سورة سبأ

تفسير سورة
سبأ
تحميل الصوت

بسم الله الرحمن الرحيم

       أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم تفسير سورة سبأ وهي مكّيّة وهي أربع وخمسون آية ورقمها في المصحف الشّريف أربعٌ وثلاثون.

قال الله تبارك وتعالى: ﴿ لَّـكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ﴾. سورة النساء الآية 166.

أما السورة فهي التالية: ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم  نقرأ الآيات آيةً آية أو مجموعة مجموعة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ

( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ) في الدنيا على نعمه وعلى جوده وكرمه وهو بذلك يعلمنا كيف نحمده وأما الحمد الثانية ( وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) وله الحمد في الآخرة حباً به، في الدنيا له الحمد واجباً وفي الآخرة له الحمد حباً به وثناءً عليه ووفاءً له سبحانه (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) الحكيم من الحكمة ومن الإحكام الذي أحكم خلقه، وهو الخبير العليم بكل شيء.

الآية الثانية: ﴿ يعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ

( يعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ ) ولج يلج دخل يعلم ما يدخل في الأرض ( وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا ) واضح ما يخرج من الأرض ( وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ) ويعلم ما ينزل من السماء ( وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ) ما يصعد فيها ولذلك سُمّي الدرج معراجاً ( وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ) الرحيم كثير الرحمة الغفور كثير الغفران.

الآية الثالثة: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) بالساعة، والذين كفروا بالله، والذين كفروا برسول الله وبكتاب الله، وأهل الشرك قالوا (لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ) القيامة ( قُلْ ) يا رسول الله وقل يا أي وليّ من أولياء الله وقل يا أيها المؤمن ( بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ ) قسمًا بربّيَ الله لتأتينّكم واللام هنا لام القسم ولام التأكيد، والنّون في لتأتينّكم كذلك نون التأكيد (قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ) وربي عالم الغيب يعلم ما لا يعلمه الناس وما لايعلمه المخلوقون ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ ) ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ ) لا يغيب عنه ( مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ ) وهذا القول مناسب جدًّا لهذا العلم الذي فلقوا فيه الذرة فأصبحت الذرة جزيئات صغيرة مركبة كتركيب مجموعتنا الشمسية حيث لها بؤرة نواة هي كشمسنا بين الكواكب السّيّارة وحول هذه النواة الألكترونات إلى آخر ما في تفاصيل الذرة والله تبارك وتعالى ( لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ – وَلَا أَصْغَرُ من الذرة – وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُّبِين ) كتاب واضح جلي لعله اللوح المحفوظ .                 

الآية الرابعة: ﴿ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ

 فإذًا الله عز وجل سيُؤتي الساعة، ستقوم الساعة والحساب يوم الفصل (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) ليجزيهم بالمغفرة وليجزيهم بالرزق الكريم الدائم في الدنيا وفي الآخرة.

﴿ والَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ﴾ والذين سعوا في آيات الله لإبطالها وردّها وتنكروا لها  مُعَاجِزِينَ معاندين ( أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ ) الرجز العذاب والأليم شدة العذاب وكذلك في الدنيا والآخرة. في مكان آخرمن القرآن الكريم يقول ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ سورة السجدة الآية21 ﴾ لنذيقنَّهم من العذاب الأدنى أي عذاب الدنيا، والعذاب الأكبر هو عذاب الآخرة.

ثم ننتقل إلى قوله جلّ وعزّ مقارناً سبحانه الذين كفروا وأنكروا الساعة وسعوا في آياته معاجزين بالذين أوتوا العلم من الأمم الماضية والأمم الباقية. يقول جلّ وعزّ: ﴿ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ فإذًا الذين أوتوا العلم يرون الذي أنزل إليك، ما أنزل إليك من ربك هو الحق، أي هذا القرآن المجيد، يرون أنه الحق من ربك وأنه ( يَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ) يهدي إلى الطريق السّويّ المستقيم الذي يوصل إلى رضا الله ورحمته ورضوانه وإلى النعيم المقيم.

ثم الآية السابعة: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ الذين كفروا بالساعة وكفروا بشكل عام، يقولون مشكّكين هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ هو محمد (ص) يُنَبِّئُكُمْ يخبركم إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ  بعد الموت في قبوركم وتشتّتت أعضاؤكم وأصبحتم عظامًا بالية ، يخبركم إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أنكم ستخلقون من جديد.

الآية الثامنة يقول جلّ وعزّ: ﴿ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ ﴾ هل هو كذب على الله أم هو مجنون؟ وواقع الحال أنه معروف صدقه وأنه ليس مجنونًا بل هو في أتمِّ العقل والرشاد. كفاية الآية ﴿ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ﴾ أي الذين لا يؤمنون بقيام الساعة وبوعد الله ووعيده وجنّته وناره، هم في العذاب، في عذاب الدنيا كما قلنا، وفي عذاب الآخرة مخلّدين فيه وهم في الضلال البعيد.

