وموسى رفعه الله من وادي النيل إلى قمة من قمم التاريخ

 

وموسى رفعه الله من وادي النيل إلى قمة من قمم التاريخ

قال الله تبارك وتعالى :

{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا } . [ 51 : مريم ] . واذكر يا محمّد  … وهَل هذا الذكر هو حكرٌ على محمّد (ص) ليستفيد منه هو وحده ؟ طبعـاً لا ،  فمحمّد (ص) مَأمور بتبليغ كل حرف من القرآن يُنـزَّل عليه .  فإذن أذكر يا محمّد ، واذكر يا قارىءَ  أو يا سامع  القرآن . والأمر بذكر من هذه المرة ؟ هو بذكرى نبي الله موسى عليه السـلام . ولماذا نذكر موسى ؟ تعالوا نذكره ليل نهار ونذكر أن أعماله ومواقفه ومعجزاته كانت خارقة ، ثم على أساسها  نبدي إعجابنا بموسى ، ونظهر إعظامنا لموسى ، ونتيمن بذكر موسى ، ونخشع ونخضع لذكر موسى ، ونجعله نجم مجالسنا ، وقمر أحاديثنا ، كما يفعل أناس مع أنبياء آخرين وأئمة وأولياء . لا ، أبداً ليس هذا هو المقصود من قول الله تبارك وتعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى …}  ، ولو كان القصد كذلك ، لجعل الناس موسى إلـهاً ، كما جعله قومه وأتباعه من اليهود . ولجعل أتباع كل نبي  وإمام وولي ، لجعلوهم آلـهة يعبدون كما يعبد الله ، ويذكرون أكثر مما يذكر الله ، سبحانه وتعالى عما يشركون . ليس المقصود أبداّ ذكر أي نبي أو ولي لذاته ، وإنما الواضح عقلاً وشرعاً ونصاً ، أن المقصود هو ذكر الله  عزَّ وجل ، وذكـر آثـار عظمته في أنبيائـه وفي جمـلة خلقـه .بدليـل أنه لولا اصطفاء الله لموسى ولغير موسى منذ الأزل،ولولا بعثـه وبعث بقية الأنبياء والرسل، ثم توليهم بالتربية والرعـاية ، والدفـع عنهم ، والنصـر لهم في المواقف  ، والمواجهات على جميع أصنافها ، لما كانوا شيئاً يذكر ، ولظلوا  ذلك الطين لو أبقاهم عند الجبلة الأولى ، أو ذلك التراب قبل تلك الجبلة . هكذا ، موسى وجميع من قبله ومن بعده من الأنبياء والرسل وأئمة الحق وأولياء الله الصالحين ، والناس أجمعين . أما ما تميز به موسى من الآيات المعجزات ـ وتميز به غيره ، فذلك شأن الله فيهم ، وعطاؤه وإذنه وقضاؤه ، فهو العليم  بأطوار البشرية ومستلزماتها ومستوياتها العقلية والحضارية . يرسل حسب الطاقات التي عند الناس في مراحـل تاريخهم ، ومع ذلك كله ، مع شمولية علم الله تعالى وهيمنته ، فإن المستجيبين قلة قليلة بالنسبة لأعداد البشر ،كنسبة النجوم لليل والأحجار الكريمة للحصى على شطآن البحار والأنهار ، ويربح أهلُ الحق أنصارُ الله ومطيعوه وأحباؤه ويخسرُ المبطلون . قال سبحانه مخاطباً رسوله محمّد (ص) :

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ } . [ 78 : غافر ] .

ومن هؤلاء الرسل ، موضوع الآية  ، موسى عليه السلام ، وما كان له أن يأتي بآية ، إلاَّ بعلم الله  وبقدرة الله وبإذن الله ، فالأمر أمره سبحانه { فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ـ الآية } وبخصوص أمر الله لموسى في آية من آياته سبحانه ، وإظهاراً لفضل الله وحده ولعظمة الله وحده ، ولآثار تربيته في أنبيائه ورسله ومطيعيه وأحبائه ، اخترنا الحديث عن موسى عليه السلام  كنموذج من الأنبياء ورد ذكره في القرآن الكريم أكثر من غيره ممن ذكرهم الله  سبحانه كأنبياء  ومرسلين (*) قبل بعثة محمد (ص) الخاتمة المباركة الميمونة .

     قال عزَّ وجل:

    { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } . [ 103 ، الأعراف ] .

ـــــــــــــــــــــــ

(*)      ورد ذكر موسى في القرآن  ( 136 )  مرَّة .

