إبراهيم وهاجر وإسماعيل على قمة من قمم التاريخ
ونكتفي هنا بذكر واقعة من الإبتلاءات التي جرت لإبراهيم ، أعني التي مهَّد الله بها سبحانه ، لنبوَّة محمد ( ص ) وإرساله رحمة للعالمين . والتي هي في قوله عزَّ وجل على لسان خليله إبراهيم : { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء . الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء } . [ 37 ـ 39 : إبراهيم ] .
وموجز الحكاية ، أن الله تبارك وتعالى ، أمر نبيَّه إبراهيم ، بعد أن رزقه الولد من زوجه الثانية هاجر ، أن ينتقل بهما ، هاجر وإسماعيل ، وكان ما زال طفلاً رضيعاً ، من الشام إلى الحجاز .
وبديهي هنا ، أن تقطع هذه الأسرة الصغيرة ، مسافات واسعة شاسعة ، وتجتاز الوديان والصحارى والقفار الموحشة ، ولا بدَّ أن لهما من ركوب جملين ، واحداً لإبراهيم ، والآخر يحمل هودجاً فيه هاجر ووليدها الحبيب على قلب أبويه، إسماعيل .
وتمضي الأيام والليالي ، على هذا الطريق الشاق الطويل ، الذي لا يخلو من خطر الوحوش المفترسة ، منها الضباع والذئاب الجائعة ، ومنها أسود الصحارى العربية الشهيرة . كما لا تخلو من قطـاع الطرق الذين كانوا في جاهلية تلك الأيام ، من الكثرة في أغلب الأمكنة على امتداد طريق القوافل .
وهنا أريد أن أتوقف قليلاً عند ظاهر الأمور ، لأعبر من هذا الظاهر إلى لب الحقيقة . أما الظاهر فهو صدق إبراهيم ، وعزمه الذي لا يلين ، وهمته التي لا تخبو ، ما دام الأمر في سفره هذا هو تلبية لأمر الله عزَّ وجل ، وما يقال عن إبراهيم في هذا المجال ، يقال كذلك عن هاجـر ، تلك الزوجة المثالية النادرة المثل في تاريخ الناس ، والتي لم يجعلها مثالية ورائعة وفريدة من نوعها في تاريخ البشرية ، إلاَّ أمـر واحد ، هو يقينها بالله جلَّت عظمته ، ومن تفريعات هذا اليقين ، ولاؤها وطاعتها له سبحانه ، عبر ولائها لزوجها إبراهيم وطاعتها له ، عليه وعليها سلام الله .
هذا هو ظاهر الأمر ، وسوف نرى في بقية الظواهر ، بعد بلوغ الهدف الذي هو مكة ، آيات باهرات من الصدق ، والصبـر بالله ، والثبات على طاعة الله ، والتفاني في سبيل الله ، من خليل الله إبراهيم ، وزوجته ، التي ظل يصفو جوهرها الإنساني ويصفو ، حتى صار جوهراً فذاً وعبقرياً . ومثلهما تماماً ، أصبح إسماعيل عليه السلام ، بعد أن نما وبلغ السعي ، وقدم نفسه طائعاً ، للذبح ، بيد أبيه الحبيب وسكينه المرهفة الشفرة . لولا أن تجلى أكثر فأكثر ، فضل الله ، ونعمة الله ، ورحمة الله ، وآلاء الله التي لا تحصى على عباده هؤلاء ، لأنهم من المطيعين ، كل الطاعة ، ولأنهم من الموقنين كل اليقين ، ولأنهم من أولياء الله الصالحين ، فرفع عنه وعن أمه وأبيه ، قدر الذبح هذا ، ووطأته فيما لو تم ، على الأبوين ، وفداه بكبشٍ عظيم . من هنا وهنالك ، ومن كل حدب وصوب ، بواطن الأمور وحقائقها الأصلية . وهي أن الله وحده هو المجير . هو الصاحب في السفر ، وهو الدافع لكل خطر ، ولأهوال الطريق ومشتقاتها . وهو سبحانه المعافي في الأنفس ، وهو عزَّت عظمته ، الباعث الهمة ، والمقوي العزيمة ، تحت عنوان الحديث القدسي : ” إذا تقرَّب عبدي مني شبراً تقربت منه باعاً ، وإذا أتاني مشياً أتيته هرولة ” ، وأنه قائم على كل نفسٍ ، وأنه على كل شيء وكيل .
