التأويل

كشوف معاصرة في كتاب الله العظيم

1423 هـ ــ 2002 م .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

معنى التأويل وكيفيته

        إن كلمة ( تأويل ) ، قد علَّمنا الله تبارك وتعالى ، معانيها كفاية في كتابه الكريم . لذلك سنفهم ( التأويل ) إن شاء الله ، كما علمنا  سبحانه في آياته البينات ، عارضين  بحثنا هذا تحت ثلاثة عناوين :

        أ )  ـ   تأويل الرُّؤَى في سورة يوسف (ع) .

        ب) ـ   تأويل الوقائع الأربع مع موسى وصاحبه (ع) .

        ت) ـ   معنى تأويل القرآن .

تأويل الرُّؤى في سورة يوسف (ع)

ـــــــــــــــــــــــــ

        في هذه السورة الكريمة ، نجد معنى كلمة  ( تأويل ) التي وردت في هذه السورة ثماني مرات في ثماني آيات يكاد يكون محصوراً في تفسير  الرؤى الأربع التي ورد ذكرها في السورة المباركة .

        ومعلوم أن الرؤيا الأولى فيها وهي رؤيا يوسف عليه السلام :

       { يـاــأبَتِ إنِّي رَأيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشَّمْسَ والقَمَرَ رأيتُهُمْ لِي سـاــاجِدِينَ } (سورة يوسف الآية 4)

       

وقع تأويلها هكذا   :

       { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العَرْش ِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وقَالَ يا أَبَتِ هـاـذا تأْوِيلُ  رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَـلَهَا رَبّي حَقّاً } (سورة يوسف الآية   : 100)  . 

       ثم قوله تعالى : {   وَدَخَلَ   مَعَهُ  السـِّجْنَ   فَتَيان ِ  قَالَ أَحَدُهُمَا إنِّي أراني أَعْصِرُ خَمْراً وقال الآخر إنِّي أَراني أَحْمِلُ فَوقَ رأْسي خُبْزاً تَأكُلُ الطَّيرُ مِنْهُ نبِّئْنَا  بِتأوِيلِهِ إنَّــا نَرَاكَ مِنَ المُحْسنِين. قَالَ لا يَأتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إلاَّ نَبَّأتُكُمَا بِتَأويلِهِ قَبْلَ أنْ يَأتِيكُمَا ذالكما مِمَّا عَلَّمَني رَبِّي . إنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْم لا يُؤْمِنُونَ باللهِ وَهُمْ بالآخِرَةِ هُمْ كـاـفِرُونَ . واتَّبَعْتُ  مِلَّةَ آبائي إبْرَاهِيمَ وإسْحَـاــقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أنْ نُشْرِك باللهِ مِنْ شَيْء ٍ …}(سورة يوسف الآيات : 36 ـ 38)  .

        فقوله  : ” لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما “: معناه أنه لا يأتيكما في الرؤيا ، أو في خبر حول طعام ،  قُدِّرَ لكما أن ترزقاه إلا نبأتكما  بمعاني رموزه إذا كان في رؤيا ، أو أسبابه ومتعلقاته إذا كان في خبر ، وذلك قبل أن يتحقق الوجود المادي الحقيقي لهذا الطعام أو لما يَعْنيه .

        وكلمة ( تُرْزَقَانِه) تشير إلى عمق الحَدَث ِ ، كلِّ حدث ،لأن الرزق أو أي أمر من الأمور ، حـدث مخطط لـه في علم الله سبحانه مروراً  بالمشيئة ثم التقدير وإلى هنا  يبقى الحدث ضمن الصورة الرمزية ( الرؤيا)  أو ضمن الخبر ( الكلمات ) فإذا وقع  القضاء فيه أو عليه ، أصبح حقيقة وواقعاً ، وعند ذلك يتم تأويلُه .

        ولهذا أردف مؤكداً على هذه المعاني  بقوله : { إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله … واتبعت ملة آبائي … مَا كانَ لَنَا أنْ نُشْرِكَ باللهِ مِنْ شَيْء ٍ ) والعبارة الأخيرة ، هي الهدف الذي رمى إليه ، وهي أن الله سبحانه ” هو الأول والآخر  والظاهر والباطن  وهو بكل شيء عليم  (1) “.

        وغير هذا الذي وفقنا الله إليه ، يبقى كل كلام حول تفسير هذه الآية دون طائل .

        ثم أوَّلَ يوسف رؤيا كل واحد من صاحبيه  :

       { يـاـصَاحَبَيْ السِّجْن ِ أمَّا أحَدُكُمَا فَيَسْقي رَبَّهُ خَمْراً ، وأمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رأسِهِ  قُضِيَ  الأمْرُ  الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } (2)  .

        ونقارن  بين رؤيا يوسف عليه السلام وتأويلها :

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)       سورة الحديد الاية    :  3  .

(2)       سورة يوسف الآية   : 41  .

       الرؤيا : { .. إنِّي رَأيْتُ أحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقمَرَ رَأيْتُهُمْ لِي  سَـاـجدِينَ } .

       وتأويلها : { فَلمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوىَ إليهِ أَبَوَيْهِ .. وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلى العَرش ِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يـاـأبَتِ هَذَا تَأوِيلُ رُؤْيَـاـىَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها ربِّي حَقّاً .. }

        ونقارن بين رؤيا أحد صاحبيه وتأويلها :

        الرؤيا : { إنِّي  أرَانـِىَ أعْصِرُ خَمْرًا } وتأويلها ، أنه { يَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا }  وبين رؤيا الآخر  وتأويلها :

       { إنِّي أرَانـِيَ أحْمِلُ فوْقَ رَأسِي خُبْزاً تَأكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ } . وتأويلها  أنه { يُصْلبُ فتَأكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأسِهِ }.

        والملاحظة السريعة هنا تكاد تقول ، أنه لا يوجد أي رابط  بين رموز هذه  الرؤى الثلاث وبين تحققاتها .

        إلا أن المتعامل مع اللغة العربية بشكل خاص ، واللغة الكونية بشكل عام  يجد الروابط  التامة المقصودة ، إذا تعلم اللغة الكونية من جانب واللغة العربية بمجازاتها وحقائقها من جانب آخر. 