       الآية التاسعة: ﴿ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ﴾ وهنا يدعوهم إلى الإستدلال بأوضح الآيات وأقواها التي هي أمام أبصارهم  أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أي ما بين أيديهم حيث ينظرون إلى السماء، كيفما نظروا فسيجدون المعجزات وسيجدون الآيات في الأفلاك، في الشمس والقمر، في الشموس والأقمار حسب علم هذا العصر، وفي النجوم وأبعادها وأخبارها وفي المجرات كيفما نظروا أمامهم، وإذا نظروا خلفهم إلى الأرض في أي مجال من المجالات سيرون عجبًا في الآفاق وفي تركيب الأرض وفي ما تنبت وما تعطي وما تنتج، وعمّا في السماء وفي الأرض تُكتب موسوعات من العلم، أفلم يروا إلى كل ذلك لكنهم اختاروا العمى والصمم عن كل هذه الآيات، يقول جلّ وعزّ: ( إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون  أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء ) أو نسقط عليهم قطعاً من السماء تزلزلهم في الأرض وتقضي عليهم ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً ) إن في السموات والأرض لدلالةً معجزةً بيّنة ( لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ ) لكل عبدٍ متفكرٍ راجعٍ إلى الله تائبٍ إليه وهذا معنى مُّنِيبٍ، وفي الآية الكريمة هذه دعوةٌ للتفكر والتّأمل في الآيات البينات المعجزات التي في السماء والتي في الأرض.

ثم ينقلنا الله جل شأنه في الآية العاشرة إلى نموذج من أولياء الله الذين آمنوا وصدقوا الله جلّ وعزّ وجاهدوا في سبيله قوله: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ )

(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا ) نعمةً ( يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ) كان داوود يناجي الله عزّ وجلّ بمناجياتٍ عديدة في الطبيعة في سفوح الجبال وفي الأودية، الله عزّ وجلّ أمر الجبال أن تأوّب معه وكذلك أمر الطير، والتّأويب هو الترجيع، وهو معروف أنّك إذا تكلّمت في وادٍ بصوت ما أو بكلام ما، فإنك تسمع الصوت والكلام يرجع إليك وهذا يسمى التأويب ويسمى الترجيع ويسمى الصدى، فإذاً الجبال كانت تأوب معه وكذلك الطير كانت تنصت لمناجاته وتسبح الله معه ( وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ) جعل له الحديد ليِّنًا قيل طريّا كالشمع.

( أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ السابغات واحدتها سابغة، وهي الدرع الطويلة التي تُلبس في الحرب لتمنع وصول ضربات السيوف وطعن الرماح وما شابه إلى الجسم ( وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ) أي ضيق النسيج، السَّرْدِ هو نسيج الدروع بالحديد ( وَاعْمَلُوا صَالِحًا ) يا آل داوود إعملوا الصالحات ( إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) إني راءٍ سامعٌ مبصرٌ لما تفعلون، أُحاسب على ذلك وأثيب على العمل الصالح وأزيد عليه الأجر في الدنيا والآخرة.

وكذلك في الآية الثانية عشرة يعطينا الله تبارك وتعالى نموذجاً آخر من أولياء الله عطفاً على قوله (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا ) قوله: ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ) وفي هذه الآية دلالة قوية ليس على كثرة ما أعطى الله لسليمان من العجائب، وإنما الدلالة على عظمة قدرة الله وكرمه وجوده في ما يعطي فقوله جلّ وعزّ: ( وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ ) وأنّه تعالى أعطى لسليمان الرّيح ( غُدُوُّهَا شَهْرٌ ) أي تقطع مسافة مسيرة شهر في نصف نهار، ثمّ تقطع في النصف الآخر مسيرة شهرٍ كذلك، تنقله هذه الريح وجنوده وما معهم من الثقل والعتاد فسبحان الله ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم ( وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) (عَيْنَ الْقِطْرِ ) القطر النحاس جعله له ينبوعاً يأخذ منه ما يشاء للصناعات ( وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ) وكذلك سخّر له الجنّ يعملون بإمرته وبإشرافه وهذا معنى ( بَيْنَ يَدَيْهِ ). ( وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا ) يقول الله جلّ وعزّ ومن ينحرف منهم عن طاعتنا عن طاعة الله لأنهم يعملون بين يدي سليمان بأمر الله وبإذن الله ( نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ) أي نعذبه بنارٍ شديدة و السَّعِيرِ  من قولنا سعّر النار أي أوقدها حتى اشتد لهيبها وإحراقها وإذا قيل كيف تعذب الشياطين والجنّ بالسعير أي بالنار نقول كذلك إذا قُذف الإنسان بكتلٍ من التراب فهو يُشجّ ويُدمى ويتوجع وقد يقتل وهو معلومٌ أنّه خُلق من التراب.

