينا كلّ ما وعدت وأوعدت به صحيحاً ( فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا ) إرجعنا إلى الحياة الدنيا ( نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ) إنا أصبحنا على يقين بما وعدت وأوعدت.

وبعد هذا يقول في الآية الثالث عشرة: ( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ).

 ( وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) (إِنَّمَا أَمْرُهُ عزّ وجلّ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ سورة يس الآية 82) ( وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ) يقول جلّ وعزّ أنّه وجب القول منه لحكمة هو أدرى بها (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) هؤلاء الذين هم مكلفون ممتحنون في الحياة الدنيا وأنّه سيملأ منهم جهنم على اتساعها.

الآية الرابعة عشرة قول الله: ( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ).

 ( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ ) نسا ونسي فعلان لهما معنيان مختلفان فنسا بالألف هي بمعنى ترك ونسي بالياء هي بمعنى لم يتذكر، والمقصود هنا الفعل الأول نسا بمعنى ترك الله عزّ وجلّ يقول ( فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا ) بما تركتم العمل من أجل هذا اليوم استعداداً لهذا اليوم ( إِنَّا نَسِينَاكُمْ ) وهذا حكم من ينسانا وينسا لقاءنا (وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) أي التخليد في عذاب الجحيم في عذاب الآخرة.

ثمّ قوله جلّ وعزّ في الآية الخامسة عشرة: ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ) وهذه الآية فيها سجدةٌ واجبة وإنما سُميّت السورة كلّها سورة السجدة بإسم هذه الآية والسورة هي من العزائم. فإذاً قوله تبارك وتعالى ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا ) بآيات القرآن المجيد بشكل خاص وبجميع آيات الله ومعجزاته وعجائبه في خلقه ( إِنَّمَا يُؤْمِنُ بهذه الآيات الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا ) أي هووا سجّداً لله تبارك وتعالى خشية ورهبةً وحباً بالله وتعظيماً له ( وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ ).

ثمّ قوله جلّ شأنه في الآية السادسة عشرة: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ).

 ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ) أي يتعاطون عدم الإخلاد إلى النوم والغفلة لئلا تفوتهم صلاة الليل أو بقية أنواع العبادات ( الْمَضَاجِعِ ) الفرش الأمكنة التي ينامون فيها ومن شأنهم في ذلك أن يدعوا (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ) يدعون الله خوفاً خشيةً منه وطمعاً فيه وبعطاءاته سبحانه ( وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ) أي ممّا أتيناهم من الرزق الحلال.

ثمّ قوله تعالى في الآية السابعة عشرة: ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ).

 ( فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ) ما خَبّأ الله لهم من قرة أعينٍ من السعادة من أنواع السعادات لا تعلم نفس بشرٍ ولا جنٍّ ولا حتى الملائكة لا يعلمون ما خبّأ لهم الله عزّ وجلّ من خيراتٍ وبركاتٍ ( جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) في الحياة الدنيا من الصالحات وبما يتقرّبون إلى الله عزّ وجلّ من العبادات.

ثمّ الآية الثامنة عشرة قوله تعالى: ( أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ) واضح أنّه لا يتساوى أبداً المؤمن والفاسق لأنّ بينهما فرقاً كبيراً هو فرق ما بين الجنّة والنار.

ثمّ الآية التاسعة عشرة قوله جلّ وعلا: ( أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) أي سكناً لهم ( بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) في الحياة الدنيا.

الآية العشرون قوله جلّ وعزّ: ( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ).

 قوله تعالى ( وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا ) أي خرجوا من الدين وكذّبوا به ( فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا ) كلما أرادوا أن يفرّوا أن يهربوا من العذاب (أُعِيدُوا فِيهَا ) ردّوا إليها ( وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ) في الحياة الدنيا ولم تكونوا تصدّقوا بوعد الله ووعيده.

ثمّ قوله جلّ وعزّ في الآية الإحدى والعشرين: ( وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ).

 ( الْعَذَابِ الأَدْنَى ) هو المصائب والمحن في الحياة الدنيا قوله عزّ وجلّ (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى ) هو عذاب الحياة الدنيا وإضافةً إلى المصائب والمحن الحدود على الجرائم إذا حُكم على فاعليها ثمّ قوله في آخر الآية ( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) بناءً على القسم الذي أقسمه أنّه ليذيقنّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) إلى ربهم وإلى أوامره وإلى تعاليمه في الحياة الدنيا ثمّ قوله تعالى ( دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ ) أي ( لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ ) العذاب الأكبر المقصود به عذاب الآخرة وهو عذاب التخليد في النار.

ثمّ قوله جلّ وعزّ في الآية الثانية والعشرين: ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ ).

 ( وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ) أيّ الذي ذكر بآيات ربه ( ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا ) تولى عنها ولم يتوقف عندها ولم يصدق بها ينتقم منه الله جلّ وعزّ ويُعتبر من المجرمين ينتقم الله منه في الحياة الدنيا كما قدّم فيُذِيقه من العذاب الأدنى وينتقم منه في الآخرة في تخليده في العذاب.