        وهنا  نختصر موضوعنا كله في أمرين :

الأول : هو التشابه بين رموز الرُّؤَى وبين تَحَقُّقَاتِها .

الثاني : هو ردّ الصور الرمزية إلى أصولها ، أو ردّ المثاني إلى الأوائل ، وذلك معنى التأويل في اللغة وبالتالي معنـاه   أو بعض معـانيه ـ كمـا سنرى ـ في القرآن الكريم .

        وهذه الآيات المتعلقات بالرؤى المذكورة ، هي من الآيات المتشابهات من وجه ، ومن المثاني من وجه آخر ، والتشابه  فيها هو تشابه الرمز مع الواقع ، والمجاز مع الحقيقة ، أما أوائلها  أو أصولها ، فهي حقائقها  التي أوِّلت إلى وقائع محسوسة  في عالم الحضور  والزمان والمكان ، بعد أن كانت مشاريع مرموزة أو أخباراً في عالم الغيب والمشيئة (1) .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     بحيث أن الله عز وجل  إذا أراد  أمراً مؤجلاً ، يبقى هذا الأمر  في علمه سبحانه ويكون هذا الأمر ( أوَّلاً ) من حيث ترتيب المراحل . ثم قد يرمز إليه  برؤيا أو أكثر فيكون الرمز ثانيا أو من ( المثاني ) . فإذا أوّل الأمـر إلى حقيقـة بقـي   ( أولا) من  حيث  الترتيب ، وكذلك بقي الرمز في ( المثاني ) .

        فمعاني ( أوّل ) و ( تأوّل ) و ( التأويل ) في قوامس اللغة كما يلي  وباختصار  :  أَوَلَ  : الأوْل  : الرجوع . وأوَّلَ إليه الشيء:  رجَّعه ـ وأَوَّلَ الكـلام وتأوَّلَهُ : دبَّرهُ وقدَّره وفسَّره . ـ والتأويل  : عبارة  الرؤيا .

تأويل الوقائع الأربع مع موسى وصاحبه (ع)

        قصة رسول الله موسى  عليه السلام مع صاحبه العالم ، هي من أبلغ القصص القرآني ومن أعمقه ، من حيـث مفارقات ما بين ظواهر الأمور وبواطنها . وفي  مقدماتها وأسبابها  أن موسى عليه السلام  سأل ربّه تبارك وتعالى بما معناه : ( ربي ، هل في الأرض رجل أعلم مني  )  فأجابه الله سبحانه  بالإيجاب  وأرسله إلى هذا  الرجل على عنوان مفتوح هو أحد السواحل  البحرية ، عند ( مجمع البحرين ) ، والمرجَّع  أنه في مكان ما من قناة السويس حالياً .

        ولإمتاع العقل وتشريف النفس براوئع القصة ، نوردها كما وردت في القرآن الكريم ، لنجد أنها سهلة الفهم ميسورة المعاني ، يجد الإنسان المؤمن  فيها لذة كما لذة حل الطلاسم  والمسائل الكونية  المبهمة  وشبه المغلقة .

 وهذه هي القصة كما جاءت بتسلسلها  في القرآن الكريم :

       { وإذْ قَالَ مُوسىَ لِفَتـاــهُ لاَ أبْرَحُ  حَتَّى أبْلُغَ  مَجْمَعَ البَحْرَيْن ِ  أوْ أمْضِيَ  حُقُبَا . فَلَمَّا بَلَغَا مَجمَعَ  بَيْنِهمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذّ سَبيلهُ في البَحْر ِ سَرَبا . فَلَمَّا جَاوزَا  قَالَ  لِفَتـاــهُ آتِنَا غَدَاءَنا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرنَا هـاــذا  نَصَبَا . قَالَ أرَأيـتَ  إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخْرَةِ  فإنِّي نَسِيتُ  الحُوتَ وَمَا أنْسـاــنِيهُ إلاَّ الشَّيطانُ أنْ أذْكُرَهُ  واتَّخَذَ  سَبيلَهُ في البَحْر ِ  عَجَبَا . قَالَ  ذَلِكَ مَا كُنَّا  نَبْغ ِ  فَارْتَدَّا  عَلَى  آثَارهِمَا  قَصَصَا . فَوَجَدا عَبْداً  مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَـاــهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وعلّمْنَـاــهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمَا. قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أتَّبعُكَ عَلَى أنْ تُعَِّلمَن ِ  مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدَا . قَالَ  إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعي صَبْرَا . وَكَيْفَ  تَصْبرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بهِ خُبْرَا . قَالَ  سَتَجدُني إنْ شَاءَ اللهُ صَابراً  وَلاَ أعْصي لَكَ أمْرا . قَالَ  فإنْ اتَّبَعْتَني فَلاَ  تَسْألْني عَنْ  شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرَا . فَانْطَلَقَا  حَتَّى إذَا رَكِبَا في السَفينَةِ خَرَقَهَا  قَالَ أخَرَقْتَهَا  لِتُغْرقَ أهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إمْرَا . قَالَ  ألَمْ أقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ مَعيَ  صَبْرَا . قَالَ لاَ تُؤَاخِذْني بمَا نَسيتُ ولاَ تُرْهِقْني مِنْ أمْري عُسْرَا . فَانْطَلَقَا حَتَّى إذا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بغَير ِنَفْس ٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْرَا . قَالَ  ألَمْ أقُلْ لَكَ إنَّكَ لَنْ  تَسْتَطيعَ مَعيَ صَبْرَا . قَالَ إنْ سَألْتُكَ عَنْ شَيءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصـاـحِبْني قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرَا . فَانْطَلَقَا  حَتَّى إذا أتَيَا أهْلَ  قَرْيَةٍ استَطْعَمَا أهْلَهَا فَأبَوْا أنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُريدُ أنْ يَنْقَضَّ فَأقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيهِ أجْرَا . قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ سَأُنَبِّئُكَ بتَأويل ِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرَا (سورة الكهف الآيات  : 60 ـ  78 ) .