فالفضل كله إذن هو فضل الله سبحانه وتعالى ، مرتباً الجـزاء على النيـة
والعمـل ، { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِـلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } . وسنرى إن شاء الله الكثير من مصاديق هذه الآية ، في هذه الأسرة الموالية لله وحده سبحانه ، ولاءً يصل إلى بذل المهج والأنفس والمتعلقات كلها ، طاعة لله عزَّ وعلا ، وجهاداً في سبيل مرضاته .
ويبدو أنه ، لا إبراهيم ولا هاجر كانا يعلمان شيئاً عن تفاصيل الخطة ، التي اختطها الله سبحانه ، لهما ولولدهما إسماعيل عليهم السلام ، هؤلاء الذين سيكون من نسلهم العرب عامة ، وخاصة خاتم النبيين وأعزَّ المرسلين محمّد (ص) ، الذي أرسله ، فيما بعد ، رحمة للعالمين . فهما لايعرفان المكان ولا طبيعة الأرض ولا المناخ ، ولا أي شيء آخر مما هو مطلوب منهما ، اللهم إلاَّ تنفيذ مضمون أمر الله سبحانه ، وهو الذهاب إلى الحجاز .
وآخر توجيه له عليه السلام ، من توجيهات الطريق ، هو أمره بالنزول في ذلك الوادي القريـب من مكان البيت العتيق ، الذي أصبح محجة للناس فيما بعد ، والذي هو بين جبال كالأغربة السود ، تحيط به من جانب .
وبعد النزول في هذا الوادي ، المجدب المقفر ، الذي لا حسيس فيه ولا أنيس ، جاء الأمر لإبراهيم ، أن ضع أسرتك في نفس هذا المكان وارجع أنت وحدك من حيث أتيت .
لا شك أنها مفاجأة لكليهما ، ورغم أنهما قد تمرسا بأنواع الرياضات النفسية والبدنية والإبتلاءات ، إلاَّ أن هذا الأمر ، وفي الظروف المحيطة ، شكَّل عليهما لأول وهلة ، نوعاً من الصدمة ، بدت آثارها بوجوم شملهما برهة من الزمن ، كان فيه إبراهيم يردد فيه طرفه بين طفله الوحيد وأمه من جهة وبين المكان المقفر الموحش من جهة ثانية وبين الزاد الذي كان استنفد كله في الطريق ، إلا ثميرات بقيت في قاع جراب ، من جهة ثالثة ، ثم انتبه إلى الأهم من ذلك كله : الماء … فإذا السقاء الذي معهم لم يعد فيه قطرة . وكتم الأمر عن هاجر ، متوكلاً على الله .
أهكذا ، والآن ، ومع هذه المعطيات ، أتى أمر الله سبحانه بالرجوع وترك هذه المرأة الضعيفة وإبنها الرضيع وحدهما ، وبلا معين ؟
بلا معين ؟ ، لا ! ما هكذا يفكر إبراهيم .
إبراهيم يعلم تماماً أن المعين ، حاضر ناظر ، سميع بصير ، نعم المعين هو ، ونعم الكفيل ونعم الضامن والوكيل .
ـ اللهم لبيك ـ وخشية من أن يسجل عليه شيء من التردد ، في تلبية أمر الله سبحانه ، أو حتى من العاطفة الكبيرة على الزوج الحبيبة والطفل الجميل إسماعيل ، الذي التمعت عيناه البريئتان الصافيتان ، كأنما تقولان : في أمان الله يا أبتاه ، فحسبنا الله ونعم الوكيل ، هو ربنا وهو يرعانا . إنفتل إبراهيم إلى جمله ، بعد أن كانت له فقط فرصة أن يتناول علفه . فركبه وولى وجهه إلى بلاد الشام وقفل راجعاً ، بعد أن أبلغها وبكلمات قليلة ، قراره القاضي ببقائها ووليدهما ، ورجوعه هو إلى بلاد الشام .
