إبراهيم وهاجر وإسماعيل على قمة من قمم التاريخ

 

إبراهيم وهاجر وإسماعيل على قمة من قمم التاريخ

             ونكتفي  هنا بذكر واقعة من الإبتلاءات التي جرت لإبراهيم ، أعني التي مهَّد الله بها سبحانه ، لنبوَّة محمد ( ص ) وإرساله رحمة للعالمين . والتي هي في قوله عزَّ وجل على لسان خليله  إبراهيم  : { رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء . الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء } . [  37 ـ 39  : إبراهيم ] .

        وموجز الحكاية  ، أن الله تبارك وتعالى ، أمر نبيَّه إبراهيم ، بعد أن رزقه الولد من زوجه الثانية هاجر ، أن ينتقل بهما ، هاجر وإسماعيل ، وكان  ما زال طفلاً رضيعاً ، من الشام إلى الحجاز .

        وبديهي هنا ، أن تقطع هذه الأسرة الصغيرة ، مسافات واسعة شاسعة ، وتجتاز الوديان والصحارى والقفار الموحشة ، ولا  بدَّ  أن  لهما من ركوب جملين ، واحداً لإبراهيم  ، والآخر يحمل هودجاً فيه هاجر ووليدها الحبيب على قلب أبويه، إسماعيل .

        وتمضي الأيام والليالي ، على هذا الطريق الشاق الطويل ، الذي لا يخلو من خطر الوحوش المفترسة ، منها الضباع والذئاب الجائعة ، ومنها أسود الصحارى العربية الشهيرة . كما لا تخلو من قطـاع  الطرق الذين كانوا في جاهلية تلك الأيام ، من الكثرة في أغلب الأمكنة على امتداد طريق القوافل .

        وهنا أريد أن أتوقف قليلاً عند ظاهر الأمور ، لأعبر  من هذا الظاهر إلى لب الحقيقة . أما الظاهر فهو صدق إبراهيم  ، وعزمه الذي لا يلين ، وهمته التي لا تخبو ، ما دام الأمر في سفره هذا هو تلبية لأمر الله عزَّ وجل ، وما يقال عن إبراهيم  في هذا المجال ، يقال كذلك عن هاجـر ، تلك الزوجة  المثالية النادرة المثل في تاريخ الناس ، والتي لم يجعلها مثالية ورائعة وفريدة من نوعها في تاريخ البشرية ، إلاَّ أمـر واحد  ، هو يقينها بالله جلَّت  عظمته ، ومن تفريعات هذا اليقين ، ولاؤها وطاعتها له سبحانه ، عبر ولائها لزوجها إبراهيم  وطاعتها له ، عليه وعليها سلام الله .

        هذا هو ظاهر الأمر ، وسوف نرى في بقية الظواهر ، بعد بلوغ الهدف الذي هو مكة ، آيات باهرات من الصدق ، والصبـر بالله ، والثبات على طاعة الله ، والتفاني في سبيل الله ، من خليل الله إبراهيم  ، وزوجته ، التي ظل يصفو جوهرها الإنساني ويصفو ، حتى صار جوهراً فذاً وعبقرياً . ومثلهما تماماً ، أصبح إسماعيل عليه السلام ، بعد أن نما وبلغ السعي ، وقدم نفسه طائعاً ، للذبح ، بيد أبيه الحبيب  وسكينه المرهفة الشفرة . لولا أن تجلى أكثر فأكثر ، فضل الله ، ونعمة الله ، ورحمة الله ، وآلاء الله التي لا تحصى على عباده  هؤلاء ، لأنهم من المطيعين  ، كل الطاعة ،  ولأنهم من الموقنين كل اليقين ، ولأنهم من أولياء الله الصالحين ، فرفع عنه وعن أمه وأبيه ، قدر الذبح هذا  ، ووطأته فيما لو تم ، على الأبوين ، وفداه بكبشٍ عظيم . من هنا وهنالك ، ومن كل حدب وصوب ، بواطن الأمور وحقائقها الأصلية . وهي أن الله وحده هو المجير . هو الصاحب في السفر ، وهو الدافع لكل خطر ، ولأهوال الطريق ومشتقاتها . وهو سبحانه المعافي في الأنفس ، وهو عزَّت عظمته ، الباعث الهمة ، والمقوي العزيمة ، تحت عنوان الحديث القدسي : ” إذا تقرَّب عبدي مني شبراً تقربت منه باعاً ، وإذا أتاني مشياً أتيته هرولة ” ، وأنه قائم على كل نفسٍ ، وأنه  على كل شيء وكيل .

        فالفضل كله إذن هو فضل الله سبحانه وتعالى ، مرتباً الجـزاء على النيـة

 

والعمـل ، { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِـلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } . وسنرى إن شاء الله  الكثير من مصاديق  هذه الآية ، في هذه الأسرة الموالية  لله وحده سبحانه ، ولاءً يصل إلى بذل المهج والأنفس  والمتعلقات كلها ، طاعة لله عزَّ وعلا ، وجهاداً في سبيل  مرضاته .

      ويبدو أنه ، لا إبراهيم ولا هاجر كانا يعلمان شيئاً عن تفاصيل الخطة ، التي اختطها الله سبحانه ، لهما ولولدهما إسماعيل عليهم السلام  ، هؤلاء الذين سيكون من نسلهم العرب عامة ، وخاصة خاتم النبيين وأعزَّ المرسلين  محمّد (ص) ، الذي أرسله ، فيما بعد ، رحمة للعالمين . فهما لايعرفان المكان ولا طبيعة الأرض ولا المناخ ، ولا أي شيء آخر مما هو مطلوب منهما ، اللهم  إلاَّ تنفيذ مضمون أمر الله سبحانه ، وهو الذهاب إلى الحجاز .

        وآخر توجيه له عليه السلام ، من توجيهات الطريق ، هو أمره بالنزول في ذلك الوادي القريـب من  مكان البيت العتيق ، الذي أصبح محجة للناس فيما بعد ، والذي هو بين جبال كالأغربة السود ، تحيط به من جانب .

        وبعد النزول في هذا الوادي ، المجدب المقفر ، الذي لا حسيس فيه ولا أنيس ، جاء الأمر لإبراهيم  ، أن ضع أسرتك في نفس هذا المكان وارجع أنت وحدك من حيث أتيت .

        لا شك أنها مفاجأة لكليهما ، ورغم  أنهما قد تمرسا بأنواع الرياضات النفسية والبدنية والإبتلاءات ، إلاَّ أن هذا الأمر ، وفي الظروف المحيطة ، شكَّل عليهما لأول وهلة ، نوعاً من الصدمة ، بدت آثارها بوجوم شملهما برهة من الزمن ، كان فيه  إبراهيم  يردد فيه طرفه بين طفله الوحيد وأمه من جهة وبين المكان  المقفر الموحش من جهة ثانية وبين الزاد الذي كان استنفد كله في الطريق ، إلا ثميرات بقيت في قاع جراب ، من جهة ثالثة ، ثم انتبه إلى الأهم من ذلك كله : الماء … فإذا السقاء الذي معهم لم يعد فيه قطرة . وكتم الأمر عن هاجر ، متوكلاً على الله .

        أهكذا ، والآن ، ومع هذه المعطيات ، أتى أمر الله سبحانه بالرجوع وترك هذه المرأة الضعيفة وإبنها الرضيع وحدهما ، وبلا معين ؟

        بلا معين ؟ ، لا !  ما هكذا يفكر إبراهيم .

        إبراهيم يعلم تماماً أن المعين ، حاضر ناظر ، سميع بصير ، نعم المعين هو ، ونعم الكفيل  ونعم الضامن والوكيل .

