تعريف الموت

 

تعريف الموت

الموت هو فصل النفس عن البدن .

        أو بعبارة أخرى :

       الموت هو انفصال العنصر الفاعل الإنساني الذي هو النفس الباقية ، عن العنصر المنفعل الظرفي الذي هو البدن الفاني .

        أو بتعبير آخر :

       الموت هو تحرير عنصر الحياة من قالبه الجسدي ( المادي بالمعنى المتعارف ) .

        ولهذا،ولجمال ما بعد الموت للمؤمنين في الحقيقة،قال تبارك وتعالى كما رأينا في الآية 157 من آل عمران ، التي نحن بصددها : { وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } .

        ثم يردف قوله تبارك وتعالى بعدها:{وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ}.

        وما زال الخطاب للمؤمنين لأنه في سياق قوله تعالى :{  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ … الآية } فقوله تعالى : { وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ …}أي لئن قتلتم في سبيل الله دفاعاً عن دينه ملبين لأمره في مجاهدة أعدائه باليد أو القلم أو اللسان ـ ما لم يستدع الأمر قتالاً ـ فدرجاتكم درجات الشهداء،{ أَوْ مُتُّمْ } مؤمنين بالله وكتبه ورسله وملائكته واليوم الآخر وعملتم الصالحات ،فدرجاتكم درجات الصديقين .وكلما كان الحشر إلى الله ،أقرب مكانة ومنزلة عنده سبحانه كلما كان الأمر أعلى وأسمى.وذلك في قوله تبارك وتعالى : {…لإِلَى الله تُحْشَرُونَ }.فيجعلكم في درجاتكم ومنازلكم ، وهي وإن اختلفت نوعاً وكمّاً ،إلاَّ أنها بمجموعها درجات نعيم ورضى ورضوان ،{ولرضوان الله أكبر لو كانوا يعلمون}،هذا،وليس الحشر إلى الله مقتصراً على المؤمنين،فالحشر إلى الله ، هو حشر يوم القيامة ، يوم تحشر فيه جميع الخلائق ، قال عزَّ وجل : { يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا }.[ 85 : مريم ].وقال سبحانه { لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعًا} .[172: النساء] .

الأخلاق توفيق من الله … والنصر ليس من النبي

        وفي سياق مجموعة الآيات التي في سورة آل عمران،والتي تتعلق بواقعة أحد،قول الله تبارك وتعالى :

       { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ.وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}.[159ـ 161: آل عمران ] .

لماذا الآيات …  ولماذا القرآن  ؟  …

        قبل أن نبدأ بشرح هذه الآيات الكريمة ،نتدارك رد فعل قد يحصل عند بعض القراء،ناتجاً عن اعتمادنا في حصحصة الركائز الإعتقادية والنفسية والإجتماعية،على آيات من القرآن الكريم،بما في ذلك تقريرات تحقق في السلوك الإنساني وتفصل بين ما هو واجب منه أو مستحب مستدع لرضى الله سبحانه وبين ما هو منكر ضارٌّ بالشخصية الإنسانية،وكل ما يضر بالإنسان ، لا يحبه الله ، فهو يستدعي غضبه ومقته وعقوبته سبحانه .

        وردُّ الفعل هذا الذي نحتمله،ونتوقعه،قد حصل لنا في كثير من لقاءاتنا مع إخوان لنا،كانوا رغم تدينهم،يحتجون على أمور اعتقادية صرفة،بروايات وأحاديث وحكايات غير محققة،وكونها مكتوبة في بعض الكتب ومسندة زوراً إلى نبي أو إمام أو ولي من أولياء الله ، فهم يعتبرونها مقدسة ونهائية، فيتعبَّدون بها ، وتكوِّن عندهم بمرور الزمن عقيدة ثابتة،حتى إذا اكتشف أحد الناس زيفها وبطلانها،ونسبتها كذباً إلى أولياء الله،صعبت زحزحتها من نفوسهم،وشرعوا يجادلون بالمحال،وبحماس أعمى وأصم،تتراوح درجته بين الإقفال المطلسم وبين الإنفتاح التدريجي أو الفجائي عند الذين يريد الله بهم خيراً .

        ولذلك كله،وبسبـب من انصرافٍ عريضٍ من الناس عن كتاب الله المجيد، انصرافاً جعلهم في أُمِّية حقيقية بالنسبة لآياته البينات،وثقافة واسعة فيما هبَّ ودبَّ من الروايات المكذوبة عند العلماء والمحققين ، يتلقفونها من كتب تجارية ، تستثير مشاعر البسطاء ،وتعلمهم عن طريق الإثارة العاطفية ،ديناً هجيناً مليئاً بالبدع والترهات.حتى إذا واجهت هؤلاء الناس بآية قرآنية مما قال الله سبحانه ، صدفوا ووجموا،ثم قالوا أو تهامسوا : ولكن كيف نفهم القرآن ؟ يقولونها وكأن القرآن كتاب طلاسم،لا يفك عقدها إلاَّ أهل الإختصاص.وهذا من أعجب الأعاجيب في الحقيقة،لأن القرآن وإن كان فيه بعض الأسرار والخصوصيات المرصودة للراسخين في العلم ،إلاَّ أنه في معظمه ،وضع للناس بجميع درجاتهم ،حتى الأُميّ الذي لا يقرأ ولا يكتب ،إذا عزم متوكلاً على ربه ،ربِّ القرآن ، ورب العالمين ، يستطيع ببساطة أن يفهم القرآن ، وسع طاقته ، حيث { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا …}.[286 : البقرة ]كما يستطيع أن يحفظ القرآن بعضه أو كله .