وهنا ، وقد كانت هاجر عليها السلام ، قد استجمعت قواها وأفكارها بعد الصدمة ، ورأت الحقيقة ماثلة أمامها ، فلا هي في نوم ولا في حلم . وانتبهت إلى أهم شيء في عمرها ووجودها ، ولا سيما في هذه الظروف غير العادية هـذا الشيء ، هي أن تعلم ، إذا كان هذا الأمر هو من الزوج إبراهيم ، فيكون ذلك عجباً ، ويكون موجعاً محزناً ، ويدور حوله ألف علامة استفهام ، أم أن هذا الأمر من الله عزَّ وجل .
في هذه اللحظات من التساؤل ،كان إبراهيم قد ابتعد ، مدى وصول الصوت تقريباًُ.وحزمت أمرها ، ولماذا لا تسأله : ثم أخذت تعدو خلفه،حتى اطمأنت إلى أنه يسمع صوتها ،ونادته : يا إبراهيم … وإذ سمع توقف، وأدار وجهه نحوها . فسألته : هل هذا الأمر ببقائنا هنا وحدنا منك أم من الله ؟ فلم يجب إبراهيم بصوته ، فلعلَّ دمعة كبيرة خشي أن يظهرها تجلداً ، وحياءً من ربه سبحانه وورعاً ، فبدلاً من ذرفها من عينيه ، لجلجها في حلقومه حيث احتبس صوته.فأشار بيده رافعاً إياها وسبابته نحو السماء.ففهمت هاجر، أن الأمر من الله . وكمثل البرق الخاطف تبدل موقفها وجميع مشاعرها ، من حال التشتت والخوف والتساؤل إلى التركيز ، وقالت بطمأنينة كبيرة : ـ لا عليك … إذن لا يضيِّعنا .
قالت ذلك تطمئن نفسها وتطمئنه ، ما أعظم هذا اليقين ، وما أجمل هذا البر ، يقينها بربها رب العالمين ، وبرها بزوجها الحبيب ، الذي ليس له من الأمر شيء ، إلاَّ أنه يؤمر فيطيع ، وله الشرف العظيم في أن يؤمر ويطيع إذا كان الآمر هو الله سبحانه ، رب السماوات والأرض وما بينهما رب العالمين .
لا عليك … إذن لا يضيِّعنا …
صحيح ، هكذا المرأة العميقة الإيمان ، العظيمة الخلق : أدب ومحبة مع الزوج ، وثقة به عالية ، فقط ، لأن ولاءَه لله ، بلغ حداً ، أن يستجيـب له سبحانه ، ويضحي بالأهل وبالولد وحتى بكل عاطفة تحجبه عن طاعة ربه وعن توليه والتفاني مجاهداً في سبيله . و ” إذن لا يضيِّعنـا ” ربنـا العظيم ، ربنا الحبيب .
ومن أين لها هذا ؟ قال تعالى : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ..} . [76 : مريم ] . وهكذا إذا وطَّن الإنسان النفس على التصديق بالله وآيات الله ، رفعه سبحانه وهداه زيادة عما كان . فيوطن نفسه على اليقين ، فيزيده الله كذلك يقيناً . وما كان من عند الله ، يبقى ، يكتب في القلب ، ويزيد لألاءً وصفاءً ، ويزيد الله على ذلك ، وهكذا ، حتى يبلغ الإنسان برعاية الله ورضاه وتوفيقه وحبه ، درجة الكمال الإنساني ، وهي ليست أبداً مستحيلة . وها نحن بصدد اثنين بلغاها ، رجل وامرأة . فقط لأنهما أقبلا على الله إقبالاً تركا معه الدنيا وما فيها من مغريات المال والزينة والجاه والشهوات ، وجعلا أمامهما الله وحده ، موحدين غير مشركين . ذاكرين الله آناء الليل وآناء النهار ، يملأهما الرضا بما قسم سبحانه ويقسم ، ويملأ قلبيهما الحب له وحده . الحب الأعظم الذي لا يجوز ولا يليق أن يشاركه فيه أحد .