والمعروف ، أن المعجزات التي أظهرها الله سبحانـه ، على يد رسوله الكريم موسى ، كانت كثيرة ومدهشـة ، وكل واحـدة منها كانت تنطـق  بوحدانية الله ، وبخالقية الله ، وبقدرته وعزته ، وجبروته ومجده ، ومع ذلك أبى القوم الذين أُرسل إليهم موسى ، أكثرهم ، إلاَّ عقوقاً ، وعناداً وعمىً وصمماً وكفراناً . ولإعطاء المثل ، وصدقية النموذج وأبعاده ، عن آثار قدرة الله ، نكتفي بموقف واحد ، من المواقف ، التي نصر الله فيها رجلين يكادان يكونان فقيرين معدمين ، مالاً وعقاراً ، هما موسى وأخوه هارون عليهما السلام . نصرهما الله بلطفه وحبه ، وقدرته وعظمته ، على دولة لعلها كانت الأكبر والأضخم والأميز حضارةً على وجه الأرض في ذلك التاريخ ، نصرهما على الملك الذي عبَّد لنفسه الرعية ، وهو أحدهم ، يأكل مما يأكلون ، ولا يتميز عنهم حتى ولا بفكرٍ صافٍ  ولا عقلٍ مستنير . هكذا قمعاً وعُتُواً وظلماً ، وتبعه الخاسرون ، وما أكثرهم . ونصر الله مبعوثيه هذين على تلك المملكة بجيشها وبطشها ومخابراتها ، وأهل العلم والإختصاص فيها ولا سيما السَّحرة ، الذين اختارنا مواجهتهم لموسى ومواجهته لهم ، في مهرجان شهدته تلك الأمة الشقية ، التي أغرقها الله فيما بعد بسبب عنادها وكفرها ، واستخلف مكانها قوماً آخرين .

      ولكي نكوِّن فكرة متماسكة عن الموقف الذي اخترناه ، يلزمنا أن نتشرَّف أولاً ببضع عشرة آية كريمة من سورة طه ، نحاول ، بعد ، أن نعايشها ونتفاعل معها متوكلين على الله سبحانه ، معتزين بعبوديتنا له ، وطاعتنا لأمره ، خاشعين لذكره ، نجد أنفسنا مع كل نفس ، مقصرين في عبادته وشكره وذكره ، ومن يستطيع من خلقه سبحانه أن يؤدي حق شكره ولو على نعمة الهداية فقط ، من نعمه التي لا تعد ولا تحصى .

قال تبارك وتعالى :

    {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى.فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى.قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى.قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى.فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجوَى.قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى.فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى.قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى.قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى.فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى.قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى.وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى.قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى.قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى.إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى.وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى.جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى} . [ 57 ـ 76 : طـه ] .

        أول سؤال يخطر بالبال ،هو لماذا فرعون لم يقتل موسى؟وإذا كانت الإجابة أنه ربما كانت ديمقراطية على الطريقة الفرعونية آنذاك،إذ قالوا { أَرْجِهْ وَأَخَاهُ }  بعدما قال { ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى }،فلماذا ؟ لم تكن ديموقراطية،عند إصداره الحكم  بالموت صلباً على السَّحرة ، وفي محكمة ميدانية قادها بنفسه ، وبدون مستشارين؟  وهذا السؤال الأول، يستدعي الجواب الأول ،عن آثار حكم الله ومحكمته هو سبحانه،عندما يريد تنفيذ الأحكام معجَّلة غير مؤجَّلة.أما عدم قتل فرعون لموسى، فلأن الله عزَّت عظمته حفظ موسى وقضى بالدفع عنه وعن أخيه ، بدفع الدولة بملكها وجيشها وزبانيتها في طول البلاد وعرضها، في تلك الفترة ، فترة المواجهة ،  بعد رجوع موسى من مدين ،من لدن أستاذه الذي قضاه الله له ، النبيَّ شعيب عليه السلام ، وبعد أن كانت ليلة الليالي ، ليلة تكليمه في طريق الرجوع : في المرحلة الأولى التي جعله الله يهرب فيها إلى مكان ألْيَق بالتعلم والتأمل.وهو كان سبحانه  قادراً على أن يحميه من القوم ، ويبقيه في مصر محفوظاًَ آمناً . ما أعظم ما يعلم وما يشاء سبحانه.وفي المرحلة الثانية :قضى لهما،لموسى ولهارون ،بعد أن أرسله ردْءاً لأخيه ،قضى لهما بالمواجهة والتحدي الأدبي الليِّن المَرِن،مع هول الآية الأولى : العصا ـ الثعبان، وغرابة الآية الثانية : اليد النورانية.أما السماح لفرعون  بإصدار حكمه الميداني ، على السحرة،الذين كانوا عمياناً،طيلة أعمارهم ،وفجأة أبصروا ، فأدركوا الصباح البهيج في معرفة الحق ، في لحظات ، بعد ليالي الجهل الأسود ، والأيام الضائعة  المضيِّعة :