الآية الثالثة عشرة ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )

 ( يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء ) أي الجنّ شياطين الجنّ ( مِن مَّحَارِيبَ ) المحاريب هي بيوت العبادة وفي اللغة أنّها البيوت والقصور والتماثيل الصور المنحوتة (وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ ) وَجِفَانٍ الجفان هي الصحاف وواحدتها جفنة وهي القصعة ( كَالْجَوَابِ ) واحدة الجواب جابية وهي الحوض، الجوابي الحياض التي تملأ بالماء، فهذه الصحاف أو هذه الجفان هي لعظمها وكبرها واتساعها كانت كالجوابي أو الحياض التي يُجمّع فيها الماء يُجبى إليها الماء ( وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ) القدر معروف وهو الوعاء الكبير الذي يُطبخ فيه ( رَّاسِيَاتٍ ) ثابتات في أمكنتهنّ لعظمهن حتى لا يُنقلن أو يصعب نقلهنّ من أمكنتهنّ ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ) (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ ) من الصالحات اعملوا من الخيرات اعملوا من الحسنات اعملوا ما ينفع الناس بشكلٍ عام وإنما يصبح عملكم هذا الذي تعملونه بمثابة الشكر لله تبارك وتعالى، والشكر هو كما معلومٌ واجب فإما أن يكون الشكر بالقلب وباللسان وإما أن يكون باليد وبالأعمال وكلاهما مطلوب وجيد ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) الله عزّ وجلّ يقول وقليل من العباد من الناس بشكلٍ عام وقليلٌ كذلك من المؤمنين الشَّكُورُ الكثير الشكر نجد من المؤمنين شاكرين ولكن الشكورون منهم قليلون.

الآية الرابعة عشرة: ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ )

قوله تعالى: ( فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ) الكلام أي أوجبنا عليه الموت أو حكمنا عليه بالموت ( مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ ) وكانت الجنّ يعملون كما قلنا بإشرافه بين يديه وهم يعتقدون أنّه يراقبهم ويتتبع أعمالهم ما دام في مجلسه مُتكئًا على عصاه وقد أدخل الله هيبته في قلوبهم فلما كانت الإرضة التي هي ( دَابَّةُ الأَرْضِ ) قد أكلت عصاه التي هي ( مِنسَأَتَهُ ) أو من عصاه إنكسرت العصا فخرّ واقعاً على الأرض بعد أنّ كان مات قبل زمنٍ طويل ( فَلَمَّا خَرَّ) أي وقع ( تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ) لكانوا علموا أنّ سليمان ميّتٌ ولو كان ما زال متكئاً على عصاه ولكنهم في الحقيقة لا يعلمون الغيب وقد أراد الله هذا المشهد وغيره من الأمثلة ليدل الناس وليفهمهم أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب كما يزعم بعض الناس وكما يزعم بعض الجنّ ( فَلَمَّا خَرَّ إذاً تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ ) ظهر لها (أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ) الذي هو الأشغال الشاقة التي كانوا يشتغلونها في حضرته وبإشرافه.

ثمّ يعطينا الله مثلاً على عاقبة الشكر إما سلباً وإما إيجاباً من التاريخ الإنسانيّ الحقيقيّ قال سبحانه في الآية الخامسة عشرة: ( لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ )

سبأ هو أبو عرب اليمن كلها وقد سُمي به قومه، وكذلك سميت باسمه بلاد اليمن. فإذاً كان لهؤلاء القوم في هذه البلاد في مساكنهم آية حجة بيّنة على توحيد الله وعلى قدرته وعلى كرمه وجوده على خلقه، ثمّ امتحانٌ لهم أيشكرون أم يكفرون فـ ( آيَةٌ جَنَّتَانِ ) هذه الآية هي ( جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ) بساتين من أشجار الفاكهة ومن الرياحين ومن أنواع الزهر طبعاً والثمر وسميت الجنّة جنّة لأن فيها هذه الخيرات وهذه البركات والفارق بين جنّات الدنيا وجنّات الآخرة طبعاً هو فارقٌ ما بين الدنيا والآخرة وبين الإنقطاع والخلود. فإذاً ( جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ ) أيها القوم أيها الناس ( وَاشْكُرُوا لَهُ ) شكراً على نعمه وعلى كرمه وعلى عطاءاته ( بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) يبدو أنّ البلدة الطيبة طبعاً إضافة إلى هاتين الجنّتين هي طيبة بهوائها وبمناخها وبموقعها وهذا معروف عن بعض بلاد اليمن الطيبة ذات المياه والعيون. فإذاً ( كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ) وهذا كثيراً ما يحصل في بلاد العالم ويبتلى أهل هذه البلاد بين مشرقٍ ومغرب بمثل هذه الآية وإلى قيام الساعة.

