الإضاءات الكاشفة الثالثة هو الأول والآخر

 

3

دعوة إلى الله

الإضاءات الكاشفة الثالثة

هو الأول والآخر

 

{ حُنَيْن } : العبرة التاريخية الخالدة

إما الله وحده ، وإما الجحيمان: جحيم الهزيمة وجحيم الآخرة:

      ذلك هو الدرس الذي إذا نسي ـ خاصة أيام التحديات مع أعداء الله ـ كان نسيانه تفريطاً بنصر الله المُعَدِّ أصالة للمؤمنين . فالله عزَّ وعلا ، هو وحده إما أن ينصر ويعزَّ ، وإما أن يخذل ويذل . والنسيان لسبب النصر استدعاءٌ علنيٌّ للهزائم المنكرة . خذ على هذا مثلاً تاريخياً : واقع أمة دينية ـ عسكرية ، هي أمة الإسلام . تصاعدت انتصاراتها حتى اجتاحت بنور الله ثلاثة أرباع الظلام على الكرة الأرضية . ذلك كله لأنها استفادت من الدروس التاريخية الخالدة ، والتي أبرزها بدر والأحزاب وأُحُد وحُنين . يعني أيام كانت تتمذهب بدين التوحيد ، وتستعين بالله وحده ، وتتوكل على الله وحده ، وتتعبد لله وحده ، عالمة موقنة حتى لُباب العظام : أن النصر لا يكون ولن يكون إلاَّ بقضاء من الله المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر . ولا يكون هذا القضاء ، إلاَّ إذا سعى المسلمون إلى ذلك سعيهم المقبول عند حاكم الكون . قال عزَّ وجـل :{ وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى . وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى . ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى . وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى } [ 39 ـ 42  : النجم ] . فإذا توجهت القيادات بالناس  إلى الله  وحده ، مُعِدَّةُ العدة ، راجيةً منه النصر والعزَّة ، أناخ لها رؤوس الجبال ، وحكمها برقاب الظالمين المتجبرين : { هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } .[ 44 : الكهف] . ومن أراد أن يبلغ  أعلى درجات اليقين بنصرة الله وحده وهيمنة الله وحده وحكمته بين النصر والخذلان ، فليستعرض وقعتي الأحزاب وأُحُد . وليتشرف بآيات  نيرات نزلت فيهما ، ولقد تحدثنا عن وقعتي الأحزاب وأُحُـد ،

وتشرفنا بآيات نيرات نزلت فيهما لتبقى هذه الآيات إلى قيام الساعة ، أروع ذخائر للتفكر والتأمل ، والتطبيق العملي للدروس الكبيرة ، والعبر البليغة التي تضمنتها . فالمحطة الثالثة والأخيرة إذن ، في كتابنا هذا ، التي هي حجة كذلك في أعناق المسلمين ، في أي زمان ومكان كانوا ، هي وقعة حُنين .

        فإلى وقعة حُنين ، مستفتحين باسم الله الأعظم جامع الأسماء ، بآيتيها الشهيرتين ، قوله عزَّ وجل :

       { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ . ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } .[25 ـ 26 : التوبة ] .

        ونتشرف أولاً بالتأمل بين الآيتين ، فنجد كأنهما صدفتا محارة إلـهية ، منطبقة على أغلـى لؤلؤة فريدة في الكون : هي التوحيد . ونستخرج  بتعبُّد ورهبة ، وحب وخشوع ، هذا الكنـز الأزلي الأبدي السرمدي ، فنجد فيه كمال الغنى المُعِزِّ المفلح المنجح للفرد ، إن هو أحسن حفظه في قلبه وعقله وجوارحه . ونجد فيه كمال الغنى المُعِزِّ المفلح المنجح للأمة ، إن هي أحسنت التعامل معه بقادتها وعلمائها وسوادها الأعظم . ومن أبرز معاني التوحيد : الإستعانة بالله وحده ، والإستقواء بالله وحده ، وحسن التوكل على الله وحده ، والإنتصار بالله وحده ، وطاعته وحبه سبحانه فوق كل حب .

        ونستقرىء الخبر التاريخي في مَظَانِّهِ المحترمة ، من بداية الواقعة ، واقعة حُنين، إلى نهايتها . متوقفين أمام عبرها ، مستعينين بالله وحده في إظهار ما تضمنته من الحكمة ، وإبراز ما كنـزته من جواهر الحق ، ليعتبر بها ، وجوباً ، ليس العمي البهيميون ، وإنما أولو الأبصار الشجعان الصدِّيقون .

مقدمات واقعة حنين :

        قال ابن إسحاق (1) : ولما سمعت هوازن (2) برسول الله (ص) وما فتح الله عليه من مكة ، جمعها مالك بن عوف النصري ، فاجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها . واجتمعت نصر وجشم كلها ، وسعد بن بكر ، وناس من بني هلال ، وهم قليل . ولم يشهدها من قيس عيلان إلاَّ هؤلاء . وغاب عنها فلم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب . ولم يشهدها منهم أحد له إسم . وفي بني جشم دُرَيْدُ بن الصمة ، شيخ كبير ، ليس فيه شيء  إلاَّ التيمن برأيه ومعرفته بالحرب ، وكان شيخاً مجرباً . وفي ثقيف سيدان لهم ، في الأحلاف قارب بن مسعود بن معتب ، وفي بني مالك ذو الخمار سبيع بن الحارث بن مالك ، وأخوه أحمر بن الحارث ، وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري . فلما أجمع السير إلى رسول الله (ص) ، حط مع الناس أموالهم ونساءَهم وأبناءَهم . فلما نزل بأوطاس(3) اجتمع إليه الناس ، وفيهم دريد بن الصمة في شجار(4) له يقاد به . فلما نزل قال : بأي واد أنتم ؟ قالوا : بأوطاس . قال : نعم  مجال الخيل ، لا حزن ضرس ولا سهل دهس(5) ، ما لي أسمـع رغاء البعير ، ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاة ؟ قالوا : ساق مالك بن عوف مع الناس أموالهم ونساءَهم  وأبناءَهم . قال : أين مالك ؟ قيل هذا مالك ، ودعي له ، فقال له : يا  مالك ، إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام . ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصغير ويعار الشاة  ؟ قال : سقت مع  الناس أموالـهم وأبناءَهـم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     السيرة النبوية لابن هشام  60/4  .

(2)     وهي كبرى القبائل التي تزعمت الحرب ضد المسلمين بقيادة رسول الله (ص) .

(3)     ويقال لها أيضاً غزوة أوطاس سميت بالموضع الذي كانت فيه الوقعة وهو من  وطست الشيء وطساً إذا كدرته . والوطيس نقرة في حجر توقد حوله النار فيطبخ به اللحم . والوطيس التنور ، وفي غزوة أوطاس قال رسول الله (ص) : الآن حمي الوطيس . وذلك حين استعرت الحرب ، وهي من الكلم التي لم يسبق إليها (ص) .

(4)     الشجار : مركب أصغر من الهودج مكشوف أعلاه .

(5)     ضرس : فيه حجارة مدببة ، ودهس : لين التراب .

ونساءَهم ، قال ولم ذاك ؟ قال : أردت أن أجعل خلف كل رجل منهم أهله وماله

ليقاتل عنهم . قال : فانقضَّ به(1). ثم قال : راعي ضأن ، والله ! وهل يرد المنهزم شيء ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلاَّ رجل بسيفه ورمحه ، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك . ثم قال ما فعلت كعب وكلاب ؟ قالوا لم يشهدها منهم  أحد . قال : غاب الحد والجد ، ولو كان يوم علاء ورفعة ، لم تغب عنه كعب ولا كلاب ، ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب ، فمن شهدها منكم ؟ قالوا: عمرو بن عامر ، وعوف بن عامر ، قال : ذانك الجذعان (2) من عامر لا ينفعان ولا يضران . يا مالك إنك لم تصنع بتقديم البيضة(3) بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً . إرفعهم إلى متمنَّع بلادهم وعليا قومهم ، ثم إلق الصَّباء على متون الخيل(4) ، فإن  كانت لك لحق بك من  وراءَك ، وإن كانت عليك  ألفاك ذلك قد أحرزت أهلك ومالك . قال والله لا أفعل ذلك ، إنك قد كبرت وكبر عقلك . والله لتطيعنَّني يا معشر هوازن أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري . وكره أن يكون فيها لدريد بن الصمة ذكر أو رأي . فقالوا : أطعناك : فقال دريد بن الصمة : هذا يوم لم أشهده ولم يفتني .

                يا ليتني فيها جـذع             أخبُّ فيها وأضع

                أقود وطفاء(1) الزُّمع            كأنها شاةٌ صدع(6)

        وتعليقاً على هذه الفقرة من مقدمات هوازن ، نقول إن نصيحة دريد بن الصمة ، هي نصيحة الرجل المحنك ذو الدِّربة والتجربة الطويلة وهو المعروف في التاريخ بفروسيته وبأسه ، وشعره وحكمتـه ،  إلاَّ أنه لم يوفقـه الله عزَّ وجل لأن

يطاع ،كما لم يوفق سيد القوم مالك بن عوف لأن يفكر ويقدر ، أو يبصر ويطيع،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     انقضَّ به : زجره .

(2)     مثنى جذع ، الشاب الحدث ، ويريد بهما هنا ، أنهما ضعيفان خاليان عن التجربة .

(3)     البضة : الجماعة .

(4)     يقصد بهم المسلمين .

(5)     الوطفاء  : طويلة الشعر  ، والشاة  : الوعل .

(6)     الصَدَع : الفتيُّ من الإنسان والحيوان وغيره .

وكذلك بقية القوم بقيادة هوازن ، لأنهم جميعاً أتوا مصرين على عداوتهم لله ولرسوله وللدين الذي أنزل سبحانه على رسوله (ص) ، فكان بديهياً أن يقضى لهم بالهزيمة ، والهزيمة النكراء ، لولا أنه تعالت حكمته ، شاء أن ينصرهم على المسلمين في البداية ـ كما سنرى ـ ليلقِّن المسلمين درساً بليغاً يقوِّم به عقيدتهم ، ونواياهم وعزائمهم ، ما تمسكوا بحبله وعملوا في طاعته ، تبارك وتعالى عما يشركون .

        قال ابن إسحاق : وحدثني أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أنه حدث : أن مالك بن عوف بعث عيوناً من رجاله ، فأتوه وقد تفرَّقت أوصالهم ، فقال : ويلكم ! ما شأنكم ؟ فقالوا رأينا رجالاً بيضاً على خيل بُلْقٍ ، فوالله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى ، فوالله ما ردَّه ذلك عن وجهه أن مضى على ما يريد .