        ما أجمل الخلاص من الماضي القاتم الأربد،وما أجمل الموت على الحق والهداية: نحن عرفنا ربَّنا،لا أعظم ولا أروع ولا أجمل.عرفنا ربَّنا الله،ربَّ الأوَّلين والآخرين،والذي صبر علينا،وسبحانه إذ ما زال صابراً على الطاغية فرعون، والقوم الضالين الظالمين.يهدِّدنا بالموت؟ومصلوبين على جذوع النخل ؟فليكن … ساعة عذاب؟لا عذاب… بل ساعة أذى…بعدها نلقى وجـه الله الحبيب،الحليم الكريم،والرحمان الرحيم،ونعيمه الباقي،بعد أن أيقنا ،واليقين درجة،فوق التصديق . نموت شهداء.كنا نسمع هذا الرجل،موسى إذ كان كذلك يحـدث عن الشهادة وقيمتها عند الله،وما كنا نعي ولا نفهم.أما الآن فنحن من مصاديقها،إذا نفَّذ فرعون تهديده ووعيده.ما أكرم ربَّنا…لأجل ساعة صدق صدقنا فيها أمره وآياته، ورسولَيْه موسى وهارون.أيصفح عنا ؟! أيعفوا عن ماضينا ؟! بلى يصفح ويعفو ، ويبدِّل السيئات بحسنات ، ولو في ساعة يقين وهداية ورجوع إلى  رب العالمين .

        إيْ فرعون :{..فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَـاةَ الدُّنْيَا}.[ 72:طه ] التي سرعان ما تزول ،كأنها لم تكن { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ …} .[73 : طه ] ،لتبق لك مصر،وهؤلاء الرعاع حولك،وكم ستبقى لك ، بعض السنوات ؟ هذا إذا لم يقصم الله ظهرك بعد قتلنا ، وربما قبل ذلك فننجو من بطشك .ويا ويلك من بطش الله وتخليده لك ولتابعيك  في نار حامية … ما أسعدنا بربنا الله العظيم ،الله الكريم ،ولا فرق في أن نموت بإحدى الحسنيين: بالنصر على هؤلاء  الصنميين الوثنيين أم بالشهادة في سبيل رب العالمين .

        من الطبيعي جداً ، أن تكون هذه المعاني ، هي التي كانت تدور في رؤوس الذين كانوا بالأمس سحرة كفرة ، فأصبحوا في مواجهة آية الله في العصا ، وفي لحظات : مؤمنين بررة .

        أما فرعون وقد شاهد ما شاهد،فصحيح أنه زلزل زلزالاً شديداً في ذلك اليوم،وتمنى لو أنه يستطيع سحق موسى وأخيه،ولكن ! …ولكن ماذا؟الحقيقة إن هذا الأمر لا يفهمه إلاَّ أهل اليقين.فإن الله سبحانه جعل لرسله سلطاناً وهيبة  وحصانة من لدنه يستحيل أن يخترقها أحد من العالمين.قال تبارك وتعالى:{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار}.[ 51ـ 52 :غافر].وقال عزَّ وجل:{ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ }.[103:يونس].وقال جلَّت عظمته:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ.إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ}.[ 171ـ 172:الصافات].وقال عزَّ شأنه:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}.[21:المجادلة].فلذلك عجز فرعون عن أن يمسَّ موسى في ذلك بأذىً، فقد حال الله بينه وبين مجرد التفكير بالمساس به.حتى يجمع فيما بعد موسى أمره ، ويجمع فرعون كيده ، فيقضي الله أمراً كان مفعولاً.وكذلك عجز جميع الباقين في ذلك اليوم المشهود،من حاشية فرعون الخاصة،إلى الكبراء والأعيان وقادة العساكر، وبقية الجيش والشعب ،على اتساع السَّاح ،وكثرة جماهيرالمتفرجين. فالأمر فيه مناسبتان كبيرتان:يوم الزينة،وهو العيد الكبيرعندهم.ثم التحدي التاريخي الكبير بين أهل الإيمان بالله المستبصرين ،وبين مدَّعي الربوبية فرعون وأتباعه  العميان الكافرين .

        والسؤال الثاني: لماذا تردَّد ذكر الأرض على لسان فرعون وألسن السحرة، قبل المباراة التاريخية ؟ فهو قال:{ قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}.[57 : طه ] والسحرة { قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى }.[63 : طه].والجواب عليه ،هو أن أهل الإيمان الحقيقي،لا يفكرون بتفاصيل الحياة على الأرض ،وكذلك بالأرض نفسها ،من حيث أن تكون هذه الأرض لهم دون تلك ،فالأرض عندهم كلها لله عزَّ وجل ،وحيث ينـزلهم فيها تكون له الخيرة في ذلك وليست لهم ،فالله يريد خيراً بالمؤمنين،ويعرِّفهم مصالحهم ،فهو الذي يعلم وهم لا يعلمون.كل همِّ المؤمنين  أن يتعبَّدوا لله عزَّ وجل مخلصين له الدين،نافين عنه الشركاء .أما الرزق والإقتصاد، والمطر والخصب ،والأرض الصالحة ،فهو سبحانه يكفيهم كل ذلك.وفي الحقائق القرآنية،أن جميع الأرض مباركة من حين خلقها:{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا … الآية }.[10:فصلت] وحيث يكون الإيمان والتوحيد والأخلاق ، صدقاً واستقامةً ،يوطِّن الله المؤمنين في أرض طيبة ،أو يطيِّب الأرض التي هم فيها ويحفظهم في أوطانهم في أمنٍ وعافية وبركات منه سبحانه :{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ}.[96:الأعراف].وهكذا فإنَّ موسى عليه السلام،لم يكن يفكر ولا يسمح لأحد من أتباعه من قومه أن يفكر بأرض مصر،أو يطمع بأن يخرج منها أهلها ليستأثر بها هو وقومه.كان كل كيان موسى  منصباً على همَّين لا غير : الأول الأساس،هو دعوة الناس في مصر جميعاً إلى الله،فرعون في الدرجة الأولى وقومه، وكذلك قوم موسى،الذين كانوا في حالة فقرٍ شديدٍ إلى تركيز دينهم ، فضلاً عن تركيز مفهوم التوحيد والتجريد ، بدلالة عبادتهم العجل ، فَوْر خروجهم من مصر، وبعد أن رأوا من الآيات نفس ما رآه المصريون ، وأكثر مما رآه فرعون وجنوده . إذ أنهم رأوا بأم أعينهم كيف أن الله سبحانه أغرق هذا الطاغوت وجيشه أمام أعينهم ، بين ماءٍ انعقد جبلين ، مرُّوا هم ، أي قوم موسى ، بينهما ناجين ، ثم انطبقا على فرعون وعسكره الذين كانوا بأثرهم .