        ـ اللهم لبيك ـ وخشية من أن يسجل عليه شيء من التردد ، في تلبية أمر الله سبحانه ، أو حتى من العاطفة الكبيرة على الزوج الحبيبة والطفل الجميل إسماعيل ، الذي التمعت عيناه البريئتان الصافيتان ، كأنما تقولان : في أمان الله يا أبتاه ، فحسبنا الله ونعم الوكيل ، هو ربنا وهو يرعانا . إنفتل إبراهيم إلى جمله ، بعد أن كانت له فقط فرصة أن يتناول علفه . فركبه وولى وجهه إلى بلاد الشام وقفل راجعاً ، بعد أن أبلغها وبكلمات  قليلة ، قراره القاضي ببقائها ووليدهما ، ورجوعه هو إلى بلاد الشام .

        وهنا ، وقد كانت هاجر عليها السلام ، قد استجمعت قواها وأفكارها بعد الصدمة ، ورأت الحقيقة ماثلة أمامها ، فلا هي في نوم ولا في حلم . وانتبهت إلى أهم شيء في عمرها ووجودها ، ولا سيما في هذه الظروف غير العادية هـذا الشيء ، هي أن تعلم ، إذا كان هذا الأمر هو من الزوج إبراهيم ، فيكون ذلك عجباً ، ويكون موجعاً محزناً ، ويدور حوله ألف علامة استفهام ، أم أن هذا الأمر من الله عزَّ وجل .

        في هذه اللحظات من التساؤل ،كان إبراهيم قد ابتعد ، مدى وصول الصوت تقريباًُ.وحزمت أمرها ، ولماذا لا تسأله : ثم أخذت تعدو خلفه،حتى اطمأنت إلى أنه يسمع صوتها ،ونادته : يا إبراهيم … وإذ سمع توقف، وأدار  وجهه نحوها . فسألته : هل هذا الأمر ببقائنا هنا وحدنا منك أم من الله ؟ فلم يجب إبراهيم  بصوته ، فلعلَّ دمعة كبيرة خشي أن يظهرها تجلداً ، وحياءً من ربه سبحانه وورعاً ، فبدلاً من ذرفها من عينيه ، لجلجها  في حلقومه حيث احتبس صوته.فأشار بيده رافعاً إياها وسبابته نحو السماء.ففهمت هاجر، أن الأمر من الله . وكمثل البرق الخاطف تبدل موقفها وجميع مشاعرها ، من حال التشتت والخوف والتساؤل إلى التركيز ، وقالت بطمأنينة كبيرة : ـ لا عليك … إذن لا يضيِّعنا .

        قالت ذلك تطمئن نفسها وتطمئنه ، ما أعظم هذا اليقين ، وما أجمل هذا البر ، يقينها بربها رب العالمين ، وبرها بزوجها الحبيب ، الذي ليس له من الأمر شيء ، إلاَّ أنه يؤمر فيطيع ، وله الشرف العظيم  في أن يؤمر ويطيع إذا كان الآمر هو الله سبحانه ، رب السماوات والأرض  وما بينهما رب العالمين .

        لا عليك … إذن لا يضيِّعنا …

        صحيح ، هكذا المرأة العميقة الإيمان ، العظيمة الخلق : أدب ومحبة مع الزوج ، وثقة به عالية ، فقط ، لأن ولاءَه لله ، بلغ حداً ، أن يستجيـب له سبحانه ، ويضحي بالأهل وبالولد  وحتى بكل عاطفة  تحجبه عن طاعة ربه وعن توليه والتفاني مجاهداً في سبيله . و ” إذن لا يضيِّعنـا ” ربنـا العظيم ، ربنا الحبيب .

        ومن أين لها هذا ؟  قال تعالى : { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى ..} . [76 : مريم ] . وهكذا إذا وطَّن الإنسان النفس على التصديق بالله وآيات الله ، رفعه سبحانه وهداه زيادة عما كان . فيوطن نفسه على اليقين ، فيزيده  الله كذلك يقيناً . وما كان من عند الله ، يبقى ، يكتب في القلب  ، ويزيد لألاءً وصفاءً ، ويزيد الله على ذلك ، وهكذا ، حتى يبلغ الإنسان برعاية الله ورضاه وتوفيقه وحبه ، درجة الكمال الإنساني ، وهي ليست أبداً مستحيلة . وها نحن  بصدد اثنين بلغاها ، رجل وامرأة  . فقط لأنهما أقبلا على الله إقبالاً تركا معه الدنيا وما فيها من مغريات المال والزينة والجاه والشهوات ، وجعلا أمامهما الله وحده ، موحدين غير مشركين . ذاكرين الله آناء الليل وآناء النهار ، يملأهما الرضا بما قسم سبحانه ويقسم ، ويملأ قلبيهما الحب له وحده . الحب الأعظم  الذي لا يجوز ولا يليق أن يشاركه فيه أحد .

ونبقى مع هاجر وطفلها الرضيع عليهما السلام ، بعد أن أفردها إبراهيم في ذلك الوادي الأغبر المتجهم ، تنقل طرفها بين الممسك بشغاف قلبها ، الطفل إسماعيل ، الواجم الهادىء على باب تلك الخيمة الصغيرة ، التي  أقامها أبوه قبل سفره ، وبين رمال جافة ، بعد عهدها بالخضرة والنضرة  والظل الظليل ، حتى ولا طير يمر ولو من بعيد ، ولو مرَّ الكرام . ثم تنظر إلى السماء ، متنهدة  . ثم تتعجب من نفسها … من تلك الطمأنينة  العجيبـة ، والسكينـة التي تمتلكها ثم تتمتم : لا … لا عليك يا إبراهيم . الله الذي أمـر بتركنا هنا ، هو أعلم وهو السميع البصير ، يرانا ، ويحبنا ونحبه ، ولن يضيِّعنا … إذن لن يضيِّعنا .

كانت الشمس  قد مالت عن خط الظهيرة . وكان الجهد قد أخذ من أم  إسماعيل  مأخذاً ، جهد السفر وجهد الصدمة بسبب إفرادها وطفلها في ذاك المكان الموحش  البعيد . فتلفَّعت بخمارها واحتضنت رضيعها إسماعيل ، واستغرقت في نوم  عميق  ، ما درت مداه ، هل نامت بضع دقائق ، أم هي  استيقظت بعد نوم ليلة وضحاها ، وكذلك شيئاً من ميلان الشمس . إذ أنها  وجدت الشمس ما زالت مكانها ، وشغلها عن التفكير بذلك ، الذي أيقظها  ، إسماعيل ، وهو يبكي . لقد جاع وهذا وقت رضاعه … يا ربَّاه ! ليس في صدري لبن ، لعلَّ ذلك بسبب جوعي وعطشي وتعبي ! … إذن  أسقيه ماءً ـ استغفر الله ، نسيت أننا كذلك بلا ماء . أين السقاء ؟ سبحانك اللهم ، ليس فيه ولا قطرة . يا رباه إذن مـا العمل ؟

ويشتد بكاء الطفل  : ـ يا إلـهي  … أنا أتحمـل … أما الطفل فقد يموت  عطشا . فلا لبن في صدري … ولا ماء في السقاء … يا إلـهي …

وتنظر إلى السماء نظرة ، ثم إلى الأفق  ، فتعترض بصرها أكمة … فتعدو إليها ترتقيها ، ثم تشرف من هناك على الأرض ، لعلها تجد ماءً ، لعلها تجد بارقة تدل ولو على بعض الندى .

لا شيء … لا شيء البتة … أصبحت بعيدة عن طفلها … يخيَّل إليها أن وحشاً قد يسمع بكاءَه ، فيأتي ويفترسه … فتنحدر عن تلك الأكمة الصخرية الصوَّانية ، التي أصبحت منذ ذلك اليوم من شعائر الله عزَّ وجل ، وأصبحت  من معالم الحج المشهورة ، وهي { الصفا } . تنحدر عنها السيدة هاجر ، ملهوفة مسرعة نحو وليدها ، لتجده بخير :

الحمد لله .

