سورة الصافات

بسم الله الرحمن الرحيم

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، تفسير سورة الصافات، وهي مكية وآياتها ماية واثنتان وثمانون آية ورقمها في المصحف الشريف سبع وثلاثون.

       قال الله تبارك وتعالى:  لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا  سورة النساء الآية 166.

       أما السورة فهي التالية، قوله تبارك وتعالى : بسم الله الرحمن الرحيم  وَالصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا، إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ، رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ خمس آيات.

قوله جلّ وعلا: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا حجاب من الملائكة دون عزته، فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا حجاب من صنف آخر من الملائكة دون عزته، فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا حجاب ثالث من الملائكة دون عظمته، عزّت عزّته وجلّت عظمته، فالواو في وَالصَّافَّاتِ صَفًّا واو القسم، والفاء في الزَّاجِرَاتِ زَجْرًا عطف على القسم، قسم آخر وهي تركيبية كذلك في قوله تعالى: فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا بالنسبة للفاء، الله جل وعزّ يقسم بهذه الأقسام الثلاثة، ثم يكون جواب القسم إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ لا إله إلا هو وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ  هذه الآية في سورة الزخرف رقمها أربع وثمانون، وكما أخبر هو سبحانه عن نفسه. وهو سبحانه روح هذا الوجود العظيم اللامتناهي. يفعل في هذا الوجود ما يشاء بحكمته وعدله ورحمته. وهو سبحانه يحاسب الأفراد والجماعات والشعوب والأمم في وقتٍ واحد في الحياة الدنيا ويوم تقوم الساعة يحاسبهم بمعاني هذه الآية الكريمة قوله تعالى :  وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ  سـورة الأحقــاف الآية 19. مرتِّباً ذلك على ما بين النشأة الأولى ونهايات النشأة الثانية، والأولى هي التي أهبطنا منها بعد أكلنا من الشجرة، والثانية هي التي جعلنا فيها والتي نعيشها في هذه الحياة الدنيا. فمن لم يحصِّل موجبات السعادة في النشأة الأولى، ألزمه الله الحجة في هذه الحياة الدنيا. فإن كان أَبْلَسَ في النشأة الأولى، أي فعل ما يحرمه من رحمة الله حرماناً أبدياً، ظل شقياً حتى في بطن أمه،  وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ  سورة الزخرف الآية 76. وإن كان لم يُبلس في النشأة الأولى فهو في خيارين: إما الشقاء وإما السعادة. فمن كفر أو أشرك أو نافق، فقد شقي، ولهؤلاء في عذاب الدنيا والآخرة درجات. ومن آمن ووحَّد وصدق، وصبر للبلاءات ونجح في الإمتحانات الإلهية، فقد سعِد سعادة الدارين، الدنيا والآخرة، ولهؤلاء كذلك في الدنيا والآخرة درجات، تبعاً لدرجاتهم في الإيمان والصدق واليقين، وشكر النعم أو كفرها قال تبارك وتعالى:  إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ، نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ  سورة فصلت الآيات 30-31 .

       أما قوله تبارك وتعالى:  رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ  الآية الخامسة فهي تفسير لقوله إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ. رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا رب الوجود ورب كل شيء فهو خالق كل شيء وهو بكل شيء محيط، أما قوله: رَبُّ الْمَشَارِقِ فالمشارق التي في الأرض والمشارق التي في السماء، أما المشارق التي في الأرض ففي الأرض مشرقان ومغربان، أما المشرق الذي هو في الأرض ففيه ثلاثماية وستين مشرقاً موزعة على ثلاثماية وستين درجة، ثم تغرب هذه الشمس في المغرب فتكون لنا نحن الشرقيين مغرباً، وتكون لأهل الغرب مشرقاً، وكذلك في الغرب يكون غروبها في ثلاثماية وستين درجة في السنة، ثم تعود وتغرب في الغرب، فتكون لنا مشرقاً فهذا معنى قوله: رَبُّ الْمَشَارِقِ  قلنا التي في الأرض، ثم المشارق التي في السماء، فلكل كوكب سيّارٍ من أخوات كوكبنا الأرض له كذلك مثل أرضنا مشارق ومغارب، ثم إضافةً إلى الكواكب السيّارة التي في مجموعتنا الشمسية قد اكتشف العلماء مؤخراً منذ سنوات قليلة شموساً أُخر غير شمسنا، وتدور حولها كذلك كواكب قيل إن بعضها غازيّ، وقد تأكدوا هذا العام الذي هو 2005 من كوكب قالوا إنه كوكب صخري يدور حول شمس هي أكبر من شمسنا، وبسبب قربه من شمسه فإن سطح هذا الكوكب ساخن جداً ويصل إلى ما بين 204 درجات إلى 371 درجة مئوية. وطبعاً هذه المعلومات لا توجد في كتب التفسير التقليدية، لأن المفسرين لم يكونوا قد أدركوا عصر العلم والكشوف في الفلك هذه الكشوف الرائعة.