        فإذا كان هذا ما كان يجاهد من أجله موسى وهارون ، أي هداية القوم إلى الله الواحد الأحد ، ولم يلحظ في تصرُّفهما وتصرُّف قومهما ما يدل أو يوحي بطمع في الأرض أو إخراج أهلها منها ، فلماذا إذن تصريح مَليكِها بما صرَّح به وتناقله السحرة ،وتناقله القوم ،من أن موسى وأخاه إنما يريدان إخراج أهل البلاد من بلادهم ؟في الحقيقة إن ذلك كان من كيد فرعون، وفي نفس الوقت من وساوسه ، وكذلك اشتباه أعوانه المستفيدين عامة من وضع المملكة ونظام حكمها وتعبُّدها لهذا  الطاغوت فرعون . أما كيد فرعون ، فهو إنما أراد به أن يؤلِّب الناس على موسى وأخيه ، وأن يُبْهِمَ عليهم دعوتهما إلى الله الواحد الأحد ، لأن ذلك  يسقطه من دعوى الربوبية ، إلى حيث ينظر إليه كإنسان عادي ، وهذا ما لم يكن مستعداً لتحمُّله ، لخسته ولؤمه . فكان  يَلْمِزُ بذلك إلى أعوانه ، ولا سيما الجهاز الإعلامي في الدولة ، فيشيعون  في الناس هذه التهمة الكاذبة . رغم أن موسى عليه السلام  كان يطالب فرعون بالمطلب الثاني ، الذي يشكـل عنده همَّه الآخر ، وطبعاً بأمـرٍ من الله سبحانه  ، ذلك هو السماح له بإخراج قومه من مصر . وقد شاع كذلك هذا المطلب بين الناس ، مما جعلهم قليلي التصديق والتأثر، بالطريقة الكاذبة . أما الوساوس التي كانت تُراود فرعون والأعيان والأعوان ، فهي نتيجة  لعدم إيمانهم . والكافر تنحصر مساحة تفكيره تحت هذه السماء الدنيا ، ويرهن مصيره  بالأرض هذه الدنيا ، ولا سيما  الأرض  التي تكون تحت يده . فالأرض هي حياته وعمره وسعادته ، إذ ليس بعدها في نظره ما يتحول إليه بعد الموت .

        وواضح أن الله سبحانه ، لم يكن كذلك ، يريد مصر لبني إسرائيل قوم موسى ، إنما كان يريد لهم ذلك المكان الذي انتقلوا إليه من مصر ، بعد انشقاق البحر، وبعد أن عاقبهم  الله سبحانه بقتل أنفسهم على عبادة العجل . ثم تاب عليهم ، وأنزل إليهم الطعامين الكافيين الوافيين المباركين : المنَّ والسلوى  . وبعد فترة من الزمن ، ملُّو وشكوا ، واشتهوا من الطعام ما هو أدنى ، طعماً وطيبة وقيمة غذائية . فغضب الله عليهم  و {… قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } . [ 61 : البقرة ] . وهكذا أهبطهم الله مصراً ، بعد أن كان قد دمَّر على من تبقَّى من أهلها الذين رفضوا الإنصياع إلى أمر الله والإيمان بوحدانيته جلَّت عظمته ، وجعلها خراباً . وقد أقاموا فيها زمناً ، إلى أن ضربهم الله بالتيه في الصحراء مدة أربعين سنة ، بعد أن قالوا لموسى وقد ندبهم لقتال قوم جبارين :{… فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } . [ 24 : المائدة ] .