        وفي هذا الخبر أمران جديران بالتأمل ؛ الأول : عن الرجال البيض على الخيول البُلْقِ ، ما لم يكن معروفاً ولا مكشوفاً تحت أبصار المسلمين  في تلك اللحظات . إذن هو من الله سبحانه ، إما ملائكة من الذين قال عنهم في الآية الثانية : { وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } فأظهرهم سبحانه لهؤلاء ( العيون ) من هوازن وهذا هو الراجح ، وإما أنه عزَّ شأنه ، بمثل هذه الطرق  ، يقذف الرعب في قلوب أعدائه وأعداء أنصاره ، فتنخلع  قلوبهم وتتفرق أوصالهم و { هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} . [ 24 : الحشر ] .  أو أنه سبحانه جمع عليهم كلا الأمرين ، وذلك هو الأرجح .

        أما الأمر الآخر ، فهو هذا العناد الأعمى عند مالك بن عوف ،  المتزعم لهذه الألوف ، التي جاء بها ليقذفها في أتون حرب طاحنة ، رغم ما تبين  له من أن الله آتى المسلمين فيها أمراً عجباً . وهذا النموذج يذكرنا بالكثير الكثير من القادة والعساكر ، المعاندين الصُمِّ العُمْيِ أمثاله ، فهم يرون من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم ما يكفي لتراجعهم عن باطلهم ، ومع ذلك يظلون مصرين على خوض تلك التجارة الملعونة الخاسرة ، في معاداة المسلمين وشن الحروب عليهم .

       

 

     قال ابن إسحـاق : ولما سمع بهم نبي الله (ص) بعث إليهم عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي  ، وأمره أن يدخل في الناس ، فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم ثم يأتيه بخبرهم  . فانطلق ابن أبي حدرد فدخل فيهم ، فأقام فيهم ، حتى سمع وعلم ما قد أجمعوا له من حرب رسول الله (ص) وسمع من مالك وأمر هوازن ما هم عليه ، ثم أقبل حتى  أتى رسول الله (ص) ، فأخبره الخبر ، فدعا رسول الله (ص) عمر بن الخطاب ، فأخبره الخبر  فقال عمر : كذب ابن أبي حدرد  . فقال ابن أبي حدرد إن كذبتني فربما كذبت  بالحق يا عمر ، فقد كذبت من هو خير مني . فقال عمر : يا رسول الله ألا تسمع ما يقول ابن أبي حدرد ؟ فقال رسول الله (ص) : قد كنت ضالاً فهداك الله يا عمر .

استعارة أدراع صفوان :

        فلما أجمع رسول الله (ص)  السير إلى هوازن ليلقاهم ، ذكر له أن عند صفوان بن أمية أدراعاً له وسلاحاً ، فأرسل إليه وهو يومئذ مشرك ، فقال : يا أبا أمية ، أَعِرنا سلاحك هذا نَلْقَ فيه عدونا غداً . فقال  صفوان : أَغَصْباً يا محمّد ؟ قال بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك ، قال : ليس بهذا بأس ، فأعطاه مائة درع بما يكفيها من السلاح ؛ فزعموا أن رسول الله (ص) سأله أن يكفيهم حملها ففعل .

        قال : ثم خرج رسول الله (ص) معه ألفان من أهل مكة ، مع عشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه ، ففتح الله بهم مكة ، فكانوا إثني عشر ألفاً ، واستعمل رسول الله (ص) عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس على مكة ، أميراً على من تخلف عنه من الناس ، ثم مضى رسول الله (ص) على وجهه يريد لقاء هوازن .

الشعر سلاح إعلامي قوي في المعركة :

        كما في معركة هوازن هذه ، وكما في غيرها من المعارك ، وكذلك على مستوى الدعوة إلى الله عزَّ وجل ، كـان الشعر له الدور الفعـال في شتى مجالات

التأثير الفكري والعاطفي ، ولا سيما الشعر الإسلامي الإيماني الصادق ، الذي كانت تخفق معه القلوب وتتوهج به النفوس ، كما تخفق رايات التوحيد فوق رؤوس المجاهدين الأبطال ، وكما تتوهج بالصدق سيوف الله المؤمنة .

        ومحاولة للإحاطة بالمعاني التي كانت لواقعة حُنين ، من الخارج ومن الداخل، يحسن بنا أن نذكر بعض الأشعار التي قيلت فيها آنذاك من شعراء كبار شهدوها ، وجاهدوا ، مع المسلمين ، تحت رايات لا إله إلاَّ الله ، إلى جانب سيد المجاهدين محمّد (ص) ، ولا سيما ذلك الشاعر الفذ ، الذي وفقه الله سبحانه وأطلق لسانه أكثـر من غيره في هذه المعركة ، والذي هو عباس بن مرداس السلمي .

        وبما أن قصائد هذا الشاعر البطل ، تكاد تشكل ديواناً كاملاً ، لذلك نجتزىء منها بإذنه تعالى ، ما تبدو فائدته أوضح وأيسر إلى قرَّاء العربية المعاصرين . فمن قصيدة لابن مرداس اخترنا قوله(1) :

        وفي هوازن قوم غير أن  بـهم   داء اليماني  فإن لم يغدروا خانوا

        فيهم أخ لو وفَوْا أو برَّ عهدهم        ولو نهكناهم بالطعن قـد لانوا

        أبلغ  هوازن أعلاها وأسفلهـا   مني رسالة نصـح فيه  تبيـان

        أني أظن رسـول الله  صابحكم  جيشاً له في فضاء  الله أركـان

        فيهم أخوكم سليم غيرتارككم  والمسلمون عبـاد الله غسـان

        وفي عضادته اليمنى بنو أسـد           والأجربان  بنو عبس وذبيان(2)

        تكاد ترجف منه الأرض رهبته         وفي  مقدَّمـه أوس وعثمـان

 

        قال ابن إسحاق : أوس وعثمان قبيلا مزينة .

انهزم المسلمون … وثبت الرسول وبعض الصحابة :

        قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم  بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن ابن جابر ، عن أبيه جابر بن عبد الله ، قال : لما استقبلنا وادي حنين ، انحدرنا في وادٍ من أودية تهامة أجوف حَطُوطٍ ، إنما ننحدر فيه انحداراً ، قال : وفي عماية الصبح ،

وكان القوم قد سبقونا إلى الوادي ، فكمنوا لنا في شعابه وأحنائه ومضايقه ، وقد أجمعوا وتهيأوا وأعدوا ، فوالله ما راعنا ونحن منحطُّون إلاَّ الكتائب قد  شدوا علينا شدة رجل واحد ، وانشمر الناس راجعين ، لا يلوي أحد على أحد .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     السيرة النبوية لابن هشام 63/4 .

(2)     سماها بالأجربين تشبيهاً بالأجرب الذي لا يقرب .

        وانحاز رسول الله (ص) ذات اليمين  ، ثم قال أين أيها الناس ؟ هلموا إليّ ، أنا رسول الله ، أنا محمّد بن عبد الله . قال : فلا شيء ، حملت الإبل  بعضها على بعض ، فانطلق الناس ، إلاَّ أنه قد بقي مع رسول الله (ص) نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته .

        وفيمن ثبت معه من المهاجرين أبو بكر وعمر ، ومن أهل بيته  علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب ، وأبو سفيان بن الحارث ، وإبنه ، والفضل بن العباس ، وربيعة بن الحارث ، وأسامة بن زيد ، وأيمن بن عبيد ، قتل يومئذ(1) .

        قال ابن هشام(2) : اسم ابن أبي سفيان بن الحارث جعفر ، واسم أبي سفيان المغيرة . وبعض الناس يعد فيهم قثم بن العباس ، ولا يعد ابن أبي سفيان .

        قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن عبد الرحمن ابن جابر ، عن أبيه جابر بن عبد الله ، قال : ورجل من هوازن على جمل له أحمر ، بيده راية سوداء ، في رأس رمح له طويل ، أمام هوازن ، وهوازن خلفه ، إذا أدرك طعن برمحه ، وإذا فاته الناس رفع رمحه لمن وراءه فاتبعوه .

        قال ابن إسحاق : فلما انهزم الناس ، ورأى من كان مع رسول الله (ص) من جفاة أهل مكة الهزيمة ، تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضِّغْن ، فقال أبو

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     إن قيل : كيف فرَّ أصحاب رسول الله * عنه حتى لم يبق معه إلاَّ ثمانية ، والفرار من الزحف من الكبائر ، وقد أنزل الله فيه من الوعيد ما أنزل ، قلنا : لم يجمع العلماء على أنه من الكبائر إلاَّ في يوم بدر،كذلك قال الحسن ونافع مولى عبد الله بن عمر ،

وظاهـر القرآن يدل على هـذا ، فإنه قـال : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ }.  [16 : الأنفال ] .  فيومئذ إشـارة إلى يوم بدر ، ثم نزل التحقيق بعد ذلك في الفارين يوم أُحُد وهو قوله :  {وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } . [ 152 : آل عمران ] . وكذلك أنزل يوم حنين : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } . [ 25 : التوبة ]  إلى قوله  { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وفي قول ابن سلام : كان الفرار من الزحف يوم بدر من الكبائر ، وأيضاً فإن المنهزمين عنه عليه السلام رجعوا لحينهم ، وقاتلوا معه حتى فتح الله عليهم . ـ هذا التعليق من السيرة  النبوية لابن هشام : 65/4 .

(2)     نفس المصدر . 

سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر،وإن الأزلام(1) لمعه في كنانته.وصرخ كلدة بن الحنبل : ألا بطل السحر اليوم ، فقال له صفوان بن أمية : اسكت فض الله فاك  ، والله لأن يَرُبَّني رجل من قريش أحب إليَّ من أن يَرُبَّني رجل من هوازن .

شيبة بن طلحة يحاول قتل الرسول :

        قال ابن إسحاق : وقال شيبة بن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار ، قلت : اليوم أدرك ثأري ـ وكان أبوه قتل يوم أُحُد ـ اليوم أقتل محمّداً . قال فأدرت برسول الله لأقتله ، فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي ، فلم أطق ذاك ، وعلمت أنه ممنوع  مني .

قال ابن إسحاق : زعم بعضهم أن رجلاً في جيش المسلمين ، من بني بكر ، قال حين  فصل الناس من مكة إلى حنين ، ورأى كثرة جنود الله : لن نغلب اليوم من قلة .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     روى علي بن إبراهيم في تفسيره أن الأزلام عشرة ، سبعة لها أنصباء ، وثلاثة لا أنصباء لها، فالتي لها أنصباء الفذ والتوأم والمشبل والنافس والحلس والرقيب والمعلى، فالفذ له سهم والتوأم له سهمان والمشبل له ثلاثة أسهم والنافس له أربعة والحلس له خمسة والرقيب له ستة والمعلى له سبعة أسهم ، والتي لا أنصباء لها الصفيح والمنيح والوغد ، وكانوا يعمدون إلى الجزور فيجزئونه أجزاء ثم يجتمعون عليه فيخرجون السهام ويدفعونها إلى رجل ، وثمن الجزور على من تخرج له التي لا أنصباء لها وهو القمار فحرمه الله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ و … َأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ … } . [ 3 : المائدة ] . والأزلام واحدها زلم وهو سهـم  لا ريش فيه . المصدر : ” مجمع البيان ، مجلد 2 ـ ج 6 ـ ص 18 ” و ” الكافي ـ معجم  عربي حديث ” .