       ننتقل إلى الآيات السادسة إلى العاشرة إلى قوله جلّ وعزّ:  إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ، وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ،  دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ، إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ وهذه حكاية الشياطين المردة، وهم صنف من الشياطين حبسه الله تحت السماء الدنيا، قوله تعالى: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ والكواكب التي في السماء لها كما هو في النصوص القرآنية وظيفتان، الوظيفة الأولى أن تكون زينة كما أشار الله تبارك وتعالى، وحفظاً الوظيفة الثانية أن يحفظ بها هذه السماء وما فوقها من إستماع الشياطين الذين ذكر الله صفاتهم بقوله تعالى: وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ والمارد هو المتمرد بمعنى العدواني وبمعنى آخر الأجرد من كل خير، لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأعْلَى أي أنّ هؤلاء الشياطين لا يَسَّمَّعُونَ لا يستطيعون الإستماع إلى الملأ الأعلى الذي ما فوق السماء الدنيا وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ يُقذفون بالشهب وبأنواع النار التي في السماء تعذيباً لهم دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ الدحر والدحور هو الدفع بقوة وعنف، فإذاً هم يُدحرون يُدفعون بعنف وبشدة وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ وواصب دائم إذاً ولهم عذاب دائم إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ إلا من استطاع منهم أن يسترق السمع ويختطف عبارةً أو معلومةً من المعلومات فإن فعل ذلك أَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ أي شعلة من النار شديدة الضوء، شديدة الحرارة، ثَاقِبٌ شديد الوهج، وهذه الشهب كثيراً ما نراها ويراها عامة الناس في سمائنا، وإنما نحن نرى الشهب ولا نرى الشياطين، لأنها مغيبة عن أبصارنا ولا بأس هنا أن نذكر أن ما يُقال عن الصحون الطائرة، أنها شُوهدت في روسيا وفي نفس موسكو مرةً في إحدى حدائقها، ومرّاتٍ كثيراتٍ في أميركا وفي بلدان أوروبا، أنها لا تختلف عن هذه الشياطين وإنما هي هي، وقد ذكرنا هذا التحقيق في مكان آخر. ولله ألطاف خفية، لله في خلقه شؤون، وهذه الصحون كما ذكر عنها تمر كالبرق الخاطف وقد إستحال على الناس رصدها أو تصويرها.

       ننتقل إلى الآية الحادية عشرة وما بعدها: فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لازِبٍ فاستفتهم يا رسول الله يا محمد، سائلهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا ممّن ذكرنا من هؤلاء الشياطين المردة؟ وأخبرهم، أخبر قومك والناس أنهم من ضعاف خلق الله ومع ذلك حميناهم وحفظناهم من خلق هم أشد منهم قوةً، ولكنّنا جعلنا ولكن الله عز وجل جعل بينهما بين هؤلاء الجن وبين البشر برزخاً وحجراً محجورا، ثم يقول إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لازِبٍ قل لقومك أننا إذا كنّا خلقنا هؤلاء الشياطين من نورٍ ونار فقد خلقنا الناس، خلقنا قومك والناس من طين لازب، ولازب ولازم بمعنى واحد، أي من طينٍ لاصق بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ الآية الثانية عشرة وما بعدها وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ، وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ، وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ  بل عجبت يا رسول الله مما ذكر الله عمّا خلق وَإِذَا ذُكِّرُوا هم لا يَذْكُرُونَ ، إذا ذكّروا بالحقائق التي خلقها الله وبالآيات العجيبات لا يَذْكُرُونَ، وَإِذَا رَأَوْا آيَةً من هذه الآيات يَسْتَسْخِرُونَ أي يسخرون منها ويهزأون بها وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ عن القرآن المجيد وما يخبر به القرآن المجيد، ويتعجبون في نفس الوقت من إخبار القرآن ـــــــــــ أي الله تبارك وتعالى ـــــــــــ  عن الناس أنهم إذا ماتوا سيبعثون بعد موتهم للحساب فإذاً وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ إن هذا إلا خداع وكذب.

        أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ، قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ  قل نعم يا رسول الله نعم ستبعثون وأنتم صاغرون أشدّ الصغار وأنتم أذلاء.

       فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ، وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ فإنما هي زجرة أي الصيحة التي هي أول يوم القيامة، والزجر في اللغة هو الصرف عن الشيء بالمخافة وهنا الصيحة أو النفخ في البوق كما هو في آيات أُخر وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ أي يوم الفصل يوم الحساب يوم لا تنفع ندامة نادم. وهكذا يقول الله جلّ وعزّ: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ، احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ نتوقف عند هذه الآية مع شيء من التأمل والتعجب. فقوله جلّ وعز احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، مِن دُونِ اللَّهِ فإن اعتبرنا أن المقصود هم الأزواج من البشر، أي الرجال وزوجاتهم، فهذا فيه إشكال إذ أن ليس كل الرجال كانت لهم زوجات كافرات إذا كانوا هم كافرين، أو مشركات إذا كانوا هم مشركين، وغالباً يختلف الأمر، فقد يكون الرجل كافر وزوجته مؤمنة، والعكس قد يكون صحيح، وهناك إشارات كثيرة في القرآن الكريم، وكما نرى في المجتمعات في تاريخ المجتمعات البشرية، فإذاً لا بدّ هنا من سرٍ في هذه الآية. وقد حققنا هذا الأمر ووجدنا أن قوله تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ أنّ المقصود بالأزواج هي النفوس الملكوتية الموجودة في عالم الملكوت، وقد ذكرنا في كتابنا “العقل الإسلامي” أن لكل إنسان في جملة عداد أنفسه، وقد ذكرنا أنّ للإنسان أكثر من نفس، وذكرنا في جملة هذه الأنفس أنّ لكل إنسان نفساً ملكوتية موجودة في عالم الملكوت، وهي قابلة تتأثر بما يفعله الإنسان في الأرض، حتى إذا توفاه الله يزوّجه الله نفسه هذه ويرفعه بها ولا يمكن أن يرتفع أو يُرفع إلا مع هذه النفس. قوله تبارك وتعالى لملائكة العذاب يوم القيامة احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ، مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ الذين ظلموا، فكيف يُحشر الذين ظلموا ويُحشر أزواجهم معهم إذا كنّ من الصالحات، دليلنا على أن المقصود بهذه الأزواج هي النفوس الملكوتية قوله في أشراط الساعة في سورة التكوير وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ الآية السابعة فقوله وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ هي شرط من أشراط الساعة أي يكون قبل قيام الساعة، فإذاً تُزوج هذه النفوس قبل قيام الساعة، فكيف تُزوج أنفس الظالمين ولا يكون هذا الأمر إلا كما حققنا بإذن الله تعالى.