        يبقى سؤال ثالث من الأهمية بمكان ، في هذا الزلزال على مستوى تاريخ البشرية ، وهو لماذا أُلقي السحرة  ساجدين ؟ وهم علماء السحر ، وأسياد الطريقـة العالميـة فيه ، وهم جمهور لا يستهان بشأنه ، تمرُّساً وعُدةً وعدداً . هذا إضافة إلى أنهم لو انتصروا على موسى الداعي إلى الله ، كانوا سيصبحون أسياد البلاط بعد فرعون ، وأسياد البلاد . إذ أنهم كانوا في المقابل هم الدعاة إلى فرعون، وهو حاضر ، جاهز بجيشه وأُبَّهته وذهبه وجواهره وسلطانه ومملكته القوية الغنية الشاسعة الأطراف . فما الذي ألقاهم سجَّداً لرب العالمين ؟ وكما يستفاد من صريح الآيات الكريمة أنهم ، أي السحرة ، بخلاف العادة من حيث تزاحم وتحاسد الجاهليـن  من أهل المهنة الواحدة ، فهم قد أجمعوا أمرهم ، ونسَّقوا أسرارهم ، وهم على قناعة لا يخالجها شك أن موسى  وأخاه إنما هما ساحران عاديان وأنهما يطمعان بهذه البلاد وإخراج أهلها منها بسحرهما . ثم إنهم كأصحاب مهنة واختصاص فريد من نوعـه ، لهم طريقة يعتبرونـها ، عالمـياً ،

 

 

هي الأشهر والأمثل ، قولهم :{… يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى . فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } .[ 63 ـ 64 : طه ] .

        وهم يعترفون بأنهم جماعة كيد ، [ والكيد مصدر كاد : إرادة تضرُّ الآخرين خفية ، وهي من الخلق الحيلة السيئة ، ومن الله التدبير بالحق لمجازاة أعمال الخلق ـ القاموس ] . وهم أتوا إلى هذا التحدي بعد تحضير  واستعدادات وتعاون وثيق مع أجهزة الدولة على جميع المستويات التي يريدونها ، إضافة إلى أنهم مع هذه المشاعر  ، من الطبيعي أن يضمروا العداء لموسى ولأخيه . والمشهد العام مُغْرٍ بأن يكونوا هم المنتصرين ، ليس طمعاً فقط بالجوائز والهبات والمراكز ، وإنما هذا الجمهور الهائل من الألوف المؤلفة من الناس المحيطين بهذا الميدان الوسيع ، الذي يتصدره مدرج كبير ، في عليائه فرعون تحت قبته الملكية . ثم أعيان المملكة حسب مراتبهم ، ثم قادة الجيوش والشُّرط والمباحث . وجميع هذه الخلائق أبصارها مشدودة إلى وسط الدائرة الفارغة  أمام الجماهير  والتي يقف  على أحد طرفيها فريق كبير من الرجال ، قد أعلن المشرفون الرسميون على المهرجان ، أن هؤلاء هم السحرة ، الذين أتوا يتحدون موسى وأخاه هارون ، هذان المدَّعيان النبوَّة ، والداعيان إلى رب العالمين واحداً أحداً لا إلـه إلاَّ هو . ومقابل السحرة في الجانب المقابل من الدائرة يقف رجلان . عرَّف عنهما المعرِّف أنهما الدَّعِيَّان الكاذبان ـ حسب اعتقاد القوم ـ : موسى وهارون . والناس ، كما سنرى في آيات أُخر من سورة الشعراء ، كلهم يتمنون ـ على أساس الدعاية الكاذبة الموجهة من أرباب الدولة ـ أن ينتصر السحرة ، وأن ينهزم هذين الرجلين ، موسى وهارون ، شر هزيمة .

        وصاح كبير السحرة بصوت ثابت ومُتحد أن{… يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى.قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى }.[65 _67:طـه ] . وهنا السرُّ المذهل والمدهش عند موسى،وهو أنه حتى هذا النبيُّ الكبير الذي هو من أولي العـزم والعزيمة ، والذي هو من هو في تاريخ النبوّات والرسالات : أوجس في نفسه خيفة مما رأى : لا بدَّ أنهم تأتَّى لهم ، لا أن يدهشوا الناس فقط ،  بل أن يرهبوهم ويخيفوهم خوفاً منكراً . إذ أنه حتى موسى ، الطرف الأساسي في مباراة التحدي التاريخية هذه ، قد أوجس في نفسه خيفة ، وكذلك الملك ، وبقية الأعيان والقادة والجماهير .

        هذا يوم السحر التاريخي .

        { أَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى } .

        يعني لشدة خوفه نسي ثقته بعصاه . تراه نسي ثقته بربه رب العالمين ، الذي سبحانه كان قال له ولأخيه مرة { … إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } فهل نسي هذا موسى حتى أوجس في نفسه خيفة ؟

        لعل الأمر أعظم مما نظن . المرأى غير السُّماع ، وغير الظن . المشهد مهول ومخيف : أفاعٍ بالعشرات ، ثم بالمئات تصول وتجول في طول الساح وعرضها . تلك هي العصيُّ والحبال بعد أن سحروا أعين الناس عنها ، وخدعوا أبصارهم  بغير حقيقتها . وأنزل الله سبحانه الأمنة والسكينة ، والتثبيت والثقة بعزة الله وبالنصر المبين على قلب عبده موسى : { قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى } . وألقى موسى عصاه إلى قلب المعمعة الرهيبة ، إلى وسط الساحة ، واشتد الهول على الناس ، فإذا هي ثعبان ، يجب أن يكون تجاوز عشرات الأمتار طولاً وضخامة قافلة من الجمال عرضاً : يلقف ويبتلع ما كان على الساح من مسببات الهول والفزع . وتخلو الساح  من كل شيء ، إلاَّ من هذا الثعبان الهائل . وتمتقع الوجوه. جميع الوجوه . وجه الملك خاصة ، ووجوه السحرة  وبقية الناس ، حتى وجه موسى  وهارون . ويسيطر الفزع لحظات مرت كأنها أعوام طويلة ، انْهَارَ معها ضعفاء القلـوب من رجال ونساء وأطفال . وأمر الله سبحانه رسوله بإمساكها ، فإذا هي تلك العصا العادية ، الشبيهة ببقية العصي التي يعرفها الناس .