       

وقضى الله للمسلمين … بالنصر المبين  :

        قال تبارك وتعالى  : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ …} . [ 23 : الإسراء ] . وقال عزَّ شأنه : { وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } . [ 20 : غافر ] . { … سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } . { 35 : مريم } .

        قال العباس رضي الله عنه : شهدت مع رسول الله (ص) يوم حنين ، فلزمته أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ولم نفارقه ، وهو على بغلة له بيضاء . فلما التقى المسلمون  والكفار ولىَّ المسلمون مدبرين . فطفق رسول الله (ص) يركض بغلته قِبَلَ الكفار . قال عباس : وأنا آخذ بلجام  بغلة رسول الله (ص) أكفُّها ، إرادة أن لا تسرع ، وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله (ص) ، فقال عليه الصلاة والسلام : ناد أصحاب السَّمُرَة(1) ( وكان رجلاً صيِّتاً )(2) فقلت بأعلى صوتي : يا أصحاب السمرة ، قال فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ، فقالوا : يا لبيك ، يا لبيك … وأقبلوا يقتتلون مع الكفار، وكان النداء : يا للأنصار . وأشرف رسول الله (ص) ينظر إلى قتالهم قائلاً:

الآن حمي الوطيس ، ثم أخذ حصيات من الأرض  فرمى بهن وجوه الكفار ، ثم قال: إنهزموا ورب محمّد(3) .

        وقذف الله في قلوب  المشركين الرعب ، فانهزموا لا يلوي واحد منهم على

أحد ، واتبع المسلمون أقفاءَهم يقتلون ويأسرون ، فما رجع الناس إلاَّ والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله (ص) .

        وروى ابن إسحاق وابن سعد ، بسند صحيح أن رسول الله (ص) التفت فرأى أم سليم بنت ملحان ، وكانت مع زوجها أبي طلحة ، فقال لها رسول الله

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ    

(1)     هي الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان عام الحديبية .

(2)     أي أن العباس كان ذا صوت جهوري .

(3)     رواه مسلم وروى نحوه باختصار البخاري أيضاً، وترويه بتفصيل كل كتب السيرة.

(ص) : أم سليم ! … قالت : نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله (ص) ، أقتل هؤلاء  الذين ينهزمون عنك كما تقتل الذين يقاتلونك : ـ وكان معها خنجر ـ فقال لها أبو طلحة : ما هذا الخنجر معك يا أم سليم : قالت خنجر أخذته إن دنا مني أحد من المشركين بعجته به .

        وفرَّ مالك بن عوف ومن معه من رجالات قومه حتى وصلوا إلى الطائف ، فامتنعوا بحصنها وقد  تركوا وراءَهم مغانم كثيرة .

        وأمر رسول الله (ص) بالمغانم فحبست في الجعرانة ، وجعل عليها مسعود بن عمرو الغفاري ، واتجه (ص) بمن معه إلى الطائف فحاصروها ، وأخذت ثقيف تقذف المسلمين من حصونها بالنبال ، فقتل بذلك ناس منهم ، وظل رسول الله (ص) في حصاره للطائف بضعة عشر يوماً ، وقيل بضعة وعشرين يوماً . ثم بدا له أن يرتحل . روى عبد الله بن عمرو أنه (ص) أعلن في أصحابه : إنا قافلون إن شاء الله . فقال بعض أصحابه : نرجع ولم نفتتحه ؟ . فقال لهم :أغدوا على القتال ـ أي فقاتلوا إن شئتم ـ فغدوا عليه ، فأصابهم جراح ، فقال لهم رسول الله (ص) : إنَّا قافلون غداً ، فأعجبهم ذلك ، فضحك رسول الله(1)  (ص) .

        وقال بعض الصحابة لرسول الله (ص) : يا رسول الله أدع الله على ثقيف ، فقال : اللهم إهد ثقيفاً وائت بهم(2) .

        قلت : وقد هدى الله ثقيفاً بعد ذلك بقليل ، فقد جاء وفدهم إلى رسول الله (ص) بالمدينة لإعلان إسلامهم .

رسول الله (ص)  يقضي بإذن الله في الغنائم :

        العلم من الله والإذن من الله لرسوله (ص) شرطان أساسيان لقضائه (ص) في غنائم الحرب . وسنرى أنه (ص) في قسمة غنائم حنين ، ينحو نحواً يبدو عجباً

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     متفق عليه .

(2)     رواه ابن سعد الطبقات ، وأخرجه الترمذي في سننه ، وقد رواه ابن سعد عن عاصم  الكلابي عن الأشهب ، عن الحسن .

 

قبل التأمل فيه ، وقبل معرفة نتائجه والغاية منه . ولا سيما فيما يختص بإعطاء أهل مكة ـ الذين كانوا لفترة قريبة أَلَدَّ أعدائه ـ أكبر الحصص . في حين أن الأنصار  ـ من أهل المدينة ـ الذين تفانوا في نصرة دين الله ونصرة رسوله ، والجهاد بأموالهم وأنفسهم  في سبيل الله ، لم يعطهم ما يذكر . وحتى لا نستبق الحوادث ، نقرأ ونتمعن ، دون أن ننسى روعة العدالة والرحمة وسموَّ الهدف في كل عبرة من عبر الغنائم ، غنائم حنين وقسمتها . تلك هي عدالة الله ورحمة الله ، وإشارات كريمة إلى ما أعده الله سبحانه للمجاهدين الموقنين المحبين لله ولرسوله في الدنيا والآخرة :

        … وعاد رسول الله (ص) إلى الجعرانة ، وفيها السبي والغنائم التي أخذت من هوازن في غزوة حنين . فقسم السبي هناك . ثم قدم عليه وفد من هوازن المسلمين ، وسألوه أن يردَّ عليهم أموالهم وسبيهم  . فقام  رسول الله ( ص) في المسلمين ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : أما بعد ، فإن إخوانكم  قد جاؤوا تائبين . وإني رأيت أن أردَّ إليهم سبيهم ، فمن أراد منكم أن يطيِّب ذلك فليفعل ، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل(1) .

        فنادى الناس جميعاً : قد طيَّبنا ذلك يا رسول الله .

        وسأل رسول الله (ص) وفد هوازن ـ فيما رواه ابن إسحاق ـ عن مالك ابن عوف ما فعل ؟ فقالوا هو بالطائف مع ثقيف . فقال لهم أخبروه أنه إن أتى مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الإبل . فأخبر مالك بذلك . فجاء يلحق برسول الله (ص) حتى أدركه بين الجعرانة ومكة . فرد عليه أهله وماله وأعطاه مائة من الإبل . وأسلم فحسن إسلامه .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     أي بأن يردَّ السبي بشرط أن يعطى عوضه فيما بعد .

وخصَّ النبي المؤلفـة قلوبهم  ـ  وهم أهل مكة ـ  بمزيد من الغنائم والأعطيات ، يتألف بها قلوبهم على الإسلام ، فوجد بعض الأنصار من ذلك وقالوا: غفر الله لرسول الله ، يعطي قريشـاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم(1).

فبلغ ذلك رسـول الله (ص) فأرسل إلى الأنصار فاجتمعوا في مكان أعدَّ لهم ، ولم يدع معهم أحداً غيرهم ، ثم قام فيهم ، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال :

        يا معشر الأنصار ، ما  قَالَةٌ بلغتني عنكم ؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألَّفَكم الله بي ، وكنتم عالة فأغناكم الله بي . ( كلما قال لهم من ذلك شيئاً قالوا بلى ، الله ورسوله أمنُّ وأفضل ) ثم قال : ألا تجيبوني  يا معشر الأنصـار ؟ قالوا بماذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المن والفضل . فقال (ص) :

        أما والله لو شئتم  لقلتم ، فَلَصَدَقْتُمْ ولَصُدِّقْتُمْ :  أتيتنا مكذَّباً فصدَّقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريداً فآويناك ، وعائلاً فآسيناك فصاحوا : بل المن علينا لله ولرسوله .

        ثم تابع رسول الله (ص) قائلاً : أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم من أجل  لعـاعة(2) من الدنيا تألَّفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ! ألا ترضون يا معشر الأنصار  أن يذهب الناس بالشاة والبعير  وترجعوا برسول الله إلى رحالكم ؟ فوالله لما تنقلبون به خير مما ينقلبون به . والذي نفس محمّد بيده لولا الهجرة لكنت أمرءاً من الأنصار ، ولو سلك الناس شِعباً وسلكت الأنصار شِعباً ، لسلكت شعب الأنصار ، وإنكم ستلقون أثرة من بعدي فاصبروا حتى تلقوني على الحوض  ، اللهم ارحم  الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار .

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ   

(1)     رواه البخاري ورواه الطبري والبيهقي وابن سيد الناس كلهم عن طريق ابن إسحق بمزيد من التفصيل .                                                                       

(2)     اللعاعة : بقلة خضراء تستهوي العين ، شبه بها الدنيا …

        فبكى القوم حتى اخضلَّت لحاهم ، وقالوا رضينا بالله ورسوله قسمـاً ونصيباً (1) .

        وتبعه (ص) ناس من الأعراب يسألونه مزيداً من العطاء ، حتى اضطروه إلى سمرة تعلَّق بها رداؤه ، فالتفت إليهم قائلاً ؛ أعطوني ردائي أيها الناس ، فوالله لو كان لي بعدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم ، ثم لا تجدونني  بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً .أيها الناس والله ما لي من فيئكم إلاَّ الخمس ، والخمس مردود عليكم .

        وأدركه أعرابي فجذبه (ص) جذبة شديدة من بُرْدِهِ ، وكان عليه برد نجراني غليظ ، حتى أثرت حاشية الرداء في صفحة عنقه ، وقال له ، مُرْ لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه فضحك ، ثم أمر له بعطاء(2) .

        قال ابن إسحـاق : ثم خرج رسول الله (ص) من الجعرانة معتمراً ، فلما فرغ ، انصرف راجعاً إلى المدينة ، واستخلف على مكة عتاب بن أسيد .

آيات ولقطات وصور من حنين : الملائكة تحضر القتال :

         قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق  بن يسار ، أنه حدث عن جبير ابن مطعم  ، قال : لقد رأيت ـ قبل هزيمة القوم والناس يقتتلون ـ مثل البجاد(3) الأسود أقبل من السماء حتى سقط بيننا وبين القوم ، فنظرت فإذا نمل أسود مبثوث قد ملأ الوادي لم أشكَّ أنها الملائكة ، ثم لم يكن إلاَّ هزيمة القوم .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     رواه البخاري ومسلم ، وابن لإسحاق ، بنصوص متقاربة في الزيادة والنقصان .