ونبقى مع هاجر وطفلها الرضيع عليهما السلام ، بعد أن أفردها إبراهيم في ذلك الوادي الأغبر المتجهم ، تنقل طرفها بين الممسك بشغاف قلبها ، الطفل إسماعيل ، الواجم الهادىء على باب تلك الخيمة الصغيرة ، التي أقامها أبوه قبل سفره ، وبين رمال جافة ، بعد عهدها بالخضرة والنضرة والظل الظليل ، حتى ولا طير يمر ولو من بعيد ، ولو مرَّ الكرام . ثم تنظر إلى السماء ، متنهدة . ثم تتعجب من نفسها … من تلك الطمأنينة العجيبـة ، والسكينـة التي تمتلكها ثم تتمتم : لا … لا عليك يا إبراهيم . الله الذي أمـر بتركنا هنا ، هو أعلم وهو السميع البصير ، يرانا ، ويحبنا ونحبه ، ولن يضيِّعنا … إذن لن يضيِّعنا .
كانت الشمس قد مالت عن خط الظهيرة . وكان الجهد قد أخذ من أم إسماعيل مأخذاً ، جهد السفر وجهد الصدمة بسبب إفرادها وطفلها في ذاك المكان الموحش البعيد . فتلفَّعت بخمارها واحتضنت رضيعها إسماعيل ، واستغرقت في نوم عميق ، ما درت مداه ، هل نامت بضع دقائق ، أم هي استيقظت بعد نوم ليلة وضحاها ، وكذلك شيئاً من ميلان الشمس . إذ أنها وجدت الشمس ما زالت مكانها ، وشغلها عن التفكير بذلك ، الذي أيقظها ، إسماعيل ، وهو يبكي . لقد جاع وهذا وقت رضاعه … يا ربَّاه ! ليس في صدري لبن ، لعلَّ ذلك بسبب جوعي وعطشي وتعبي ! … إذن أسقيه ماءً ـ استغفر الله ، نسيت أننا كذلك بلا ماء . أين السقاء ؟ سبحانك اللهم ، ليس فيه ولا قطرة . يا رباه إذن مـا العمل ؟
ويشتد بكاء الطفل : ـ يا إلـهي … أنا أتحمـل … أما الطفل فقد يموت عطشا . فلا لبن في صدري … ولا ماء في السقاء … يا إلـهي …
وتنظر إلى السماء نظرة ، ثم إلى الأفق ، فتعترض بصرها أكمة … فتعدو إليها ترتقيها ، ثم تشرف من هناك على الأرض ، لعلها تجد ماءً ، لعلها تجد بارقة تدل ولو على بعض الندى .
لا شيء … لا شيء البتة … أصبحت بعيدة عن طفلها … يخيَّل إليها أن وحشاً قد يسمع بكاءَه ، فيأتي ويفترسه … فتنحدر عن تلك الأكمة الصخرية الصوَّانية ، التي أصبحت منذ ذلك اليوم من شعائر الله عزَّ وجل ، وأصبحت من معالم الحج المشهورة ، وهي { الصفا } . تنحدر عنها السيدة هاجر ، ملهوفة مسرعة نحو وليدها ، لتجده بخير :
الحمد لله .
وإنما هو ما زال يبكي ، وقد جفَّت شفتاه القرمزيتان ، وأصبح فمه كبرعم ورد ذابـل . فاعتصرت شفقتها عليه قلبها . ثم نظـرت . فإذا أكمـة ثانية ، هي { المروة } ، التي أصبحت كذلك من شعائر الله المعظمة عند أتقياء القلوب . توقف بصرها عندها . فطارت إليها . ومن فوقها كذلك ، أشرفت على ما حولها من الأرض . فلم تجد شيئاً ولا بصيص أمل . ثم يخالجها خوف الأمومة على الطفل الرضيع . ولا سيما وهي تحسبه يحتضر :
لعله أصبح في الرمق الأخير .