               وبينما الناس يستردُّون أنفاسهم ، ويعود إليهم وعيهم تدريجياً ، ويتلفت بعضهم إلى بعض ، ويحاولون التطلع إلى مليكهم فرعون ، ليلحظوا ردَّ فعله ، وفجأة سمعوا صوتاً عالياً ينبعث من جهة السحرة ، شدَّ انتباه الجماهير كلها ، وإذا هو من كبير السحـرة يردد : لا إلـه إلاَّ الله ، لا إلـه إلاَّ الله ، آمنَّا برب العالمين ، رب هارون وموسى . ثم خرُّوا جميعاً ساجدين ، لِعِزَّةِ الله العليِّ العظيم .

        ماذا يا سحرة ؟ ماذا جرى ؟ وفيم هذا التحوُّل الخطير وهذا الإنقلاب ؟

هل علَّم الله موسى السحر ؟

        كلا ، لم يعلمه سحراً .

        وتلك هي الأسباب التي ألقت السحرة ساجدين لرب العالمين ، نختصرها بما بلي : أولاً ، إن أهل الاختصاص أدرى بسر مهنتهم . والساحر لا ينطلي عليه سحر الساحر . فلو كان الثعبان الذي رأوه سحر ساحر ، لأعلنوا ذلك للملأ ، ولكانوا هم المنتصرين .

        ثانياً ، لو كان عمل موسى سحراً علَّمه إياه الله سبحانه ، لما كان أفلح ، لأن الله تعالى أطلق في قوله : { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } : كلمة { كَيْدُ } وكلمة { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } . [ 69 : طه ] .

        ثالثاً : إن العصا والحبال والأدوات التي يستعملها السحرة ، تبقى بعد استعمالها لا تختفي ولا تتغير ولا تتبدل . ومن السحرة في التاريخ من كان يسحر نفسه فيلاً على ظهر حمار . اتجه مرةً داخلاً إلى مسجد قريب ، فغضب أحد المسلمين غضبة لله ، فبقر بطن الحمار بسيفه فقتله . فغاب شكل الحمار ، وإذا بالرجل الساحر قد بقرت بطنه ومات يتشحط بدمه . فما دامت الحقيقة هكذا ، فكان ينبغي أن تبقى عصي السحرة  وحبالهم في الساح بعد أن أمسك عصاه موسى ، إذا كان  عمله سحر ساحر  . إلاَّ أن الحبال والعصي لم يظهر لها أثر ، ولا يمكن أن يقال إنها في بطن العصا ، هذه التي توارثها أنبياء بني إسرائيل ، حتى كان آخر من استعملها واتكأ عليها وهو جالس على عرشه ، هو سليمان بن داود عليهما السلام ، وهي منسأته التي ، حين قضى الله عليه الموت ، أكلتها دابة الأرض  ، كما تأكل المنشار الخشب ، وذلك في قول الله تبارك وتعالى  في آية عن سليمان : { فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } .[ 14 : سبأ ] فهي إذن عصا عادية ، أبداً ليس مُهِماً جنسها ، أمن لوزٍ هي أم من زعرور أو سنديان أو غير ذلك ، هي عصا من العصي العادية ، وليس السرُّ أبداً في العصا إنما السر في أمر رب العالمين ، الذي أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون  ، ولو كان غصن ورد أو عود ثقاب . فالكلام إذن في عصا جعلها ثعباناً ، بعد أن كان يجعلها في مواقف سابقة { حَيَّةٌ تَسْعَى } . والثعبان أضخم بكثير من الحية . { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . [ 24 : الحشر ] .

وهنا زبدة الكلام : الله أم سحر ساحر ؟ :

        إن السرَّ ، ليس هو في موسى ولا في سحرٍ ، معاذ الله . وهو سبحانه نصَّ على أن السحر كفر كما نص على أن الساحر لا يفلح حيث أتى ، وكلاهما ، الكفر والسحر ، لا يجوزان على موسى عليه السلام ، ولا يجيزهما الله سبحـانه عليه ، بعد إذ كان هو أمره بإلقاء العصا ، والله جعلها آيةً من آياته الكبرى . قال تبارك وتعالى : { وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ . وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } . [  102 ـ 103  : البقرة ] .