وإنما هو ما زال يبكي ، وقد جفَّت شفتاه القرمزيتان ، وأصبح فمه  كبرعم ورد ذابـل . فاعتصرت شفقتها عليه قلبها . ثم نظـرت . فإذا أكمـة ثانية ، هي  { المروة } ، التي أصبحت كذلك من شعائر الله المعظمة عند أتقياء القلوب . توقف بصرها عندها . فطارت إليها . ومن فوقها كذلك ، أشرفت على ما حولها من الأرض . فلم تجد شيئاً ولا بصيص أمل . ثم يخالجها خوف الأمومة على الطفل الرضيع  . ولا سيما وهي تحسبه يحتضر :

لعله أصبح في الرمق الأخير .

ثم تنظر إلى جميع الجهات . فلا تجد غير هاتين الصخرتين العاليتين ، مكاناً تشرف منه على ما حولها من الأرض . فأخذت تسعى بينهما ، سعياً هادئاً حيناً ، تحدِّق من خلاله في الآفاق  ، تريد المخرج . { …وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا}وما أعظم تقواها ! وأي مخرج ؟! لا شيء البتة في الأفق . ثم تهرول أحياناً، من خشية على الرضيع ، وهكذا أشواطاً سبعة .كان آخرها رجوعاً إلى {الصفا} ، حيث أنها الأقرب إلى إسماعيل . ثم تهالكت نازلة من أعلى الأكمة  ، وقد كاد يتملكها الخوف من أن يبتليها سبحانه بهلاك وحيدها إسماعيل . وتوجهت إليه لاهثة ، والغصة في حلقها ، والدموع في عينيها ، وقد تيبَّست شفتاها ظماً ونصبـاً :

        أما من بشر في هذه النواحي يرشدني إلى ماء ؟! لو راعٍ في هذه الصحراء . لو قافلة تمر بنا فتسقينا . عفواً يا رباه . ذلك بيدك . لم  أنسَ أنك أنت السميع البصير ، وأنك على كل شيء قدير . بلى ، هو بلاؤك ، فما هي النهاية ؟  فلتكن النهاية ما تكون . ولن تكون إلاَّ خيراً ، ما دمت بك صابرة ، وبحكمك راضية ، وفي سبيلك أبذل حياتي ، وعمري ، ونفسي  وولدي . وأعلم  علم اليقيـن ، أن

العاقبة للمتقين . وأنك أرحم الراحمين .

        وإذْ اقتربت من الخيمة الصغيرة :

        يا إلـهي ! لعل إسماعيل قد مات ! … أم أنه بُحَّ صوته ، فإني لا اسمع له بكاء ؟

        وألقت بنفسها فوق إسماعيل ، أول ما تنظر إلى عينيه ، فإذا هما ولا أجمل . وفمه قد أشرق ببراءَة وردة بلَّلها الندى :

        يا ألله يا حصننا . يا ألله يا حبَّنا . نجا من تمسَّك بحبلك . وأمِنَ مَن لجأ إليك. لا ملجأ سواك . ولا قادر غيرك . ولا رحمان إلاَّ أنت . من وحَّدك فاز . ومن أشرك بك هوى  . يا ربنا ! هذا ماء يجري من تحت قدميه ، وهو يفحص بهما الأرض نشيطاً جذلان فرحا ! هل أنا في حلـم ؟ ! ـ تفرك عينيها بكلتا يديها ـ لا ، لست في حلم . هذا الماء ، وهذا إسماعيل ، وهذه أنا التي قلت لإبراهيم  ، وأنا في أعمق الإيمان ، وأعلى درجات اليقين برحمة رب العالمين : لا عليك يا إبراهيم  ، لا عليك ، ما دام الله اختار لنا ، إذن لا يضيِّعنا . ربُّنا لا يضيِّعنا . وها هو سبحانه  لم يضيِّعنا .

        بللت بمزيد من قطرات الماء ، فم إسماعيل ، وهو يغرِّد ويزقو ، بأحلى من صوت بلبـل ، وأهيب من فرخ عقاب . ثم تذكرت السيدة القديسة عطشها وجفاف فمها . فما عبَّت عبَّا . وإنما نهلت نهلاً ، دليل العفَّة والقناعة واليقين بالله وبنعمته الدائمة {.. لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ .. } وكانت تحمد الله وتشكره ، بين النهلة والنهلة . ودرَّ لبنها كأفضل ما كان يدرُّ في بلاد الشام ، على نهر من أنهارها، بين الدلب والصفصاف  :

      أيها الينبوع المبارك ، ذكَّرتني بعذوبة أنهار بلاد الشام ، وينابيعها ، لا ليست مياهها أكثر بركة من هذا الماء . بدلالة هذه البركة في لبن إسماعيل ، والشبع عندي . وما لي حاجة بعد بتلك التميرات التي تركها إبراهيم ، يسَّر الله أمره ، وسهَّل دربه ، وجزاه الله كذلك ، على طاعته وصبره وتصديقه خير الجزاء . آه … لو أنَّ إبراهيم يعلم الآن بما جرى لنا من نجاحنا كذلك في هذا الإمتحان المبارك، الإمتحان الجميـل . نعم ،  جميل هذا الإمتحان الفرح بعد الشدَّة . جميل … وحقٌّ من الله سبحانه له الحمد . جميل ورائع . ماء فيه غذاء . إنما ما زال المكان موحشاً يا رباه .

        والتفتت إلى السماء  ، ففوجئت بأسراب من الطير ، تحلِّق فوقهما ، فوق المكان ، فوق الخيمة الصغيرة . إحتضنت إسماعيل  ، تشمُّه وتعانقه :

        أرأيت يا إسماعيل ؟ ! أرأيت صنيع الله الكريم بنا ؟ !  أرأيت ما أرحم ربنا وما أعظمه ؟ !  لو أنك تعلم . غداً إن شاء الله ، ستعلم وتتكلم . أنظر أي بنيّ ، ما أجمل تحويم الطيور فوق الماء . يقيناً إن الله سبحانه هدى أسرابها إلى هذا الينبوع. يا رباه ، الماء يفيض . يكثر ، يكاد المكان يغرق  : زمِّي أيتها الأمواه . ربنا أقلل من إنبجاسها . الحمد لله . هكذا أحسن . ربَّنا لك الحمد . هذا ينبوعنا ، هذا لنا نحن  ، إشربي أيتها الطيور  ، إشربي هنيئاً . إنزلي بضيافتنا على فضل الله وكرم الله ورحمة الله . إنما  … إنما … يا ربَّنا ، وبعد ،  مع من نعيش ؟ فإنَّ لنا بعد حاجات  . أنبقى هكذا ؟ … وتسمع جلبة : رغاء إبل ، وأصوات رجال  :

        الله أكبر ، أرسل الله الفرج ، قبل أن تميل الشمس إلى الغروب . اللهم لك الحمد …

        وتحبس دموع الشكر ، وتشدُّ قامتها وعزيمتها ، فلقد رأت رائد القوم  يقترب وفي صوته لهفة ، وفي عينيه عجب . ـ لمن هذا الماء يا  إمرأة ؟ ـ هو لنا أيها البدويّ . ـ ومن أنتم  ؟ ـ نحن آل بيت إبراهيم ، خليل الله . ـ ومن أي قبيل ؟ ـ نحن أنصار الله وأئمة الناس ، جعلنا للعالمين قادة ، وعن المؤمنين بالله ذادة . فأحنى هامته ، وردَّد كمن يسمع كلاماً عجباً : خليل الله ! خليل الله ! . ثم ثنى زمام فرسه ، وقفل راجعاً يخبر القوم في القافلة ، وقد بدت فيها الجمال المثقلة بأحمالها ، مع أنعام كثرت فيها الشياه وحملانها .