ثم تنظر إلى جميع الجهات . فلا تجد غير هاتين الصخرتين العاليتين ، مكاناً تشرف منه على ما حولها من الأرض . فأخذت تسعى بينهما ، سعياً هادئاً حيناً ، تحدِّق من خلاله في الآفاق ، تريد المخرج . { …وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}وما أعظم تقواها ! وأي مخرج ؟! لا شيء البتة في الأفق . ثم تهرول أحياناً، من خشية على الرضيع ، وهكذا أشواطاً سبعة .كان آخرها رجوعاً إلى {الصفا} ، حيث أنها الأقرب إلى إسماعيل . ثم تهالكت نازلة من أعلى الأكمة ، وقد كاد يتملكها الخوف من أن يبتليها سبحانه بهلاك وحيدها إسماعيل . وتوجهت إليه لاهثة ، والغصة في حلقها ، والدموع في عينيها ، وقد تيبَّست شفتاها ظماً ونصبـاً :
أما من بشر في هذه النواحي يرشدني إلى ماء ؟! لو راعٍ في هذه الصحراء . لو قافلة تمر بنا فتسقينا . عفواً يا رباه . ذلك بيدك . لم أنسَ أنك أنت السميع البصير ، وأنك على كل شيء قدير . بلى ، هو بلاؤك ، فما هي النهاية ؟ فلتكن النهاية ما تكون . ولن تكون إلاَّ خيراً ، ما دمت بك صابرة ، وبحكمك راضية ، وفي سبيلك أبذل حياتي ، وعمري ، ونفسي وولدي . وأعلم علم اليقيـن ، أن
العاقبة للمتقين . وأنك أرحم الراحمين .
وإذْ اقتربت من الخيمة الصغيرة :
يا إلـهي ! لعل إسماعيل قد مات ! … أم أنه بُحَّ صوته ، فإني لا اسمع له بكاء ؟
وألقت بنفسها فوق إسماعيل ، أول ما تنظر إلى عينيه ، فإذا هما ولا أجمل . وفمه قد أشرق ببراءَة وردة بلَّلها الندى :
يا ألله يا حصننا . يا ألله يا حبَّنا . نجا من تمسَّك بحبلك . وأمِنَ مَن لجأ إليك. لا ملجأ سواك . ولا قادر غيرك . ولا رحمان إلاَّ أنت . من وحَّدك فاز . ومن أشرك بك هوى . يا ربنا ! هذا ماء يجري من تحت قدميه ، وهو يفحص بهما الأرض نشيطاً جذلان فرحا ! هل أنا في حلـم ؟ ! ـ تفرك عينيها بكلتا يديها ـ لا ، لست في حلم . هذا الماء ، وهذا إسماعيل ، وهذه أنا التي قلت لإبراهيم ، وأنا في أعمق الإيمان ، وأعلى درجات اليقين برحمة رب العالمين : لا عليك يا إبراهيم ، لا عليك ، ما دام الله اختار لنا ، إذن لا يضيِّعنا . ربُّنا لا يضيِّعنا . وها هو سبحانه لم يضيِّعنا .
بللت بمزيد من قطرات الماء ، فم إسماعيل ، وهو يغرِّد ويزقو ، بأحلى من صوت بلبـل ، وأهيب من فرخ عقاب . ثم تذكرت السيدة القديسة عطشها وجفاف فمها . فما عبَّت عبَّا . وإنما نهلت نهلاً ، دليل العفَّة والقناعة واليقين بالله وبنعمته الدائمة {.. لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ .. } وكانت تحمد الله وتشكره ، بين النهلة والنهلة . ودرَّ لبنها كأفضل ما كان يدرُّ في بلاد الشام ، على نهر من أنهارها، بين الدلب والصفصاف :
أيها الينبوع المبارك ، ذكَّرتني بعذوبة أنهار بلاد الشام ، وينابيعها ، لا ليست مياهها أكثر بركة من هذا الماء . بدلالة هذه البركة في لبن إسماعيل ، والشبع عندي . وما لي حاجة بعد بتلك التميرات التي تركها إبراهيم ، يسَّر الله أمره ، وسهَّل دربه ، وجزاه الله كذلك ، على طاعته وصبره وتصديقه خير الجزاء . آه … لو أنَّ إبراهيم يعلم الآن بما جرى لنا من نجاحنا كذلك في هذا الإمتحان المبارك، الإمتحان الجميـل . نعم ، جميل هذا الإمتحان الفرح بعد الشدَّة . جميل … وحقٌّ من الله سبحانه له الحمد . جميل ورائع . ماء فيه غذاء . إنما ما زال المكان موحشاً يا رباه .