ولكي نرجع الأمور إلى مصدرها الحقيقي ، نذكِّر القارىء بأن كل همنا وهدفنا هو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى عما يشركون . فنسهِّل عليه بذلك استخلاص العبر، وإرجاعها جميعاً إلى علم  الله ومشيئته وتقديره وقضائه ، حتى إذا قضى كان قضاؤه  الحتم الحسم الذي لا مردَّ له .

هو فضل الله على الناس أم فضل موسى وهارون ؟

        في هذا النصر المؤزَّر لموسى على السحرة ومن ورائهم فرعون والقادة والأمراء والجيش  والشعب وكافة أركان المملكة ، لمن يعود الفضل ، لموسى أم لهارون ؟ وماذا فعل موسى وهارون ؟ وجميع المؤمنين المؤيدين لهما آنذاك ؟ لا شيء أبداً . أما المؤمنون فكانوا ما زالوا في تقية من أمرهم ، يخشون أن يرموا بمجرد تهمة الإيمان بالله واتِّباع موسى أو أخيه . فلا قيمة  لهم عملياً أبداً  . فلا هم يستطيعون ثورة على الطاغية ، ولا حتى يجرؤ أحدهم أن يظهر امتعاضاً من هذا الحكم الطاغوتي . وكذلك موسى وهارون  . كل ما فعلاه أصلاً ، هو الإخلاص لله عزَّ شأنه ، وتصديق وعده ووعيده بيقينية لو أن أحدهما ارتاب معها طرفة عين بقدرة الله ، وحاكميته للكون جملة وتفصيلاً ، لسقط من النبوة والرسالة ، وحتى من درجة  الصديقين والأولياء الصالحين .

        من هنا ، كان طبيعياً أن يكونا مصداقين صدِّيقين لتوجيهات الله وإرشاداته وتنفيذ أوامره سبحانه وتعاليمه . وكافية هي قولته عزَّ وجل :  { اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي . اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى . قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى . قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } . [ 42 ـ 46 : طه ] . كافية هذه { إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } يقولها الله بعزته ومالكيته للكون وسلطانه على الخلق الذين هم جميعاً في قبضته . كافية لأن تجعل من أهل اليقين شجعاناً ولا أشجع ولا أجرأ في المواجهات والمواقف الأشد خطراً وإرهاباً .

        فإذن هو الله وحده القادر القاهر فوق عباده ، الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلاَّ بما شاء  : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، يعني ما يضمرون وما يظهرون ، وما فعلوا وما يفعلون وما سيفعـلون . ومضى موسى وهارون  عليهما السلام ، أدَّيا الرسالة . فما هي وظيفتنا الشرعية تجاههما ؟ ليس إلاَّ  المحبة وأخذ العبرة ، والإقتداء  بيقينهما وشجاعتهما  في مواجهة الباطل وأهله ، وانتصارهما للحق وأهله ، وتحدي  الخطر ومواجهة الأهوال ، حُباً بالله وطاعة له سبحانه ، ائتماراً بأوامره وانتهاءً بنواهيه . وأن نـهب له العقول والقلوب والجوارح والأنفس والأبدان ، فهي منه وإليه سبحانه ، وله الحمد وله الشكر حتى يرضى ، ولا حول ولا قوة إلاَّ به تبارك وتعالى عما يشركون وعما يصفون . فهو الباقي بعد فناء كل شيء :

        { قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْـمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . [ 4 : الأحقاف ] .

        وزيادة في الإعتبار ، وتمعُّناً في الحقيقة ، حقيقة أن الله هو وحده القادر ، الكافي الناصر ، لا أحد أبداً من خلقه دونه . نتأمل بخشوع في آيات أُخر ، تتحدث عن نفس الواقعة ، وإنما بأسلوب معجز آخر من أساليب القرآن الحكيم ، قوله جلَّت عظمته في سورة الشعراء :

        { فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ.وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ. لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ.فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ.قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ.قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُـونَ.فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ.فَأَلْقَى مُوسَى عَصَـاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ.فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ.قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ.رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ.قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُـم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ.قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } .[38 ـ 50:الشعراء] .

        قبل هذه الآيات ، كما رأينا آنفاً ، قال سبحانه لموسى وهارون : { وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } وهذا أساس كل سلاح ، وروح كل سلاح ، وكليَّة كل سلاح  ، والله يسبب الأسباب . أفما يعقل الذين يذكرون غير الله وينسونه سبحانه ، منشغلين ليل نهار ، بذكر غيره عزَّ شأنه ، سواء من أوليائه سبحانه أو من أعدائه ، سواء على الأشرطة المسجلة أو في المجالس والمناسبات .

         يا ربنا عفوك … عفوك ورحمتك يا رب العالمين .