(2)     متفق عليه .

(3)     البجاد : الكساء .

          ولعل إلى هذا وغيره أشار في قوله سبحانه : { ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ } . [ 26 : التوبة ] . ورؤية جبير بن مطعم  للملائكة  بهذه الصورة  لا تتنافى مع قوله عزَّ وجل  { جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا } إذ أن الخطاب في إثبات عـدم الرؤية ، هو خطاب لعامة المسلمين الموجـودين في المعركة ، ولعله استثنى جبيراً هذا ، لإلقاء الحجة في إثبات الخبر ، ليكون مصداقاً للآية الكريمة  في تاريخ هذه الواقعة من جهة ، وفي تاريخ  عامة الوقعات التي يصدق فيها المسلمون مع ربهم مجاهدين في سبيله بالأموال والأنفس  كما يحب ويرضى سبحانه .

*  *  *

        قال ابن إسحاق : ولما هزم الله المشركين من أهل حنين ، وأمكن رسوله (ص) منهم  ، قالت امرأة من المسلمين :

        قد غلبت خيل الله خيل اللات        واللـه  أحـق  بالـثبـات

        قال ابن هشام : أنشدني بعض أهل العلم  بالرواية للشعر :

        غلبت خيلُ الله خيـلَ اللاّتِ           وخيلـهُ أحـقُّ بالثبــاتِ

 

*  *  *

        قال ابن إسحاق : فلما انهزمت هوازن  استحر القتل من ثقيف  في بني مالك ، فقتل منهم سبعون رجلاً تحت رايتهم ، فيهم عثمان بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن حبيب ، وكانت رايتهم مع ذي الخمار(1) ، فلما قتل  أخذها عثمان فقاتل بها حتى قتل .

        قال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس : أنه قتل مع عثمان بن عبد الله غلام له نصراني أَغْرَل(2) ، قال : فبينا رجل من الأنصار يسلب قتلـى ثقيـف ، إذ كشـف العبـد  يسلبـه ، فوجده أغـرل . قال :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     هو عوف بن الربيع  .

(2)     الأغرل : غير المختتن .

فصاح بأعلى صوته : يا معشر العرب : يعلم الله أن ثقيفاً غرْلٌ . قال المغيرة بن شعبة  : فأخذت بيده ، وخشيت أن تذهب عنا في العرب ، فقلت : لا تقل ذاك ، فداك أبي وأمي ،  إنما هو غلام لنا نصراني . قال ثم  جعلت أكشف له عن القتلى ، وأقول له : ألا تراهم مُخَتَّنين كما ترى .

*  *  *

        قال ابن إسحاق : ولما انهزم الناس قال مالك بن عوف يرتجز بفرسه :

        أقدِم محـاج(1) إنه يـوم نكـر          مثـلي على مثلك يحمـي ويكرْ

        إذا  أضيع الصف يومـاً والدبر      ثم  احْزأَلَّت زمـر بعد زمـر(2)

            كتائب يكـلُّ فيهـن البصـر          قد أطعن الطعنة  تقذي بالسُّبَرْ(3)

        حين يذم المستكيـن المنجحـر        وأطعن النجلاء  تعوي وتهـر(4)

        لها من  الجوف رشـاش منهمر       تفهق  تارات وحيناً  تنفجـر(5)

        وثعلب العامـل  فيها  منكسر       يا زيد يا بن همهم  أين تفـر(6)

        قد نفد الضرب وقد طال العمر            قد علم البيض الطويلات الخمر

        أني في  أمثـالـها  غير غـمر           إذ تخرج الحاصن من تحت الستر

        في هذه الأرجوزة ، أو الشعر، لمـالك بن عوف هذا، تلاحظ ملاحته وقوة تعابيره ، وجمال سبكه ،وأنه يعبر عن مزاجية الفارس الشاعر،ذي العنفوان القيادي والنخوة العـارمة ،كما يلاحظ فيه ـ وهذا ما أردنا التنويه عنه ـ خلوُّه من أي  ذكر لله ومن أية إشارة إلى الإيمان به سبحانه .

        ذلك هو الفـارق المصيري بين أصناف الناس عـامة : أناس وهبهـم الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     محاج : اسم فرسه .                          (2)     احزألت : ارتفعت .

(3)     السبر : جمع سبير ، فتيل يسبر به الجرح .

(4)     النجلاء : الطعنة الواسعة . تعوي وتهر : أي يسمع لخروج الدم منها أصوات كالعواء والهرير .

(5)     تفهق : تنفتح .

(6)     الثعلب : عصا الرمح الداخلة في السنان . العامل : أعلى الرمح .

طاقات ، ليؤمنوا به ويطيعوه ، ويتكاملوا تبعاً لذلك فيفوزون برضاه ورضوانه . ولكنهم صموا وعموا وجحدوه فخسروا الخسران المبين . وأناس وهبهم الله نفس الطاقات ، فآمنوا وأيقنوا ، وسمعوا وأبصروا ، فنجوا ، وذلك عند الله هو الفوز العظيم .

        من هنا تحسن المقارنة بين هذا الشعر الجميل ، الجمال الكافر ، الجمال الخاسر ، الذي سيصبح يوماً في ميزان الشعر والفن عامة ، أقرب ما يكون إلى القبح ، بل يصبح هو القبح بعينه . ذلك يومَ توضع الموازين الحق ، الموازين الدقيقة العادلة ، قوله تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } . [ 47 : الأنبياء ] . تحسن المقارنة بينه وبين أشعار يمجَّد فيها الله ، الذي هو ربُّ الشعر ومعلِّم الشعر ومُلْهِمُ الشعر ، وليس أي شعر ، وإنما الشعر النظيف ، الطاهر ، الذي تحكيه الملائكة ولا توسوس به الشياطين . من هذا الشعر الأصيل التعبُّديِّ ، الذي يسمو بالنفوس  الأصيلة إلى الآفاق اللازوردية العليا ، ما قاله شعراء الفروسية المؤمنة ، في واقعة حنين ، هذه التي نحن بصددها ، وسنرى إن شاء الله مزيداً منه على الصفحات التالية ، للفارس الشاعر عباس بن مرداس السلمي .

        هذه المقارنة ترينا الفارق العجيب ، بين إيجابية التأمل وسلبيته ، بين قوة الحق وهشاشة الباطل ، بين التركيز والصفاء ، وبين التأزم والفوضى الفكرية والنفسية ، هذه الصفات التي للفريقين ، ستبقى تصنف الناس إلى قيام الساعة ، سواء الشعراء والمجاهدون وبقية الأنام ، كل في موقعه ، ما دام الصراع قائماً بين أهل الحق وأهل الباطل ، بين أنصار الله وأنصار الطاغوت والنفوس الأمارة ، وسيبقى كذلك ، حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً .

        ومثل آخر على الشعر الذي فيه ملامح الجاهلية وقسوتها ، وضيق آفاقها وفظاظتها ، هذا لمن اختار البقـاء على انغلاقه وشركه ، وأقول شركه وليس كفره ، ولو كان لهما نفس المصير ، لأن المشركين كانوا يؤمنون بالله ، ولكن على أساس أنه إلـه أكبر من بقية الآلهة المزعومة التي كانوا يعبدونها ، يؤمنون به سبحانه إيماناً فطرياً محصوراً في لفظة ” الله أو الإلـه أو اللَّهـم ” ، ولا يتجاوزونها إلى ما يتعلمه المسلم فور إسلامه من معانٍ عظيمة وعميقة وشاملة لمفهوم الألوهة وحقائق هذا المفهوم ، هذه الحقائق التي يقذفها الله تعالى في قلب المسلم المؤمن نوراً يمحو منه الظلام والضلال والحيرة وشتات الذهن ، فيمشي  في مدارج النور الأجمل فالأجمل ، كلما ارتقى درجة اكتشف  سموّاً وعلوّاً وسعادة أوسع ، وما أكرم  وما أرحم وما أعطى ربُّ العرش العظيم : { … نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . [ 35 : النور ] .

        والمثل الذي سنذكره ، هو كذلك من وقائع حنين ، ذلك الباب الذي فتحه الله عريضاً لفهم الألولهة وفهم التوحيد ، رحمةً بالمسلمين ، وتكريماً وتعميقاً ليقين أهل اليقين . وهذا المثل يتعلق بمقتل الفارس والشاعر الجاهلي دريد بن الصمة ، حيث رثته إبنة له إسمها عمرة ، بأبيات تسأل فيها الإله ـ كما سنرى ـ أن يسقيها من دماء المسلمين ، وخاصة بني سليم ، الذين قتلوا أباها ، رغم أن أباها هذا ، قد تنكر لله وللرسالة التي أرسل بها رسوله محمّداً (ص) ، ومات على الشرك ، وهو ـ كما ذكرنا آنفاً على لسان ابن إسحاق ـ ” شيخ كبير ليس فيه شيء إلاَّ التيمن برأيه ومعرفته بالحرب ” .

        قالت عمارة بنت دريد في قتل ربيعة(1) دريداً :

        لعمـرك ما خشيـت على دريد      ببطـن سميـرة جيش العناق(2)

        جـزى عنه الإلـه  بنـي سليم         وعقَّتـهـم  بما  فعلـوا عقـاق

        وأسقـانا  إذا  قـدنا إليـهـم         دمـاء خيـارهم عند التلاقـي

        فرب عظيمـة دافعـت عنهـم         وقد بلغـت  نفوسهـم التراقي

        ورب كريمـة أعتقـت  منـهم         وأخرى قد  فكـكت من  الوثاق

        ورب  منوِّهٍ بـك مـن سليـم         أجبت وقد دعـاك بلا رمـاق(3)

            فكان جزاؤنـا منهـم  عقـوقا        وهمـاً مـاع منـه مخ ساقـي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     ربيعة : اسم المسلم الذي قتل دريد بن الصمة .

(2)     سميرة : واد قرب حنين . العناق : الأمر الشديد .

(3)     الرماق : أو الرمق بقية الحياة .