 فما الذي وقع من هؤلاء القوم قوم سبأ الآية السادسة عشرة: ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ )

( فَأَعْرَضُوا ) أي أعرضوا عن الشكر لله أي كفروا بالنعمة ( فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ ) وسيل العرم هو في أوضح  الدلالات التاريخيّة أنّه كان سداً بين جبلين طويلين في محاذاة هذه البلاد وفي مواجهتها، وقد أقاموا هذا السدّ بتعليمٍ وبعونٍ من الله تبارك وتعالى وكانت المياه الأودية والمياه التي تسيل من قمم الجبال تملأ هذا السدّ في أيام الشتاء، فيستعملونه في ريّ هذه الجنّات وهذه البساتين في بقية الأيام التي ينقطع فيها المطر، ففجّر الله هذا السدّ بما أسماه سيل العرم، والسيل معروف هو التدفق الشديد للماء، والعرم العظيم السيل العظيم فاجتاح بلادهم واجتاح مساكنهم وبساتينهم ولم يبقِ لهم منها إلا النزر اليسير، ولذلك قوله تعالى ( وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ) فجنّتين مكان الجنّتين التي كانتا عامرتين بالخضرة والثمر وبالبركات ( جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ ) مكانهما، والأُكل هو ثمر الشجر بشكلٍ عام، والخمط الكلمة تركيب الكلمة يدل على نوعية هذا الأُكل وهذا الثمر أي أقرب إلى الفساد، والأثل هو طرفاء وهو نوع من النبات مشترك طعامٌ مشتركٌ بين الدواب وبين الناس ( وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) شجر السدر معروف وهو ذو ثمرٍ وذو شوك.

ثمّ في الآية السابعة عشرة  يقول سبب هذا التبديل عليهم ( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا ) أي بما لم يشكروا الله على نعمه وعلى جوده وكرمه ( وَهَلْ نُجَازِي إِلا    الْكَفُورَ ) فإذاً والتساؤل هنا تساؤل تقرير أنّه لا يجازي الله جلّ وعلا إلا الذين يكفرون، تارةً يكون الكفر كفراً بالله، وتارةً يكون كفر جحود لآيات الله، وتارةً يكون كفر النعم، وفي مكانٍ آخر من القرآن الكريم قول الله جلّ وعزّ: ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ سورة ابراهيم الآية 7) وواضح أن الكفر هنا الكفر بالنعم أي عدم الشكر على نعم الله جلّ وعلا.

ثمّ الآية الثامنة عشرة وما زال الكلام عن سبأ عن قوم سبأ (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ )

إذاً قوله تعالى ( وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ) أي القرى التي هي في بلاد الشام والحجاز جعلنا بينها ( قُرًى ظَاهِرَةً ) قرًى واضحة أي لا يفصلها جبالٌ ولا بحارٌ ولا أودية، تُرى القرية من القرية الأخرى وذلك آنس للمسافر (وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ ) جعلنا بين القرية والقرية مسافات محددة ( سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ) أيها الناس يا قوم سبأ فهو هذه من جملة النعم العظيمة على الناس هو الأمن والأمان في أسفارهم في ليلهم ونهارهم.

الآية التاسعة عشرة ( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ )

فإذاً ( فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) هل هم قالوا بألسنتهم ذلك أم أن أعمالهم هي كناية عن أقوالهم، هذه أعمالهم هي استدعت أن يباعد الله بين أسفارهم من حيث المسافات طبعاً ومشقات السفر ( وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ) بكفرهم بنعم الله ( فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) فجعلناهم أحاديث يُحدّث بها، حكايا تُحكى، قصصٌ تروى بين الناس عن هؤلاء القوم كيف غضب الله عليهم بسبب كفرهم وتجبرهم وطغيانهم وظلمهم أنفسهم ( وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ) في الآية أي شتتناهم في البلاد، وقيل في ذلك عن هجرتين بعد انفجار سدّ مأرب أو السيل العرم كما سماه الله جلّ وعزّ في هذه الآيات، وعن هذا الإنفجار إنفجار السدّ وعن اكتساح بلادهم بالسيل العرم، نتج عن ذلك هجرتان هجرة إلى الشمال هي إلى بلاد الشام، وهجرة إلى أقاصي الجنوب أي إلى اليمن، والخلاصة أنّه يا أيها الناس كلوا من رزق ربكم واشكروا له ولا تكفروا بنعمه وبكرمه، أي بعدم الشكر له وبعدم الإعتراف بأنّ هذه النعم التي بين أيديكم هي من لدن الله من جوده وكرمه، فإنكم إن لم تشكروا وكفرتم بالنعم يدمدم عليكم كما دمدم على قوم سبأ.