        كانت قبيلة بقضها وقضيضها ، وجهها الله سبحانه إلى هذا المكان ، بعد أن

 

كان نضب في نواحيها الماء ، ويبس الزرع ، وجف الضرع . وقد شاهدت من بعيد ، وبعيد جداً  عن مكة المكرمة ، أشباح الطير وأسرابه ، وهي تحلق عالياً في السماء . وحيث يحلق الطير ، يوجـد الماء ، ذلك من علـم الأثر عند البدو الرحَّل  .

        وفوق ناقة شهباء  ، كان شيخ القبيلة وزعيمها ـ وقد قلَّب الله قلبه بين العدل والرحمة والطمع في السكنى في هذا المكان . وهو أغلى ما تطمـح إليه القبائل  : الماء الكثير الدائم ، وحيث يكون  هذا يكون الكلأ والخصب وخفض العيش . وهم لا يرجون أحمد من ذلك  ولا أرغد .

        قال شيخ القبيلة بعد أن أتاه الرائد بتمـام الخبر : سلـهم  إن كانوا يرضون  بجورانا ، على أن نكـون لهم نعم الجـار ، نقوم بخدمتهم في جميع شؤونهم ، ولهم منا جمال وخيام ، وقطعان غنم مع رعيانها . ونساء يقمن على خدمة السيدة الشريفة هذه ، والستر والصون والعافية . وعد إليَّ بالخبر . فإن رضيت آتيها بنفسي شاكراً . وإلاَّ فانقدوها ثمن ما نحتاج إليه من الماء ، ثم نتابع سيرنا بحثاً عن ماءٍ مشاع . كذلك  هي شريعة البدو وشريعة البادية .

        وطبعاً ، رضيت السيدة التقية النقية ، التي كانت تجيب القوم إلى عروضهم بلسانها ، بينما قلبها ينبض بحمد الله ، بحمده وبشكر آلائه ومفاجآته وروعة عطاءاته وكرمه وإكرامه . ولا بدع فهو سبحانه ذو الجلال والإكرام  . قالت وهي تغطي بوشـاح فمها وأنفها وتحتجب ببعض ركن الخيمة وهي تحتضن إسماعيل :

       أهلاً بكم يا قوم . أنتم ضيوفنا  ، فانزلوا  على مائنا على الرحب والسعة ، وهـذا من أفضال الله ونعمه ، علينا وعليكم . فاشكروا الله وحده واحمدوه  .

       وتقدم  شيخ القبيلة  ، وقد سمع مقالتها  ، فحياها مطـرق الطرف ، بإجلال  واحتـرام . ثم أخرج خنجراً من غمده رهيف الشفرة ، وجرح به يـده

 

كعادتهم  في هكذا مواقف  . ثم أعطى العهود والمواثيق لآل بيت إبراهيم  هؤلاء مقسماً بدمه الذي نزفت منه قطرات من جرحه ، ليكونن لهم هو وشعبه نعم الصديق ، ونعم الأخ  ونعم الجار .

        وقد وفى الرجل  فيما بعد ، ووفى القوم . وتلك مشيئة الله سبحانه ، فهو إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون .

        وانصرف الرجل . وقامت أم إسماعيل مصلية بين يدي الله ربها الرحيم ، ثم غابت في سجدة شكر طويلة على آلاء الله ونعمه . وقد كان الليل توشح منذ غروب الشمس بنعمة غير عادية ، سمع فيها ، كمثل مرور النسائم ، خفض أجنحة الملائكة ، يسبحون بحمد ربهم ، وينشرون في تلك البقاع ، ما حمَّلهم الله سبحانه وتعالى ، من المحبة والخيرات والبركات . وتحت هذه الأجنحة الناعمة ، احتضنت أم إسماعيل طفلها المبارك . وإذ سقطت دمعة حب لله ، على خده الصغير النبيل ، مسحتها بخدها الشريف ، بانتظار فجر يوم جديد ، ويوم سعيد  ، بل أيام  كثيرة جديدة  وسعيدة ، وكذلك بانتظار عودة خليل الله إبراهيم ، ناما في رعاية الله وحفظه وعينه التي لا تنام ، هانئين ، وكذلك نام القوم  ، بعد أن تحدثوا طويلاً ، حول نيرانهم التي نوَّرت المكان  وأدفأته أكثر ساعات الليل . متعجبين من كبر حظهم  ، إذ هداهم  الله إلى هذا الماء  ، وهؤلاء الأخيار  الأبرار ، وهذا المكان الطيب  ، الذي كان قال فيه إبراهيم  خليل الله ، قبل أن  يغادره ، ليعود إليه من بعد مرارا ، وهو ما حكاه عنه الله تبارك وتعالى  :{ رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } . [ 37 : إبراهيم ] .

*  *  *

        أما الخلاصة  التي هـدفت إليها من خلال ذلك كله ، فهي في هذا السؤال : هو فضل من ؟ فضل إبراهيم ، وآل بيـت  إبراهيـم على أنفسـهم وعلى الناس ؟ أم هو فضل الله ورحمته وكرمه عليهم وعلى الناس ؟ بل لإبراز فضلـه تبارك وتعالى قال الآية : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ … } كيف صنعناه هو وأهل بيته وكيف نبَّيْناهم . ليكون الذكر الحقيقي لله جملة وتفصيلاً ، وليكون ذكر أوليائه ممراً وسبباً لذكره ، من حيث إظهار إخلاصهم له وحده سبحانه ، وتفانيهم في سبيله ، ليكونوا قدوة للعالمين . وليترسم الناس آثارهم في جهادهم في سبيل الله  ، وفي تعبدهم وطاعتهم وذكرهم له وحده عزَّ ذكره وتعالى عما يشرك المشركون . قال جلَّت عظمته :

        { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } . [ 4 : السجدة ] .

        وقال عزَّ شأنه :

       { كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ . فَمَن شَاء ذَكَرَهُ . فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ . مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ . بِأَيْدِي سَفَرَةٍ . كِرَامٍ بَرَرَةٍ } . [ 11 ـ 16 : عبس ] .

        وقال جلَّ جلاله  :

       { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفرُونِ}.[152 : البقرة ].

مفهوم الشفاعة :

        قوله تبارك وتعالى :

        { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ } . [ 4 : السجدة ] .

        في هذه الآية،كما هو واضح ،نفي الشفاعة عن المخلوقين ،وحصرها بذات الله عزَّ وجل،أو جعلها في جملة الأسباب التي يسببها لعباده،فيكون كذلك هو الشفيع وحده،إذ أنه هو مسبب الأسباب.ونحن قبل أن نتعرض لبحث مضمون الآية،وتحديداً عبارة{مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ }،نذكِّر بأننا شرحنا كلمة { وَلِيّ } في بحثنا ” مفهوم الولاية “.وبقي علينا الآن أن نعقد بحثاً خاصاً بمفهوم الشفاعة،نذكَّر بأن أكثر الناس مأخوذون بمفهوم الشفاعة،وكأنه سيكون هو الموقف الفصل،والحكم الفصل يوم الحساب.وهم يعطونه معنىً واحداً متعلقاً بالآخرة وحدها ،دون الحياة الدنيا،وخصوصاً بيوم الفصل فور قيام الساعة . ومعنى ذلك أن يشفع  محمّد (ص) مثلاً لجميع المسلمين ، أو للعالمين ، وهذا يورده كثير من المفسرين لقوله تعالى له (ص) :{..عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا }. [ 79 : الإسراء ].ثم يشفع غيره كل لأتباعه.وتقع هنا المفارقة الكبيرة : فإذا كانت شفاعة محمّد (ص) للعالمين ، فلا معنى لشفاعة غيره  من الصالحين على  جميع المستويات في عمر البشرية . وإذا كانت شفاعته (ص) فقط للمسلمين ، فلا معنى لشفاعة غيره من أركان وصالحي الأمة الإسلامية  .ورغم هذه المفارقات ، تبقى الشفاعة كمفهوم قرآني ، حقيقة لا تناقش . وإنما ما يجب أن يناقش ، هو الفكر الطاغي ، المتمثل بالإعتماد والتوكل على الشفيع  المخلوق وحده . وبذلك  هم يعتمدون على غير رحمة الله وعفوه وغفرانه ، فيقعون عن غير عمد ، في شرك لا يغتفر . والإعتماد على الشفاعة  يوصل بعضهم أحياناً إلى الإغراق في المعاصي ، اعتماداً على شفاعة الشفيع . كما فعل السيد رضا الهندي في قصيدته ” الكوثرية ” التي ينشدها  ويتوارثها ألوف المؤمنين ، حيث يتخلص  فيها إلى القول  : ” سوَّدتُ صحيفة أعمالي ووكلت الأمر إلى حيدر ” . هذا من جهة  ، ومن جهة ثانية  ، هؤلاء ينسون إن الشفيع الأعظم والأول والآخر ، هو الله عزَّ وجل . إذ بدونه لا يسمح لشافع ولا يؤذن له ولا يرضى به ، إلاَّ إذا سمح الله وأذن الله ورضي الله بالشافع وبالمشفوع به . فإذا لم يرضَ بالشافع ، سقط المحتاج  إلى الشفاعة إلى حيث لا نجاة . وإذا لم يرضَ بالمشفوع له ، ما شفع  الشافع له أصلاً ، حتى لو كان هذا الشافع إبراهيم أو موسى أو عيسى أو محمّد  صلوات الله عليهم وسلامه ، وغيرهم من أولياء الله الصالحين  والمؤمنين المقربين . ومن جهة ثالثة ، هم يفهمون الشفاعة أنها إنما  تكون هي التحرير من النار  لمحكومين بعذاب النار ، أي إسقاط  العقاب جملة وتفصيلاً . وهو كما سنرى ، إن شاء الله ، ضيق أفق ، وجهل بالحقائق البسيطة ، واستنامة إلى الدعة وكسل الذهـن والغفـلة . قال  سبحانه : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } . [ 179 : الأعراف ] .

        وحيث أن الله سبحانه مدَّ الناس بمزيد من العلوم والثقافات وأدوات الفكر، ولا سيما الفكـر الديني المسلـم لله تبارك وتعالى . فلزم التوسع ـ تعبداً لله ـ  في فهم وتفسير ما تبقى من مغلقات القرآن الكريم  من جهة .  ومن جهة أخرى  تصفية مفهوم التوحيد ، على أساس كلام  لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وليس من كلام في الأرض اليوم ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إلاَّ كلام الله عزَّت عظمته . وكلام الله آيات بينات مخطوطة في قلعة حصينة عزيزة يحفظها الله بحفظه ورعايته وعنايته إلى قيام الساعة ، هي القرآن الكريم  ، وقد أسماه سبحانه { الذِّكْر}  أي ذكر الله  ، لأن أحسن ذكرٍ لله ، هو في هذا الكتاب العزيز ، وقد قال تعالى فيه  : { …وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } . [ 41 ـ 42  : فصلت ] . وقال سبحانه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } . [ 9 : الحجر ] .

        ففي معنى الشفاعة  جاء في لسان العرب لابن منظور  ما يلي : شَفَعَ ؛ الشَّفْعُ  خلاف الوَتْر ، وهو الزوج . تقول : كان وَتْراً فَشَفَعْتُهُ شَفْعاً . و شَفَعَ الوَتْر من العدد شَفْعاً : صيَّره زوجاً . وتقول : إنَّ فلاناً لَيَشْفَعُ لي بعَداوةٍ أي يضادُّني . وشفع لي يَشْفَعُ شَفَاعةً وَتَشَفَّعَ : طَلَبَ . والشَّفيع : الشَّافع ، والجمع شفعاء ، واستشفع بفلان على فلان وتَشَفَّع له إليه فشفَّعَه فيه. وقال الفارسي : استشفعه : طلب منه الشفاعة ، أي قال له كن لي شافعاً . وفي التنـزيل : من يَشْفَعْ شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها. وقرأ أبو الهيثم : من يَشْفَعُ شفاعة حسنة أي يزداد عملاً إلى عمل . وروي عن المبرد وثعلب أنهما قالا في قوله تعالى : من ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه ، قالا الشفاعة الدعاء ههنا . وفي حديث الحدود : إذا بلغ الحدُّ  السلطان فلعن الله الشافع والمشفِّع . وقد تكرر ذكر الشفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة  ، وهي السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم . وفي الحديث : الشُّفعة في كل ما يُقْسَم . الشفعة في الملك معروفة وهي مشتقة من الزيادة لأن الشفيع يضم المبيع إلى ملكه فيشفعه به كأنه كان واحداً وتَراً فصار زوجـاً شَفعاً … انتهى .

الشفاعة في الدارين : الدنيا والآخرة :

        قال تبارك وتعالى :

       {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا }.[ 85 : النساء].

        والله في كلا الأمرين ، هو الرقيـب والمجازي ، خيراً بخير ، أو سوءاً بسـوء . ولا تكون شفاعة إلاَّ إما بإرادته وأمره سبحانه ، وإما بإذنه ، فلا استقلال  لأحد من دون  الله ، ولا خروج من سلطانه تبارك وتعالى .

        وفي هذه الآية الكريمة ، دلالة بينة في قوله عزَّ شأنـه : { وَمَـن  يشْفَـعْ  شَفَاعَةً سَيِّئَةً }  على أن الشفاعة المقصودة هنا ، هي في دار الدنيا كما في الدار الآخرة ، والمقصود فيها الكفار والمشركون والمنافقون . إذ ليس من المعقول ولا المتصور أن يشفع من المؤمنين أحد بأحد شفاعة سيئة وجميع الناس في معرض الهول والفزع الأكبر. وإن شاء الله سنعطي على الشفاعة السيئة أمثلة من الدارين .

        هذا بالنسبة لعموم  الناس ، أما خاصتهم من أولياء الله تعالى ، فهم أنبل وأشرف من أن يسيئوا لأحد في الدار الآخرة ، بعد إذ كانوا في دار الدنيا حريصين على عدم الإساءَة حتى لأعدائهم ما داموا منهم في منجاة وعنهم فـي معـزل .

        وما دام الأمر كذلك  في القسم الثاني من هذه الآية ، فالقسم الأول { مَنْ شَفِعَ شَفَاعَةً حَسَنَةً … } إذن يعني كذلك ، الشفاعة في الدنيا وفي الآخرة ، لأن آيات أُخر تنص على الشفاعة في كلا الدارين وتنوِّه بها تنويهاً ، وتدعم هذه الآية بما لا يبقي أثراً لمرتاب .

        وقوله تعالى في آخر الآية  { وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا } ـ والمقيت الحافظ للشيء القادر عليه ـ يشعر بأنه من الأحسن أن يشفع الإنسان لآخر شفاعة حسنة ، فيكون له منها نصيب ، إذا كانت لمؤمن .  وأن لا يشفع شفاعة سيئة فيكون له منها نصيب . ويُطَمْئن المشفوع له بالشفاعة السيئة ، بأن الله عزَّ وجل يردها على صاحبها ، لأنه سبحانه على كل شيء  مقيت ، أي له حافظ ، وعلى المشفوع  له وعلى الشافع وعلى كل شيء  قدير . هذا إذا كان المشفوع له بريئاً ، وأما إذا كان مجرما ً، فلا تزيده  الشفاعة السيئة عذاباً ولا سخطاً من الله ، لأن الله به أعلم ، وبجزائه أحقُّ وأولى .

        وفي جميع حالات الشفاعة في الدنيا والآخرة ، نجد أن الله وحده  سبحانه ، إما أن يكون هو الآمر عن علم ومشيئة وتقدير وقضاءٍ حتم بالشفاعة والشفيع والمشفوع له ، كما شفَّع بهاجر عليها السلام ، قبيلة بني جرهم ، بعد أن شفَّع بها وبإبنها ينبوع زمزم ، وتلك شفاعة خير وجزاء خير ، وهو سبحانه لا يصدر منه إلاَّ  الخير . وإما أن يسمح ويأذن لإنسان سيء  بأن يقع في سوءٍ هو اختاره ، فلا يكون الله سبحانه  هو الذي أوقعه ، وذلك ينطبق على  أفراد الناس وعلى مجاميعهم . ومثال على ذلك إذنه سبحانه لإبليس وقبيله بأن يكونوا شفعاء لمن هم مثلهم من الناس سوءاً وربما أسوأ منهم ، أي من الشياطين . وذلك في قوله عزَّت عظمته : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } .[ 64: الإسراء ]  فمشاركتهم في الأموال والأولاد هي مشافعة ، وكذلك وعدهم من قبل الشيطان هو شفاعة سيئة كما هو واضح وبيِّن . هذا مثل  عن شفاعة السوء في الحياة الدنيا ، ومثله قوله تبارك وتعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } . [ 36 : الزخرف ]  أي نشفعه بشيطان ـ فهو له شفع وشفيع سوء .

أما الأمثلة عن الشفاعة السيئة في الدار الآخرة ، فكثيرة نجتزىء منها قوله تبارك وتعالى : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ . مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ . الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ . قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِن كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ . قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ} .[24ـ28:ق] . وقال عزّ وجل : { هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ . جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ . هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ . وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ . هَذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ . قَالُوا بَلْ أَنتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ . قَالُوا رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ . وَقَالُوا مَا لَنَا لاَ نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ الْأَشْرَارِ . أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ } . [ 55 ـ 63 : ص ] .

        وهذه الآيات هي التي تعجب منها رسول الله محمّد (ص) أيّما عجب ،  واستعظم ما حملته من حقائق  ، تقشعر لها في الحقيقة أبدان الذين آمنوا ، ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ، وماذا أعظم وأحسن وأوجب من ذكر الله له الحمد وعزَّ وجل ، وتبارك وتعالى عما يشركون . أمَّا تعجب رسول الله (ص) منها واستعظامه لما فيها ، فهو ما أمره الله  بتبليغه بقوله سبحانه : {  قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ . أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ . مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ . إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ  } . [ 67 ـ 70  : ص ] .

        ولكي لا يظنَّنَّ أحد ، بأن آية { مَنْ يَشْفَع شَفَاعَةً حَسَنَةً … }  أنها من الخاص أو المقيَّد ، نشير إلى أنها تأتي ضمن مجموعة تعاليم في سورة النساء ليس لها ارتباط قَيْدِيّ بما قبلها ولا بما بعدها ، فهي تعتبر من الآيات العامة المجملة والمطلقة .

        أما حالة  الكفار بصدد الشفاعة الحسنة في الآخرة ، فاخترنا للدلالة عليها الآيات التالية : قولـه تبارك وتعالى : { … فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا …} .

[ 53 : الأعراف ] . وقوله سبحانه : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } . [ 100 : الشعراء ] وقوله عزَّ شأنه : { … مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ … فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } . [ 48 : المدثر ]  وقوله جلَّت عظمته : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ  … مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ } . [ 18 : غافر ] وقـوله جلَّ جـلاله : {… قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا … }. [ 53 : الأعراف ] .

        يبقى المؤمنون وعلاقتهم بالشفاعة في الآخرة . قال عزَّ وجل :{ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } . [ 87 : مريم ] . نستفيد من هذه الآية حقيقتين متلازمتين : الأولى أن في الآخرة ـ وذلك يستنتج من موقع الآية  في سورة مريم ـ أناس يملكون الشفاعة ، وهم المستثنون من الآية الكريمة بـ {إلاَّ} قوله سبحانه : { إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } . وهؤلاء الذين  اتخذوا عند الرحمن عهداً أو ميثاقاً  ، وكلاهما بمعنى واحد  ، هم المعنيون في آية ميثاق النبيين : قوله تبارك وتعالى : { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَـذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ}. [ 81 : آل عمران ] . وليس في القرآن عهد أو ميثاق خاص أُعطي لغير هؤلاء ، بنص قرآني ، إلاَّ آية الولاية التي تحدثنا عنها مطوَّلاً في فصل سابق ، وهي قوله تبارك وتعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } . [ 55 : المائدة ] . أما من أراد ويريد أن يتوسع في موضوع الشفاعة ناسباً إياها لغير الأنبياء ولغير مصاديق آية الولاية هذه ، فذلك يعتمد على الأحاديث والروايات . وقد تجنبنا نحن ذلك ، ووعدنا بتجنبه جهدنا في جميع كتاباتنا تقريباً ، إلاَّ ما اقتضته الضرورة أحياناً . وذلك عملاً بقول الله عزَّ وجل : { … فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ . وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَـذَابٍ أَليمٍ } . [  6 ـ 8  : الجاثية ] .

        إذن ، إنَّ الذين اتخذوا عند الرحمن عهداً هم النبيون وصالح المؤمنين ، وهذا العهد الخاص بهم ، في جملته ملك الشفاعة التي مليكها الله سبحانه ، المالك لما ملَّكهم  ، والقـادر على ما أقدرهـم عليـه : { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا …} .

        أما الحقيقة الثانية التي نستفيدها من الآية الكريمة { لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا } . [ 87 : مريم ] ، فهي أنه ما دام الأمر كذلك  ، يعني أن الشفاعة في الآخرة هي حقيقة قرآنية في كلام الله الذي لا يأتيه الباطل  من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه سبحانه ملَّك الأنبياء والأولياء ما قضاه لهم  منها . فيكون  كل مشفَّع من الله ، مشفَّعاً بمجموعٍ  من الناس يقل أو يكثر حسب المشفّع المعني ومجتمعه ، وحسب مستوى اختصاصه إذا كان من الأنبياء ، فهو إما أن يكون ذا اختصاص واحد  ، أي نبياً فقط وإما أن يكون ذا اختصاصين : نبياً ورسولاً ، ولهؤلاء وهؤلاء ، كذلك درجات لا يعنينا هنا تفصيلها .

        هذا بالنسبة للمشَّفعين أو الشفعاء الذين عهد الله سبحانه إليهم بمهمة الشفاعة في الآخرة . يبـقى من هـم الذين أذن الله تبـارك وتعـالى بالشفاعـة  لهم ؟

        والجواب أنهم ، هم عامة المؤمنين ، في كل عصر وزمان .

        وحسب النصوص القرآنية ، يعتبر هذا الأمر محسوماً لا جدال فيه . إذ أن الكفار والمشركيـن والمنافقيـن ، الذين ماتوا على هذه الصفات ، لا تنالهـم ـ كما رأينا في الآيات ـ شفاعة الشافعين .

        فإذَنْ ، حكماً ستكون الشفاعـة  لمن يحتاجهـا من المؤمنيـن ، وشرط الإنسان  لكي يكـون مؤمناً مقبولة لـه الشفاعـة ، أن يكون موحـداً ، غير مشرك ، إذ : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء .. } .

[ 48 : النساء ] . فإذا كان متخذاً  آلهـة غير الله  ، يدعوهم ويستجير بهم ويلجأ إليهم ،  قـولاً وفـكراً وعمـلاً ، فلن يقبـل  في عداد المؤمنين . لقوله سبحانه :مخاطباً محمداً رسوله(ص): { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا } .[ 22: الجن ] .  والملتحد هو الملجأ  ، والآية طبعاً ملزمة لجميع المكلفين من خلقه سبحانه وتعالى عما يشركون .

       

أما لماذا الشفاعـة  للمؤمن ما دام  مؤمناً ، والإيمان هو المطلوب أساساً للفوز بالجنة والنجـاة من النـار ؟ وقد قال عزَّ وجل : {.. فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ.. } . [ 185 : آل عمران ]  ؟ هذا صحيح ، إلاَّ أن بعض المؤمنين ، يكون لهم من الذنوب ما يجعلهم ليس في الجحيم ، وإنما على حافتها فترفعهم شفاعة المشفَّع  بهم إلى الدرجة الأولى التي قد تكون أقرب شبهاً بالحياة الدنيا . ويبقى فوقهم من الدرجات ، ما يذهل الفكر ، ويتعب الأرقام الحسابية ، إذا حاول الفكر البشري تقديرها بالأرقام . ثم إذا كان بعض المؤمنين ، تفضل عليهم سبحانه بالدرجة الأولى ـ حسب  مآتيهم ـ  في الدنيا ، فيشفِّع بهم من يشفِّع  ، ليرفعهم إلى الثانية . وإذا كانوا في الدرجة السبعين  ، يشفِّع بهم مثلاً من يرفعهم بكرم الله إلى عليين  { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } . [ 19 : المطففين ] . فالشفاعة من وجه من الوجوه ، هي ترميم لنقص ، أو مغفرة  لذنب ، أو عفوٍ عن جريرة ، كانت تقتضي حساباً عسيراً ، فسهلت الشفاعة هذا الحساب . ومن وجه آخر ، نضرب مثلاً مضامين قوله تبارك وتعالى : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } . [ 21 : الطُّور ] . إذا كان الله سبحانه  قضى لبعض أوليائه الصالحين ، بدرجات عالية  في نعيمه ورحمته ، وكان لهم أزواج وذريات مؤمنة ، وكذلك آباء وأمهات مؤمنين ومؤمنات ، وكان هؤلاء بعضاً أو جميعاً لا يستأهلون تلك الدرجات الرفيعة ، فإكراماً لصلاح الصالحين من أوليائه ، فيشفِّعهم بمن يرضى من ذويهم ، ويلحقهم بهم في جنتهم  التي كانوا في منازل أدنى منها . ومن  هذه الآية نستنتج أن الله سبحانه يشفِّع كذلك غير الأنبياء  ممن يشاء بمن يشاء من عباده المؤمنين من البشر ، وكذلك من الملائكة ، وهذا المفهوم من الشفاعة قائم  ووارد في الدنيا والآخرة . قال جلَّ جلاله : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ . رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . [  7 ـ 8  : غافر ] .

        وتبقى الحقيقة الكبرى التي تهيمن على كل هذه الجزئيات والحيثيات في مفهوم الشفاعة ، وهي قوله  سبحانه وتعالى :

       {  قُـل لِّلَّهِ الشَّفَاعَـةُ جَمِيعـًا لَّـهُ مُـلْكُ السَّمَـاوَاتِ وَالْأَرْضِ …} . [ 44 : الزمر ] .

       بعد أن عرفنا معنى الشفاعة ، لغةً ، وبعد أن رأينا نماذج عن الشفاعة في الآخرة من خلال الآيات القرآنية ، التي تستعرض المفهوم والحقائق والأمثال . بقي أن نقدِّم نماذج عن الشفاعة  في دارنا الدنيا هذه ، معتمدين دائماً على النصوص القرآنية المقدسة ، لنعود ونربط جميع أنواع  الشفاعة ، في الدنيا والآخرة ، بعزَّة الله سبحانه ، خضوعاً للحقيقة المضيئة في قوله عزَّت عظمته : { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } . ففي الإشارات القرآنية الصريحة والكنايات ، وشتى  أساليب البيان القرآني الفذّ  ، ولغته العميقة المعجزة  ، نجد مئات الأمثال عن شفاعة الله بعباده ، وعن أنه سبحانه هو الشافع أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً ، وعن تشفيعه كذلك ، عباداً له بعباد له آخرين ، حتى وتشفيع معان ومواقف وأشياء ومخلوقات من غير البشر بمن يشاء من عباده الصالحين ، نقتصر  منها على بعض  النماذج والأمثلة . قال عزَّ وجل ، على لسان مؤمن سورة يس : { وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ . إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَـلاَلٍ مُّبِينٍ } . [  22 ـ 24  : يس ] . قوله : {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } طبعاً آلهـة مزعومين ، إذ لا إلـه إلاَّ الله ، وهو ما يحتج به الرجل على قومه ، ويعرِّض بهم ، بأنهم  يعبدون من دون الله أصناماً حجرية وبشرية . والحقيقة  أن الناس قد عبدوا وما زالوا ، في التاريخ الماضي والراهن ، من البشر ، أكثر مما عبدوا من الحجر . والعبادة هي الطاعة  للمعبود ، وذكره أكثر مما يذكر الله . وما أكثر الناس الذين يؤلهون بشراً ، أمواتاً وأحياءً ، ويسألونهم الشفاعة عند الله ، وهو ممنوع عليهم تحت طائلة غضبه عليهم ومقته لهم سبحانه .

       

إذ المفروض  أن يسألوا الله وحده أن يشفِّع بهم من يشفِّع ، هذا إذا كانوا يعلمون مع صدق التوحيد ، أنه لا بدَّ لهم من شفاعة . وإلاَّ فبإستطاعة الإنسان المؤمن الموقن  بالله عزَّ وجل وبوحدانيته وكتابه ووعده ووعيده ، أن يسعى لأن يكون أحد إثنين ، في جميع الأحوال هما أحسن من سائل الشفاعة يطلبها من عباد الله : أولهما أن يكون هو مشفَّعاً ، يعني يشفِّعه الله سبحانه بآخرين من إخوانه في الله ممن هم أدنى منه إيماناً وأقل جهاداً في سبيل الله ـ ولا يكون ذلك إلاَّ إذا وهب نفسه وقلبه وبدنه ومتعلقاته  ودنياه كلها في سبيـل رب العالميـن ـ وأما الثاني ، فهو أن يستغني بشفاعة الله وحده ، عن الشفيع من المخلوقين ، وكذلك ، لكي يصل إلى هذا المقام ، ينبغي أن يكون من الموحديـن الصدِّيقين ، والمجاهديـن  الأبرار .

        ولا ننسينَّ إضافة لهذا كله ، أن لله سبحانه في خلقه شؤون ، منذ الأزل وقبل إهباطهم على هذا الكوكب . ولعلَّ من الأمثلة الصالحة للحصول على المطالب الثلاثة  التي نحن بصددها : الشفاعة في الدنيا ، وأن لله سبحانه شؤون في خلقه قبل ولادتهم في دنيانا هذه ، والثالث ، ما يرتبه الله جلَّت عظمته ، على يقين الإنسان وولائه لربه وعدم معصيته له في أشد الفتن قهراً على نفس الإنسان وبشريته ، وأعصابه ورغباته . قلت لعلَّ من الأمثلة  الصالحة لذلك كله ، قصة هؤلاء البشر : يوسف وأبيه وإخوته ، وآثار هيمنة  الله المهيمن  وحده لا شريك له ، سبحانه وتعالى عما يشركون . هذه القصة  الغنية بالعبر ، والتي سماها الله سبحانه أحسن القصص ، نوجزها إيجازاً شديداً ، متوخين فيها ، فقط المطالب الثلاثة التي ذكرناها آنفاً .

        قال تبارك وتعالى:{أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.[64:النمل ] .

        ومن جملة هذا الرزق الذي في الآية ، الشفاعة .

        قال تبارك وتعالى :

        { لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ } . [ 7 : يوسف ] .