عفـت آثـار خيلـك  بعد أين        بذي بقـر إلى فيـف النـهاق(1)

        وقالت عمرة بنت دريد أيضاً :

        قالوا قتلنا دريداً قلت قد صدقوا       فظل دمعـي على السربال  ينحدر

        لولا الذي قهـر الأقوام  كلَّهم        رأت سليـم وكعـب كيف  تأتمر

        إذن لصبحـهم غبـاً وظاهـرة      حيث استقرت نواهم جحفل ذفر(2)

        ومقارنة  مع هذين النموذجين  ، نورد أبياتاً من قصيدة لعباس بن مرداس السلمي يذكر فيها قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه ، وذا الخمار وحبسه قومه للموت في حنين :

        ألا من مبلـغ غيـلان عنـي      وسوف ـ إخال ـ يأتيه الخبيـر(3)

        بأن محمّـداً  عبـدٌ  رسـولٌ       لـربٍ لا يضــلُّ  ولا يجــور

        أضـاعو أمـرهم ولكل  قوم     أمـير والدوائــر قـد  تـدور

        فجئنـا أسـد غاباتٍ إليهـم      جنـود اللـه ضاحيـة  تسيـر(4)

        فكنـا أُسْـدَ ليَّـة ثم حتـى         أبحـنـاها وأسلمـت النصـور(5)

        قتلـنا في الغبـار بني  حطيط    علـى  راياتـها والخيـل زور(6)

        ولم يك  ذو الخمار رئيس قوم          لهم عقـل يعاقـب أو مكيــر

        أقام  بهم  على سنـن المنايـا             وقد  بانـت لمبصـرها الأمـور

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     ذو بقر : موضع . فيف : قفر  . النهاق : موضع .

(2)     الغب : في الأصـل أن ترد الإبل الماء يوماً بعد يوم . وظاهرة أن ترده كل يوم . ذفر : ذو رائحة كريهة من صدأ الحديد .

(3)     إخال : في معنى أظن ، وليس يريد أن يظن فيما يستقبل ، وإنما يريد أنه يخال الآن أنه سيكون ذلك .

(4)     ضاحية : ظاهرة .

(5)     قيل إنها جمع ناصر وقيل هم بنو نصر من هوازن رهط عوف بن مالك النصري  يقال لهم  النصور .

(6)     زور : مائلة .

 

          فأفلت من نجـا منهم جريضـاً   وقُتِّـل منهـم بشـرٌ  كثيـر(1)

        أحـانهـم وحـان وملكـوه أمـورهـم وأفلـتت الصقـور

        بنو عـوف تميـح بهم جيـاد      أهيـن لها الفصافـص والشعير(2)

        فلولا قـارب وبنـو أبيــه تقسمـت المـزارع والقصـور

        ولكـن الريـاسـة  عمموها       على يـمن أشـار بـه المشيـر

        أطاعـوا  قـارباً ولهم  جدود     وأحـلام  إلـى  عـز  تصـير

        فإن يهـدوا إلى الإسلام يلفوا           أنـوف الناس ما  سمر  السميـر

        وإن لم يسلمـوا فهـم  أذان              بحـرب  الله  ليس لهـم نصيـر

        كما حكَّت  بني سعد وحرب         برهـط بنـي غزيَّـة عنقفيـر(3)

        كأن بنـي معاويـة بن بكر               إلى  الإسـلام  ضائنـة  تخـور

        فقلنا أسلموا إنَّـا أخوكـم                وقد برئـت من الإحن الصدور

        كأن القوم إذ جاؤوا إلينـا              من البغضاء بعد السلـم عـور

        وحيث أننا في اتجاه واحد بعون الله تعالى ، في كتابنا هذا ، وفي أفكارنا وكتاباتنا عامة ، هو الدعوة إلى الله ، فسنقف أمام الأبيات التي أنشئت  من أجلها القصيدة ، أي التي  هي روح هذا الشعر كله ، الأبيات التي تدعو  إلى دين الله بشكل أو بآخر ، أي التي تدور بالنتيجة حول الدعوة إلى الله ، من ذلك قول ابن مرداس السلمي : ألا من مبلغٍ … إلى قوله  :

        بأن محمّداً عبـدٌ رسـولٌ         لربٍ لا  يضـلُّ  ولا  يجـور

        هذا الفهم المتقدم الأصيل ، عن الألوهة وعن النبوة ، هو فهم لم يتجاوز عمره عند ابن مرداس هذا بضع عشرة سنة ، ومع ذلك جاء بهذا العمق الفكري والأصالة . صحيح أن هذا المفهوم  هو الذي أراده الله من الناس ، وهذا ما بلَّغه محمّد (ص) عن نفسه ، بأنه هو مجرد عبد لله ، اختاره ربه واصطفاه وحمَّله رسالـة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     الجريض : من يغصُّ بريقه .

(2)     الفصافص : جمع فصفصة : النبات التي تأكله المواشي رطباً .

(3)     العنقفير : الداهية .

 

جاء  يؤديها بأقصى جهده  ووسع طاقته ، وأنه ليس هو الغاية ولا النهاية ، وإنما الغاية والنهاية التي لا تنتهي ، هو الله سبحانه وجلَّ جلاله . وأن المطلوب ذكره دائماً وأبداً ، وتذكُّره دائماً وأبداً ، هو رب محمّد (ص) رب العالمين ، هو سبحانه ” رب لا يضل ولا يجور ” كما تعلَّم هذا عباس بن مرداس من ربه الذي أرسل إليهم محمّداً (ص) يخبرهم  ـ تفصيلاً ـ بمعاني شهادة أن لا إله إلاَّ الله ، بعد أن عرفوها ـ جملة  ـ  بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وبالإشهاد ، قبل إهباطهم إلى الأرض هذه .

        وما أحوج الناس اليوم إلى هذا المفهوم  ، الذي أصبح عمره أربعة عشر  قرناً هي عمر الرسالة ، فبدلاً من أن يزيدهم طول الزمان ، وكثرة العلوم ، ووضوح الآيات فهماً للألوهة والتوحيد ، وعملاً بتعاليم الله وإقبالاً على كتابه المجيد ، إذا بهم يتوجهون إلى غير الله عزَّ وجل ، بالذكر وبشتى المطالب ، حتى وينسونه نسياناً يكاد يكون تاماً ، فأغرقوا في المعاصي  بجميع  أنواعها ، فأغرقهم سبحانه في العماية والضلالة وأنواع الإنتكاسات ، وأقفل عليهم حتى معاني كتابه الكريم ، فهم ـ إذا قرأوه ـ لا يتدبرونه ولا يفهمونه . قوله عزَّ وجل : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } . [ 57 : الكهف ] .

        فالمطلوب الرجوع إلى أصالة الإعتقاد وأصالة التوجُّه ، فإن محمّداً (ص) أدَّى رسالته ، وأصبح في جوار ربه ، وبقي على الناس المسلمين أن يترسموا صدقه وإخلاصه ، وجهاده ، هذه الصفات وإن كانت فيه قمماً عالية في تاريخ الأنبياء والرساليين والقياديين عامة ، إلاَّ أن السعي للوصول إليها أو الإقتراب منها ليس معجزاً ، ما دام الله سبحانه ندب إلى ذلك وأمر به في آيات كثيرة ، منها قوله عزَّ وجل:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.[21:الأحزاب].وقوله عزَّ وجل:{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.[31:آل عمران] .

        ومما يدل على الإعتقاد الأصيل والمطلوب ، قول هذا الشاعر في البيت الرابع : ـ جنود الله ـ  ولم يقل جنود محمّد (ص) . ذلك ومحمّد (ص) بينهم يسمع هذا الشعر ، ويشجعه  ويؤكد على معانيه ما دامت تدعو إلى الله عزَّ شأنه . بينما بعد محمّد (ص) بزمن يسير ، وإلى يومنا هذا ، رأينا أكثر المداحين يعتصرون أفكارهم وأشعارهم وخطبهم ، ويسفحونها رخيصة أمام حتى الطواغيت  الصغار ، من المتنفذين والمتسلطين وأرباب المناصب ، وينسون الله إلاَّ لماما . أما إذا كان الحاكم كبيراً ، فيتزاحم على أبوابه الوصوليون والإنتهازيون ، حتى ليكادوا يقتلون بعضهم بعضاً ، حسداً ونميمةً وتدافعاً بالمناكب وزحفاً على الوجوه .

        فإذا دعوت المؤمنين العاديين منهم إلى الإيمان الحقيقي  ، الإيمان الأصيل ، وذكَّرتهم بالله وحده ، وذكرت لهم أن الله ينهى عن ذلك ويحرِّمه ، تذرعوا بالذرائع ـ إلاَّ من رحم ربك ـ وتفلسفوا وتفاقهوا ووجدوا لكل شاذة غطاء . ثم تصيبهم أمراض عامة الناس ، فيشكون منها : الصداع والأرق ، والقلق ، والتوتر ، والبلاءات ، ما قلَّ منها وما كثر ، وما صغر منها وما كبر ، والله سبحانه  أوعدهم على لسان رسوله (ص) بقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ } . [ 10 : غافر ] . ثم قوله عزَّت عظمته متابعاً بعدها  بآية : { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } . [ 12 : غافر ] .

        وما أجمل ما قال هذا الشاعر ، في قصيدته هذه ، كاشفاً عن حقيقة إيمانه وتقواه ، وأخلاقه الإسلامية الجديدة الرائعة ، وحماسه الشديد لرسـالة ربه عزَّ وجل ، قوله في هذين البيتين عن هوازن وهم آنذاك أعداء الله :

        فإن يهدوا إلى الإسلام يلفوا           أنوف الناس ما سمر السمير

        وإن لم يسلموا فهـم  أذان              بحرب الله ليس لهم نصيـر

       

        فقوله  ” يلفوا أنوف الناس ما سمر السمير ” أي أنهم يصبحون في واجهة المجتمع ، ويكون لـهم في الوقائع ، التقديـم ، وفي القيادة والرياسة نصيب وافر،

وهذا يدل  على مدى  ما اكتسب هذا الرجل في إسلامه الجديد  من خلق الإيثار وتقديم الآخرين ـ إذا آمنوا ـ  والتواضع لهم . بينما القاعدة الكريهة التي كانت سائدة آنذاك ، وكان الناس ما زالوا متلبسين عميقاً بها ، هي الأنانية الفردية والأثرة القبليـة ، أي تعالي الفرد وتفضيله لنفسه ، وتفضيل قبيلته على بقية القبائل ، فلا يرضى إطلاقاً أن يكون ( أنوف الناس )  قوم غير قومه ، وقبيلٌ غير قبيله ، علماً أن ابن مرداس هو من قبيلة بني سليم ، وهي من القبائل  الشهيرة التي ألَّفت في نصرة الإسلام منذ أول عهده ، يعني بلغ تعداد المجاهدين منها في سبيل الله ألف مقاتل .

        ولفتة أخرى تدلل على أخلاقية جديدة ، وفهم سريع رائع لمضامين الرسالة السماوية العتيدة ، قول  ابن مرداس  السلمي :

 

        فقلنا أسلمـوا إنَّا أخوكـم                وقد برئت من الإحـن الصـدور

 

        وذلك  ما لم يكن مألوفاً في الجاهلية ، إذ كانت ( إحن الصدور ) أي الحزازات والأحقاد بين القبائل المتنافسة ، سواء على الزعامة  أو المكاسب أو على تراكم مستدعيات الثأر ، هي مذهب أولئك الأقوام ، وقد عبَّر أحد شعرائهم عن ذلك تعبيراً بليغاً بقوله :

 

        وقد ينبت المرعى على دمن الثَّرى     وتبقى حزازات النفـوس كما هيا

 

        والدِّمن جمع دمنة ، وهي الأماكن  التي يجمع فيها السماد وروث المواشي عامة . ومعلوم أن ما ينبت عليها من الخضرة النضرة النامية ، تعف عنها المواشي بالغريزة لقبح منبتها ، فلا تأكلها إطلاقاً ، فما ينبت على الدِّمن مستحيل أن يكون مرعى للأنعام . والجاهلي  هذا أراد أنه حتى ولو وقع هذا المستحيل ، فهناك مستحيل أكبر منه ، وهو أن تزول حزازات النفـوس ، أي إحن الصدور  وأحقادها . هذا المفهوم الجاهلي  ، الذي بلغ من الأقوام لُبَّ العظام ، أزاله الدين الحنيف  : الإسلام ، دين الله الحليم الكريم  والرحمان الرحيم . وسرعان ما غسل القلوب المؤمنة ، فطهَّرهـا من إِحن الجاهليـة وحزازاتها وأحقادها ، لذلك رأينا العباس بن مرداس السلمي ، هذا الشاعر الإسلامي الداخل لتوِّه  في الدين الكريم، يدعو أعداء  الأمس  إلى هذه الرسالة العالمية الإنسانية الأخلاقية  العظمى ،  التي هي الإسلام لله ، والأخوَّة في الله ، بعد ذاك التنافر والتحاقد ولؤم السرائر  وقسوة القلوب ، فجاءَت  دعوته ، عبر المعارك الضارية : ” … فقلنا أسلموا إنّا أخوكم… ” فتحاً  إنسانياً وأخلاقياً في جملة الفتوحات المباركة الكثيرة ، المتعددة المعاني ، التي فتحها  الله على الناس ،  حيث هم أسلموا وكانوا من المؤمنين وكانوا  من الصدِّيقين .

 

*  *  *

من قتل قتيلاً فله سلبه :

         قال ابن  إسحاق : وحدثني عبد الله بن أبي بكر  ، أنه  حدث عن أبي قتادة الأنصاري قال : وحدثني من لا أتهم من أصحابنا ، عن نافع مولى بني غفار أبي محمد  عن أبي قتادة : قالا : قال أبو قتادة :  رأيت يوم حنين  رجلين يقتتلان : مسلماً ومشركاً ، قال وإذا رجل من المشركين يريد أن يعين صاحبه المشرك على المسلم . قال فأتيته فضربت يده فقطعتها ، واعتنقني بيده الأخرى ، فوالله ما أرسلني حتى وجدت  ريح الدم ـ ويروى : ريح الموت  ، فيما قال ابن هشام ـ وكاد يقتلني ، فلولا أن الدم نزفه لقتلني ، فسقط ، فضربته فقتلته ، وأجهضني عنه القتال ، ومرَّ به رجل من أهل مكة  فسلبه ، فلما وضعت الحرب أوزارها  وفرغنا من القوم ، قال رسول الله (ص) : من قتل قتيلاً فله سلبه . فقلت : يا رسول الله ، والله لقد قتلت قتيلاً ذا سلب ، فأجهضني عنه  القتال ، فما أدري من استلبه ؟ فقال رجل من أهل مكة : صدق يا رسول الله ، وسلب ذاك القتيل عندي  ، فأرضه عني من سلبه . فقال أبو بكر الصديق  رضي الله عنه : لا والله ، لا يرضيه  منه ، تعمد إلى أسد من أسد الله ، يقاتل عن دين الله ، تقاسمه سلبه ؟! أردد عليه  سلب قتيله . فقال رسول الله (ص) : صدق فأردد عليه سلبه .  فقال  أبو قتادة :

 فأخذته منه ، فبعته  ، فاشتريت  بثمنه مخرفاً (1) فإنه لأول مالٍ اعتقدته .

 

*  *  *

اللهم اجبر مصيبتهم … وخروج مالك بن عوف :

 

        واستحر القتل  من بني نصر في بني رئاب ، فزعموا أن عبد الله بن قيس ـ وهو الذي يقال  له ابن العوراء ، وهو أحد بني وهب بن رئاب ـ قال : يا رسول الله هلكت بنو رئاب . فزعموا أن رسول الله (ص) قال : اللهم اجبر مصيبتهم .

        وخرج مالك بن عوف عند الهزيمة ، فوقف في فوارس من قومه على ثنية من الطريق ، وقال لأصحابه : قفوا حتى تمضي ضعفاؤكم ، وتلحق أخراكم . فوقف هناك حتى مضى من كان لحق بهم  من منهزمة  الناس .

 

*  *  *

اللهم اشهد عليه  :

        قال ابن هشام : وحدثني من أثق به من أهل العلم بالشعر ، وحديثه أن أبا عامر الأشعري  لقي يوم أوطاس عشرة إخوة من المشركين ، فحمل عليه أحدهم ، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام  ويقـول : اللهم اشهد عليه ، فقتله أبو عامر . ثم حمل عليه آخر ، فحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ، ويقول ، اللهم اشهد عليه ، فقتله أبو عامر . ثم جعلوا يحملون عليه رجلاً رجلاً  ، ويحمل أبو عامر وهو يقول ذلك ، حتى قتل تسعة ، وبقي العاشر ، فحمل على أبي عامر ، وحمل عليه أبو عامر وهو يدعوه إلى الإسلام ويقول : اللهم اشهد عليه ، فقال الرجل : اللهم لا تشهد عليَّ ، فكفَّ عنه أبو عامر ،  فأفلت ، ثم أسلم بعد فحسن إسلامه . فكان رسول الله (ص)  إذا رآه قال : هذا شريد أبي عـامـر .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     المخرف : نخلة واحد أو نخلات يسيرة إلى عشر .

 ورمى أبا عامر أخوان : العلاء وأوفى ابنا الحارث ، من بني جشـم بن معاوية ، فأصاب أحدهما قلبه ، والآخر ركبته ، فقتلاه . وولي الناس أبو موسى الأشعري  فحمل عليهما فقتلهما ، فقال رجل من بني جشم بن معاوية يرثيهما :

        إن الرزيـة قتـل العـلاء          وأوفـى جميعـاً ولم يسنـدا (1)

        هما القاتـلان أبـا عامـر          وقد كـان ذا هبَّـة أربـدا (2)

        هما تركـاه لدى  معـرك          كأن علـى عطفـه مجسـدا(3)

        فلـم  تر في الناس مثليهما              أقـل عثـاراً وأرمـى يـدا

*  *  *

المنهي عن قتلهم :

        قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أصحابنا : أن رسول الله (ص) مرَّ يومئذ بامرأة وقد قتلها خالد بن الوليد ، والناس متقصِّفون (4) عليها ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : امرأة قتلها خالد بن الوليد : فقال رسول الله (ص) لبعض من معه : أدرك خالداً فقل له : إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة  أو عسيفاً (5) .

*  *  *  

الشيماء أخت الرسول :

        قال ابن إسحاق : وحدثني  بعض بني سعد بن بكر : أن رسول الله (ص) قال يومئذ : إن قدرتم على بجاد فلا يفتلنكم  ، وكان قد أحدث حدثاً ، فلما ظفر به المسلمون  ساقوه وأهله ، وساقوا معه الشيماء ، بنت الحارث بن عبد العزى أخت رسول الله (ص) من الرضاعة ، فعنفوا عليها في السياق: فقالت للمسلمين :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ    

(1)     لم يسندا : لم يبق فيهما رمق .

(2)   ذاهبة : له سيف ذو هبّة ،  والهبَّة : الإهتزاز . 

(3)     المجسد :  المصبوغ بالجساد وهو الزعفران .

(4)     متقصِّفون : مجتمعون في ازدحام .

(5)     العسيف  : الأجير .

تعلموا  والله إني لأخت صاحبكم من الرضاعة ، فلم يصدقوها حتى أتوا بها رسول الله (ص) .

        قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن عبيد السعدي ، قال : فلما  انتُهِيَ بها إلى رسول الله (ص) ، قالت يا رسول الله ، إني أختك  من الرضاعة ، قال وما علامة ذلك ؟ قالت عضَّة عضضتنيها في ظهري وأنا متوركتك ، قال فعرف رسول الله (ص) العلامة ، فبسط لها رداءَه  ، فأجلسها عليه ، وخيَّرها ، وقال : إن أحببت فعندي محببة مكرمة ، وإن أحببت أن أمتِّعك(1)  وترجعي إلى قومكم  فعلت ، فقالت : بل تمتعني وتردني إلى قومي . فمتعها رسول الله (ص)  وردها إلى قومها: فزعمت بنو سعد أنه أعطاها غلاماً له يقال له مكحول ، وجارية  ، فزوجت أحدهما الأخرى ، فلم  يزل فيهم من نسلهما بقية .

 

*  *  *

شهداء حنين :

      قال ابن إسحاق :  وهذه تسمية من استشهد يوم حنين من المسلمين :

        من قريش ثم من بني هاشم : أيمن بن عبيد .

        ومن بني أسد بن عبد العزى : يزيد بن زمعة بن الأسـود بن المطلب بن أسد ، جمح به فرس له يقال له الجناح ، فقتل .

        ومن الأنصار :  سراقة بن الحارث بن عدي ، من بني العجلان .

        ومن الأشعريين : أبو عامر الأشعري .

 

*  *  *

بعض ما قيل من الشعر في حنين :

 

      وهذه بعض النماذج الرائعة من الشعر الذي قيل في حنين :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ  

(1)     أي أعطيك ما يمتعك أي ما يكون فيه متعتك وانتفاعك .

 

قال بجير  بن زهير بن أبي سلمى في يوم حنين :

        لـولا الإلـه لكنتـم  ولَّيتـم        حين استخـفَّ الرعـب كلَّ جبان

        بالجـزع يوم حبـا لنا أقراننـا      وسـوابحٌ  يكبـون  للأذقـان (1)

        من بين سـاعٍ ثوبـه في كفِّـه      ومقطَّـر بسنـابك  ولبــان  (2)

        والله  أكرمـنا وأظهـر ديننـا      وأعــزَّنا  بعبــادة الرحمــن 

        والله أهلكـهم وفرق جمعهـم    وأذَّلهـم   بعبـادة   الشيطــان

قال ابن إسحاق  : وقال عباس بن مرداس :

        يا خاتـم النبـاء  إنك  مرسلٌ    بالحـق كل هـدى السبيل هداكا

        إن الإلـه  بنى عليـك محبـة      في  خلقـه  ومحمّـداً  سمـاكـا

        ثم الذين وفـوا  بمـا عاهدتهم    جنـد بعثـت عليهـم الضحاكا

        رجـل به  ذرب السلاح كأنه   لما  تكنَّفـه  العـدو  يراكـا (3) 

        يغشى ذوي النسب القريب وإنما      يبغي رضـا الرحمـن  ثم رضاكا

        أنبيـك أني  قد رأيت مكـرَّه    تحـت  العجاجة  يدمغ الإشراكا

        طـوراً يعانـق باليدين  وتارة      يفري الجمـاجم صارماً بتَّاكا (4)

        يغشى به  هام الكماة ولو ترى منه  الذي عاينت كان  شفاكـا

        وبنـو سليـم معنقون  أمامه              ضربـاً وطعناً في العدو دراكا (5)

        يمشـون تحت لوائـه وكأنهم               أسد العريـن أردن ثم  عراكا (6)

        ما يرتجـون من القريب قرابة    إلاَّ لطاعـة ربـهـم وهواكـا

        هذي مشاهدنا التي كانت لنا          معـروفـة  ووليـنا  مولاكـا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     الجزع : ما  انعطف من الوادي . حبا : اعترض . سوابح : أي خيل سوابح وهي المسرعة . يكبون : يسقطون .