والتفتت إلى السماء ، ففوجئت بأسراب من الطير ، تحلِّق فوقهما ، فوق المكان ، فوق الخيمة الصغيرة . إحتضنت إسماعيل ، تشمُّه وتعانقه :
أرأيت يا إسماعيل ؟ ! أرأيت صنيع الله الكريم بنا ؟ ! أرأيت ما أرحم ربنا وما أعظمه ؟ ! لو أنك تعلم . غداً إن شاء الله ، ستعلم وتتكلم . أنظر أي بنيّ ، ما أجمل تحويم الطيور فوق الماء . يقيناً إن الله سبحانه هدى أسرابها إلى هذا الينبوع. يا رباه ، الماء يفيض . يكثر ، يكاد المكان يغرق : زمِّي أيتها الأمواه . ربنا أقلل من إنبجاسها . الحمد لله . هكذا أحسن . ربَّنا لك الحمد . هذا ينبوعنا ، هذا لنا نحن ، إشربي أيتها الطيور ، إشربي هنيئاً . إنزلي بضيافتنا على فضل الله وكرم الله ورحمة الله . إنما … إنما … يا ربَّنا ، وبعد ، مع من نعيش ؟ فإنَّ لنا بعد حاجات . أنبقى هكذا ؟ … وتسمع جلبة : رغاء إبل ، وأصوات رجال :
الله أكبر ، أرسل الله الفرج ، قبل أن تميل الشمس إلى الغروب . اللهم لك الحمد …
وتحبس دموع الشكر ، وتشدُّ قامتها وعزيمتها ، فلقد رأت رائد القوم يقترب وفي صوته لهفة ، وفي عينيه عجب . ـ لمن هذا الماء يا إمرأة ؟ ـ هو لنا أيها البدويّ . ـ ومن أنتم ؟ ـ نحن آل بيت إبراهيم ، خليل الله . ـ ومن أي قبيل ؟ ـ نحن أنصار الله وأئمة الناس ، جعلنا للعالمين قادة ، وعن المؤمنين بالله ذادة . فأحنى هامته ، وردَّد كمن يسمع كلاماً عجباً : خليل الله ! خليل الله ! . ثم ثنى زمام فرسه ، وقفل راجعاً يخبر القوم في القافلة ، وقد بدت فيها الجمال المثقلة بأحمالها ، مع أنعام كثرت فيها الشياه وحملانها .
كانت قبيلة بقضها وقضيضها ، وجهها الله سبحانه إلى هذا المكان ، بعد أن
كان نضب في نواحيها الماء ، ويبس الزرع ، وجف الضرع . وقد شاهدت من بعيد ، وبعيد جداً عن مكة المكرمة ، أشباح الطير وأسرابه ، وهي تحلق عالياً في السماء . وحيث يحلق الطير ، يوجـد الماء ، ذلك من علـم الأثر عند البدو الرحَّل .
وفوق ناقة شهباء ، كان شيخ القبيلة وزعيمها ـ وقد قلَّب الله قلبه بين العدل والرحمة والطمع في السكنى في هذا المكان . وهو أغلى ما تطمـح إليه القبائل : الماء الكثير الدائم ، وحيث يكون هذا يكون الكلأ والخصب وخفض العيش . وهم لا يرجون أحمد من ذلك ولا أرغد .
قال شيخ القبيلة بعد أن أتاه الرائد بتمـام الخبر : سلـهم إن كانوا يرضون بجورانا ، على أن نكـون لهم نعم الجـار ، نقوم بخدمتهم في جميع شؤونهم ، ولهم منا جمال وخيام ، وقطعان غنم مع رعيانها . ونساء يقمن على خدمة السيدة الشريفة هذه ، والستر والصون والعافية . وعد إليَّ بالخبر . فإن رضيت آتيها بنفسي شاكراً . وإلاَّ فانقدوها ثمن ما نحتاج إليه من الماء ، ثم نتابع سيرنا بحثاً عن ماءٍ مشاع . كذلك هي شريعة البدو وشريعة البادية .