        ثم من الدواهي الدهياء ، الإنصراف عن القرآن ، والتعبُّد بغيره ، حيث أن الإلزام هو التعبُّد به كونه كتاب الله وكلام الله ، فضلاً عن أن الله سبحانه قد أمر بذلك في أكثر من نصٍ مفحم ملزم .قال عزَّ وجل:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا  } .[24:محمّد] ،وفي ذلك ذمٌّ وتحقير وغضب على الذين لا يقرأون القرآن ولا يهتمون بمعانيه وتفسيره والتعبُّد بآياته البينات،حتى بالدعاء بآيات القرآن،كما أسلفنا في موضوع عقدناه لهذه الغاية في هذا الكتاب،فراجع،وقال سبحانه:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } . [ 31 : سبأ ]  

        وهذا يعني ،أن بعض المستكبرين ،كما في نص الآية الكريمة ،الذين هم في مواقع التأثير والتوجيه والإستقطاب ،يجعلون أتباعهم يبتعدون أو يزهدون بكتاب الله ، وبعضهم  ، تحت تأثير وراثي ، أو عاطفي ، أو تعصبي ، يقـود الأتباع ، إلى التعبد بروايات وأحاديث مزعومة عن النبي والأئمة والأولياء ،ويا ليتها تكون حقيقة صادرة عن النبي والأئمة والأولياء . لأنها إذا كانت كذلك ، فستكون إما وحياً وإما إلهاماً ، وإما تفسيراً لآيات القرآن المجيد ، وبالتالي  ستكون دعوة إلى الله ، وتعبداً بشريعته وأحكامه وتعاليمه . ولكنها بإجماع العلماء ، إن لم تكن محققة لا سيما بقبول القرآن الكريم لها ، فهي مدسوسة أو مختلقة وما أكثر ما دسَّ تاريخ الزندقة والإسرائيليات والعصبية العمياء ، في هذه الروايات ، مما يستحيل على المؤمنين العاديين أن يميزوا بين الصحيح منها وبين الكاذب .

        وما دام الأمركذلك ، فلماذا هذا الإعراض العجيب ، عن القرآن  الكريم وهو العين الصافية ، والينبوع العذب الزلال ، والإقبال على ما فيه الريب والمسؤولية أمام رب العالمين ، التي ربما تكون عاقبتها جهنم وبئس العاقبة ، وبئس المصير .

        وإذا كان لا بد من الأخذ بروايات صحيحة لا بد منها،وهوكذلك، فليترك ذلك للعلماء وأهل استنباط الفتوى وأهل الفقه والرواية  والدراية .أما أن يتصدى العامة ،هذا التصدي المرعب،إلى التعبد بالروايات بديلاً عن كتاب الله  وكلام الله جلَّ وعلا،فهو مما يعرض الأمة بمجموعها للإنحراف وهو واقـع الآن بها،والمعاناة منه شديدة،تحتاج من كثير من  العلماء إلى موقف حاسم وحازم وجريء،ربما يقتضي تضحيات في سبيل الله وسبيل  الدفع عن دينه والدعوة إليه سبحانه وإلى كتابه المجيد،الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،قال تبارك وتعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}.[39:الأحزاب] فمن لهذا الأمر إذن،إذا بقي العلماء الحقيقيون الأفاضل ساكتين،وبقيت المشكلة تتفاقم وتتعقَّد،وتستدعي غضب الله ونقمته على الجميع ؟

ولماذا الآيات ؟ ولماذا القرآن ؟

        في مثل هذا الموضوع : ” الأخلاق توفيق من الله …  والنصر ليس من النبي ” الذي اخترناه عنواناً لثلاث آيات ، في سياق آيات واقعة أُحُد . قلنا في مثل هذا الموضوع : ” الأخلاق … والنصر … ”  يخوض الكتَّاب والمفكرون فيه خوضاً عجيباً ، حتى أن آخر مطاف أوصلوا الأخلاق إليه هو مطاف الجدلية الفلسفية  ، وآخر محطة أوصلوا إليها النصر وأسبابه ، هي المحطة الحديدية ، أي الكثرة والقوة الظاهرية .

        وبما أن الأمثلة الكثيرة على أرض الواقع ، ترد هذين المزعمين ، فتحمل الأخلاق من جهة على الأصالة والإختيار ، وتحمل النصر على النوايا والإعتقاد ثم تحمل الجميع على علم الله عزَّ وجل ومشيئته وتقديره وقضائه .

        ويستحيل أن تُفْهَمَ أبعاد هذه القضايا ، من علم النفس أو علم الإجتماع ، أو بقية العلوم الإنسانية ، مجردةً عن حاكمية الله ، ورقابته ، ومشيئته وهندسته للأمور ، ثم حسمها بما يسمى حتمية القضاء ، قضاء الله تبارك وتعالى .

لذلك الآيات … ولذلك القرآن 

        فعِلْمُ الله تعالى بالأمور ، ثم مشيئته ، ثم تقديره ، ثم قضاؤه ، تلك هي المقدمات والنتائج وما بينهما لكل حدث أو واقعة أو أمر من الأمور ، ليس على أساس مبدأ الجبر والتحكم ، ولكن على أساس مبدأ السببية والإختيار النسبي ، الذي يحفظ للإنسان حريته ضمن الموازين ، التي لا تضر بمصلحة الفرد الشخصية من جهة ، ولا بمصلحة المجموع الإنساني من جهة ثانية . فإن أضرت بإحدى الجهتين أو بكليهما ، كانت العقوبة المطابقة لنسبة الضرر، عدلاً ، اقتضاه الشرع ويقتضيه العقل ، وكلاهما ميزانان متداخلان في ميزان واحد ، هو هبة الله ، وتكريمه لأهل الكرامة من خلقه ، وذلك في قوله تبارك وتعالى : { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ … } . [ 17 : الشورى ] .