(2)     مقطر : ملقى على قطره ، أي جنبه . ولبان الفرس : صدره .

(3)     ذرب السلاح  : حدة السلاح .

(4)     بتاك : قاطع .

(5)     معنقون : مسرعون . دراك : متتابع .

(6)     العراك : المدافعة .

وقال عباس بن مرداس أيضاً :

        إمـا تَرَيْ يا أمَّ فـروة خيلـنا      منهـا معطلـةٌ  تقـاد وظُلَّـعُ (1)

        أو هي  مقارعـة الأعادي دمها فيهـا نوافـذ من جـراح تنبـع

        لا وفد كالوفد الأُلى عقدوا  لنا أزم الحـروب  فسربها لا يفزع (2)

        فهنـاك  إذ نصـر النبي  بألفنا   عقـد النبـي لنا لـواءً  يلمـع

        فـزنا برايتـه وأورث عقـده       مجـد الحيـاة وسؤدداً لا ينـزع

        وغـداة نحـن مع النبي جناحه   ببطـاح مكـة والقنـا يتهزع (3)

        كانـت إجابتنـا لداعي ربنـا     بالحـق منـا حاسـر  ومقنَّـع

        في كل سابغـة  تخيـر سردها     داود إذ نسـج الحديـد وتُبَّعُ (4)

        ولنا على بئـري حنين موكب   دمغ النفـاق وهضبته ما تقلـع

        نصر النـبي بنا وكنا معشـراً      في كـل نائبـة نضـر وننفـع      

        زدنـا غدائتذٍ  هـوازن بالقنا     والخيل يغمرها عجـاج يسطـع

        إذ خاف حدهم النبي وأسندوا         جمعاً تكاد الشمـس منه تخشـع

        تدعى بنوجشم وتدعى وسطه أفنـاء نصـر والأسنة شُرَّعُ (5)

        حتى إذا قال الرسـول محمّد            أبني سليم قد وفيتـم فارفعـوا

        رحنا ولولا نحن أجحف بأسهم بالمؤمنين وأحـرزوا ما جمعوا (6)

وقال عباس بن مرداس أيضاً في يوم حنين :

        عفا مجدلٌ من أهلـه فمتالعُ             فمطلا أريكٍ قد خلا فالمصانع(7)

        ديار لنا جُملُ إذ جُلُّ عيشنا            رخيٌّ وصرف الدار للحي جامع

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     الظلع : العرج .                              (2)     الأزم : الشدة .

(3)     يتهزع : يضطرب .

(4)     السابغة : الدرع الكاملة . السرد : النسج . تبع : لقب ملوك اليمن القدماء .

(5)     الأفناء : الجماعة ليست من أصل واحد ، الأخلاط .

(6)     أجحف : نقص .

(7)     مجدل : مكان . متالع : جبل . المطلاء : الأرض السهلة . أريك : موضـع . المصانع  : ما يجتمع فيها ماء المطر كالأحواض .

        حبيبة قد ألوت بها غربة النـوى لبينٍ فها ماضٍ من العيش راجـع

        فإن  تبتغي الكفار غير  ملومـة فإنـي  وزيـر للنبـي  وتابـع

        دعاني إليهم خير وفـدٍ علمتهم خزيمـة والـمُرَّار منهم  وواسع

        فجئنا بألف من سليم  عليهـم لبوس لهـم من نسج  داود رائع

        نبايعـه بالأخـشبيـن وأنمـا يـد الله بين الأخشبيـن نبايع (1) 

        فجسنـا مع المهديِّ مكة عنوةً بأسيافنا والنقع كـاب وساطع(2) 

        ويوم حنين حين سارت هوازن          إلينا وضاقـت بالنفوس الأضالع

        صبرنا مع  الضحاك لا يستفزُّنا قـراع الأعادي  منهم  والوقائع

        أمام رسول  الله  يخفق فوقنـا           لواء كخدروف السحابة لامع (3)

        عشية ضحاك بن سفيان معتصٍ       بسيف رسول الله والموت كانع(4)

        نذودُ أخانا عن أخينا ولو نرى         مصالاً لكنـا الأقربين نتابـع (5)

        ولكنَّ دين  الله ديـن محمّـدٍ             رضينا به ، فيه الهـدى والشرائع

        أقـام به بعد الضلالة أمرنـا              وليس لأمـرٍ حمَّـه  الله  دافـع

        في البيت الثامن من هذه القصيدة  قوله : فجسنا مع المهديّ مكة عنوة … يعني بكلمة المهدي محمّداً (ص) الذي اجتباه الله وهداه وجعله خاتم النبيين وأعزَّ المرسلين . وهل كان محمّد (ص) ضالاً حتى يقـال عنه ذلك ؟ طبيعي أن كل إنسان ، بل كل مخلوق لا يهتدي إلاَّ أن يهديه الله ، فإذا هداه سبحانه ، أصبح مهدياً ، وكلٌّ حسب موقعه ودرجته في الهداية وفي المهديين . قال تبارك وتعالى مخاطباً رسوله محمّداً (ص) :

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     الأخشبان : جبلان بمكة .

(2)     جسنا : وطأنا . المهدي : نبي الهدى محمّد (ص) . كاب : مرتفع . ساطع : متفرق .

(3)     خدروف السحابة : طرفها .       (4)     معتص : ضارب . كانع : مقترب .

(5)     يريد أنه من بني سليم ، وسليم من قيس ، كما أن هوازن من قيس ، كلاهما ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس . فمعنى البيت : نقاتل إخوتنا ونذودهم عن إخوتنا من سليم . ولو نرى في حكم الدين مصالاً ( مفعلاً من الصولة ) لكنا مع الأقربين هوازن :  ولكن دين الله دين محمّد          رضينا به فيه الهدى والشرائع

        { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى . وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى } . [6ـ7: الضحى].

        وهذا كلام واضح صريح ، لا يقبل التفافاً ولا تأويلاً . محمّد (ص) بشر، في أحسن الحالات خلقه الله من الماء ، قوله تعالى : {… وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ … } . [ 30 : الأنبياء ] . وقوله سبحانه : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاء بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا } . [ 54 : الفرقان ] .

        وقد أعلم سبحانه محمّداً (ص) وأعلم الناس كافة عن الطبيعة والماهية البشرية لمحمّد (ص) بقوله تبارك وتعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا } . [ 110 : الكهف ] . وما دام محمّد (ص) بشراً { مِّثْلُكُمْ } أي مثل بقية البشر ، فإن الله سبحانه قد خلقه إذن ، كذلك من تراب ـ كما نص في كثير من الآيات القرآنية ـ إضافة إلى الماء ، وهذان العنصران : الماء والتراب ، يلتقيان في النتيجة  في معنى واحد ، هو الطين .

        قال سبحانه مخاطباً محمّداً (ص) والبشرية جمعاء : { وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}.[11 : فاطر ] . وقال عزَّ شأنه : { إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ . فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } . [ 71ـ72 : ص ] . وقال عزَّت عظمته مخاطباً رسوله (ص) : {… قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً } . [ 93 : الإسراء ] .

        هذه الحقيقة التي  لا يجادل فيها إلاَّ جاهل أو معاند أو عاصٍ مصر على المعصية ، أو راد على الله ورسوله (ص) . والراد على الله ورسوله مأواه جهنم وبئس المصير .  وأقل هذه الدرجات  هو الجهل مع حسن النية ، إذ عسى أن يكون الجهل مع القصور ـ إذا لم يداخله الشرك ـ مغفوراً .

        نقول هذا بإذن الله تبارك وتعالى ، وننبه لأمر خطير ،وخطورته كونه في كُتَيِّبٍ كثير التداول ، لا سيما بين أيدي الطلبة الدينيين ، حيث أنه مقـرر ضمن

منهاج الدراسة ، في السنوات  التأسيسية الأولى ، أي أن الطالب يبني على أساسه  عقيدته ، ثم يتخرج ، بعدُ ، بين محدِّثٍ أو واعظٍ أو كاتبٍ ، أو كل ذلك ، ليعلِّمه للناس ، ومن ثم ليؤسس عقائدهم عليه . هذا الكُتَيِّب إسمه كما هو على الغلاف : ” التربية الدينية ـ دراسة منهجية لأصول العقيدة الإسلامية ” لمؤلفه عبد الهادي الفضلي .  فقد جـاء في الصفحة (60) وتحت عنوان ( شروط الإمامة ) ما يلي : [ ومن الآيات القرآنية التي تفرض  أن يكون الإمام  عالماً بالشريعة  علماً كاملاً ، قوله تعالى : { … أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ؟!} . [ 35 : يونس ] . يخاطب الله الناس بأسلوب الإستفهام ، فيقول لهم  : أيهما  أحق أن يقتدى  بسيرته ، ويرجع إليه  في معرفة الشريعة الإمام الذي يهدي إلى الحق ( وهو العالم بالشريعة علماً كاملاً ) … أم الإمام الذي لا يهدي إلى الحق ، وإنما  يحتاج إلى أن يهديه غيره إلى الحق ( وهو الذي لا يعرف الشريعة معرفة تامة ) ؟ ! ] . انتهى كلام المؤلف الفضلي .

        وهذا تحويرٌ واضح لمقصد الآية وقلب لمضمونها ، نعتقد فيه الجهل مع حسن النية ، إذ أن مؤلف الكتاب ، هو على ما نعلم ، من الفضلاء المشهود لهم عند الخاص والعام ، وإنما هي كصبابة ماء ، يظنُّ ماءً عادياً ، وإذا هو من النوع الذي فيه الهيدروجين الثقيل .

        هذه الآية : {… أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن  يُهْدَى…}  هي جواب لسؤالين قبلها . وحتى  تفهم الإجابة ، ينبغي  أن يفهم  السؤال . كما أنه من قلب المفاهيم أن تذكر الإجابة دون أن يعلم السؤال .

 

        والسؤالان قبلها ، هما في قوله تبارك وتعالى :

 

       { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ . قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ  } . [ 34 ـ 35 : يونس ] .