ثمّ الآية العشرون: ( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ )

( وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ ) أي أن إبليس كان قد قال ( لأمرنهم ولأغوينهم ) وليس قولاً قطعياً منه لأنّه لا يملك القطع، وإنما ظنّ أنّه يستطيع ذلك ولقد صدق ظنّه على هؤلاء على قوم سبأ فاتبعوه، طبعاً إلا فريقاً من المؤمنين وكانوا قلة، وحيث أن الله عزّ وجلّ كان قد جعله سبباً لكشفهم قال في الآية الواحدة والعشرين ( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ )

( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ ) وما كان لإبليس عليهم مِّن سُلْطَانٍ من قوة قاهرة، طبعاً كونه لا يستطيع أن يبطش بيده ولا أن يفعل شيئاً وإنما أقصى ما يستطيع هو أن يوسوس لهم بأفكارٍ شريرة وأن يغريهم وأن يغويهم بالمعاصي وأن يصرفهم بهذه الوسوسات وهذه الإغراءات عن التفكر في نعم الله وعن الشكر له سبحانه. فإ ذاً ( وَمَا كَانَ لإبليس عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ من قوة إِلا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ ) نحن نقرأ هنا إِلا لِنُعْلَمَ لأن الله عزّ وجلّ يعلم ما كان وما سيكون إلى قيام الساعة ولكن قراءتُنا ( إِلا لِنُعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ) أي لنجعل عليهم علامات كما قال في مكانٍ آخر من القرآن (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ سورة القلم الآية 16) أي يجعل له سمة على أنفه في وجهه وهنا ( لِنُعْلِمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ ) نجعل عليهم علامات تعرفهم بها ملائكة الله في الدنيا فيتعاملون معهم على أساس هذه العلامات، ويعرفونهم بها كذلك يوم الحساب في الآخرة، فيصنفون درجاتهم إما في نعيمٍ وإما في جحيم برقابة الله تبارك وتعالى ولا قوة إلا به سبحانه. فإذاً ( وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلا لِنُعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ) بكلّ شيءٍ محيط، على كلّ شيءٍ وكيل، بكلّ شيءٍ عليم، حافظٌ عليهم أعمالهم لا يفوته منها شيء.

ننتقل إلى الآية الثانية والعشرين: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ )

وقوله تعالى: ( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ) أي قل يا رسول الله، وقل يا أي وليٍّ من أولياء الله، ويا أي داعيةٍ لله ( قُلِ ادْعُوا ) أيها الناس أيها المشركون ( ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ ) من أصنامٍ حجرية أو من أشخاصٍ أو من أنبياء أو من أئمة أو من أولياء، ادعوا من تشاؤون من هؤلاء فهؤلاء أو من ملائكة أو من جنّ أو من إنس طبعاً فهؤلاء ( لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ لا أحد من خلق الله بجميع طبقاتهم ودرجاتهم ( لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْك) وما لهم في السماوات ولا في الأرض من  شريكٍ ينصرهم أو يعاونهم (وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ) وما لله من هؤلاء جميعاً من ظهير، أي من مساعد يساعد الله تبارك وتعالى لأنّه جلّ وعزّ غنيٌّ عن العالمين.

 وهنا يخطر لبعض الناس بعد أن ذكرنا الأنبياء والأولياء والأئمة يخطر ببالهم شفاعة هؤلاء، صحيح ولكن الله تبارك وتعالى في الآية الثالثة والعشرين يقول: ( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ )

 فإذاً وما زلنا في سورة سبأ أتلو الآية الثالثة والعشرين من جديد ( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ )

فإذاً ( وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) من الشفعاء وقيل أنّه كذلك لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن أن يُشفع له من المشفوع لهم ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ) كُشف الفزع عن قلوبهم (قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) يقولون ذلك بعد أن يروا الحقائق العظمى جليةً أمامهم يوم قيام الساعة.

 الآية الرابعة والعشرون: ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )

( قُلْ ) يا رسول الله وقل يا أي وليٍّ من أولياء الله ( مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) ثمّ قبل أن يجيبوا فسّر لهم القصد ( قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى ) ونحن فريقان نحن وأنتم فلا بد أن يكون أحد الفريقين هو الأهدى ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ) وهذا تواضعٌ جمٌّ من المجادل من الداعي إلى الله، حيث أنه لا يصدم الخصم بطريقته في الجدل، وهذا من الحكمة التي أوصى بها الله تبارك وتعالى ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ سورة النحل الآية 125).

 ثمّ في الآية الخامسة والعشرين: ( قُل لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) أي بالنتيجة ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ولا يؤخذ أحدٌ بذنب غيره.

 ( قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ) الآية السادسة والعشرون قل يا رسول الله قل يا وليّ الله ( يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ) يوم القيامة يوم الحساب ( ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ).

 الآية السابعة والعشرون: ( قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) قل يا رسول الله وقل يا أي وليٍّ من أولياء الله وقل يا أي مؤمنٍ موحد ( أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء ) من الأصنام أو من الإنس والجنّ أو من الأئمة والصالحين ( كَلا الحقّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) المتفرد بعزته، والمتفرد بحكمته، وبحاكميته وبإحكامه لخلقه، هو مالك الملك باسط الرزق هو وحده على كلّ شيءٍ قدير.

 الآية الثامنة والعشرون: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ) يا محمد ( إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ) إلا كافةً للناس فيها قولان ( كَافَّةً لِّلنَّاسِ) أي لتكفّ الناس عن شركهم ومعاصيهم ولتدعوهم للحقيقة العظمى التي هي وحدانية الله وفردانيته، والمعنى الآخر ( إِلا كَافَّةً لِّلنَّاسِ ) لجميع الناس كافة ( بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) هذه الحقائق الكبرى.

( وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) الآية التاسعة والعشرون أي (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ) بيوم القيامة وبيوم الحساب وبالبعث من القبور كما تزعمون ( إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ )

( قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ )  قل ميعاد موتكم فرداً فرداً، أو جماعات أو ميعاد بعثكم هو في يومٍ لا تستطيعون أن تستأخروا أن تطلبوا أن يتأخر ساعة، وتستطيعون أن تطلبوا أن تُعجلوا به قبل ميقاته ساعة، والساعة هنا هي فترة زمنية بسيطة، والخلاصة أن هذا الميعاد وهذه المواعيد هي بيد الله الذي هو على كلّ شيء قدير.

ثمّ الآية الإحدى والثلاثون: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ )

وقوله جلّ وعزّ: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ ) وعدم الإيمان بالقرآن هو كذلك نتيجة لزعم الذين يقولون أن القرآن غير مفهوم، ونتيجة للذين يزعمون أن القرآن جامد وأن القرآن الناطق هو عليٌّ إبن أبي طالب والأئمة الإثنا عشر، وعلى هذا الأساس هم لا يتعاملون مع القرآن إلى قيام الساعة وإنما يتعاملون بالروايات بدلاً من الآيات، وقوله جلّ وعزّ: ( وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) أي الذين كفروا ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ) بما يتضمنه القرآن ( وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ) التابعون والمتبوعون ( يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ) هؤلاء يقولون وهؤلاء يجيبونهم ( يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) التابعين للمتبوعين ( لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ).

الآية الثانية والثلاثون ( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ) قال المتبوعون الذين كانوا متبوعين في الحياة الدنيا لتابعيهم ( أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى ) منعناكم من أن تهتدوا ( بَعْدَ إِذْ جَاءكُم ) الهدى إذا جاءكم هذا القرآن المجيد ( بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ).

الآية التي بعدها الثالثة والثلاثون ( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

فإذا ( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ) قال التابعون للمتبوعين ( بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ) ومجرد أمرهم أن يجعلوا لله أنداداً هو كفر بالله، وأن يجعلوا لله أنداداً يقولون مثلاً فلان يستجيب الدعاء كما يستجيب الله الدعاء، وفلان يحاسب كما يحاسب الله تبارك وتعالى، ويحبون من الناس من الأولياء أناساً كما يحبون الله وقد يحبونهم أكثر مما يحبون الله وبذلك يكونون قد جعلوا لله أندادا، فإذاً ( إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا ) والندّ جمع أنداد هو الشبيه أو المثيل. ( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) وطبعاً الندامة التي ليس أشدّ منها ندامة ( لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ) طبعاً ( أَسَرُّوا النَّدَامَةَ ) جميعاًَ التابعون والمتبوعون ( وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) القيود التي من نارٍ وحديد في أعناق هؤلاء جميعاً التابعين والمتبوعين ( هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) طبعاً وليس هذا سؤال وإنما هو تقريرٌ تعجبيٌّ بصيغة السؤال.

الآية الرابعة والعشرون: ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ)

( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ) من نبيٍّ أو من وليٍّ ينذر الناس ويحذرهم الآخرة ( إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا) الذين هم أغنياؤها والذين هم وجهاؤها غالباً والمرفّهون فيها يقولون  للرسل منكرين رسالاتهم ( إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ).

 ( وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) فطبعاً هم يقيّمون الناس بكثرة المال وكثرة الأنصار والأولاد، ويزعمون أن الله لا يعذبهم وهم بجهلهم يعتقدون أنّ أموالهم أو أولادهم إنما حصلوها بقدرتهم وأنها ليست نعماً من الله تبارك وتعالى وهم مطمئنون ( وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ) وهم مطمئنون إلى حياتهم الدنيا ولا يفكرون بالآخرة لأنهم لا يعتقدون بها.

الآية السادسة والثلاثون: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ )

( قُلْ إِنَّ رَبِّي ) هو الله عزّ وجلّ هو الذي ( يَبْسُطُ الرِّزْقَ ) يمدّ ( لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ) ويضيّق أو يعطي بقدرٍ لمن يشاء، وذلك لأسبابٍ تتعلق بالمرزوقين ممن يُوسع عليهم الله جلّ وعزّ، أو ممن يعطيهم بقدر وهو أعلم بالأسباب وبالنتائج وهو أحكم الحاكمين، كفاية الآية ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ) هذه الحقائق، ومن هذه الحقائق أنّه سبحانه يبتلي بالفقر كما يبتلي بالغنى وسيشرح ذلك في الآية التالية.