وطبعاً ، رضيت السيدة التقية النقية ، التي كانت تجيب القوم إلى عروضهم بلسانها ، بينما قلبها ينبض بحمد الله ، بحمده وبشكر آلائه ومفاجآته وروعة عطاءاته وكرمه وإكرامه . ولا بدع فهو سبحانه ذو الجلال والإكرام . قالت وهي تغطي بوشـاح فمها وأنفها وتحتجب ببعض ركن الخيمة وهي تحتضن إسماعيل :
أهلاً بكم يا قوم . أنتم ضيوفنا ، فانزلوا على مائنا على الرحب والسعة ، وهـذا من أفضال الله ونعمه ، علينا وعليكم . فاشكروا الله وحده واحمدوه .
وتقدم شيخ القبيلة ، وقد سمع مقالتها ، فحياها مطـرق الطرف ، بإجلال واحتـرام . ثم أخرج خنجراً من غمده رهيف الشفرة ، وجرح به يـده
كعادتهم في هكذا مواقف . ثم أعطى العهود والمواثيق لآل بيت إبراهيم هؤلاء مقسماً بدمه الذي نزفت منه قطرات من جرحه ، ليكونن لهم هو وشعبه نعم الصديق ، ونعم الأخ ونعم الجار .
وقد وفى الرجل فيما بعد ، ووفى القوم . وتلك مشيئة الله سبحانه ، فهو إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون .
وانصرف الرجل . وقامت أم إسماعيل مصلية بين يدي الله ربها الرحيم ، ثم غابت في سجدة شكر طويلة على آلاء الله ونعمه . وقد كان الليل توشح منذ غروب الشمس بنعمة غير عادية ، سمع فيها ، كمثل مرور النسائم ، خفض أجنحة الملائكة ، يسبحون بحمد ربهم ، وينشرون في تلك البقاع ، ما حمَّلهم الله سبحانه وتعالى ، من المحبة والخيرات والبركات . وتحت هذه الأجنحة الناعمة ، احتضنت أم إسماعيل طفلها المبارك . وإذ سقطت دمعة حب لله ، على خده الصغير النبيل ، مسحتها بخدها الشريف ، بانتظار فجر يوم جديد ، ويوم سعيد ، بل أيام كثيرة جديدة وسعيدة ، وكذلك بانتظار عودة خليل الله إبراهيم ، ناما في رعاية الله وحفظه وعينه التي لا تنام ، هانئين ، وكذلك نام القوم ، بعد أن تحدثوا طويلاً ، حول نيرانهم التي نوَّرت المكان وأدفأته أكثر ساعات الليل . متعجبين من كبر حظهم ، إذ هداهم الله إلى هذا الماء ، وهؤلاء الأخيار الأبرار ، وهذا المكان الطيب ، الذي كان قال فيه إبراهيم خليل الله ، قبل أن يغادره ، ليعود إليه من بعد مرارا ، وهو ما حكاه عنه الله تبارك وتعالى :{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } . [ 37 : إبراهيم ] .
* * *
أما الخلاصة التي هـدفت إليها من خلال ذلك كله ، فهي في هذا السؤال : هو فضل من ؟ فضل إبراهيم ، وآل بيـت إبراهيـم على أنفسـهم وعلى الناس ؟ أم هو فضل الله ورحمته وكرمه عليهم وعلى الناس ؟ بل لإبراز فضلـه تبارك وتعالى قال الآية : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ … } كيف صنعناه هو وأهل بيته وكيف نبَّيْناهم . ليكون الذكر الحقيقي لله جملة وتفصيلاً ، وليكون ذكر أوليائه ممراً وسبباً لذكره ، من حيث إظهار إخلاصهم له وحده سبحانه ، وتفانيهم في سبيله ، ليكونوا قدوة للعالمين . وليترسم الناس آثارهم في جهادهم في سبيل الله ، وفي تعبدهم وطاعتهم وذكرهم له وحده عزَّ ذكره وتعالى عما يشرك المشركون . قال جلَّت عظمته :
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } . [ 4 : السجدة ] .
وقال عزَّ شأنه :
{ كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَن شَاء ذَكَرَهُ . فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ . مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ } . [ 11 ـ 16 : عبس ] .
وقال جلَّ جلاله :
{ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفرُونِ}.[152 : البقرة ].