       

لذلك ، وبسبب من ذلك ، كان اعتمادنا على الآيات البينات في القرآن الكريم ، وسيلةً لضبط المسار ، وعدم التعرض للمطبَّات الفكرية والإعتقادية ، وبالتالي لإبراء الذمة ، في سلوكنا طريقاً ، هو الأقصر والأقدس بين الدروب والمسالك : هو الدعوة إلى الله .

        والآن ، يطيب لنا الرجوع  بإذن الله تعالى ، إلى الآيات الثلاث  التي اخترنا لها ذياك العنوان : ” الأخلاق توفيق من الله … والنصر ليس من النبي ” . فقول الله تبارك وتعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ } ، هو الله إذن سبحانـه وتعالى ، ليَّن قلب محمّد (ص) على القوم ، بعد أن أغاظوه غيظاً شديداً باتهامهم إياه وتفرقهم عنه وإفراده عرضةً لسيوف العدو وحجارته وهجماته ، ولولا أن أُشيع أن محمّداً (ص) قتل ، لما رجع القوم المشركون إلى ديارهم ، مزهوين بالنصر وبالخلاص من محمّد ومن دين محمّد (ص) . وغيظ محمّد (ص) من المسلمين الذين فرُّوا من المعركة أمر طبيعي ، وكذلك افتراض خشونته وغلظته عليهم حين يلقاهم وإظهار أسفه وغضبه ، ولكن كل ذلك الذي كان بديهياً ومحتملاً لم يحصل ، وإنما حصل مكانه الرفق واللين والتسامح ، كذلك بتوفيق من الله سبحانه وأمر منه لرسوله (ص) بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم الله ربهم ويشاورهم في الأمر، وكل ذلك يعتبر قمة في الأخلاق التي كانت رائدة لمحمّد (ص) من ربه الحليم الكريم ، والتي جعل بها محمّداً (ص) رائداً أخلاقياً وعسكرياًُ على مستوى التاريخ الإنساني . تتلمذ محمّد (ص) على عظمة ربه وحلم ربه ، ورحمة ربه رب العالمين ، ونجح ، فكان رسول الله المفلح المنجح ، وكان القائد العسكريَّ الفذ ، الذي ما زالت تستلهم سياسته الميدانية وخططه الرائعة ، وكيفية استفادته حتى من الهزيـمة في عبقرية تعامله مع جنده من جهة ومع العدو من جهة ثانية .

        هل هي قابلية محمّد (ص) وقدرته على التعلم من ربه المجيد رب العالمين ؟ نعم ، هذا صحيح ، وإنما ماذا كان فعل محمّد (ص) بذكائه الفذ وقابليته وقدرته ، لو لم يعلمه الله ،ولو لم يسدِّده الله ،ولو لم يؤيده الله تبارك وتعالى ،وعزَّ وجلَّ شأنه ،

 

وكذلك لو لم يليِّن قلبه الله سبحانه على عسكره الذي خذله ، وجنوده الذين تفرقوا عنه وحتى شككوا آنذاك بصدقه وبنبوَّته ، كحصيلة نفسية فورية لتلك الهزيمة المنكرة ؟

فلنتأمل في صنـع الله في نفس محمّد (ص) : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ } أي برحمة من الله وحده ، وليس منك ولا من أحد غيرك ، هذا درس أول ، وبعده التعليل : { وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } والفظاظة : الخشونة والشدة  . وغلظة القلب : الجفاء والقسوة فيه ، والإنفضاض من حوله : التفرق عنه . وهذا درس نفسي وأخلاقي واجتماعي ثانٍ . { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } العفو عنهم هو أن لا يبقي في نفسه أي شعور سلبي بخصوص أحد منهم ، فالعفو والمحو سيان . { وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ } الله ربهم ، فاستغفارك أنت لهم أدعى لراحتهم النفسية لعلمهم بدرجتك المميزة عند ربك وربهم ، ولمعرفتهم بأن دعاءَّك عنده سبحانه مستجاب . { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ } تداول معهم الرأي ، تأنيساً للجفاة منهم ،والذين ما زال فيهم بعض حب الجاه ، فضلاً عن أهل الخبرة والتمرس في الحروب والمواطن والمواقف . وهذا سبق إسلامي تاريخي في مجال الأخلاق والإخلاص لله والديمقراطية.ويبقى قوله تبارك وتعالى{ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ } فإذا عزمت طبعاً ، بتسديد وتوجيه من الله سبحانه إما عملاً بأمر الله ، بوحي أو نص أو حكمة يؤتيها سبحانه ، وإما بخلاصة الشورى ، ولذلك آداب تحفظ كرامة المجموع ربطاً بكرامة الأمة ، وتتيح المخارج  المنجحة  ما دام الإجتهاد في سبيل الله سبحانه وحسن التوكل عليه . وذلك في قوله تبارك وتعالى : { إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } . وذلك من أعظم عطاءات الله سبحانه ومننه ، أن يحب من يتوكل عليه ، مجاهداً مجتهداً ، وفاعلاً ومنفعلاً برقابة الله وقيوميته ، وتأييده وتسديده . هو الناصر ، وهو الغالب ، لا ردَّ لحكمه ، ولا جدال في قضائه . قوله تبارك وتعالى : { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } وهذه قاعدة إلـهية  لا تقبل المناقشة . { وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } . [ 29 : التكوير ]  فلو أن قوماً  أعدُّوا العدَّة والعدد فقط للنصر ، ما انتصروا ، إلاَّ أن يأذن الله تعالى أو يقدِّر لهم ويقضي ، سواء كان ذلك في جاهلية ، أو في إيمان وإسلام ، إذ لا بدَّ دائماً من مرجِّحٍ لأحد الفريقين المتحاربين . فإذا تساويا كانا مصداقاً لمقولة لا غالب ولا مغلوب  ، وهو سبحانه القاهر الغالب فوقهما ، هذا في تاريخ ما تحت السماء الدنيا وما فوقها ، إذا كان في مكان ما ، غير هذه الأرض قتال .