        وصور أخرى تتحدَّى كلَّ مشرك ، بأنَّ كل توجُّهٍ بدعاء لغير الله ، وكل استغاثة بغير الله ، وكل لجوء لغير الله ، إثم وباطل ، وبدون طائل ، وليدع الداعون وليستغث المستغيثون ، وليلجأ اللاجئون لغير الله إلى قيام الساعة فلن يستجاب لهم ، وسيظلون من الأخسرين . صور أخرى من خلال هذه الآيات ، عن عظمة الله ومقدرته ، وعزته وجبروته . هي أولاً ، أنه أوقف  رجلين ، لا سلاح لديهما ولا مقاتلة ، أعزَلين إلاَّ من اليقين بالله  والتوكل عليه جلَّ جلاله ، ومما أعطاهما من سلطان الرسالة وقوة الحجة ، في مقابل أُمَّةٍ بكامل عناصرها ، بتاريخها وتراثها وحضارتها وعسكريتها ، وغلَّبهما على هذه الأمة ، المهيمنة على أكثر الأرض المعروفة آنذاك . ثم أخرجهما من تلك الأرض ، ودمَّر على من بقي من أهلها الصنميين ، بعد أن أغرق  مليكها الطاغية الذي أبى إلاَّ أن يكون ربّاً معبوداً ، وجيشه المفتون به ، بين جبلين من المياه ، أمرهما بالإرتفاع  عن اليابسة فارتفعا ، ثم بالإنهدام  على القوم فانهدما . وبُعْداً للقوم الظالمين ، والحمد لله رب العالمين .

        …{ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا}.[ 51: مريم ] .

        هذا كل رصيد موسى عليه السلام { … إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُـولًا نَّبِيًّا } . وكذلك كان رصيد نوح وإبراهيم وغيرهم  من قبله ، وعيسى ومحمّد وغيرهما من أئمة الحق والأولياء من بعده ، سلام الله عليهم  أجمعين . إن كل واحد منهم كان كل ما قدَّمه ، للبشرية  أنه كان مخلصاً وكان رسولاً نبياً ، أو إماماً مجاهداً أو تقياً . وربما تميز بعضهم عن بعض كما قال تعالى : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ … } . [ 253 : البقرة ] . وحيث أن تكليفنا ـ كما هو تكليف جميع العقلاء ـ هو الدعوة إلى الله ، وليس الدعوة إلى الرسل  ولا إلى مخلوق من دون الله ، فتعرُّضنا للمفاضلة بينهم خروج عن الغاية ، لا سيما وأن الله عزَّ وجل أمرنا بخصوصهم أن لا نفرِّق بين أحد منهم ، قوله تبارك وتعالى :

       { قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } . [ 136 ـ 137 : البقرة ] .

        كما أرشدنا سبحانه وتعالى إلى أن مجموع هؤلاء الرسل والصالحين والصديقين في تاريخ البشرية ، هؤلاء جميعاً هم أمة كل مؤمن ، قولـه تبارك وتعالى ، بعد أن عدَّد أقطاباً منهم في سورة الأنبياء :

       { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ . وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } . [ 92 ـ 93 : الأنبياء ] .

        فإذا استطاع امرىءٌ أن يستعرض جميع من أرسل الله ونبَّأ واصطفى ، من الأولين والآخرين ، وأن يطَّلع على أهدافهم وغاياتهم ، ومواقفهم ومجاهداتهم ، وتفانيهم وبذلهم أموالهم وأنفسهم ، فسوف لن يجد إلاَّ خلاصة واحدة بسيطة ، ليس فيها  أي تعقيد ، خلاصةً تستقطب معهم أئمة الحق وأولياء الله الصالحين  في كل زمان ومكان ، هذه الخلاصة ، هي الدعوة إلى الله ، وليس لأحد غير الله :

                فما لكم أين تذهبون ؟ …

        وتسهيلاً على البشرية ، بعد رحلتها الطويلة مع هؤلاء الرسل والأنبياء ، وحتى لا يضطر الناس إلى كثرة الدرس والإطلاع ، وحشد الكتب والآثار ، فقد لخَّص سبحانه للناس ما أرسله وأنزله للبشرية منذ أن أوجدها على هذا الكوكب . فجعل خلاصة الأنبياء والمرسلين ، خاتمهم محمّداً (ص) . وخلاصة ما أنزل عليهم من كتب وألواح ، وشرائع وتعاليم ، في كتاب واحد {…  مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ …} . [ 48 : المائدة ] ، هو القرآن الكريم . فمن اسْتنَّ بسنة محمّد (ص) وأئمة الحق من بعده ، اشتغل بذكر الله وحده ، وجاهد في سبيله وحده ، ودعا إليه وحده ، سبحانه له الحمد وتعالى عما يشركون . ومن اعتمد القرآن ، تدبُّراً وتعلُّماً ، وضبطاً وربطاً لأمور الدنيا والآخرة ، جعل الله له نوراً يمشي به في الناس ، وأصبح من الداعين إلى الله وحده لا شريك له . فإذا هو تحدث عن نبي ، فلكي يدعو إلى وحدانية الله . وإذا تحدث عن صحابي  فلكي يذكر فردانية الله . وإذا تحدث عن إمام حق فلكي يذكِّر بأنه لا إلـه إلاَّ الله ، له الأسماء الحسنى وحده ، وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وحده ، هو غاية  الغايات ، والحبُّ الأعظم ، ومناط كل رجاء ، في سبيله وحده تخاض اللُّجج ، وتبذل المهج . له الحمد وحده أولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، هو حسبنا ، وحده الناصر ، ووحده الكافي ، عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير .