حكمة الله وحاكميته في ” أُحُد “

حكمة الله وحاكميته في ” أُحُد ”

 

        قال الله تبارك وتعالى :

       { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }. [ 152 : آل عمران ] .

        هذه الآية الكريمة تلخِّص  واقعة ” أُحُدٍ ” الشهيرة ، عهد رسول الله محمد (ص) ، والتي جرت حوادثها قرب هذا الجبل الذي سميت باسمه ” أُحُد ” وهو جبل قريب من المدينة المنورة .

        وواقعة أُحُدٍ هذه ، واحدة من أكبر العبر ، التي توضح مدى علاقة الله بعباده ، وحاكميته لهم وحكمته فيهم ، وأنه ما من أحد من خلق الله إلاَّ وهو مراقب ومحاط به ظاهراً وباطناً ، ومثاب أو معاقب تبعاً لسلوكه في تعامله مع تعاليم الله جلَّ شأنه ، وما يقال في الأفراد  ، يقال كذلك عن الجماعات  ، صغيرها وكبيرها ، من الأسرة ، إلى الحي إلى القرية فالمدينة ، ومثل ذلك الشعوب والدول والعساكر المحاربة .

        ومعركة أُحُد من أكبر المعارك في تاريخ الدعوى الإسلامية ، وأعظمها عِبَراً وكَشْفاً عن سرائر النفوس ، وصدماً للأحاسيس  ، وأكثرها مناقشة للنوايا والمشاعر الدقيقة والبسيطة في الظاهر ، والكبيرة والخطيرة  في الحقيقة . وقعت بعد عدة مواجهات بين أهل التوحيد بقيادة رسول الله (ص) وبين أهل الشرك ، كان أكبرها معركة بدر الكبرى ، التي نصر الله فيها أنصاره الموحِّدين على أعدائه المشركين ، أي الذين يؤمنون به سبحانه ويؤلهون غيره من خلقه من البشر أو من الحجر أو غير ذلك .

        وفي هذه الآية الملخِّصة لِمُجريات وقعة أُحُد ، إشارات هي المطالب الأساسية كفرائض على المكلفين ، تلزم كل واحد منهم بأن يعلم ويعمل تحت طائلة المسؤولية ، أن الحاكم للكون وما فيه من خلق ، ومنهم هذه السلالة البشرية ، هو الله جلَّت عظمته وحده ، بدون شريك ولا معين ولا مساعد ولا معاضد ، يقول للشيء كن فيكون . فالإشارة الأولى إلى حاكمية الله وحده في الآية الكريمة ، قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ } . وفي قوله تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ } إشارة إلى أنه لو لم يأذن بذلك ـ ومعنى َتحُسُّونَهُم  تقتلونهم  ـ ما حسُّوهم في البداية عندما جعل النصر المبين للمؤمنين . وهذه إشارة ثانية لحاكميته وحده . أما قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } ففيه تضميـن معناه : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم … قلب عليكم الأمر ، فبعد أن كنتم في موقع النصر ، جعلكم في موقع الهزيمة . وهذه إشارة ثالثة  إلى حاكميته وحده سبحانه وتعالى عما يشركون . والإشارة الرابعة : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ }  والخامسة : { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وهذا خطاب للذين لم يعصوا الله منهم خاصة ، بدلالة قوله تعالى عن المسلمين في أُحُد ، في الآية التي تلي هذه مباشرة : { …وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ … } . [ 154 : آل عمران ] ، فمن كان كذلك، لا يعفو عنه الله سبحانه ، فقوله { يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } يعني ظن السوء  ، وهو سبحانه يقول :{  لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ …  وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا }.[  5 ـ 6  : الفتح ] .

        فالخطوط الرئيسة كلها في هذه الآية ، تدور حول مفهوم واحد ، سنراه يتكرر في جميع  الآيات المختصة ـ من حيث مناسبة النـزول ـ بوقعة أُحُد . كما نراه يلخِّص جميع آيات القرآن الكريم . هذا المفهوم هو كلمة لا إلـه إلاَّ الله، له الأسماء الحسنى ، {… وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . [ 27 : الروم ] هذا المفهوم ، يضع معركة أُحُد ، بمقدماتها ومجرياتها وخواتيمها ، ضمن إطار واحد . وهذا الإطـار ، بما فيه من تاريخ وجغرافيا ، وحركة وحياة ، وقعقعة سلاح ، وتصهال خيول ، وتكبير من جهة ، وصياح من جهات ، وسيوف كالشهب ، ورماح كالشعل ، وهمم وعزائم وأضداد ، كل ذلك كان الله محيطاً به وبأدق تفاصيله ، إحاطة العليم الحكيم ، المتسلِّط المهيمن ، العزيز الجبار المتكبِّر . حتى استخرج سبحانه من أنفس القوم ، ما لم يكونوا يعرفونه هم في أنفسهم  ، على شتى حقائقهم : مؤمنين ومنافقين وكافرين . هذا إذن هو العنوان الخاص بأُحُد ، وهو ذاته العام للكون : حكمة لله وحاكميته وحده في خلقه .

        وداخل هذا الإطار ، كانت تتحرك ، كذلك ، بإذن الله ، قيادة مكلفة ملهمة ، تقود أنصاراً لله ، لتصد وتصدم بهم أعداء له شرسين وكثر . وتقع ضمن هذا الإطار مفارقات ، فيها من طرف أنصار الله فشل وتنازع بينهم في أمره سبحانه ، ومعصية كبيرة ، بعد أن صدقهم وعده في بداية المعركة. وعده هذا كان في آيتين نزلتا في الطريق إلى أُحُد ، بعد ظهور فجائي لفريق غدر وفجر وشكَّك ، ثم انفصل عن الجيش راجعاً إلى المدينة . ذلك هو فريق المنافقين  ، بقيادة زعيم  لهم ( هو عبد الله بن أبي سلول ) . هاتان الآيتان بلَّغهما رسول الله (ص) للقوم فور نزولهما ، قوله تعالى :

       { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ . بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } . [  149 ـ 150  : آل عمران ] .

*  *  *