إلاَّ أن هناك سنّة من سنن الله ، غير { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ } تتفرع عن هذه . وهي أنه سبحانه قضى بنصر المؤمنين بشكل عام ، على الكافرين بشكل عام ، في عمر الدهور ، وجعل لذلك أسباباً ، أولها أنه  هو سبحانه مسبب الأسباب ، فالواجب التوجه إليه في طلبها وتوفيرها ، أو توقُّعها من خلال حسن التوكل عليه سبحانه ، والتسليم لأمره وذلك بالتقوى والصلاح والإستقامة :  {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَـلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } . [ 2ـ3 : الطلاق] . وثانيها ، صدق النية في المواقف ، وصدق العزيمة ، فأيّ شك برقابة الله سبحانه وبرعايته وبهيمنته على الكون وإحاطته بالأمور والنفوس والنوايا ، يعرِّض الموقف للخطر ، خطـر الهزيمة أمام  الأعداء ، ولو كانوا كفاراً أو مشركين ، وسواء كان ذلك على صعيد الأفراد ، بمعنى أنه إذا أخل بهذه الموازين النفسية والعملية أفراد ، فإن العقوبة  الميدانية أو المؤجَّلة ، من الله ، تقع عليهم دون المجموع . أو كان الإخلال من المجموع ، أو المجاميع ، أو الأمة كلها . فإن كانت نسبة رضى الله سبحانه عليهم معقولة ، كانت نسبة النصر مرهونة بتلك النسبة . وإن كان غضبه هو الواقع على هذا المجموع أو ذاك ، أو على الأمة ، وخاصة بسبب الولاء . حيث أنه سبحانه يفرض الولاء فرضاً واجباً بالأصالة له وحده ، كما أسلفنا في هذا الكتاب . فإذا كان الولاء لكفرة أو لفجرة أو مشركين ، أو علمانيين ، أو مسلمين مرتدين عن الإسلام إلى جاهلية بائدة ، أو عرقية قومية ، أو مذهبية فيها شق عصا الإسلام ، أو حضارة مزعومة معاديـة لأحكام الله وتعاليمه  

 

وتشريعاته ، إذا كان الولاء لبعض هذه القوى أو لجميعها ، فهو الخذلان لا محالة ، وبالخذلان تكون الهزيمة المنكرة ، التي قد تطول أمداً وأعواماً طويلة ذليلة ، كما هو الحال اليوم بالنسبة للأمة التي تسمى إسلامية . هذا الكلام عن الخذلان والهزيمة وأسبابها يقودنا إلى فهم قوله تبارك وتعالى ، بجلاءٍ ووضوحٍ أكثر فأكثر في بقية الآية التي هي سُنَّة في الدهر من سننه سبحانه :{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ } . [ 160 : آل عمران ]  .

أما قوله جلَّت عظمته : { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يعني أن تتوكل على الله معناه أن تتشرف بتسليمه أمرك وتجعله وكيلاً عنك في إيصالك إلى هدفك، أو أي أمر ترجوه حلالاً مرضياً عند الله تبارك وتعالى . وما دام الكلام في الآية عن النصر وأنه من عند الله وحده ، فينبغي عليك قائداً كنت أو مقوداً لكي تحصل على النصر ، أن تتوكل على الله . والتوكل غير التواكل ، إذ أن التوكل أمر إيجابي مأمور به المؤمنون ، أمر عزيمة تحت طائلة المسؤولية ، ذلك قوله تبارك وتعالى : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّه } وأن تعزم يعني أن تصدق نيتك كمقدمة للعزيمة أو العزم على أمر ما ، والموضوع هنا هو القتال بغية النصر على العدو ودفع شره وعدوانه .وللعزم كذلك بعد النية مقدمات أهمها رصد العدة والعدد للقتال ، والزمان والمكان مع التمكن ، وهذا أمر فريضة كذلك من الله عزَّ وجل : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ …}[ 60 : الأنفال ]،فإذا استكملت هذه الشرائط ،من صدق النية إلى إعداد القوة ، إلى صدق العزيمة فعند ذلك أَقْدِمْ ، على خوض المعركة بمن عبَّأتَ بمثل ما عبَّأت به نفسك وتوكل على الله .بذلك ،بهذه الشرائط الشرعية والعقلية ،يقبل الله عزَّت قدرته ،الوكالة منك وعنك ،وينصرك ربما بوسائلك التي أعددتها ،وربما برديف من الملائكة يعينك به ويعين عسكرك .وربما بكلمة كن … فيكون النصر المبين.وليس ذلك على الله بعزيز .فهو بكل ذلك نصر محمّداً وقوم محمّد (ص) في حياته الشريفة.وبكل ذلك نصر المسلمين بعد محمّد (ص) في وقعات حامية متتالية ، كانت تقف لها الجبال فيخضع الله لها الجبال ، وتعترضها البحار فيذلِّل الله لها البحار ، وما توقفت إلاَّ بعد أن أخضع الله لها الممالك ، وأسقط أمامها الأبراج والمعاقل ، والقوى التي كانت تحكم الأرض بالكثرة العددية المنظمة والأسلحة المتميزة والمتفوقة . ذلك لأن المجاهدين المسلمين آنذاك ، كانوا أمة واحدة بدون مذاهب ، كان مذهبهم التوحيد ، والإعتماد على الله وحده ، وليس على مراكز القوى ، وكانوا صادقي النوايا والعزائم ، يستمدون القوة والنصر من الله وحده ، وليس من نبي ولا من إمام ولا من قائد ، وكان أول سلاح عندهم وأعظم سلاح وآخر سلاح فعَّال وناصر ومرعب لأعداء الله : التكبير صيحات : الله أكبر …  عند كل هجوم وكل حصار ، وكل مواجهة فردية أو جماعية .