         ولعلَّ هاتين الآيتين ، مع ثمان آيات في سورة النمل ، من بداية الآية 59 إلى نهاية الآية 66 ، هي أوضح الآيـات الكاشفة عن أصل الأصول الذي هو التوحيد .

        فأولاً وآخراً ، وظاهراً وباطناً ، إنما يجب أن يكون الإتِّباع لله عزَّ وجل ، أي لتعاليمه ، سـواء كانت في كتبـه أو عبر أنبيائه وأوليائه والأئمة المهديين أجمعين .

        فما من مخلوق يستطيع أن يهدي أحداً دون أن يهديه الله ، وما من مخلوق يعلم شيئاً أو يمكنه أن يعلِّم أحداً دون أن يعلِّمه الله .

        فإذا كان امرؤ هادياً أو صحَّ أن يسمىَّ هادياً ، فإنما يكون بفحوى أن الله  من قبل هداه ، فجعله هادياً بما هداه هو سبحانه .

        أما قولنا عن أي مخلوق ، حتى عن جبرائيل عليه السلام ، أنه يهدي دون أن يهدى . فهذا خروج من الدين وتجديف على رب العالمين .

        وخلاصة هذا الموضوع نجدها محكمةً إحكاماً يقطع القول على كل من  كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . ذلك لأنه إحكام إلـهي جعله الله حجة دامغة على الأولين والآخرين ، هو قوله تبارك وتعالى في آخر آيتين من سورة الشورى :

       {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ  } . [  52 ـ 53  : الشورى ] .

        فقول الله عزَّ وجل مخاطباً رسوله محمّداً (ص) : {… مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ …} واضح الدلالة على أنه محمّداً (ص) ، قبل إنزال الوحي عليه لم يكن بإمكانه أن يهدي أحداً من خلق الله . وإنما أصبح عنده هذا الإمكان ، بعد أن أوحى إليه ربه روحاً من أمره سبحانه جعله نوراً يهدي به من يشاء من عباده ، محمّداً (ص) وغير محمّد ، ممن اجتباهم الله أو يجتبيهم في عمر البشرية . وأي نبي أو إمام أو مهديٍّ  مميز عند الله ، إما أن يكون أدنى منزلة من محمّد (ص) وإما في أحسن الإعتبارات مساوياً لمحمّد (ص) ، وفي كلا الحالين ، ينسحب عليه ما ينسحب على محمّد (ص) ، من أنه قبل أن يعلِّمـه الله أو يوحي إليه ، كان جاهلاً، لا هادياً ولا مهدياً ، حتى إذا أصبح ذا استعداد  وأهلية علَّمه الله وتفضل عليه بالهداية أو أوحى إليه . أصبح عالماً نسبياً تابعاً لله ولعلم الله ، وهادياً نسبياً تابعاً لله ولهداية الله ، بالقدر الذي يشاؤه له الله سبحانه ويضعه فيه . أما الإطلاق في العلم  والهداية وفي كل خير ، فهو لله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .

        ذلك ما بيَّنه الله سبحانه في آخـر الآية الأولى بعد قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ … مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ … } قوله عزَّ وجل  بعد هذه المقدمة التي هي أساس العلم الحق وأساس المعرفـة الحقـة عند الخلائق : {… وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ } وفحوى القول : وأنت يا  رسول الله  يا محمّد ، ويا رسل الله إبراهيم وموسى وعيسى ، ومن جاء قبلكم وبعدكم من أولياء الله الصالحين  عليكم السلام  أجمعين ، أنتم من جملة ما في السماوات  وما في الأرض  ملك لله  تبارك وتعالى وفي قبضته  سبحانه . جميعكم بشر مما خلق ، هو اجتباكم وهداكم إلى صراط مستقيم .

        اللهم : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ  ، إهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّاَلِّينَ}.[5 _7 : الفاتحة ( الحمد ) ] .

 

        هذه الآيات في سورة الحمد ، التي لا تقوم صلاة النبي ولا الولي ولا أي إمام  ولا أي مسلم بدونها . كان يصلي بها محمّد (ص) ويؤم بها المسلمين . وفي  جميع صلواته  ، كما هو واضح ، كان يسأل الله الهداية لنفسه ولجميع خلق الله ، كما علَّمه وهداه الله سبحانه وتعالى عما يشركون .

        فقوله عزَّت عظمته : { …أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى…} معناه أن الله عزَّ وجل وحده ، هو أحق أن يتبع لأنه هو يهدي وهو الهادي أصلاً وأصالة لجميع المهديين من خلقه ، وليس من شركائكم  أيها الناس من يستطيع أن يهدي أحداً دون أن يهديه الله جلَّ جلاله. و{… الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ}. [ 43 : الأعراف ] . وهذا  القول الذي هو تعليم من الله ، يتقرب به إلى الله ، الأنبياء والأئمة والمرسلون ، والمؤمنون أجمعون .

        أما غير الله ، أي جميع من خلق الله من ملائكة وجن وأصناف بشر ، مما نعلم ومما لا نعلم ، فيستحيل على أحد منهم أن يكون هادياً أو مهدياً ، حتى يهديه الله الذي لا إلـه إلاَّ هو الحي القيوم السميع البصير .

        وأما أن يتصدى بعضهم للآيات البينات ، يجتزئون منها أو يحرفونها ، أو يوظفونها في غير مقاصدها ، منفعلين بروايات ، تحتاج دائماً إلى التحقيق والإسناد الصحيح ، وبعد كل ذلك ، العرض على كتاب الله ـ كما أوجب ذلك النبي والصادقون الصدِّيقون صلىَّ الله عليهم وسلَّم ـ حيث يتساقط أكثرها ، فهذا من عدم التوقير والإجلال والتعظيم لله رب العالمين ولكتابه ولآياته . ولا سيما إذا كانت تغني عن الرواية ، أو تحسمها رداً أو قبولاً ، سلباً أو إيجاباً . حيث أن الروايات  والأحاديث هي في خدمة الآيات  ، وليس العكس أبداً ، ومعلوم أن جميع الآيات ، خلاصتها النهائية هي الدعوة إلى الله وإلى اتباع تعاليم الله لإحراز رضاه ورضوانه في الدنيا والآخرة .

        أما من كان  مصداقاً لقول الله عزَّ وجل : {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا }.  [ 16 : المدثر ] . بعد أن أعطاه الله ومهَّد له ليؤمن ويرعوي ويفهم ، فسيرهقه صعوداً ، أي مشقة وعنتاً في الدنيا ويصليه النار في الآخرة ، كما سنرى بعد قليل عند ذكرنا لآيات رائعات من سورة المدثر ، يستشعر المتأمل فيها ، الخوف والرهبة والخشوع والإسراع  باللجوء إلى رب العالمين .

     فليتق الله المؤمنون المعاندون قبل فوات الأوان ، قوله عزَّ وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . [ 7 : التحريم ] .

أما عن المعاندين الذين أنعم الله عليهم ليهتدوا ويؤمنوا بآياته ، ويكبروا الله على ما هداهم ويشكروا له عامة نعمه ، فأدبروا واستكبروا ، فيقول سبحانه وتعالى في آيات تهزُّ أعماق الصخر وكلَّ من كان فيه ذرة من عقل أو هداية ، وتعيده إلى تقوى الله وتوحيد الله وتدبر آيات الله ، تعبُّداً وحباً ودون إصرار على شرك أو ضلالة ، أو بدعة أو جهالة :

        {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا. وَبَنِينَ شُهُودًا. وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ.كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ. لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ. عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ …} . [ 11 ـ 30  : المدثر ] .

وقال عباس بن مرداس  أيضاً في يوم حنين ، من قصيدة :

        غداة  وطأنا المشـركين ولم نجـد     لأمر رسول الله عدلاً ولا صرفا

        ببيض نطيـر الهـام  عن مستقرها            ونقطف أعناق  الكماة بها قطفا

        رضا الله ننوي لا رضا الناس نبتغي       ولله  ما يبدو جميعـاً وما  يخفى

وقال أيضاً ( من قصيدة )  في حنين :

        يا  بعد منزل من ترجـو مودتـه  ومن أتـى بعده الصمـان فالحفر(1)

        دع ما تقدم من عهد الشباب فقد     ولَّى الشباب وزار الشيب والزَّعر(2)

        قوم هم نصروا الرحمـن  واتَّبعوا       دين الرسـول وأمر الناس مشتجر

وقال أيضاً في حنين ( من قصيدة ) :

        وعلى حنين  قد وفى من جمعنـا          ألف أُمِدَّ  به  الرسـول عرندس(3)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(1)     الصمان والحفر : موضعان . (2)   الزعر : قلة الشعر أو تفرق الشعر فوق الرأس .

(3)     عرندس : شديدة .

          كانـوا أمام المؤمنيـن دريئـةً       والشمـس يومئذ عليهم أشمـس

          نمضي ويحرسنا الإلـه    بحفظـه  والله ليس بضائـعٍ مـن يحـرس

        ولقد  حبسنا بالمناقب محبسـاً          رضي الإلـه به فنعم المـحبـس

قال ابن إسحاق : وقال عباس بن مرداس أيضاً ( من قصيدة ) :

        من مبلغ الأقـوام أن محمّـداً     رسول الإلـه راشد حيث يـمَّما

        دعا ربـه واستنصر الله وحده   فأصبح قـد وفَّـى إليه وأنعمـا

        سرينـا وواعدنا قديراً  محمّداً            يؤم  بنا أمـراً مـن الله محكمـا

وقال خديج بن العوجاء النصري  (وهو مشرك يتوجع على قومه وقد باؤوا بالخسران والندامة ، وبمفهوم أهل الشرك يصف قوة أنصار الله الذين قادهم محمّد (ص) :

ولما  دنونا من  حنـين ومائـه      رأينا سـواداً  منكر اللون أخصفا(1)

بملمومةٍ شهباء  لو قذفوا  بهـا     شماريخ من عزوى إذن عاد صفصفا(2)

ولو أنّ قومي طاوعتني سراتهم      إذن  ما لقيـنا العارض المتكشِّفـا(3)

        إذن ما لقينا  جند آل محمّـد      ثمانيـن ألفـاً واستمدوا  بخندفـا(4)

*  *  *    

        إنتهيت من تأليفه بحمد الله وبعونه تبارك وتعالى في 25 شوال 1414 هـ الموافق 6 نيسان 1994 م . في قرية عربصاليم اللبنانية العاملية . والحمد لله رب العالمين .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     سواداً : أشخاصاً . الأخصف : الملون .

(2)     الملمومة : الكتيبة المجتمعة . شهباء : كثيرة السلاح . الشماريخ : أعالي الجبال . صفصفا : مستوياً بالأرض .   (3)      العارض : السحاب . المتكشف : الواضح . يشبه به جنود المسلمين .       (4)      خندف : إسم قبيلة .