ثم يقول الله تبارك وتعالى وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ، مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ، بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ، قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ هنا أقبل بعضهم على بعضٍ أقبل البشر على شياطينهم، أقبل التابعون على المتبوعين، متبوعيهم، أقبل كل فريق ٍعلى الفريق الذي أضلَّه، وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ، قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قال الأتباع للمتبوعين أنكم كنتم تأتوننا عن طريق القوة والجبر قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أجابوهم بل لم تكونوا مؤمنين وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ والراجح هنا أنَّه قول الشياطين، وفي الإنس شياطين وفي الجنّ شياطين كما هو مذكور في القرآن الكريم، وقولهم وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ وما كان لنا عليكم من قوّة ولا حجة ولا كان يمكننا إجباركم بل كنتم تكفرون بالله وبكتاب الله وتتجاوزون حدود الله وكنتم طغاةً ظالمين فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ الآية الواحدة والثلاثون يتابعون القول فحقَّ علينا بأنّا لا نؤمن وأنّا نموت كافرين إِنَّا لَذَائِقُونَ لذائقوا العذاب فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ الآية الثانية والثلاثون فاعترفوا بأنهم أضلوهم أَغْوَيْنَاكُمْ أضللناكم اعترفوا بإضلالهم لهم واعترفوا بأنهم هم كانوا ضالين فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ نعوذ بالله ونستجير بالله، الله عزَّ وجلَّ يقول: أنه إذا كان الكلام عن هؤلاء المجرمين بأعيانهم، ويقول إنّا كذلك نفعل بكل المجرمين في تاريخ البشرية وإلى قيام الساعة إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ يرفضون التوحيد ويظلون يميلون إلى آلهتهم المزعومة وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ الآية السادسة والثلاثين ويظلُّ يتكرر معنى هذه الآية في الدهر، وحتى أصحاب الكتب المنزلة اليهود والنصارى والمسلمون يعبدون آلهةً غير الله ويتهمون بالجنون من يحاول ثنيهم عن آلهتهم المزعومين بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ الله عزَّ وجلَّ يقول بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ عن محمد(ص) وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ الذين تقدَّموا قبلهُ، والحقُّ الذي جاء به هو التوحيد وتصديقه للمرسلين كذلك بالتوحيد الذين أرسلهم الله به وكانوا دعاةً للناس إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ أيها المجرمون أيها الكفرة وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لا ظلم اليوم، الله لا يظلم أحداً إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ طبعاً هذه الآية الأربعون والله عزَّ وجلَّ يستثني من هؤلاء المجرمين الذين حقّ عليهم القول والذين أضلوا بعضهم بعضاً، والذين استحقوا عذاب الله، إستثنى منهم عباده المخلصين، الذين أخلصوا له قلوبهم وأخلصوا عبادتهم وأطاعوه في كلِّ ما أمر به، وانتهوا عن كلِّ ما نهى عنهُ، وتابوا إليه لا يعبدون غيرهُ ولا يدعون غيره ولا يرجون غيرهُ.

      يقول الله تبارك وتعالى أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ، فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ، يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ، بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ، لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ  حتى الآية السابعة والأربعين، وقوله تبارك وتعالى أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ أي معلوم عندهم كما وعدهم الله به في الكتب المنزلة ويفصل الله ذلك ويقول فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ أي هذا الرزق فَوَاكِهُ أنواع، وَهُم مُّكْرَمُونَ مبجلون محترمون، والإكرام والتكريم ضد الإهانة فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ يقابل بعضهم بعضاً فيتحدثون ويتذاكرون يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ المعين الظاهر للعيان، والمعنى هنا من خمرٍ ظاهرةٍ عيونها أي ينابيعها بَيْضَاء لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ بيضاء قيل خمر الجنَّة أشدُّ بياضاً من اللبن، وأنها في منتهى الرقة، وأنها نوريَّة لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ لا تغتال عقولهم لا فِيهَا غَوْلٌ أي لا تغتال عقولهم فتذهب بها، ولا يصيبهم منها وجعٌ في البطن أو في الرأس ويقال للوجع غول لأنه يؤدي الى الهلاك، أما قوله تعالى وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ ففيها قراءتان، وفيهما معنيان متداخلان، فالمعنى الأول لا هم عنها يُنْزَفُوْنَ لا يسكرون فالإنزاف من السكر نزف العقل، والقراءة الثانية ولا هم عنها يُنْزِفُوْنَ أو لا تنقطع خمرهم عنهم لأنها لهم متى يشاؤون وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ القاصرات الطرف التي تقصر طرفها أي نظرها على زوجها ولا تتجاوز إلى غيره لأنها تحبهُ ولا حاجة لها بغيره وعِينٌ جمع عيناء وهي التي في عينها شدةُ بياضٍ في شدةِ سواد كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ أي كأنّ هاتيك الزوجات كأنهنّ اللؤلؤ المصان من كثرة اللمس والغبار، وسُمّي اللؤلؤ بيضاً لأنها تبيضه المحارة.

       فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ الآية الخمسون فأقبل أهل النعيم على بعضهم بعضاً يتساءلون يتذاكرون أيام الحياة الدنيا فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ، قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ من الآية الواحدة والخمسين إلى الثالثة والخمسين فإذاً قَالَ قَائِلٌ من أصحاب الجنة لأصحابه في الجنة إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ أي صاحب في الدنيا يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ يشكّك في القيامة والحساب والخلود في الجنة وفي النار أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ لمبعوثون فنجازى، فنثاب ونعاقب، هذا بعيد ولا يكون أبداً قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ، فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ قال لأصحابهِ في الجنة هل أنتم مطَّلعون؟ والإطلاع يكون بالإشراف من مكان عالٍ ويبدو هنا بقوة أن الله عزَّ وجلَّ مكنَّ أهل الجنَّة من الإطلاع على أهل النار وأحوالهم فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ أشرف من مكانٍ عالٍ في الجنَّة ونظر إلى النار فرأى صاحبه هذا في وسطها قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ أقسم بالله هذا الرجل الذي هو في الجنة في مواجهة صاحبه يقول له إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ وهنا نذكر الآية الكريمة قوله تبارك وتعالى: وما يُغني عَنهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى سورة الليل الآية 11. أي إذا سقط في النار ولَتُرْدِينِ هنا نون كسره وهي الأصل أن تأخذ ياء لترديني لتوقعني في النار فإذا قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ، وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك في هذا الجحيم.

    أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وهذه الآية وما بعد هذه الآية الثامنة والخمسون وما بعدها، سورة جميلة جداً ومؤثرة جداً إذ يلتفت هذا الرجل إلى أصحابه في الجنة بعد أن شاهدوا هذا الكافر في جحيم النار ليسألوا سؤال العارف أما سمعت  أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ، إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ أفما نحن ميتين إلاموتتنا الأولى التي متناها في الحياة الدنيا وما نحن كذلك بمعذبين هنا في الجنّة إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ لمثل هذا الفوز، العاملون في الناس صنفان، صنف يعمل في سبيل الله وصنف يعمل في سبيل غير الله.

       وقد ذكر الله لنا عاقبة الصنف الأول في الآيات الماضية وفي الآيات التاليات يذكر لنا سبحانه عاقبة الصنف الآخر، فيقول تبارك وتعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ هذا الواقع الذي ذكرناه عن أهل الجنَّة وأهل النعيم والسعادة الغامرة التي هم فيها خير أفضل هذه العطاءات وهذه الأرزاق التي بين أيديهم والتي لا تنفذ أذلك خيرٌ أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ والزقوم من قولهم تزقّم الطعام أي أخذه على اشمئزاز فإذاً وما هي شجرة الزقوم؟ والله عزَّ وجلَّ يقول إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ والفتنة هنا بمعنى العذاب قال سبحانه وتعالى في مكان آخر يَومَ هُم عَلى النَّارِ يُفْتَنونَ سورة الذاريات الآية 13. أي يوم هم على النار يعذبون ويفسر لنا شجرة الزقوم إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ في قعر الجحيم طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ثمرها كأنه رؤوس الشياطين ومن رأى رؤوس الشياطين؟ إنما هنا يجب الإستنتاج الله عزَّ وجلَّ إذا غضب على قومٍ شوَّه وجوههم ورؤوسهم وهيآتهم، ويذكرنا هذا بتشويه أهل السبت التي هي حاضرة البحر، عن اليهود الذين عصوا الله تبارك وتعالى، فجعلهم الله قردة وخنازير لغضبه عليهم، فإذا كان جعل أهل السبت قردة وخنازير وشوّه خلقهم فكيف يكون غضبه على الشياطين؟ وكيف يكون تشويهه لهم؟ من هنا الاستنتاج أنّ رؤوس الشياطين في منتهى القبح فإذاً طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ، فَإِنَّهُمْ لَآَكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ طبعاً هم مرغمون على الأكل منها ليسدّوا جوعهم ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ الشوب الخليط شاب الماء بنوع آخر غير الماء، خلطه فيه وما يأكلون من هذه الشجرة، يصب فوقه شوباً من حميم من الماء الغالي الشديد الحرارة ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ يصعدون يتناولون من هذه الشجرة ويأكلون منها كما ذكر في الآيات ثم يعودون إلى سواء الجحيم إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ ولماذا يفعل بهم في الآخرة كذلك وفي سواء الجحيم إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آَبَاءَهُمْ ضَالِّينَ في الحياة الدنيا وجدوا آباءهم على ضلال فبدل من أن يتفكروا ويسفهوا عادات وعبادات آباءهم فَهُمْ عَلَى آَثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ الآية السبعون وهم بدل من أن ينكروا على آبائهم أفعالهم وأعمالهم وإعتقاداتهم فهم اقتدوا بهم وقلدوهم في ضلالاتهم .

     وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أرسل الله عزَّ وجلَّ في الأولين رسلاً ينذرونهم  ويخوفونهم ويذكرون الحقائق في الآخرة بعد البعث والنشور، يقول الله عزَّ وجلَّ فانظر يا رسول الله فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ وانظر كذلك يا ولي الله ويا أيَّ قارىء لكتاب الله كيف كان عاقبة المنذرين إذ أنّ الله أهلكهم بذنوبهم إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ عباد الله الذين أخلصوا قلوبهم ودينهم لله فقد أنجاهم من الهلاك.

       وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي دعانا نوح بعد أن يئس من قومه ومن إيمانهم ومن إستجابتهم لدعوته إلى الله تبارك وتعالى نَادَانَا دعانا وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الكرب الهمُّ والغمُّ والشعور بالأذى والمرارة، فالله عزَّ وجلَّ نجّاه من قومه الذين كانوا يكذّبونهُ ويؤذونهُ وهو هذا الكرب العظيم وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ أي أولاده، ذرّيّته وأولاده أبقاهم الله قرَّة عينٍ لنوح فلم يحزنهُ بفقد أحدٍ منهم بعد ذاك الذي قال عنه سبحانه إنّه عملٌ غير صالح فكان من المغرقين وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ الآية الثامنة والسبعون سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وتركنا عليه في الآخرين من الذكر الحسن ومن الذكر الحسن هذا السلام على نوح عندما يذكر نوح نقول سلام الله على نوح أو عليه السلام إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فمن أحسن وكان على نهج نوح أو قريباً من نهجه مطيعاً لله داعياً إليه سبحانه جعله الله كذلك كما جعل نوح وجزاه جزاء المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ.

     وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ الشيعة الأتباع وإنَّ من أتباع نوحٍ لإبراهيم سلام الله عليه إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ بقلبٍ سليم من الشرك إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ ، أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أكذباً تصنعون آلهةً وتزعمون أنها آلهة تعبدونها من دون الله، فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ هذه الآية تقشعر لها الأبدان. فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ هذا الربّ العظيم الذي لا تتناهى قدرته ولا يتناهى هذا الوجود الذي أمام أنظاركم، والذي خلقكم ورزقكم و يميتكم ويحييكم وتشهدون على ذلك بأعينكم، هذا الرب الرحمن الرحيم الغفور الكريم الذي رزقه إليكم نازل وكفركم إليه صاعد والصبور الشكور ومع ذلك لا يبيدكم ولا يهلككم إلا بعد إلقاء الحجة عليكم وإلقاء الحجة البالغة فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ تعبدون غيره وتركعون لغيره وتسجدون لغيره وتدعون غيره. فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ إبراهيم سلام الله عليه الآية الثامنة والثمانون فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ النجوم التي كانوا هم يعبدونها فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ نظر نظرةً في النجوم فاستاء لعبادتهم لها وتعبت نفسه لذلك وتعب النفس حالة من السقم فلذلك قَالَ إِنِّي سَقِيمٌ وصدق إبراهيم فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ تركوه وذهبوا في سبيلهم فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ وقف أمام آلهتهم وهي أصنام حجرية وخشبية إضافةً إلى عبادتهم النجوم فقال للأصنام وهو هازىءٌ بها أَلَا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ. فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ راغ الروغان الميل ذات اليمين وذات الشمال، فراغ عليهم مال عليهم ضرباً باليمين بفأسٍ كانت معه فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ أقبلوا إليه يزفون يسرعون فوجدوا آلهتهم أصنامهم محطمة في الأرض ملقية قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ تعبدون ما تصنعونهُ بأيديكم هذا عجب والله خلقكم وخلق المادة التي تصنعون منها الأحجار والطين والخشب قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ قالوا ابنوا له بنياناً فبنوا له بنياناً وقيل طولهُ ثمانون وعرضهُ أربعون وملأوه بالحطب وأشعلوا فيه النار فأصبح جحيماً فقالوا ألقوه في الجحيم وفي اللغة النار التي يكون بعضها فوق بعض تسمى جحيماً وكذلك يقال جحيم للنار العظيمة فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ الله عزَّ وجلَّ يقول أنهم كادوه، هذا الكيد مكروا به هذا المكر فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ أي بقدرتنا غلَّبناه عليهم حتى إذا أشرفوا على البناء بعد أن خمدت النار أو كادت وجدوه سالماً وسنذكر تفاصيل ذلك إن شاء الله في تفسيرنا سورة الأنبياء.

نتابع الآية التاسعة والتسعين وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ وقال ابراهيم إني تاركٌ دار الكفر مهاجر إلى ربي وهو سيهديني إلى طريق المكان الذي أمرني بالذهاب إليه، وسيهديني بشكلٍ عام إلى رضاه ورضوانه، ثمَّ حين وصل سأل الولد رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ  أو هب لي من لدنك يا ربي ولداً صالحاً تقرَّ به عيني فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ الآية الماية وواحد والغلام هو الولد الصبي والحليم العاقل الفطن الصبور فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ الحقيقة إنَّ هذه القصة من أعظم قصص التاريخ وقد ذكرها القرآن، فهي تهز المشاعر وتساعد على تعميق الإيمان، فيكون الإنسان أشدَّ طاعة لله تبارك وتعالى الإنسان القرآني الصدّيق فإذاً فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ بلغ معه أن يكون قادراً على مساعدتِه وقيل كان عمرهُ ثلاث عشر سنة فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى واضح أَرَى فِي الْمَنَامِ إني أُمرتُ بذبحك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى ماذا يكون رأيك في هذا الموضوع قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ هذا موقفٌ قليلاً ما يتكرر بهذه الطاعة لله، وبهذه الطاعة للأب عند الأولاد الذين هم في بداية سن المراهقة الذين يعشقون الحياة أشدّ العشق فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أسْلَمَا إلى أنَّ إسلام إبراهيم كان لإخراج حبَّ ابنه من قلبه، وإسلام إسماعيل أو الذبيح سواءٌ كان إسماعيل أو إسحاق كما سيأتي، وإسلام الذبيح هو إخراج حبِّ الدنيا من قلبهٍ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ أضجعه على أحد جانبيه، والجبين هو للوجه جبينان هما على جانبي الجبهة، كلُّ جانبٍ هو جبين وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ هذا بعد أن حاول الذبح فلم يستطع أمسك عن ذلك فناداه الله نودي أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا ونجحت في الإمتحان المبين الواضح المعالم الشديد إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ أي يا إبراهيم وقد بان صدقك في نيتك على ذبح إبنك خذ هذا الذبح، الكبشْ الكبير وهو فداء لإبنك إذ صدقت وصدق وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ الآية ماية وثمانية وما بعدها وتركنا عليه من الذكر والصيت الحسن على إبراهيم سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ومن هذا الصيت والذكر قولنا كلماَّ ذكر إبراهيم نقول عليه السلام كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ الذين يصدقون في مواقفهم بين يدي الله ويكونون في غاية الطاعة لله كما فعل إبراهيم نجزيهم ونثنيهم كما جزينا إبراهيم وأثبناه إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ ومن ذرية إبراهيم وولدهِ إسحاق سلالة، ذرية منها الصالح ومنها الظالم لنفسه العاصي لربه، ولا بدَّ من ملاحظة هنا هي أن إبراهيم ما كان يهودياً ولا نصرانياً، وإنما كان حنيفاً مسلماً كما ذكر الله سبحانه وتعالى في سورة أخرى من القرآن الكريم، وكذلك إسحاق عليهما السلام، أما القصة قصة هذا الذبح والخلاف على من يكون الذبيح، وقد ذكر من اعتبر أنَّ الذبيح هو إسحاق أنَّ إبراهيم لماَّ فارق قومه الكافرين مهاجراً إلى الشام هارباً بدينه كما حكى الله سبحانه عنهُ بقوله إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ دعا الله سبحانه كما ذكرنا أن يهب له ولداً ذكراً من سارة، فلما نزل به أضيافهُ من الملائكة المرسلين إلى المؤتفكة وبشروه بغلامٍ حليم، قال له إنطلق نقرب قرباناً لله، وأخذ سكيناً وحبلاً ثمَّ إنطلق معه حتى إذا ذهب به بين الجبال، قال له الغلام: “يا أبتِ أين قربانك”. فقال: “يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك إلى آخره” عن السدي. وقيل أن إبراهيم رأى في المنام أن يذبح إبنهُ إسحاق، وكان قد حجَّ بوالدته سارة وأهلهِ فلما انتهى إلى مُنى، رمى الجمرة هو وأهلهُ وأمر سارة فزارت البيت واحتبس الغلام، وانطلق به إلى موضع الجمرة الوسطى، فاستشاره في نفسه، وأمره الغلام أن يَمْضي، أن يُمْضي ما أمره الله، وسلَّما لأمر الله، ولماَّ عزم على الذبح قال الغلام: “يا أبتاه خمِّر وجهي” أي غطّهِ أُسترهُ وشدَّ وثاقي. قال إبراهيم: “يا بني الوثاق مع الذبح، والله لا أجمعهما عليك اليوم”، ورفع رأسهُ إلى السماء ثمَّ انحنى عليه بالمدية أي السكين، وقلب جبريل المدية على قفاها، واجترَّ الكبش من ناحية، أي سحب الكبش، فرَّ الغلام من تحت أبيه ووضع الكبش مكان الغلام، ونودي أن صدَّقت الرؤيا، أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا بإسحاق إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين. ووقع في نفس سارة أنه قد أمر في ابنها بأمر، فأسرعت إلى حيث هو واضعةً يديها على رأسها وهي تقول: “يا ربي لا تؤاخذني بما عملت بأم إسماعيل” وأُخبرت بالخبر، وقامت إلى ابنها تنظر فرأت أثر السكين خدشاً في حلقهِ ففزعت واشتكت، وكانت بدور مرضها الذي هلكت به. رواه العيَّاشي وعلي إبن إبراهيم بالإسناد في كتابيهما. أما من قال أن الذبيح إسماعيل، فمنهم محمد إبن إسحاق بن يسار، وذكر أن إبراهيم كان إذا زار إسماعيل وهاجر حُمل على البراق، فيغدو من الشام فيطيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام، حتى إذا بلغ معه السعي رأى في المنام أن يذبحه فقال له: “يا بني خذ الحبل والمدية ثمَّ انطلق بنا إلى هذا الشِعْب ِلنحتطب” فلما خلا إبراهيم بإبنهِ في شِعْبِ ثبيـر، أخبره بما قد ذكره الله عنه وقال: “يا أبت اُشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف عني ثيابك حتى لا تنتضح من دمي شيئاً فتراه أمي، واشحذ شفرتك وأسرع مرَّ السكين على حلقي، ليكون أهون عليَّ، فإن الموت شديد” فقال له إبراهيم: “نِعْمَ العون أنت يا بنيَّ على أمر الله” ثم ذكر نحوَ مما تقدم ذكره.

       وروى العياشي بإسناده عن يزيد بن معاوية العجلي قال: “قلت لأبي عبدالله عليه السلام كم كان بين بشارة إبراهيم عليه السلام بإسماعيل عليه السلام وبين بشارته بإسحاق” قال” “كان بين البشارتين خمسُ سنين” قال الله سبحانه: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ يعني إسماعيل وهي أول بشارةٍ بشرَّ الله بها إبراهيم في الولد، ولما وُلد لإبراهيم إسحاق من سارة، وبلغ إسحاق ثلاث سنين، أقبل إسماعيل عليه السلام إلى إسحاق وهو في حجر إبراهيم فنحّاه وجلس في مجلسه فأخبرت به سارة، وقالت يا إبراهيم ينحّي إبن هاجر إبني من حجرك ويجلس هو في مكانه، لا والله لا تجاورني هاجر وابنها في بلادٍ أبداً، فنحّهما عنّي، وكان إبراهيم مُكرماً لسارة يُعزُّها ويعرف حقّها، وذلك لأنها كانت من ولد الأنبياء وبنت خالته، وشقَّ ذلك على إبراهيم، واغتم لفراق إسماعيل عليهما السلام. فلما كان في الليل، أتى إبراهيم آتٍ من ربه فأراه الرؤيا في ذبح إبنه إسماعيل بموسم مكة، فأصبح إبراهيم حزيناً للرؤيا التي رآها، ولما حضر موسم ذلك العام، حمل إبراهيم هاجر وإسماعيل في ذي الحجة من أرض الشام فانطلق بهما إلى مكة ليذبحهُ في الموسم، فبدأ بقواعد البيت الحرام ولماَّ رفع قواعدهُ، خرج إلى مُنى حاجاً، وقضى نسكهُ بمنى، ورجع إلى مكة، وطافا بالبيت أسبوعاً، ثمَّ انطلق إلى السعي، فلماَّ صارا في المسعى، قال إبراهيم لإسماعيل عليهما السلام يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك في موسم عامي هذا فماذا ترى، قال يا أبت إفعل ما تؤمر فلماَّ فرغا من سعيهما انطلق به إبراهيم إلى مُنى وذلك يوم النحر، فلماَّ إنتهى به إلى الجمرة الوسطى وأضجعه لجنبه الأيسر وأخذ الشفرة ليذبحه، نودي أن يا إبراهيم قد صدَّقت الرؤيا إلى آخره. وفُدي إسماعيل بكبشٍ عظيم فذبحه وتصدق بلحمه على المساكين، وعن محمد إبن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن كبش إبراهيم عليه السلام ما كان لونه قال: أملح أقرن ونزل من السماء على الجبل الأيمن من مسجد مُنى بحيال الجمرة الوسطى. هذه هي القصة باختصار وإنما لنا وبفضلٍ من الله تبارك وتعالى ملاحظة، هي أنهّ يبدو بقوة أن الأفضل أن يبقى الأمر بدون حسمٍ ولا ترجيح بخلاف بين من هو الذبيح إسماعيل أم إسحاق؟ بل أن يبقى مبهماً كما أبهمه الله عزَّت عزَّته، ذلك لكي يكون الولاء لله وحده سبحانه وتعالى عما يشركون، وليس للعصبية ولا للقومية ولذلك قول الله تبارك وتعالى:  يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ سورة الحجرات الآية 13.

       ثم يحدثنا الله تبارك وتعالى عن جملة من الأنبياء نادباً الناس للإقتداء بهم فيقول في الآية الماءة والرابعة عشرة وما بعدها  وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ مننا أي أنعمنا عليهما  وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ  والكرب العظيم هو إستعبادهم  وتسخيرهم في مصر في الأعمال الشاقة وكذلك الكرب العظيم هو الغرق وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ أي موسى وهارون وقومهما  وَآَتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِين أي التوراة وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ  واضح الطريق السويّ الذي لا عوج فيه وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآَخِرِينَ من الذكر الحسن والسلام سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.

وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ  إلياس النبي إلياس لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ  إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ  ألا تخشون الله أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ  أَتَدْعُونَ بَعْلًا هو صنمٌ كان لهم قيل من ذهب، فأتدعون هذا الصنم المعدني وَتَذَرُونَ  تتركون أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ  اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ  محضرون إلى جهنم إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصوا لله قلوبهم ودينهم فجعلهم الله من المخلصين وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ  على إلياس سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ وهنا السلام على إلياس عيناً على هذا النبي الكريم، إِلْ يَاسِينَ للتنسيق مع روؤس الآي، التي هي الخالقين والآخرين والمحسنين وإلى آخره، ويستحيل أن يكون لكل نبيّ  سلامٌ من الله تبارك وتعالى خاصاً به في هذا الذكر الكريم، وفي سياق هذه الآيات، وأن لا يكون لإلياس هذا الذكر بل يذهبه الله إلى غيره، لا الحق أنه سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ يعني على النبي إلياس إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ،ِ إنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ.

وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ الآية ماية وثلاثٌ وثلاثون إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ إلا عجوزاً في الغابرين هي إمرأته، قيل أنها كانت تخونه في دينه وتبلغ القوم قومها عن أضيافه ومن الْغَابِرِينَ من الباقين من المعذبين من قومهِ ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآَخَرِينَ واضح وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ، وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل هم في طبريا وفي الموقع الذي خسف الله بهم ما زالت بحيرة طبريا والبحر المالح المنخفض عن مستوى البحر هو من آثار الخسف بمدائن لوط بسادوم وعامورة وغيرها من ما حولها من المدن والقرى، والخطاب للناس الذي يمرون مسافرين من هناك تجاراً أوغير تجار ليشهدوا الموقع ولينقلوا هذا إلى الناس الباقين الذين لم يشهدوه.

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ، أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ الآبق هو الذي يفر من خدمة سيده إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ إلى السفينة المشحونة بالناس والبضائع فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ساهم شارك في قرعة فكان من الخاسرين فيها وقيل: إن السفينة إحتبست وقال الملاحون: “إنها هنا عبداً آبقاً ” فإنَّ من عادة السفينة إذا كان هناك آبقٌ أن لا تجري فلذلك اقترعوا، فوقعت القرعة على يونس ثلاث مرات، فعلموا أنه المطلوب فألقى نفسه في البحر وقيل أنَّه لماَّ وقعت القرعة عليه ألقوه في البحر فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعهُ وقيل إن الله سبحانه أوحى إلى الحوت إني لم أجعل عبدي رزقاً لك، ولكني جعلتُ بطنك مسجدا ًلهُ فلا تكسرنَّ له عظماً ولا تخدشنَّ له جلداً، إذاً فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ أي مستحق للوم لوم العتاب لا لوم العقاب على خروجه من بين قومهِ من غير أمر ربِّه واختُلف في مدة لبثهِ في بطن الحوت فقيل كانت ثلاثة أيام وقيل سبعة وقيل عشرين وقيل أربعين والله العالم. فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ أي كان من المصلين الذاكرين لله عزَّ وجلَّ في حال الرخاء فنجاه الله عند البلاء فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ففيها قولان: إما أنَّ الحوت يعمر إلى يوم القيامة وإما أن يجعله الله له قبراً إلى يوم القيامة ويقول الله تبارك وتعالى فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ أي فطرحناه في المكان الخالي الذي هو ساحل البحر الذي لا نبت فيه ولا شجر وهو سقيم أي مريض حين ألقاه الحوت وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ واليقطين معروف وقيل أن كل نبات يمتد على الأرض بدون سوق يسمى يقطيناً وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ أرسله الله تعالى إلى قوم آخرين غير قومه، وقيل في معنى “أَوْ” من قوله تعالى أَوْ يَزِيدُونَ أنَّهُ على طريق الإبهام على المخاطبين وقيل أنَّ “أَوْ” بمعنى “و” يعني أنهم إلى مئة ألفٍ ويزيدون عن ذلك، أما الزيادة فالله أعلم بها. طبعاً لاحظنا كم في هذه المواقف التاريخية لبعض الأنبياء من العبر والدروس البليغة، التي لا يجوز أن يمر بها العاقل دون أن يتأثر، ودون أن يستفيد منها استفادات إيجابية، ودون أن يعمق إيمانهُ، ويجعل من نفسهِ تلميذاً لهؤلاء الأنبياء، الذين تفضل الله عليهم وأرسلهم إلى الناس رحمة وهداية.

      ثمَّ رجوعاً إلى المشركين ومحاوراتهم وتحديهم يقول جلَّ وعزَّ فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ يا محمد يا رسول الله إسأل قومك ألربك البنات ولهم الصبيان الذكور؟ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله ونعوذ بالله من هذا أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ألا إنهم في الحق إنهم مِنْ إِفْكِهِمْ من كذبهم لَيَقُولُونَ، وَلَدَ اللَّهُ أن الله ولد وله أولاد وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ الله عزَّ وجلَّ يقسم ويؤكد ذلك أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ أو خيّر البنات على البنين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ، أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ من العقل والمنطق والحجج الساطعة فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ بكتابٍ منزلٍ غير هذا يصدق ما تقولون وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي إنهم جعلوا للجنّ نصيباً من الألوهة والقدرة التي يتفوقون بها وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ هنا المقصود الشياطين لمحضرون إلى جهنم سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إنه تبارك الله وتعالى علواً عظيماً عما يصفون ويقولون إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ، مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ، إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ إنكم وما تعبدون من الأصنام والأوثان والبشر مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ على هذا بِفَاتِنِينَ أي بمضلّين إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ إلا أصحاب النار وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ في تأويل هذه الآية أن الخلق مع الله على مقامات شتى، من يجاوز حدّه هلك، فللأنبياء مقام المشاهدة، وللرسول مقام العيان، وللملائكة مقام الهيبة، وللمؤمنين مقام الدنو والخدمة، وللعصاة مقام التوبة، وللكفار مقام الطرد والغفلة هذا بمعنى قوله تعالى وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ.

    وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أي الصافون في الصلوات وأهل الخاصة يقرأون وإنا لنحن الصافُون، بفضلٍ من الله تبارك وتعالى وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ فهذا قول عباد الله الصالحين وقول الملائكة كذلك وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ، لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ، لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ، فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وقولهم لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ أي من الكتب المنزلة من لدن الله على الذين سبقونا لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فلما آتاهم القرآن وهذا التضمين في الكلام يدل عليه الكلام الظاهر فلما أنزل الله القرآن الكريم على رسوله محمد كفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وهذا إنذارٌ لهم وتهديد ووعيد.

 ثمَّ من الآية ماية وواحد وسبعين إلى آخر آية في السورة المباركة ماية واثنتان وثمانون، قوله تبارك وتعالى وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ، فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ أي أعرض عنهم إلى وقتٍ سيأتي وهو قتالهم في معركة بدر ونصرك عليهم وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ أي أنظرهم وأبصر ما ضيعوا من أمر الله فسوف يرون العذاب أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ يطلبون تعجيل العذاب فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ فإذا نزل بدورهم وبمدينتهم فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ فصباح هنا خصصها لأنه في العادة جرت أنه ينزل عقوباته في الأقوام والأمم في الصباح وقال في مكانٍ آخر أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ، وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ هذه والتي سبقتها فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ كما أنها لرسول الله محمد (ص) هي كذلك لكل وليّ من أولياء الله، ولكل داعية إليه سبحانه من دعاته، إلا أن الأمر بالتولّي والإعراض عنهم والإبصار في الآيتين اللتين سبقتا هو غيره في هاتين الآيتين، فالأمر الأول يتعلق بالدنيا وشؤونها، والأمر الثاني هذا يتعلق بالآخرة سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ أي تعالى الله علواً كبيراً عمّا يصفونهُ به وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ أي أنَّ لهم السلامة والأمان من الله حيث أنه لم ينصر عليهم أعداءهم ولا خصومهم، اللهم أنت السلام ومنك السلام وبك السلام لك الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وعلى كل حال وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الآية الأخيرة اللهم لك الحمد ولك المجد، ولك المجد ولك الحمد، ولك الحمد ولك الشكر، ولك الشكر ولك الحمد، كما تحمد نفسك، وكما تشكر نفسك، وكما ينبغي لكرم وجهك. يبقى أن نقول كلاماً عن رسول الله محمد (ص) في فضل هذه السورة قال أبي إبن كعب: قال رسول الله (ص): “من قرأ سورة الصافات أعطي من الأجر عشر حسنات لعدد كل جنيٍّ وشيطان، وتباعدت عنه مردة الشياطين، وبرأ من الشرك، وشهد له حافظاه يوم القيامة إنه كان مؤمناً بالمرسلين”. سبحانك اللهم وبحمدك إغفر لنا وتب علينا هذا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.