قوله جلّ وعزّ في الآية السابعة والثلاثين: ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ )

فإذاً قوله تعالى: ( وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى ) أو تجعلكم من المقربين عندنا والزلفى القرب ( إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ) فمن آمن وعمل صالحاً سواءً كان فقيراً أو غنياً فهو من المقربين عند الله تبارك وتعالى وهذا أعلى غاية من أعلى الغايات التي يطمح إليها كلّ مؤمن فهؤلاء الذين يعملون الصالحات ( فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) ( جَزَاء الضِّعْفِ ) أي الثواب المضاعف ( بِمَا عَمِلُوا ) في أموالهم من أداء الحقوق ومن الإنفاق في سبيل الله ومن أعمال البرّ والصدقات ( وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ) أي في غرفات الجنّة، الغرفات جمع غرفة وهي المبنية من الدرّ والجوهر في المواقع العالية و( آمِنُونَ ) أي لا ينغصهم خطرٌ ولا خوف من شيء في أنفسهم وأبدانهم، وقد قيل الصحة والأمان نعمتان مجهولتان. أما الذين يبتليهم الله سبحانه بأن يضيق عليهم رزقهم أو يعطيهم بقدر، فإنهم غالباً ما يكونون أحسن حالاً وأفضل مآلاً أي عاقبة، لأن المال مشغلة، وإذا كان الله قدر عليهم بأن أعطاهم الكفاية في الحياة الدنيا، فهو لا يُشغلهم بالمال وبتحصيل المال وبجمع المال وبكيفية تثمير المال، فيتفرغون لعبادة الله ولكسب الثواب في الدنيا وفي الآخرة، ويرتاحون من كلّ زيادةٍ قد تكون لهم مشغلة وقد تحشرهم مع الذين قال الله تعالى فيهم: ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ سورة الصافات الآية 24).

ثمّ الآية الثامنة والثلاثون ( وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ) وقوله ( مُعَاجِزِينَ ) أي يجهدون في إبطالها، كأن يتهموا الله بعدالته، وكأن يدعو إلى شيوعيّة المال اعتراضاً على غنى الأغنياء وفقر الفقراء، يدعون إلى شيوعيّة المال وشيوعيّة النساء وشيوعيّة كلِّ شيء، ظنّاً منهم أنّه هو النظام العادل الذي يُنصف بين الناس والذي يُسعد كلّ الناس، وقد ثبت في تجاربهم في تاريخ البشرية أنّهم فاشلون وأنّهم خاطئون وأنّهم خاسرون، لأن الله جلّ وعزّ هو الحاكم في جميع الأحوال وهو القاهر بعدله فوق عباده وهو أرحم الراحمين وخير الرازقين وخير المُعطين لمن هم أهلٌ لذلك.

ثمّ الآية التاسعة والثلاثون: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) فيها تكرار للمعنى، الآية التي مرت بنا قبل قليل وهذا التكرار لتأكيد الفائدة ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ) وما تنفقون من شيءٍ في سبيل الله، وما تنفقون من شيءٍ في أعمال البرّ، وما تنفقون من شيءٍ في أداء الحقوق، وأي إنفاقٍ عن أنفسكم ولأنفسكم ليس فيه إسرافٌ ولا فيه حُرمة فإن الله عزّ وجلّ ( هُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ) وليس في ذلك قياس.

ثمّ الآية الأربعون: ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ) وما يزال الكلام عن أصنافٍ من الكفار ( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاء ) القوم هذا الفريق من الناس في تاريخ البشر ( أَهَؤُلاء إِيَّاكُمْ ) أيها الملائكة كانوا يعبدونكم، وهو تساؤل العارف طبعاً وهو لا ينتظر الإجابة لأنّه يعرفها وهو سبحانه بكلّ شيءٍ عليم ( قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ) كان هذا جواب الملائكة ( قَالُوا سُبْحَانَكَ ) أي تباركت وتنزهت وتعاليت ربنا ( أَنتَ وَلِيُّنَا ) أنت إلهنا وأنت مُدبِرنا وأنت أعلم بنا (أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ) ويعتقدون أنّهم ملائكة والحقّ أنّ الملائكة لا يستجيبون لأحدٍ إذا دعاهم أو استحضرهم، وإن الذين يستجيبون في العادة هم أنواع الجنّ وأنواع الشياطين، فمن يزعم أنّه يتعاطى مع الملائكة فهو كاذبٌ وكافر، وقوله تعالى: ( يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ) أي يطيعونهم ويتعاطون معهم ويزعمون أن الجنّ يعلمون الغيب وهم ليسوا كذلك، ثمّ قوله تعالى ( أَكْثَرُهُم ) على لسان الملائكة (أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ) أي أكثر هؤلاء الناس مؤمنون بالجنّ.

 ثمّ الآية الثانية والأربعون قوله تعالى: ( فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ).

فإذاً ( فَالْيَوْمَ ) أي يوم القيامة أي يوم الحساب ( لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ ) من الجنّ والإنس الذين كانوا يتعاملون مع بعضهم ( لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ) أي عبدوا غير الله وأطاعوا غير الله ( ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ ) ونعوذ بالله ونستجير بالله.