ذلك هو بعض المقصود في قوله سبحانه وتبارك وتعالى : { وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . أما القانون الإلـهي المتفرع عن قوله عزَّ وجل :{ إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ } فهو في قوله عزَّ شأته : { … وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } . [ 47 : الروم ] . وقوله عزَّت عزَّته : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ } . [ 51 : غافر ] .

أما أن النصر ليس من النبي (ص) ولا من أي مخلوق آخر بين الأزل والأبد، وإنما هو من الله وحده دون شريك ولا مساعد ولا معاضد ، وأن أي نبي  أو رسول أو إمام أو ولي من أولياء الله ، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً إلاَّ ما شاء له الله ، فذلك قانون إلـهي عام ، هو في قوله عزَّ وجل  مخاطباً رسوله محمّداً (ص) : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَـمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَـوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . [ 188 : الأعراف ] .

فقول النبي (ص) ما علمه الله سبحانه : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَـمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } يتضمن كونـه كان يتمنى خيرات لنفسه ، وكذلك لغيره ، لم يدركها ، ولم يتمكن منها ، فإن الأمر ليس له ، وليس بيده . وأكثر من هذا ، فإنه (ص) كثيراً ما مسَّه السوء والأذى ، سواء أيام أمره بالمسالمة ، أو أيام أمره بالمحاربة . ولو كان محمّد (ص) أو أي نبي أو أي إمام ، قادراً على الإستكثار من الخير لنفسه أو لقومه وأتباعه ، لاستكثر . ولكنه لم يستطع نيل ما يتمنى لأن الأمر ليس بيده ، وإنما هو بيد الله وحده سبحانه . وكذلك لو كان محمّد (ص) أو أي نبي أو إمام قادراً على دفع الأذى والسوء عن نفسه وعن قومه وأتباعه ، لدفع ، ولكنهم لم يستطيعوا رغم كونهم أنبياء ورسل وأئمة ، وهم المقربون  من الله وهم أحبته . لم يستطيعوا دفع السوء عن أنفسهم  ولا عن أتباعهم من المؤمنين ، حيث قد مسَّهم السوء والأذى ، بين قتلٍ وجرحٍ ، وجهاد وكفاح ، وتكذيب وتهم ، وهم الصادقـون مع ربهم ، وهم الصديقون وهم الأبرياء .

وإنما النتيجة ، التي تُتوّجُ بها أعمارهم وحياتهم الحافلة بالصدق والجهاد والصبر الجميل ، والتفانـي في حب الله ، هي : { … وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ … } . [ 13 : الصف ] .

وإذن ، فإن الأنبياء والأئمة والأولياء ، ما هم  إلاَّ دعاة إلى الله . تلك وظيفتهم : ينذرون ويبشرون ، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويصدعون بأمر الله جلَّت عظمته وعزَّ شأنه ، وتبارك وتعالى عن خلقه وعما يشركون .

الشرك آفة البشرية  :

        قال تبارك وتعالى : {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ . فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ . وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } . [  189 ـ 192  : الأعراف ] .

        هذه الآيات الأربـع ، تتحدث عن آفة من الآفات الأعظم في تاريخ البشريـة ، هي الشرك بالله . تتحدث حديثـاً مجمـلاً ومفصـلاً في آن واحد . وذلك كذلك من عجيب القرآن وعظيم عجائزه . فأنت إذا قرأت هذه الآيات ناوياً في فهم المعنى  ، أن الخطاب موجَّه لشطري البشرية : الذكور والإناث ، فما تكون جاوزت الحقيقة . وإن أنت اخترت كون الكلام عن الزوجين ، المرأة والرجل ، في الآيتين الأوليين هو المقصود ، كذلك ما كنت جاوزت الحقيقة . والأحسن من ذلك إن استطعت أن تستجمع الأمرين ، فتكون قد أحسنت باللحاق بآفاق الدائرة الأوسع ، والله يحب المحسنين .