        لقد رأينا كما هو واضح ، في سياق هذه القصة القرآنية ، أربعة مواقف يعجز عن حملها أهل الظاهر بشكل عام : الأول ، أن نبياً من أولي العزم  ومن أعلى مستويات النبوة يُبعث به ليتعلم اختصاصاً غير اختصاصه ، من رجل مغمور لا يعرف المؤرخون إسماً له ، فيُدِلُّ بما علمه ربُّه ، مُحِقاً ، على هذا النبي الكريم . ويستجيب موسى (ع) لشروط أستاذه ، ويفرح لقبوله ، ويسعد بأن يكون له تابعاً طائعاً ، حتى ومعتذراً بعد كل صدمة .

        أما  الموقفان الثاني والثالث ، فهما في مستوى الجريمة النكراء ، يحكم  على فاعلهما  بالإعدام شرعاً وعقلاً .

        أما الرابع ، فموقف حرج  : إنسان جائع  يستطعم أهل قرية فلا يطعمونه ، يلاحظ  جداراً من جدرهم ( يريد أن ينقض)  على وشك أن ينهدم ، فينقضه  ثم يعيد بناءه  ، مع ما يقتضي  ذلك من بذل الجهد ، ليس على شبع ، بل على جوع .

        وكان من الطبيعي جداً ، لأي مؤمن يعاين هذه المواقف ، أن يتعامل مع كل موقف بما يناسبه من الأدب أو الغضب أو إسداء النصيحة . وكذلك كان يمكن أن يفعل موسى عليه السلام، وهو النبي ـ الإنسان ، الذي لم يكن من اختصاصه ـ أي أن الله  عز وجل ما قدَّر له ـ  أن يعلم بواطن هذه الأمور. لولا أنه أخذت عليه العهود والمواثيق ، وحُذر من الإعتراض وذكِّر تكراراً  ، ومع ذلك ، ما سلك موسى (ع) هذه المسالك ، إلا لشدة حرصه على طاعة ربه ، ولأن ظواهر الأمور كما بدت له فساد وإفساد ، فقد بدر منه ما بدر. حتى إذا قضى الله ما قضى ، وأدرك موسى سر هذا الإختصاص ، الذي لم يكن تعليماً عظيماً له وحده ، وإنما كان للبشرية جمعاء ، إستَغْفَرَ وشَكَر ، والله حليم كريم .

        ثم يأتي ( المعنى الثاني ) للتأويل ، ليحسم هذه المواقف ،  ومثيلاتها وتفريعاتها كلها في تاريخ الإيمان بوحدانية الله عز وجل وهيمنته وقيوميته وعلمه وأسمائه الحسنى فكان التأويل في كتاب الله تبارك وتعالى  كما ورد على لسان صاحب موسى (ع) هو هذا :

       { أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ فَأرَدْتُ أنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وراءَهُمْ مَلِكٌ يَأخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبَا . وَأمَّا الغُلـاـــمُ فَكَانَ أبَوَاهُ مُؤْمِنَيْن ِ فَخَشِينَا أنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْرا . فأرَدْنَا أنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَـواةً وأقْرَبَ رُحْمَا . وأمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلـاـمَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ وكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وكَانَ أبوهُمَا صَالِحاً فَأرَادَ رَبُكَ أنْ يَبْلُغَا أشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا  كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ومَا فَعَلْتُهُ عَنْ أمْري ذَلِكَ تَأويلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيهِ صَبْرَا}(سورة الكهف  الآيات  : 79 ــ 82)  . 

        هنا  ، نجد في عرض القصة ، قبل تأويلها ( بالمعنى الثاني للتأويل ) ، أننا في مواجهة وقائع أو حوادث عجيبة أو خطيرة ، أو مفجعة ، أو غريبة أطوارها ، يدركها الإنسان بأحاسيسه ويقظته ، وينفعل معها ، إلا أنه لا يدرك الأسباب  والدوافع التي فرضتها فرضاً ، أو جعلتها قضاء منزلا . فإذا تعامل معها الإنسان دون أن يفهم أسبابها  ودوافعها والحكمة منها ، بقيت دون تأويل .  وفي ذلك الخسارة التي لا تُعوَّض وذلك شأن الجاهلين . أما إذا أحاط الإنسان بموجباتها والحكمة منها ، فقد وقع تأويلُها . وفي ذلك الهداية والتأييد من الله والفوز المبين . على أن كل ذلك إنما يقع بعلمه سبحانه ، ومشيئته ثم قضائِه . وهكذا فإن الإحاطة بالأسباب والدوافع والنتائج ، إنما تقتصر على الله عز وجل والراسخين في العلم . أي الذين اختصهم سبحانه بهذا الوجه وربما بغيره من وجوه الإختصاص ، ثم هم يظهرونها للناس بإذنه عز شأنه .

        وهذا ( المعنى الثاني للتأويل ) يقرِّبنا كثيراً ، من المعنى الثالث ، الذي هو ( تأويل القرآن ) كما سنرى إن شاء الله .

خطورة الحدث النافر  إذا بقي دون تأويل :

         أيما إنسان ، إذا ابتُليَ شخصياً ، بواحدة من مثل الوقائع المذكورة في هذه القصة ( صحبة موسى للرجل العالم ) : كتعطيل سفينة مائية أو فضائية أو سيـارة أو أيَّة آليـة . أو موت ولد عادي في الظاهر ، بلغ أو لم يبلغ رشده ، ذكراً كان أو أنثى ، أو رجل عالم من المشاهير ، أو  يكون الأشهر في العالم  تتناقل أخباره  مؤسسات الإعلام والإتصال ، يؤمر أن يسافر من بلد إلى بلد ، متحملاً المشقـات ، قاصداً إنساناً مغموراً ، لا يكاد يتوقف أحد عند مكانته الإجتماعية . ثم إن هذا الشهير ، الجدير شرعاً بالإجلال والإكبار والإحترام ، يتأدب مع الرجل المغمور راجياً أن يصحبه ليتعلم منه ، فيقول الرجل المغمور  لصاحب  المنزلة  العظمى  عند  الله :

” إنَّكَ لنْ  تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرَا ”  .

        كذلك ما يشبه الجدار وبناءَه : رجل يعمل عملاً صالحاً مُكْلِفاً مع أناس سفهاء أشحاء ـ  والشِحُّ هو بعد الكُفْر من أقبح الخصال ـ بعد إذ طلب منهم خدمةً بسيطةً ، بمقدار وجبة طعـام ، فبخلوا ورفضوا أداء هذه الخدمة ، رغم اضطراره .