ثمّ الآية الثالثة والعشرون قوله تبارك وتعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ).

 قوله تعالى: ( فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ ) أيّ لا تكن في شكٍ من لقائه أي من لقاء موسى في الآخرة ( وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) الهاء راجعة إلى الكتاب أو راجعة إلى موسى فكلاهما كان ( هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ) جعله الله تعالى كذلك.

ثمّ الآية الرابعة والعشرون: ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) وقرأت لِمَا صبروا فالمعنى ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) أي جعلنا من بني إسرائيل أئمةً قادةً هداةً (يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) وهم أنبياء بني إسرائيل ( لَمَّا صَبَرُوا ) جعلناهم كذلك أئمةً هداةً ( لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) أيّ كانوا بها مصدقين لا يشكّون بها وكانوا بها عاملين.

الآية الخامسة والعشرون قوله تبارك وتعالى: ( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) أي أنّه سبحانه هو بعزّته ( يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ) كما بين جميع خلقه ( يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) ولا يكِلُ الفصل لأحدٍ غيره ثمّ المعنى أنّه ( يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ) من شكٍ وتصديقٍ وكفر وإيمان وتصديق بالرسل وبما أنزل الله عليهم ولا سيما تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وآله وبما أنزل الله عليه من كتاب هذا الكتاب المجيد الذي هو القرآن الكريم.

ثمّ قول الله جلّ وعزّ في الآية السادسة والعشرين: ( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ ).

 ( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ ) أيّ لبني إسرائيل ولعامة الكفرة من الناس من جميع الأجناس والملل ( أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم ) أو لم يُبيّن لهم ( كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ ) من الأجيال ( يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) في مساكنهم أي في الآثار التي تركوها من مساكنهم أو في المساكن التي ما زالت مشيّدة أو في الأرض التي سكنوها ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ ) إنّ في ذلك لشواهد ولبراهين ساطعات للناس بعد أن أباد الله من أباد من الأمم وبعد أن خسف بمن خسف وأغرق من أغرق ( أَفَلا يَسْمَعُونَ ) الناس هؤلاء الذين أُنزل إليهم القرآن واعداً متوعداً إلى قيام الساعة ( أَفَلا يَسْمَعُونَ ).

ثمّ قوله تبارك وتعالى في الآية السابعة والعشرين: ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ ).

 طبعاً الله عزّ وجلّ يكرر الأدلة والبينات التي تدل على وحدانيته وعلى قدرته وعلى عظمته ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الأَرْضِ ) أو لم يرَ الناس أنّا نسوق الماء بالأمطار وبالسيول من الأمطار وبالأنهار وبالعيون التي تجري في الأرض بجميع هذه الأنواع من أسباب الريّ ( أَنَّا نَسُوقُ الْمَاء إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ ) أي الأرض اليابسة الجرداء ( فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ ) أي مواشيهم على اختلاف أنواعها (وَأَنفُسُهُمْ ) ويأكلون هم من هذه الأرض ومن هذا الزرع ( أَفَلا يُبْصِرُونَ ) ولا يتفكرون.

ثمّ قوله جلّ وعزّ في الآية الثامنة والعشرين: ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ    صَادِقِينَ ).

 الفتح المقصود هنا هو يوم القيامة لأنّ فيه الحكم بالثواب والعقاب وقوله تعالى ( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ) أي المنكرون لقيام الساعة والمنكرون ليوم القيامة وما زال المؤمنون من المسلمين أهل اليقين يستفتحون على الآخرين على المنكرين لقيام الساعة وللحساب وللثواب والعقاب ما زالوا يستفتحون عليهم بإنذارهم بهذا اليوم لذلك قول الله تبارك وتعالى وَيَقُولُونَ أي المنكرون لقيام الساعة ( مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

ثمّ الآية التاسعة والعشرون قوله جلّ وعلا: ( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ ) قل يا رسول الله وقل يا أيّ وليّ من أولياء الله وقل يا أيها المؤمن والموقن من المسلمين ومن غير المسلمين ( قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ ) أي يوم القيامة لا ينفع الذين كفروا بيوم القيامة وبما دون يوم القيامة من عامة أنواع الكفر قل ( لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ ) إذا آمنوا يوم القيامة لأنهم سيؤمنون حتماً عندما يرون الحقائق الكبرى ( وَلا هُمْ يُنظَرُونَ ) أي لا يعطون فرصةً لإصلاح ما فات.

ثمّ الآية الثلاثون وهي الآية الأخيرة من هذه السورة المباركة قوله تعالى: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ ) و( أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) أي دعهم وشأنهم يا رسول الله ويا وليّ الله في أيّ زمان ويا أيّ موقن من الموقنين أعرض عن أمثال هؤلاء (وَانتَظِرْ ) حكم الله فيهم ( إِنَّهُم مُّنتَظِرُونَ ) إنهم منتظرون كانتظار البهائم بلا وعيٍّ ولا إدراك.

سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت إغفر لنا وتب علينا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.