        وهذه بعض مضامين هذه الآيات ، أي الدائرة الأوسع للشرك ، التي يتحدث عنها سبحانه وتعالى عما يشركون :

        أولاً عن نعمة من نعمه الكبرى ، هي مبدأ الزواج ، قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء … } . [ 1 : النساء ] . وقوله عزَّ شأنه : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم } خطاب لمجموع البشر في عمر البشرية.{مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } إنسانية مميزة عن سائر الخلق.{وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا}.[189 :الأعراف ] .وقوله تعالى { لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } من السكينة،أي الطمأنينة والراحة.و{ إِلَيْهَا } أي كل زوج إلى زوجه.وهذه النعمة التي هي قانون الزواج ،وبيت الزوجية،أعرف من أن تُعَرَّف بشرح ما فيها من استكمال لإنسانية الإنسان بالزواج ،من تلبية حاجات نفسية واجتماعية وأخلاقية ودينية.إذا توفرت فيها هذه الأركان الأربعة،شكلت الأسرة الصالحة ،والأسرة هي نواة المجتمع،كبر أم صغر،فإن كانت صالحة،نتج عنها المجتمع الصالح،حلم البشرية.وإن كانت ناقصة ركناً أو أكثر من الأركان الأربعة المتماسكة التي ذكرنا،لحق ذلك النقص بالمجتمع،فخسر العناية الإلهية،ومن ثم النصر الإلهي في الدارين :الدنيا والآخرة .وأجمل الكلام وألطفه وأرقاه ـ وهذا من البديهيات لأنه كلام الله ـ هذا الذي يصف فيه سبحانه علاقة الزوجين التي ينتج عنها الحمل في مراحله، قوله تعالى وتبارك:{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ}تغشَّاها من غشي الشيء أي اتجه إليه وغطَّاه،قال تعالى:{… يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ …}.[40 :النور].وقـال سبحانـه {…إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً…} .[10 :الأنفال].و { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ } فيه إشارة إلى الفوز بالحمل ، لبديهية خوف كل عذراء من أن تكون عقيماً ، فإذا تزوجت  وحملت ، تجاوزت مرحلة الخطر ، ومرت خفيفة فرحة بحملها . ثم فيه كناية عن المراحل الأولى من الحمل ، قبل أن يظهر للناس ، وحتى لصاحبته ، إلاَّ لماما . {فَلَمَّا أَثْقَلَت } نفسياً وبدنياً { دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا } وهذه حقيقة تنسحب على جميع الأزواج  في تاريخ البشر ، لأنها فطرة الله التي  فطر الناس عليها ، وإن شوهوا هم هذه الفطرة بجنوح هنا أو انحراف هناك ، أو عناد أو جهالة هنالك . { لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } يطمعان في مرحلة ظهور الحمل الذي يفرض عليهما تحريك مشاعرهما وتأملاتهما المستقبلية ، فيسألان الله ربهما عزَّ وجل ، أنه لو رزقهما ولداً سوياً ـ وكأنهما ينذران نذراً،أو يعدان بشيء مقابل هذا العطاء ، ويعلمان أن أفضل شيء يقابلان به هبة الله ونعمتـه ورحمتـه هي الشكر له سبحانه ـ فذلك قولهما { لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } وهذه حالة عامة  تشمل جميع أجناس البشر في جميع مراحل تاريخهم على هذا الكوكب .{ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا } فالزوج يقول أنا الذي أنجبت ولي الفضل في ذلك ، وكذلك الأم تقول.فهذا أول الشرك،ثم يُثَنَّى ويُثَلَّثُ ويزيد،فيكون الفضل للقابلة ، ثم للساحر والساحرة في عافية الولد ونموه،فيما مضى،وللملح والريحان والزيت في مراحل متوسطة من القرون.وللطبيب والمستشفى ونوعية الحليب والدواء في أيامنا الحاضرة.ثم النذور للأولياء والأنبياء والأئمة الذين جعلوهم مكان الله،يسألونهم الشفاء والعافية.ويربطون أطفالهم بشجرة يزعمون قدسيتها،أو صنم اتخذوه إلهاً، أو قبر لولي هنا ولنبي هناك.ويتقربون إلى من يعتبرونهم شفعاءَهم بالذِّكر والصلوات والعبادة وغير ذلك مما تفرزه البدع والجهالات ووسوسات الشياطين،شياطين الإنس قبل شياطين الجن.وواضح في جميع ما ذكرنا،أنه ليس لله نصيب من توجهاتهم ولا من شكرهم ولا من توكلهم ولا من استغاثاتهم،ولا من رجائهم في أي أمل يأملونه أو طلب يطلبونه.هذا كله بعد أن يكونوا قد وعدوا الله سبحانه بأن يكونوا إذا رزقهم هذا الولد أو ذاك من الشاكرين،فرزقهم فأصبحوا من الكاذبين.وجعلوا له سبحانه فيما رزقهم شركاء في العطاء،وشركاء في الخلق، وشركاء في الشفاء … إلى آخر أنواع الشرك ، { فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } من جميـع خلقـه من أصنام وأنصاب وأوثان ، ومن ملائكة وأنبياء ، وأئمة وأولياء.  