        مثل هذه الأخبار ، لو أنها ذكرت في القرآن الكريم ، ولم يذكر تأويلها ، لصَدَمَنا القرآن صدمة هائلة ، ولظننا به الظنون .

        ومثل هذه الأخبار ، لو لم  تذكر في القرآن ، هي وتأويلها ، لبقي العلماء في مثل العمى ، في هذا الحقل  من حقول الإختصاص ، وأمام حكمة مقفلة أبوابها ونوافذها .

        ومثل هذه الأخبار ، إذا لم يستطع بعض الناس تأويلها ، يعني إدراك  أسبابها والحكمة منها ، عن طريق العلماء ، لجنحوا وتهوّروا في سلوكهم الفكري ، وبالتالي  الإعتقادي  ، وبالتالي العملي ، مع النفس ووسوسات الشياطين ، إلى أسفل سافلين . 

        وكذلك القول في رموز رؤيا يوسف (ع) ، وبعده رؤيا عزيز مصر ، ومثله رؤيا إبراهيم (ع) . لو أن الله عز وجل ذكرها ولم يقيض لها بشراً راسخين في العلم ، يؤولونها بعلمه وبإذنه سبحانه ، لكان فيها الضلال المبين .

        إذن  ، التأويل  واجب شرعي ، فريضة واجبة ، سواء كان المؤوِّل نبياً كيوسف (ع) ، أو عالماً كصاحب موسى . ونحن أسمينـاه عـالماً بالضـرورة ، لقول الله تعـالى فيـه : { فَوَجدَدْنَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَـاـهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا  وََعلَّمْنَـاـهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمَا . سورة الكهف الآية 65 } .

        وهل كان هذا الرجل  فريدَ عصره ؟ هذه قضية لا يجوز فيها الحسم . ولعل الحقيقة خلاف ذلك ، فالله سبحـانه وتعـالى قال :

        { وَللهِ جُنُودُ السَمَـاـوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزيزاً حَكِيماً .  سورة الفتح الآية 7 } .

        لذلك وبثقة عالية ، واطمئنان كبير  ، ندّعي أن ما قاله سبحانه عن صاحب موسى ، هو عينه يقوله عز شأنه ، عن عشرات ، بل ومئات من عباده ، ممن يؤتيهم رحمة من عنده ويعلمهم من لدنه علما ، وينشرهم في الأرض والأقوام ، على تعدد أجناسهم  ولغاتهم ، وفي العصر الواحد والزمن الواحد . مع نسبة أعلميتهم . إذ لا بد بينهم من أعلم ، يكون موجهاً ، ومصححاً ، ومبلّغاً . وربما يكون مغموراً في مقابل المشاهير ، حتى  يأذن الله تعالى بإظهاره ، وإظهار فضله سبحانه عليه . ومع ذلك ينسحب  قوله تعالى على كل واحد من هؤلاء ، بمختلف درجاتهم ، إذا كان الله تعالى اختصه برحمة من عنده ، وبنوع اختصاص ، أو بأكثر ، من أنواع الإختصاص . سواء كان في العلوم الإلـاـهية الدينية ، وهي أشرف العلوم على الإطلاق ، أو كان في حقل من حقول الفكر ، أو المهن ، أو الصناعات المختلفة وعلومها التي تراوح بين الذرَّة والمجرة .

معنى ( تأويل القرآن )  :

        بعد أن رأينا معنيين من المعاني الثلاثة ، لكلمة ( تأويل ) في القرآن الكريم ، وهما تأويل الرؤى( جمع رؤيا وهي مما يراه النائم) ، ارتكازاً على تفسير رموزها ، ثم تأويل الأحداث والوقائع  ارتكازا على استنباط أسبابها وملاحظة نتائجها . فقد بقي علينا استكشاف المعنى الثالث القرآني ، وهو معنى  ( تأويل القرآن ) ، وبذلك نكون قد  استكملنا البحث حول ذلك المفتاح النير الكريم ، الذي يفتح مغاليق كثيرة ، دفعة واحدة في كتاب الله . ذلك المفتاح ، هو  (معنى التأويل وكيفيته في القرآن ) . هذا ، وإن من أصل الأصول العبادية ، معرفة أن كل ذلك واقع ضمن الهيمنة الإلـهية .

        فما معنى ( تأويل القرآن )  ؟

        قال تعالى في أول سورة الزخرف :

       بسم الله الرحمن الرحيم  حـم(*)  وَاْلكِتَـاـبِ المُبيـنِ(*) إنَّا جَعَلْنَاهُ قرْآناً عَرَبياً لعَلَّكُمْ تَعْقِلوُنَ(*) وَإنَّهُ فِي أمِّ الكِتَـاـبِ لدَيْنَا لعَلِيٌ حَكِيمٌ (*) .

        فما قضية هذا ( الجعل ) في قوله تعالى : ” إنا جعلناه قرآناً عربياً  ؟ ” إن كلمـة ( جعلنـاه )  هـي إشـارة إلـى      ( الكتـاــب المبين ) في اللوح المحفوظ فوق عالم الناسوت وعالم الملكوت .

        الدلالات القرآنية تفيد أن هذا ( الكتـاــب المبين ) بلغة كونية غير لغات أهل الأرض :

       { ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا في السَّمَاءِ والأَرضِ إنَّ ذلكَ في كِتَاب ٍ إنَّ ذلِكَ عَلى اللهِ يَسِيرٌ . سورة الحج الآية 70 } .

        وفي معنى الجعل ، فإنه سبحانه قد يجعل الشيء العظيم بسيطاً ، والصعب سهلاً ، والبعيد قريباً ، وما فوق العقل يُعْقَلُ بعضه ،  وقد يعكس هذه الأمور .. وبرحمة منه للعالمين . جعـل  (الكتاب المبين ) والذي هو فوق مستوى الإنسان ومستوى عقله ،  قرآناً ميسَّرا  :

       { ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرآنَ  لِلذّكْر  ِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر } .

وقال سبحانه وتعالى في الآية السابعة من سورة آل عمران :

{ هُوَ الذَّي أنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَـاـب مِنْهُ آيَـاـتٌ مُحْكَمَـاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَـاب وأُخَر مُتَشَـاـبهَـاتٌ فَأمَّا الّذينَ في قُلُوبهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأْويلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إلاَّ اللهُ والرَّسِخونَ في العِلْمِ يَقولونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَرُ إلاَّ أُولو الألْبَابِ } .

       

وقال سبحانه في سورة يونس الآيات 38 ـ 39  :

{ أمْ يَقولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأتُوا بسُورَةٍ مِثْلِهِ وادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم  مِنْ دُونِ اللهِ إنْ كُنْتُمْ صَــاــدِقِينَ. بَلْ كَذَّبُوا بمَا لَمْ يُحِيطوا بعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأويلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الذينَ مِنْ قَبْلِهمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَـاـقِبَةُ الظَّـاـلِمِينَ }.

وقال عز شأنه في سورة الأعراف الآيات 52 ـ 53  :

{ وَلَقَدْ جِئْنَـاـهُمْ بِكِتَـاـبٍ فَصَّلْنَـاـهُ عَلَى عِلْمٍ  هُدَىً وَرَحْمَةً لِقَوْم ٍ يُؤْمِنونَ. هَلْ يَنْظُرونَ إلاَّ تَاْويلَهُ يَوْمَ يَأتِي تَأويلُهُ يَقولُ الذينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتَ رُسُلُ رَبِّنَا بالحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أو نُرَدّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِروا أنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرونَ } .

        وهكذا نرى أنفسنا ، لكي نجيب على سؤال ( ما معنى تأويل القرآن ) ، في مواجهة هذه الآيات الكريمات ، التي ما زالت شغلاً شاغلاً ، لكثرة من المفكرين والعلماء منذ القرآن المجيد . ولكن يبدو بوضوح ، أن الله سبحانه وتعالى ، شاء لها أن يكون  تفسيرها  وحل رموزها ، أي تأويلها ، من حصة هذا العصر ، وعلى أيدي علماء ، ممن يجتبيهم الله ويتفضل عليهم  من علماء هذا القرن الخامس عشر الهجري ـ العشرين الميلادي .

        وحيث أن أَعْقَدَ المسائل هي في الآية السابعة من سورة آل عمران  ، لذلك بعد التأمُّل فيها نستنتج :

أولاً    : ما المقصود بـ ( المُحْكَم ِ)  في القرآن الكريم  ؟  علمـاً   أن هذه اللفظة وردت فيه مرتين فقط  ،  مرة  في  هذه  الآية  الكريمة ، السابعة من سورة آل عمران . والثانية في قوله تعالى  :  {فإذَا أُنْزِلَــتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأيْتَ الَّذينَ  فـي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إليكَ .. سورة محمد آية 20 } .

ثانياً    : ما ( المتشابه ) في القرآن الكريم ؟  وقد وردت هذه اللفظة بضع مرات فيه ، إلا أن المعنى الموافق لما في الآية السابعة من سورة آل عمران ، هو في قوله عز وجل :

{ اللهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَديثِ كِتَاباً مُتَشَـاـبِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الّذينَ يَخْشَـوْنَ رَبَّهُـمْ ثُمَّ تَليـنُ جُلُودُهُمْ  وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْر ِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يَضْلِلْ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . سورة الزمر الآية 23 } .

        فتتفرع عن هذه الآية ، ربطاً وثيقاً بكلمة (  متشابهاً )  كلمــة ( مثاني )  ، فنجد أنفسنا ملزمين  بهما معاً  إضافة إلى الآية السابعة من سورة آل عمران ، فَيَرِِدُ عندنا ، وبالضرورة ،  سؤال جديد ، هو  :

ثالثاً    : ما ( المثاني )  في  القرآن  الكريم ؟ وما معنى : { اللهُ

 نَزَّلَ أحْسَنَ الحَديث ِ كِتَاباً مُتَشَـاـبهاً مَثَانيَ } ؟ .

رابعاً   : من هم الراسخون في العلم وما أدوارهم في (التأويل )

          منذ القرآن الكريم وإلى قيام الساعة ؟ .

خامساً : من هم الذين في قلوبهم زَيْغٌ ، الذين  يتبعون مـا تشابه

         من الكتـاـب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ؟ .

        ولكي نجيب على هذه الأسئلة كلها ، نلفت إلى أننا لم نعتمد فيها الترتيب  كما أوردناها هنا ، وذلك لاضطرارنا للتعامل مع آيات أُخَر ، ربطاً ومقارنةً واحتجاجا .. مما يقتضيه اسلوب الكتابة في نفس هذا الموضوع  . وما توفيقي  إلاّ بالله الحليم الكريم . بادئين بقول الله عز وجل لرسوله محمد (ص) :

       { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مَنَ المَثَاني وَالقُرآنَ العَظيمَ }

        فما ( المثاني ) بشكل عام  ؟

… وأذِنَ الله بتأويل الأحرف النورانية :

قال عز وجل :

{ اللهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَديثِ كِتاباً مُتَشَـاـبهاً مَثانِيَ تَقشَعِرُ مِنْهُ جُلوُدُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلوُدُهُمْ وَقُلوُبُهُمْ إلىَ ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَىَ اللهِ يَهْدِي بهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فمَا لهُ مِنْ هَادٍ . سورة الزمرالآية 23 } .

        وقبل أن نتشرف بأخذ ما يهمنا من هذه الآية الكريمة ، ينبغي أن نذكر في رأس هذا الموضوع ، تهديده ووعيده في قوله عز شأنه :

       { إنَّ الّذينَ يَكْتُمُونَ مَا أنْزَلْنَا مِنْ البَيِّنَـاـت ِ والهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّـاـهُ للنَّاسِ في الكِتَـاـبِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللآَّعِنُونَ . سورة البقرة الآية 159} .