        أول شفيع ليوسف ، كان هو الله سبحانه ، ثم سبَّب له الأسباب ، ومنها  الشفاعة في الحياة الدنيا . فشفَّع به ملائكته كَتَبَةً وحَفَظَةً ورعاةً ودعاةً ، ورسلاً إليه يعلِّمونه ويوجهونه . وهذا ليس عجباً ، فهو ميسر لأي مؤمن عادي ، حسب منـزلته السابقة عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون . ثم شفَّع به أباه ، حيث غمره بعطفه وحبه، ووجد نفسه عن غير عمدٍ يفضله ويقرِّبه ، مما أشعر فعلاً إخوته العاقِّين بذلك . فنووا ما نووا ، وفعلوا ما فعلوا . ثم شفَّع به الرؤيا التي رآها :{ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ . قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } . [  4 ـ 5  : يوسف ] . ثم شفَّع به السيارة : {وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ . وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } . [  19 ـ 20  : يوسف ] . ثم شفَّع به امرأة العزيز الذي اشتراه ، وقد تبين  فيما بعد أنها سافلة ، فابتلاه بها وبنسوة المجتمع المخملي الذي ديدنه الفساد والشهوات . وأظهره الله نموذجاً رائعاً من الذين يوالون الله وحده ، ويطيعون الله وحده ، ويخافون الله وحده . وشفَّع به أحد صاحبي السجن ، الذي ظن أنه ناج منهما ، إذ قال له يوسف : { ..اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ ..} يقصد عزيز مصر ومليكها . وهنا سقط يوسف من شاهقه الذي كان فيه مقرباً عند ربِّه ، سقط تحت وطأة السجن وظروف السجن ، إلى أن يطلب شفاعة من غير الله . وظنَّها هي المطلوبة ما دامت في أعلى مستوياتها عند رئيس البلاد . فقيض الله له شيطـاناً أنساه ذكر ربه العظيم ، فلبث في السجن بضع سنين ، زيادة على ما كان الله سبحانه كتب له من أجل تربيته  وتعليمه . ثم اجتباه ربه إذ تاب ، فتاب الله عليه ، وأخرجه من السجن وشفَّع به مليك مصر ، فجعله وزير خزانته ، ثم المسؤول عن تدبير اقتصاد البلاد برمتها ، ثم رفعه الله سبحانه فجعله هو عزيز مصر وسيدها بدون منازع . حيث جلب أهله وإخوته بعد أن محَّصهم الله بعقوبات وإبتلاءات شديدة ، منها العوز والحاجة والكدح في تحصيل الرزق ، والأسفار الشاقة في البوادي والقفار، يرسلهم في أكثرها وأبرزها إلى أخيهم الذي حسدوه وشرعوا بقتله ، لولا أن ينجيه ربُّه الله تبارك وتعالى { فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } . وذلك  ليذل الله أنوفهم ، وليذقهم جزاء المعصية الكبيرة التي أقدموا عليها ، وليكونوا درساً لغيرهم في حياة البشرية ، إذ قالوا وكلّهم شرعاً راشدون ، ما حكاه الله سبحـانه عنهم : { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْـنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَـلاَلٍ مُّبِينٍ . اقْتُلُواْ يُوسُفَ … } . [ 8 ـ 9  : يوسف ] . وأخيراً كان الله هو وحده شفيعه سبحانه ، حيث جلب له أهله من البدو ، وغسل قلبه من الضغينة على إخوته ، وجعله يستمتع بصحبتهم ومحبتهم بفضل الله تعالى وكرمه .

وهكذا فقد تبين أن الله عزَّ شأنه ، وجلَّت عظمته ، هو الشفيع أولاً  وهو الشفيع آخراً  قوله عزَّ وجل : { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } . [ 3 : الحديد ] . كما تبين أن معنى الشفاعة  هو أعمُّ من أن يكون إسقاطاً لعقوبة ، أو صفحاً عن ذنب ، وأن يكون الشفعاء فقط من الناس ومن أولياء الله الصالحين . كما في الحياة الدنيا ، كذلك في الآخرة . فالشفيع هو الله وحده ، فإن شفع  أحداً من خلقه ببعض الناس ، فيكون سبحانه قد جعل الشافع سبباً لإنقاذ من يريد أن ينقذه هو تبارك وتعالى ، سواءً كان بعض المؤمنين الموحدين أو جميعهم . علماً ، كما أسلفنا ، أنه ليس للكافرين ولا للمشركين شفاعة ، ما لم تكن التوبة والإنابة قبل الموت . بل لهم وعيد الله وعذابه ، كما فصَّله في منـزلاته ، سبحانه وتعالى عما يشركون .

قال تبارك وتعالى :

{ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ . وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ … }.[  22 ـ 23  : سبأ ] .

ويتضح معنى قوله عزَّ وجل : { قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا..} أكثر فأكثر ، لمن يتعامل مع القرآن الكريم ، كما أمر الله سبحانه ، تلاوة ، وتخشعاً ،وتدبراً لآياته ، ووقوفاً عند حروفه ، وسياحة بينها ، وسفراً في لججها ، فسيجد نفسه على شطآن السلامة ، وأمامه الجمال العبقري بلا نهاية ، ثم جمال الجمال ، ثم سرُّ الجمال ، ثم سرُّ السر ، ثم السرُّ المستسر ، فيخرُّ أمام عظمة الله ، وبتوفيق منه سبحانه ، ساجداً بعقله وقلبه وجميع جوارحه وكلية وجوده ، أمام وحدانية الله ، وحاكمية الله ، وشفاعة الله وحده لا شريك له ، وستبقى الحقيقة التي قالها محمّد (ص) وهي : ” إنَّ أصدق كلمة قالتها العرب ، هي كلمة لبيد :

                    ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل ُ ”

ستبقى ماثلة أمام عقل كل ذي عقل ، ولب كل ذي لب ، على هامش كل آية ، وكل كلمة ، وكل حرف من كتاب الله المجيد : وتشعُّ هذه الآية من آيات الله وتضيء ، فتمحو كل ظلام وتعلو كل كلام ، وهي قوله سبحانه وتبارك وتعالى وعزَّت قدرته وجلَّت عظمته :

{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } . { 30 : لقمان } .

خلاصة صغيرة لمنهجية المبحث

حيث أننا ما زلنا نكتب تحت العنوان الكبير الذي توَّجنا به هذا الفصل من هذا الكتاب : [ هو الأول والآخر ] ، والذي اقتضى عنواناً ثانياً : [ من الناصر والكافي ؟  القائد النبويُّ أم العسكري أم الله ؟ ] . وحيث أننا  استطردنا ملاحظين عناية الآيات القرآنية الكريمة ، بلزوم ذكر الله وحده ، بعد الكلام  عن ( العبرة الأولى : واقعة الأحزاب ) . لذلك ، والتزاماً باسم الكتاب  الأصلي : [ دعوة إلى الله ] نتابع حسب المنهجية التي رسمناها لهذا الفصل . فنتحدث ، ذاكرين الله عزَّ وجل ، وأفضاله ومننه ورحمته ورعايته لموسى ، وبعده { أَخَا عَادٍ في الأَحْقَافِ } . وذلك بعد أن تحدثنا عن مريم وعن إبراهيم ، عليهم السلام جميعاً . تبعاً لقوله سبحانه : { واذْكُرْ في الكِتَابِ مَرْيَمَ …} { واذْكُرْ في الكِتَابِ إبراهيمَ …} . فيبقى أمامنا إذن : { واذْكُرْ في الكِتَابِ مُوسَى … } ، ثم بعـدها { واذْكُرْ أَخَا عادٍ …} . وبهذه النماذج ، نكون قد لخَّصنا الفكرة العامة ، التي لأجلها ، كما قلنا ، كان هذا التعليم من الله لرسوله (ص) وللناس ، وهو ذكره هو سبحانه ، وذكر فضله ونعمته على هؤلاء وعلى العالمين . ثم ننتقل بعد ذلك إلى : ( العبرة الثانية : وقعة أُحد ) . ثم  ( العبرة الثالثة : وقعة حنين ) كما وعدنا آنفاً . وبذلك إن شاء الله ، نكون قد استكملنا منهجية هذا الفصل : [ هو الأول والآخر ] .