        ثم يطرح الله عزَّ وجل سؤاله الناقم والمتحدي على البشرية في كل زمان ومكان ، قوله تعالى في الآية الثالثة :{ أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقونَ }.    جميع هذه الأصناف التي يشركون بها الله عزَّ وجل ، معلوم أنها لا تخلق شيئاً من هذا الخلق ، حتى أرقاها : الأنبياء والأولياء ، لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون . ثم بصدد  النصر الذي كنا نعالج مفاهيمه ، يتابع سبحانه في الآية الرابعة  : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } فلا الأنصاب والأوثان ، ولا الأئمة والأنبياء ، يستطيعون نصر عابديهم أو تابعيهم ، في أي مجال من مجالات الحياة الدنيا والحياة الآخرة . وحتى أن هؤلاء الأسياد جميعاً ـ حسب اعتقاد كل فئة ـ لا يستطيعون النصر حتى لأنفسهم . وما دام الأمر كذلك ، فهم حتماً لا يستطيعونه لغيرهم . فالناصر وحده هو الله سبحانه ، له العزَّة جميعاً ، وله القوة جميعاً ، وهو السميع البصير ، وهو على كل شيء قدير ، وليس لأحد من خلقه ولو واحدة من هذه المعاني ، ولا من أسمائه الحسنى، فسبحانه وتعالى عما يشركون.

        وهو تبارك وتعالى أنذر هؤلاء وهؤلاء في تاريخ البشرية ، وألقى الحجة عليهم ، وتحداهم بقوله عزَّ وعلا : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } . [ 194 : الأعراف ] . وطبعاً لن يستجيب أحد من دون الله، سواء من الأصنام، أم من العقلاء الأنبياء والصالحين : قوله عزَّت عظمته : { إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } . [ 14 : فاطر ] .

        هـذا ، ولبيك اللهم لبيك ، طاعةً لك وائتماراً بأمرك سبحانك حيث تقول : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } . [ 55 : الذاريات ] . فما أكرمك ، وما أحرصك على المؤمنين وما أرحمك بهم . حتى ولو انزلقوا  إلى شرك

 

 

ظاهر أو شرك خفيّ ، فبتفقدك لهم ، وبتذكيرك إياهم ، سرعان ما يعودون إلى صراطك المستقيم بمشيئتك وفضلك ، وأنت ذو الفضل العظيم . أما من يركب رأسه ، وتغرّه نفسه ، ويقوده عناده ، ويحجبه عماه ، ويهلكه تعصبه وعصبيته ، ويدَّعي أنه إنما كان بتعبده لغيرك ، وبدعائه غيرك ، يتقرب إليك زلفى ، فبحسبه قولك سبحانه : { أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } . [ 3 : الزمر ] .

*  *  *

        وعَوداً إلى ما بقي من الآيات المتعلقة بوقعة أُحد ، قوله عزَّ وجل : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . [ 161 : آل عمران ] .

        قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم أن يغل بفتح الياء وضم الغين ، وقرأ الباقون بضم الياء وفتح الغين . ونحن اعتمدنا القراءة الثانية  بإذن الله تعالى ، وإليك التفصيل :

        فعلى القراءة  الأولى { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ } تحذير أو تنبيه للنبي من أن يخون . هذا باعتبار مناسبات النزول المزعومة ، وعندنا ، أنه لما كان الله عزَّ وجل قال في رسوله  محمّد (ص) : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ }. [ 4 : القلم ]  ، فمع هذا  القـول تسقط القـراءة الأولى : (يغل ) ، ويمتنع معها أن يكون الكلام تحذيراً أو تنبيهاً لمحمّد (ص) .

        وإذن،تبقى القراءة الصحيحة:( يُغَل) بضم الياء وفتح الغين.وعلى هذا الأساس يكون معنى قوله سبحانه{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يُغَلَّ }أي أن أيّ نبي ما دام الله سبحانه علَّمه وخلّقه ونبَّاه،وباختصار،ما دام نبياً فلا يجوز أن تظن به  الخيانة،سواء في الأخذ من الغنائم،أم في توزيعها على المستحقين،أم في أداء الوحي كاملاً غير منقوص،سواء سألوه أن يطوي بعض القرآن الذي فيه عيب دينهم وسب آلهتهم ، أو أنه طمع بمداراتهم فتمنى أن ينزل الله ما يريدونه هم،لا ما يريده الله جلَّ وعزَّ شأنه .

أما قوله تبارك وتعالى : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }  ففيها إطلاق . أي أن قوله سبحانه : { وَمَن يَغْلُلْ } أي يخون الله بتخوينه رسوله (ص) ، أو أن يأخذ أو يختلس شيئاً فوق حقه من الغنائم التي هي شركة للمسلمين حسب الشريعة المرعيَّة ، أو أن يكذب على الله أو على رسوله  أو على المسلمين ، فمن يفعل ذلك أو شيئاً منه { يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، فإن كان من الأشيـاء الوازنة ، حمله ثقلاً على نفسه ، وإن كان أمراً معنوياً ، حمل وزره تشهيراً به وتعذيباً بنسبته ، وذلك قوله تبارك وتعالى :{ … ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . [ 161 :آل عمران] . أما نفس النبي (ص)  فعند سدرة المنتهى في أعلى عليين ، قوله تبارك وتعـالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} .

[ 5: الضحى ] عطاءً مطلقاً ،عطاءً بلا حدود ،يتناسب مع تكريم الله وكرمه لرسوله محمّد من جهة ،ومع إنسانية محمّد (ص) من جهة أخرى .

        أما بقية النفوس،فإن مدى اعتقاد كل إنسان وعمله،يحددان درجته عند الله عزَّ وجل،وبالتالي قربه أو بعده من منـزلة رسول الله (ص) عند ربه المجيد رب العالمين.هذا منذ محمّد (ص) وإلى يوم القيامة .

        يتضح ذلك في أحرف النور التالية،قوله تبارك وتعالى في سياق آيات أُحُد :

 { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللهِ واللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} .[ 163 _164:آل عمران ] .