ثمّ الآية الثالثة والأربعون قوله جلّ وعزّ: ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُّفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) ويستمر الكلام في هذه الآية عن هذه الأصناف من الكفار ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ) آيات القرآن المجيد واضحات ( قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ ) ما محمد ( إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ ) أن يمنعكم عما كان يعبد آباؤكم من الأصنام والأوثان ( وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُّفْتَرًى ) الإفك الكذب والمفترى مُختلق ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) قال الذين كفروا بشكلٍ عام فيما بعد نزول القرآن إلى قيام الساعة ( قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ويقولون ( لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ ) لما في القرآن المجيد هذا ( إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ ) أو ما هذا إلا خداعٌ واضح.

 في الآية الرابعة والأربعين: ( وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ).

 ( وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ ) حتى يستفيدوا منها البرهان والحجة ( يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ ) ما أرسل لأهل مكة قبل رسول الله محمد (ص) من نذيرٍ مخوّفٍ لهم من القيامة ومن الحساب.

الآية الخامسة والأربعون ( وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ).

 ( وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ) من الشعوب والأمم ( وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ) هؤلاء أهل مكة وأهل الجزيرة العربية الذين أُرسلت إليهم في البداية ما أُوتوا معشار ما آتينا الذين قبلهم من الشعوب ومن الأمم فكذبت الأمم رُسُلي الذين قبلهم ( فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ) أي نكيري أي إنكاري عليهم وغضبي عليهم باجتثاثهم وإبادتهم.

الآية السادسة والأربعون: ( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) قل يا محمد يا رسول الله ( إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ) هي كلمة التوحيد لا إله لا الله فسرها بما بعدها ( أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ ) ليس هو مجنون ( إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ )  نذير مُخوّف لكم (بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ) هو عذاب التخليد في جهنم في النار في الآخرة.

الآية السابعة والأربعون: ( قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ ) إذا كنت سألتكم من أجرٍ على تبليغي رسالة الله فهذا الأجر هو لكم سواء كان مالاً أوغير مال ( إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ ) ما أجري إلا على الله ولا أريد إلا من الله ( وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) وهو يشاهدنا ويبصرنا وهو يحيط بنا فيما نقول ونعمل من كلّ جانب.

الآية الثامنة والأربعون: ( قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ ) يلقيه يُلقي الحقّ إلى أنبيائه وهو ( عَلامُ الْغُيُوبِ ) علاّم ما لا يعلم خلقه.

الآية التاسعة والأربعون: ( قُلْ جَاء الْحَقُّ ) وهو الإسلام لله وحده لا شريك له  ( وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ )، ( وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ ) لأهله خيراً في الدنيا ( وَمَا يُعِيدُ ) لهم خيراً في الآخرة.

الآية الخمسون ( قُلْ إِن ضَلَلْتُ ) أي ضللت عن الحقّ كما تدعون فإن عاقبة ضلالي ستعود عليّ (إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ  إلى الحقّ   فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ) أي سميعٌ على مستوى الكون جملةً وتفصيلا وهو أسمع السامعين ولا قياس، وقريب وهو معي ومعكم ومع جميع الخلق أينما كنا وأينما كانوا، وهو أقرب إلى الإنسان من حبل وريده أي من دمه، وهو يحول بين المرء وقلبه فأي قُرب يكون أقرب من هذا القرب.

الآية الواحدة والخمسون: ( وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ )، ( وَلَوْ تَرَى ) لرأيت فزعهم ورعبهم ( إِذْ فَزِعُوا ) يوم الحساب ( فَلا فَوْتَ) فلا يفوتني منهم أحد ( وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ ) أي من قبورهم وكلّ مكانٍ في الوجود هو قريب من الله جلّ شأنه.

ثمّ الآية الثانية والخمسون: ( وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ) ( وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ ) أي بالقرآن الذي أُنزل على محمد (ص) ( وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَكَانٍ بَعِيدٍ ) التناوش في هذا القرآن من ناشَ ينوشُ أي تناول، فإذاً وأنّى لهم التناول وكيف لهم التناول من مكانٍ بعيد أي لا ينفعهم ذلك لأن شأنهم كمن يتناول شيئاً من مكانٍ بعيد.

الآية الثالثة والخمسون: ( وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ )، ( وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ ) بالقرآن الكريم ( مِن قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ) يرجمون بالغيب أي يظنون أن لا جنّة ولا نار ولا بعث ولا نشور وهذا أبعد ما يكون من الظنّ.

الآية الأخيرة من سورة سبأ وهي الآية الرابعة والخمسون: ( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ).

( وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ ) أو مُنعوا أي مُنعوا مما يشتهون ( كَمَا فُعِلَ) بموافقيهم على الشرك وعلى الكفر، وقوله تعالى: ( إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ ) آخر الآية يعني كانوا في شكٍّ مُّريب من قيام الساعة والحساب والثواب والعذاب حتى شهِدوا كلّ ذلك على الحقيقة بأعينهم. سبحانك اللهم وبحمدك إغفر لنا وتبّ علينا وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.