        من ما أنزل الله من البينات والهدى ، هذه الأحرف النورانية ، من مثل ( كهيعص  حمعسق ) ، وقد  بيّن  بعض  وجوهـها  للنـاس كما ذكرنا آنفاً ، تحت عنوان ( وقفة قصيرة مع الكمبيوتر)( انظر في كتابنا ( العقل الإسلامي ) تحت عنوان : ( الأحرف النورانية وقفة   مع الكمبيوتر . ) ،   كما بيّن لنا سبحانه عن النبي (ص) وعن الأئمة الأطهار عليهم السلام أن ( كهيعص  وحمعسق ) من أسمائه الحسنى ، لمّا أوصلوها إلينا في الرقى (جمع رقية وهي التعويذة . ) بعد تلاوة الحمد والإخلاص ، هكذا : كهيعص كفايتنا حمعسق حمايتنا  وسيكفيكهم الله وهو السميع العليم (وسيكفيكهم ….. سورة البقرة الآية 137 )  . وما أسرع ما يشفى من أثر ذلك الطفل البريء ، أو المؤمن الموقن المتوكل على الله .

        لذلك تبين لنا أن الأحرف النورانية ، هي رموز مثان متشابهة مع أوائلها وأصولها الحقيقية ، وذلك كتشابه الرموز مع حقائقها الأرضية في الرؤى الأربع في سورة يوسف .

        أو كتشابه الرموز الباطنية مع تأويلاتها الظاهرية  في الوقائع الأربع في قصة موسى مع العالم  (ع) .

        وعلى هذا الأساس  نرتب على المقارنة بين الأحرف النورانية  والرؤى الأربع في سورة يوسف (ع) ثم الوقائع الأربع في قصة موسى مع العالم عليهما السلام ، ثلاث حالات :

الأولى         : مع الأحرف النورانية :  تشابه  الرموز  التي  معنا  في الأرض وهي مثانٍ ، مع حقائقها في اللوح المحفوظ ، وهي أصول أوليه . 

الثانية :       مع الرؤى الأربع : تشابه الرموز في عالم  الملكوت(دراسة حول الرؤيا ، أو  ( ما يراه النائم )) مع حقائقها في عالم الناسوت .

 الرؤيا اثنتان  : إما من الله سبحانه ، وإما من الشيطان لعنه الله  .

أولاً : فَأما التي من الله تبارك  وتعالى  ، فتكون لعباده الذين يتولاهم  ويتولونه فتقع في مصاديق قوله  سبحانه : { هُوَ اللهُ الخَالِقُ البَارىءُ المُصَوِّرُ لهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَىَ  يُسَبِّحُ لهُ مَا فِي السَمَـاـوَاتِ والأرْضِِ  وَهُوَ العَزيزُ الحَكِيمُ . سورة الحشر  الآيـة 24 } .

           وعلى هذا الأساس  تكون الرؤيا من منطلقين . منطلق عالم الملكوت ومنطلق عالم الناسوت أي الحياة الدنيا .

          فإذا أراد سبحانه للرؤيا أن تكون صادقة قابلة التحـقق ، أي التأويل  ، أدخل روح صاحبها ونفسه عالم الملكوت فيرى ويسمع ويفهم ويتكلم بالمفاهيم واللغة الملكوتية ، فإذا خرج بشيء واضح متماسك منتظم من هذا العالم الملكوتي ، لزمه التأويل ، كل إلى لغته الناسوتية .

وتتعلق الرؤيا الملكوتية  بالأحداث الكبرى  ، فيما يختص بالفرد أو بالمجموع . من النوع الأول : رؤيا يوسف (ع) ومن الثاني رؤيا ملك مصر  . ( أنظر سورة يوسف ) .

          وأما إذا أراد سبحانـه لعبـده ، بشارةً أو إنذاراً أو توجيهـاً أو تحذيراً ، أو عقوبةً رادعة ، أو امتحاناً يسبر له فيه أغوار نفسه ويطلعه على مكامن الضعف والقوة فيها ، أو مرحلة الوصول صعوداً أو نزولاً … إلى آخر  ما يحتاج  إليه عابد الله في عقله ونفسه وبدنه من تربية وتعليم  وتهذيب وترقية ورفع درجات ، كذلك في أهله ومتعلقاته . فإنه سبحانه وتبارك وتعالى يتفضل ويتكرم عليه خَلْقاً وَبَرْءاً وتصويراً بما يشاء له الحمد وحده .

ثانياً :      وأما التي من الشيطان ، فليس  هي باختيار الشيطان واستقلاليته ، ومعاذ الله أن يكون له ذلك وهو الضعيف الكيد . وإنما الله سبحانه يُوَظِّفَهُ لِقَلقَلَة إنسان ٍ ما وإزاغته ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم سورة الصف الآية 5 )  أو لإعانته علَّه يستفيق ويرجع إلى ربه الحليم الكريم  ، أو يجعله له  قريناً مؤقتاً ، حيث أنه إذا تاب  يتوب الله عليه . وإما قريناً دائماً ، إذا كان من أهل الطغيان والبغي والعناد والضلالة . وذلك في قوله عز وجل :

{ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْر ِ الرَّحْمـَاـن ِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَـاناً فَهُوَ لَهُ قَرينٌ . سورة الزخرف الآية 36 } .

         وفيما يخيِّله الشيطان للإنسان أو يوسوس به ، أشياء وصور  ومرهقات ، يستحيل تفسيرها أو تأويلها إلا في ضوء هذه الآية الكريمة ، التي فيها يجعل سبحانه الشيطان قريناً  للإنسان عندما يعشو عن ذكر ربه تبارك وتعالى عما يشركون .

          وحتى  في هذا لا يكون الشيطان  صاداً للإنسان عن الهداية والسداد والرشاد والرجوع أو اللجوء إلى ربه الكريم .

يقول سبحانه :

        { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَروُا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفوُا أنَحْنُ صَدَدْنَـاـكُمْ عَنِ الهُدَى بَعْدَ إذْ جَاءَكُمْ  بَلْ كُنْتُم مُجْرمِيَن . سورة سبأ  الآية 32 } .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ومن الذين استكبروا إبليس وقبيله ، يعرفون  ويعترفون أن الإنسان الذي يصطادونه  أو يجعلهم الله سبحانه له قرناء  إنما  كان  مجرماً مستأهلاً لتسلط الشيطان عليه . على أن الحقيقة  هي أن الله عز وجل يَرْكُمُ الخبيث على بعضه ، وهو كذلك يأمر الشيطان  أن يشارك الإنسان في نفسه ومتعلقاته ، ما دام هذا الإنسان  كالشيطان في سفالته  وظلمه ، أو كبريائه  وكفره ، أو  حسده  ولؤمه ، إلى آخر ما هنالك  من صفات شيطانية يبغضها الله تبارك وتعالى . فيقيِّض هؤلاء لهؤلاء طرداً وعكساً  ، حيث أن لفظة ، الشيطان ، تشمل كذلك أنواعاً من الناس هم في كتاب الله وفي حكم الله شياطين ، قوله تعالى :

        { وكَذلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِ نَبي ٍ عَدُواً  شَيَـاطِينَ الجِنِّ  والإنْسِ يُوحي بَعْضُهُم لِبَعْض ٍ زُخْرُفَ القَوْل ِ غُروراً  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوه فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرون َ.سورة الأنعام الآية 112}.

          وذلك في قوله تبارك وتعالى وجل وعز شأنه ،  مخاطباً إبليس لعنه الله :

        { واسْتَفْزِزْ مَنْ استَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ وَشَاركْهُمْ في الأمْوالِ والأولَـاـدِ وعِدْهُمْ ومَا يَعِدْهُمْ الشَّيْطَـاـنُ إلا غُرُوراً } . سورة الإسراء الآية 64 } .

موقف علم النفس من الرؤى في النوم :

          الحقيقة أن علم النفس ، حتى السبعينات من هذا القرن كانت معظم مدارسه متفقة على أن الغرائز والإنفعالات هي التي تقود الإنسان . وقد قرر ذلك وبحماس شديد ، أكثر منظـري علـم النفـس مـن هـوبـز ( HOBBES)  ( في الثلث الأول من القرن السابع عشر ) الذي كان يزعم أن الخوف من الموت هو سيد الغرائز التي تقود الإنسان إلى مالتوس (MALTHUS ) الذي زعم أنها  غريزة الجوع .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

          وبعد هوبز بثلاثمائة عام ، يبدأ  فرويد  (FREUD )  دراساته للإنسان مفترضاً أن لا وجود إلا للمادة وفي رأسها الدوافع الجنسية .  ومهما يكن الأمر ، فإن النظرة السابقة لسبعينات هذا القرن ، والتي امتدت أكثرمن أربعمائة سنة ، كانت متشابهة في إنكارها للقيم الروحية والغيبية ، والتي نستطيع أن نقول وبدون أية مبالغة أنها طبعت  حضارة أهل الأرض بشكل عميق ، ولا سيما الغرب ( أوروبا وأمريكا ) . وحتى  الكثيرين من أهل الشرق  الذين أخذتهم  صرعات الثورة  المادية  بجميع أشكالها ، ما كان منها حقاً ، وهو قليل ، وما كان باطلاً وهو الطاغي على القيم الأصيلة  والتعاليم الأخلاقية لجميع الأديان المنزلة .

          ومع نهاية فرويد مصاباً بالسرطان في حلقه ، لم تنته الموجة التي شوهت الفكر الحضاري ، أفقياً وعمودياً . فقد ظهر في العشرينات من القرن العشرين ، تطور بلغ الدرجة القصوى من النظر السلبي لإنسانية الإنسان ، عنيت به المذهب السلوكي ، الذي كان مؤسسه وأبرز دعاته جون  ب. واتسون JOHN B. WATSON) الذي حاز على درجة الدكتوراه من جامعة شيكاغو عام 1903. والذي كان يضع  نظرياته في علم النفس المتعلق بالإنسان ، من خلال تجارب واسعة النطاق يجريها مع الجرذان والعصافير  والقرود .  ( أنظر عالم المعرفة رقم 134 ـ كتاب العلم في منظوره الجديد ) .

          وما دام الأمر كذلك  في مزاعم هذه المدارس ، وخلال أكثر من أربعمائة  عام ، فقد كانت الرؤيا في المنام  ، خاضعة في فهمها  إلى هذه المزاعم ، مما كان يخلخل  الفكر والأخلاق ، ويجعل الإنسان يشك في نفسه  وسلوكه وأخلاقه وجميع قيمه النبيلة .

          ولكي نفهم الغرض من هذا العرض لمزاعم علم النفس العالمي اليوم ، ونظرته ( للرؤى ) في جملة مواضيعه ، فيكفي  أن نشير ، إلى  أنهم   يفسرون  كل  رؤيا  وكل رمز ، تفسيراً جنسياً ، حتى ربطاً وتشبيهاً بأعضاء يستقبح التصريح بها  عند العقلاء   والأخلاقييــن (مدرسة فرويد ) أو  تفسيراً ذاتياً مرتبطاً بحدود الإنسان وإفرازات مـا أسموه بالعقل الباطن ، تحت تأثير غرائزه وسلوكه الغريزي بشكل عام .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وفي ذلك كما هو واضح ، إنكار للقيم الروحية ، وإلغاء  كلي لإنسانية الإنسان ، بدليل تركيزهم  على دراسته نفسياً وسلوكياً ، تماماً كما تدرس حيوانات  المختبرات من الجرذان والقرود . وينبغي هنا القول ، أنه ما زال يشاركهم في هذا الجانب من النظرة الحيوانية للإنسان  ، بعض المتمسكين ، لتاريخه ،  بمقولة أرسطو : الإنسان حيوان ناطق …

      وليس غريباً إذا أدت هذه الإنحرافات الفظيعة عن الحق والحقيقة ، إلى تمزيق  نفسي واجتماعي لمرضى العيادات النفسية ، حيث جعلوهم  يصنِّفون أنفسهم تصنيفاً بهيمياً ينتهي بهم إلى اليأس والقنوط من أن يحيوا حياة إنسانية ،  مميزة بالعقل  والقيم والمناقب ، والروحانيات  والدين والأخلاق ، والحب الواعي ، والسعادة الحقيقية ، مما  يستحيل على الحيوان أن يتوصل إلى أقل  القليل منه ، ما دامت تقوده غرائزه التي خلقت فيه منظمة لحياته  تنظيماً هو أقرب إلى نظام الآلة منه إلى إنسانية  الإنسان ، الذي أكرمه  الله سبحانه وسخر له ما في السماوات وما في الأرض  تفضلاً منه وتكرماً .

  الثالثة :     مع قصة موسى مع العالم (ع) : تشابه الباطنـي     وهو ( مَثْنَى ) مع الظاهري الأرضي كذلك  ، وهـو إرادة الله التي وقع عليها قضاؤه  سبحانه وتعالـى عما يشركون .