قولنا:يتضح في أحرف النور…عنينا به هاتين الآيتين،كما أننا نعني جميع آيات كتاب الله المجيد،وإن كان هناك تفاوت في أسرار النور،وبين نور ونور،إلاَّ أن كتاب الله بمجمله هو نـور منـزل من رب العالمين:قوله عزَّ وجل :{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }.[8:التغابن ] .وقولنا هذا ، هو في صـلب الإجابة عن السؤال الذين طرحناه من قريب : [ لماذا الآيات ، ولماذا القرآن ؟ ] فالقرآن وآيات القرآن ، هي ببساطة وبقوة ، لإخراج الناس من ظلمات الجهالة ، وعتمة الغفلة ، وهي لكشف غيوب ما كانت لتكشف  بدون آيات القرآن ، ولضبط معارف ، ومفاهيم ، وأخذ العلم اليقيني ، بمعادلات ومقارنات ، لفهم أحوال ومصائر ، يصير إليها الناس ، على فروق بينهم واختلاف درجات ، ما كنا لنعرفها ونطمئن إلى الحقائق النجلاء فيها ، لولا أنوار القرآن وأنوار آياته . قال سبحانه : { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } . [ 9 : الحديد ] .

        وفي سياق آيات أُحُد ، وضمن الإجابة عن سؤال : [ لماذا الآيات  ولماذا القرآن ] هاتان الآيتان : { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ … } وواضح أنها مقارنة بين شطري البشرية في تاريخها : السعداء والأشقياء . فالسعداء سعادة الأبد ، هم الذين اتبعوا رضوان الله ، أي أعلى درجات رضاه . واتِّباع  رضوانه سبحانه ، يعني أقصى الحرص على طاعته وتوحيده بدون شرك لا ظاهر ولا خفي ، والجهاد في سبيله ، بين جهاد النفس بهدف إيصالها إلى الكمال الذي هيأها الله له ، وهيأه لها ، وبين مجاهدة أعـداء الله وأعداء دينه ، بالنيَّة وروح الفداء ، والقوة والسلاح والكلمة . بأقصى ما يستطيعه كل مؤمن من موقعه .{لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا… } [ 286 : البقرة ] . أما الشطر الآخر ، الأشقياء شقاء الأبد ، فهم الذين باؤوا بسخط منه جلَّت عزَّته وكبرياؤه ، أي عادوا من حيث أتوا ، بعد إهباطهم إلى الأرض ، عادوا مكذبين ومعاندين ، وأهل نفاق ، عادوا كفرةً فجرة ، ومن كان كذلك ، لا يؤوب برضى من الله ورضوان ، وإنما يؤوب بسخط الله ، أي غضبه ولعنته . وبديهي أن ينفِّذ الله سبحانه وعده ووعيده، فيعود أهل رضوانه إلى رحماته وجناته وفراديسه ، ويصير أولئك الذين باؤوا بسخطه وغضبه إلى جهنم ، وما أوجعها من نهاية ، وما أبأسه من مصير . ذلك هو بعض مضامين قوله تبارك وتعالى  في هذه المقارنة بين شطري البشرية : الصديقين السعداء ، والمكذبين الأشقياء : { أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } . أما الآيـة التي بعدها ، قوله سبحانه : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللّهِ واللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } فيشمل الفريقين : الذين اتبعوا رضوان الله ، مأواهم درجات النعيم ، والذين باؤوا بسخط من الله ، مأواهم درجات الجحيم .

        وفي سياق آيات أُحُد النيِّرات ، قول الله تبارك وتعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}.[ 164 : آل عمران ] .

        لله تعالى وحده ، الفضل على المؤمنين وعلى العالمين ، بإرساله محمّداً (ص) نعمة ورحمة للناس كافة ، ولمَّا آمن من آمن وكفر من كفر ، أصبحت نعمة الله ورحمته التي هي إرسال محمّد (ص) ، نعمة على المؤمنين وحدهم ، لأنهم وحدهم انتفعوا مما أنزل الله على رسوله من الآيات ومما علَّمهم وزكَّاهم ونوَّر قلوبهم بالحكمة وبالعلوم الحقة ، بعد إذ كانوا في ضلالة عمياء ، وجهالة جهلاء . وستبقى قلوب المؤمنين ، ما داموا مؤمنين ، مستنيرة بالله وبما أنزل الله ، وستبقى قلوب الكافرين  مدلهمة مظلمة ، والنور نعيم ، والظلام جحيم .

        ويستفاد من قوله عزَّ وجل : { لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ …} أن الفضل كله جميعاً على المؤمنين ، هو لله وحده ،  وليس لمحمّد (ص) ولا لغير محمّد في هذا المنِّ ، أي الفضل والإنعام شيء . بل هو فضل الله وحده ورحمته على محمّد (ص) بشكل خاص  ، قوله تبارك وتعالى : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِـدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيـلاً . إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا } .

[ 86 ـ 87  : الإسراء ] . وهو فضل الله وحده ورحمته على المؤمنين بشكل عام ، قوله جلَّت عظمته : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْـمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشـَاء وَاللَّهُ سَمِيـعٌ

عَلِيمٌ }. [ 21 : النور ]  فقوله عزَّت قدرته : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا … } إلى قوله تعالى  : { وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا … } هو خطاب لجميع من آمن مع محمّد (ص) ، ولجميع من آمن بعد محمّد (ص) إلى قيام الساعة .