هل الأنبياء كائنون في الدنيا أحياءً بعد موتهم ؟!

هل الأنبياء كائنون في الدنيا أحياءً بعد موتهم ؟!

========================

          زعم أحد العلماء أن محمَّداً (ص) “كان حاضراً في جميع أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود ” . فهل يؤيد القران الكريم هذا الزعم ؟ .

          قال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. سورة الزمر الآية 42 } .

          في هذه الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس عند الموت ويتوفاها عند نومها ، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل التي توفاها من النائـم إلى أجل مسمى . هذا ظاهـر القـرآن ـ تفسيراً ـ وهو واضح ومعلوم ، لحجية الظاهر .

          إلا أن في الآية إشارة ، هي باب إلى تأويلها  بحيث  يصبح المعنى أن الله  تعالى يتوفى الأنفس التي يقضي عليها موتاً نهائياً فيمسكها . ويتوفى أنفساً في منامها موقعاً في أصحابها موتاً حقيقياً ، إلا أنه سبحانه يعيدها إليهم ، أي الأنفس ، ليتابعوا في الدنيا ، في مجتمعهم  قسطاً من العمر ، يرفعهم بعد ذلك إليه سبحانه دون إماتة ثانية ، وفي قوله عن النبي إدريس عليه السلام { وَرَفَعْنَـاهُ مَكَانًا عَلِيًّا . سـورة مريم الآية 57 } دلالة على ذلك ، وتتضح هذه الدلالة كذلك عن المسيح عليه السلام ، إذ توفاه ثم رفعه إليه . قال تعالى :

{ إذ قَالَ اللهُ يـاعِيسَىآ إنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إليَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ  . سورة آل عمران الآية  55 } .

وقوله سبحانه :

{ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي  شَكٍّ  مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا . بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا . سورة النساء الآيات ( 157 ـ 158) } .

          ثم الدليل على أن النبيَّ ينقطع عن الدنيا إذا توفاه الله أو إذا رفعه إليه ، هو في الآيات البينات هذه :

          { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ءَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَـمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ . مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . سورة المائدة الآيات (116 ـ 117) } .

          فالشاهد هنا قول المسيح عليه السلام : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .

وهذا الأمر ينطبق على جميع الأنبياء ، وإلاّ لماذا تخصيص المسيح عليه السلام بقطعه وحده عن الحياة الدنيا .

وقد قال تعالى :  { .. وضربنا لكم الأمثال . سورة إبراهيم الآية 45 } وقال سبحانه: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ . سورة الروم آية 58 } .

 

وهل يكون النبي حاضراً قبل ولادته في تاريخ البشرية ؟!

==========================================================================

          من العجيب في القرآن الكريم كثرة الآيات التي تنفي هذا الزعم وخاصة عن خاتم النبيين وأعز المرسلين محمَّد(ص) ففي سورة آل عمران آية 44 قوله تعالى مخاطباً محمَّداّ (ص) :

          { ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } .

          وفي سورة الأعراف قوله تعالى كذلك يخاطبه (ص) آية 188 : { قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ . } .

          وفي هذه الآية نفي علم الغيب المطلق عن محمّد (ص) وضمنه غيب تاريخ البشرية قبل ولادته الميمونة (ص) . فكيف يكون حاضراً ـ حسـب الزعـم المتقدم ـ : ” في جميع أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود . ” ؟!  .

          أما الغيب الذي كان يخبر به النبي (ص) فهو بتعليم خاص ووحي من الله تبارك وتعالى :{ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}.       

          ثم قوله تعالى ينفي علم محمّد (ص) بما يجري عليه وعلى الناس من تدبير الله تبارك وتعالى ومن حكمه وحاكميته :

{ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ . سورة الأحقاف الآية 9 } .

 

          ثم قوله تعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ . ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ . سورة الزمرالآيات ( 30 ـ31 ) } .

          الموت العادي معلوم أنه إنقطاع عن الحياة الدنيا ، وفي هذه الآية يتساوى النبيّ وجميع الناس من حيث الإنقطاع عن الدنيا بالموت ، إلاَّ أنَّ الفارق يكون بالكيفية والدرجة من حيث قبض نفس النبيّ أو الوليّ أو الناس على إختلاف عقائدهم وأعمالهم  : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . سورة الأحقاف الآية 19 } .