               وقوله تعالى ( من بعد ما بيَّناه ) ، لا يعني كُلِّيةَ البيان ، بل يعني بعضه ، كما يعني أنه سبحانه إنما يريد بيان هذا الأمر بالتدريج  وليس عند جهة واحدة (1)  .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     المقصود  ، تبيانه  سبحانه للأحرف النورانية ، أنه ليس كليا ولا دفعيا ، وإنما  هو كما نستكشف حسب الوقائع : معلومات أولية عن النبي (ص) والأئمة (ع) ، ثم إشارات  في بعض الكتب الموثوقة ، وهي إشارات رقمية ضمن مربعات ، وضعت لتكون تعاويذ وتمائم لأهل الإيمان . كل مجموعة أرقام  منها تبدأ بـ  18  وبعدها مباشرة  وعلى موازاتها  19 ، ومعروف عند قلة نادرة من العلماء  أن الرقم 18 يعني (أعوذ بالله من الشيطان ) ومعروف  عند أكثر العلماء  أن الرقم 19 يعني ( بسم الله الرحمـاـن الرحيم ) أما بقية الأرقام بعد الـ 18 و الـ 19 وعلى موازاتها  فلها علاقة بسور القرآن المجيد . وبعد هذه الإشارات تأتي  حكاية الدكتور رشاد خليفة  المبعوث لتمثيل مصر في الأمم المتحدة ، وما تعرض له  أثناء ترجمة القرآن الكريم ، عند توقفه لترجمة  أول سورة البقرة ( بسم الله الرحمـاـن الرحيم ا لـم ) وحيرته يومذاك  ثم عرضه على الكمبيوتر هذه الحروف وشبيهاتها والسور المتعلقة بها ، وكونه حصل على معلومات مدهشة ومذهلة عن البناء الرقمي للقرآن الكريم نشر يومذاك في أكثر من صحيفة ومجلة على مستوى العالم الإسلامي.

          وصحيح أن أكثر الأمور يبينها سبحانه للناس في الكتاب ، بشكل دفعي ، سواء في كتابه الذي هو القرآن المجيد  أو كتابه الذي هو الكون ، أو في الإثنين معاً وكلاهما كتاب الله .  إلا أن بعض الأمور الكبيرة ، بيَّنها  سبحانه  بشكل تدريجي . ومنها على سبيل المثال  إبراز حق آل بيت النبي  عليهم السلام ، ومقاماتهم  عند الله ،  وما يجب أن تكون عند

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الناس ، ثم أمره سبحانه بطاعتهم وتوليهم بعد الله  ورسوله (ص) . وسنرى ذلك إن شاء الله مفصلاً  في مكان لاحق من هذا البحث .

          وكذلك تبيانه سبحانه لأشراط الساعة ، وهو تبيان تدريجي يواكب تطور هذه الأشراط  وتناميها في الخارج ، أرضاً وسماءً وربطاً  بكتابه  المجيد .

        ولأنه سبحانه يلعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بيَّنه للناس ، ولأنه تبارك وتعالى تفضل علينا بعلم ما تعنيه ، أو بعض ما تعنيه هذه الأحرف ، فلذلك ومن باب أداء الأمانة من جهة ، والخوف من الوقوع في المعصية الكبيرة، التي هي كتمان ما علَّمنا الله بعدما بَيَّنَهُ للناس ، قررنا بإذنه تعالى ، الكتابة في هذا الموضوع ، وإبداء ما علمنا سبحانه من أسراره عن طريق العلم اللدني والإستنتاج والإستقراء في كتابه الكريم .

        أما لماذا لم يذع  رسول الله محمد (ص ) ، هذا السر ، ولا سيما أنه آتاه منها ، أي من الأحرف النورانية ( السبع المثاني) ، وكذلك لماذا لم يظهر ذلك الإمام علي كرم الله وجهه، بعدما جعله الله باب مدينة علم رسول الله (ص) وكذلك الأئمة من بعدهما ؟ فذلك لأن الله عـز وجـل ” قد جعل لكل شيء قدرا “(1) في الزمان والمكان والأشخاص ولأن تأويل ما بدا ويبدو مغلقاً  من القرآن ، ينبغي أن يؤول قبل قيام الساعة ـ إلاّ ما كان متعلقاً بيوم الحشر ثم بوعد الله ووعيده ـ  ولأن هذه الأحرف كغيرها من المغلقات والأسرار  القرآنية ، آن أوان تأويلها  مرتبطاً بالضرورة بالثورة العلمية  التي تكتسح الأعراف والبدع والتقاليد التي لا تثبت لمنطق العلم ولا لمنطق العقل ، ومرتبطاً  بالضرورة ، بإرهاصات يقظة هذه الأمة ، بعد أن عاقبها الله عز وجل ، فأسقطها من شاهق المجد والعلم ، والعزة والقوة ، إلى الدرك الأسفل من الجهل والحيرة والذلة والمسكنة ، والتبعية لمجرمي الأرض وطواغيتها . وأخيراً لأن الله سبحانه بّين للناس في الكتاب الذي هو الكون  من وجه والذي هو القرآن

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)       الآية 3 في سورة الطلاق  :  ” قد جعل الله لكل شيء قدرا ” .

من وجه آخر ، ما بيّنـه عن هذه الأحرف  وعن  بقية المغلقات

والأسرار القرآنية (1) ، لذلك كله ، لعله عز وجل ، لم يشأ إظهارها زمن محمد (ص) ومن أتى بعده من الأئمة والراسخين في العلم ،  وقد كان لكل منهم شأنه ومكانته عند الله والناس ، ودوره في مجالي التبليغ والتأويل ، بقدر ما قيض لهم الله وقدّر وقضى .

        وهكذا يتحقق وعده سبحانه شيئاً فشيئاً ، بما يلقي على الناس الحجج الدامغة والبراهين الساطعة ، قوله تعالى :

{ سَنُرِيهِمْ آيـا ـتنا في الآفَاقِ وفي أنْفُسِهمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أنَّهُ الحقُّ  …  سورة  فصلت الآية  53 } .

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)       أنظر أشراط الساعة في كتاب ( العقل الإسلامي ) .