          يبقى التأكيد من قبل الله تعالى على عدم حضور النبيّ محمّد (ص) شخصياً ” في أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود ” وذلك في آيات ، كنت عندما أقرؤها أعجب من مخاطبة رسوله (ص) بها ، وأتساءل كثيراً عن الغرض من ذلك ، وأبحث في كتب التفسير والتأويل فلا أجد ما يشفي غليلي ، حتى قرأت هذا الزعم المنوه عنه ، وقرأت وسمعت ، أنّّ محمّداً (ص) وبعض أولياء الله الصالحين يطّلعون على أعمال العباد في يوم كذا أو يوم كذا من أيام الإسبوع ، وهم في الحياة الدنيا ، وبعبارة أخرى أنهم تعرض عليهم أعمال تابعيهم ومحبيهم ، فيرفعون عن ذلك تقارير إلى الله عز وجل مما يزيد في أجور هؤلاء المحبين والتابعين ، وما أشبه ذلك من الكلام الذي يطول شرحه عندهم وتفاصيله ونتائجه .

وهذه الآيات الكريمات هي :

أولاً : في سورة يوسف محدثاً رسوله محمّداً (ص) عن إخوة يوسف إذ يمكرون بأخيهم ، وقوله تعالى إنك يا محمّد لم تكن مع هؤلاء أبداً وهم في تلك المرحلة من مراحل الوجود :

          {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ. وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ . سورة يوسف الآيات (102 ـ 103) } .

 

ثانياً :  في سـورة القصص ، كذلك لنفس الغرض وهو علم الله العظيم ، بأنه سيأتي زمان ، تشوه فيه الحقائق وينصرف فيه الناس عن قوة حضور الله وإحاطته بالأمور وحاكميته دون شريك في السماوات أو في الأرض وهيمنته على الوجود جملةً وتفصيلاً ماضياً وحاضراً ومستقبلاً ، إلى قوة حضور غيره من المخلوقين أنبياء أو أولياء أو صالحين ،  ” في أبعاد الإنسانية ومراحل الوجود ” . وهذه الآيات هي التالية ، كذلك مخاطباً بها محمّداً (ص) عبده ورسوله :

          { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الأََمْرَ وَمَا كُنتَ مِنْ الشَّاهِدِينَ . وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ . وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ . سورة القصص الآيات (44 ـ 46 ) } .

          ودفع هذه الشبهة لا يغض من شأن رسول الله محمّد (ص) ولا ينزله من عليائه التي رفعه الله إليها عبر خلقه العظيم وجهاده الكبير ، ولا من مكانه المحمود الذي سيبعثه الله فيه حيث يحمده عليه الأولون والآخرون . وفي محمّد (ص) تؤلف المجلدات وفي مدحه تنشأ الدواوين . إلاَّ أنَّ الحقَّ أحقُّ أن يقال ، ولا سيما إذا كان هذا الحق مشرقاً في القرآن الكريم .

          هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، فإننا بعدما آتانا الله عز شأنه من العلم ، وبعدما نوّر قلوبنا بأنواره وأنوار كتابه المجيد ، فإننا نخشى ، إن نحن كتمنا ما علّمنا سبحانه ولم نظهره للناس ، أن نقع تحت وطأة نذيره في الآية الكريمة قوله تعالى :

          { إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاّعِنُونَ . سورة البقرة الآية 159 } .

          فحرصاً على رضاه سبحانه ، وحرصاً على نجاتنا من سخطه ورجاء أن يثوب إلى رشدهم إخوان لنا علماء ، وينقذوا الأمة من هذا الخطر الكبير الذي يشدها دائماً وأبداً إلى الأسفل ، ويعيقها عن نهضتها من بؤرة الهزيمة في جميع جبهات الحياة ، عنيت بهذا الخطر المدمِّر : الشرك الخفي . مستقلاً أن أكتب في جنب الله وحرصاً على توحيده ولو بدمي . فلبيك اللهم لبيك ، ولو كنت أعلم سلفاً أني سأتلقى ردود فعل غاشمة ، من العامة وبعض الخاصة ، وكالعادة ، ولا سيما من أدعياء الحفاظ على العقيدة وأتباعهم الإمَّعات .

          وفدىً لرضاك ما تبقى لي من الفكر والعمر والطاقات ، وما بي من نعمة فمنك يا أرحم الراحمين ، عاملاً بقولك مشتاقاً إليك في الواصلين :

          { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ . سورة فصلت الآية 33 } .