حكمة الله وحاكميته في ” أُحُد “

 

حكمة الله وحاكميته في ” أُحُد “

         قال الله تبارك وتعالى :

       { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }. [ 152 : آل عمران ] .

        هذه الآية الكريمة تلخِّص  واقعة ” أُحُدٍ ” الشهيرة ، عهد رسول الله محمد (ص) ، والتي جرت حوادثها قرب هذا الجبل الذي سميت باسمه ” أُحُد ” وهو جبل قريب من المدينة المنورة .

        وواقعة أُحُدٍ هذه ، واحدة من أكبر العبر ، التي توضح مدى علاقة الله بعباده ، وحاكميته لهم وحكمته فيهم ، وأنه ما من أحد من خلق الله إلاَّ وهو مراقب ومحاط به ظاهراً وباطناً ، ومثاب أو معاقب تبعاً لسلوكه في تعامله مع تعاليم الله جلَّ شأنه ، وما يقال في الأفراد  ، يقال كذلك عن الجماعات  ، صغيرها وكبيرها ، من الأسرة ، إلى الحي إلى القرية فالمدينة ، ومثل ذلك الشعوب والدول والعساكر المحاربة .

        ومعركة أُحُد من أكبر المعارك في تاريخ الدعوى الإسلامية ، وأعظمها عِبَراً وكَشْفاً عن سرائر النفوس ، وصدماً للأحاسيس  ، وأكثرها مناقشة للنوايا والمشاعر الدقيقة والبسيطة في الظاهر ، والكبيرة والخطيرة  في الحقيقة . وقعت بعد عدة مواجهات بين أهل التوحيد بقيادة رسول الله (ص) وبين أهل الشرك ، كان أكبرها معركة بدر الكبرى ، التي نصر الله فيها أنصاره الموحِّدين على أعدائه المشركين ، أي الذين يؤمنون به سبحانه ويؤلهون غيره من خلقه من البشر أو من الحجر أو غير ذلك .

        وفي هذه الآية الملخِّصة لِمُجريات وقعة أُحُد ، إشارات هي المطالب الأساسية كفرائض على المكلفين ، تلزم كل واحد منهم بأن يعلم ويعمل تحت طائلة المسؤولية ، أن الحاكم للكون وما فيه من خلق ، ومنهم هذه السلالة البشرية ، هو الله جلَّت عظمته وحده ، بدون شريك ولا معين ولا مساعد ولا معاضد ، يقول للشيء كن فيكون . فالإشارة الأولى إلى حاكمية الله وحده في الآية الكريمة ، قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ } . وفي قوله تعالى : { إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ } إشارة إلى أنه لو لم يأذن بذلك ـ ومعنى َتحُسُّونَهُم  تقتلونهم  ـ ما حسُّوهم في البداية عندما جعل النصر المبين للمؤمنين . وهذه إشارة ثانية لحاكميته وحده . أما قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } ففيه تضميـن معناه : حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم … قلب عليكم الأمر ، فبعد أن كنتم في موقع النصر ، جعلكم في موقع الهزيمة . وهذه إشارة ثالثة  إلى حاكميته وحده سبحانه وتعالى عما يشركون . والإشارة الرابعة : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ }  والخامسة : { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } وهذا خطاب للذين لم يعصوا الله منهم خاصة ، بدلالة قوله تعالى عن المسلمين في أُحُد ، في الآية التي تلي هذه مباشرة : { …وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ … } . [ 154 : آل عمران ] ، فمن كان كذلك، لا يعفو عنه الله سبحانه ، فقوله { يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ } يعني ظن السوء  ، وهو سبحانه يقول :{  لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ …  وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا }.[  5 ـ 6  : الفتح ] .

        فالخطوط الرئيسة كلها في هذه الآية ، تدور حول مفهوم واحد ، سنراه يتكرر في جميع  الآيات المختصة ـ من حيث مناسبة النـزول ـ بوقعة أُحُد . كما نراه يلخِّص جميع آيات القرآن الكريم . هذا المفهوم هو كلمة لا إلـه إلاَّ الله، له الأسماء الحسنى ، {… وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } . [ 27 : الروم ] هذا المفهوم ، يضع معركة أُحُد ، بمقدماتها ومجرياتها وخواتيمها ، ضمن إطار واحد . وهذا الإطـار ، بما فيه من تاريخ وجغرافيا ، وحركة وحياة ، وقعقعة سلاح ، وتصهال خيول ، وتكبير من جهة ، وصياح من جهات ، وسيوف كالشهب ، ورماح كالشعل ، وهمم وعزائم وأضداد ، كل ذلك كان الله محيطاً به وبأدق تفاصيله ، إحاطة العليم الحكيم ، المتسلِّط المهيمن ، العزيز الجبار المتكبِّر . حتى استخرج سبحانه من أنفس القوم ، ما لم يكونوا يعرفونه هم في أنفسهم  ، على شتى حقائقهم : مؤمنين ومنافقين وكافرين . هذا إذن هو العنوان الخاص بأُحُد ، وهو ذاته العام للكون : حكمة لله وحاكميته وحده في خلقه .

        وداخل هذا الإطار ، كانت تتحرك ، كذلك ، بإذن الله ، قيادة مكلفة ملهمة ، تقود أنصاراً لله ، لتصد وتصدم بهم أعداء له شرسين وكثر . وتقع ضمن هذا الإطار مفارقات ، فيها من طرف أنصار الله فشل وتنازع بينهم في أمره سبحانه ، ومعصية كبيرة ، بعد أن صدقهم وعده في بداية المعركة. وعده هذا كان في آيتين نزلتا في الطريق إلى أُحُد ، بعد ظهور فجائي لفريق غدر وفجر وشكَّك ، ثم انفصل عن الجيش راجعاً إلى المدينة . ذلك هو فريق المنافقين  ، بقيادة زعيم  لهم ( هو عبد الله بن أبي سلول ) . هاتان الآيتان بلَّغهما رسول الله (ص) للقوم فور نزولهما ، قوله تعالى :

       { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ . بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } . [  149 ـ 150  : آل عمران ] .

*  *  *

حملة عسكرية إلى أُحُـد :

        ما كتبناه لغاية الآن في هذا الموضوع : ( حكمة الله وحاكميته في أُحُد ) هو عبارة عن شرح موجز لهذا العنوان الخاص ـ العام ، ومحاولـة تحديد لإطار المعركة ـ العِبْرَة ، يتضمن مقدماتـها ومعالمها والنتائج . ففي المقدمات نبدأ بالسبب :

        أما سببها ، فإن بقية من زعماء قريش ، ممن لم يقتلوا في غزوة بدر ، اجتمع رأيهم على الثأر لقتلاهم في بدر ، وأن يستعينوا بعير أبي سفيان وما فيها من أموال لتجهيز جيش قوي لقتال رسول الله (ص) . فاجتمعت كلمة قريش على ذلك ، وانضم إليهم غيرهم أيضاً ممن يسمون بالأحابيش ، واستعانوا بعدد كبير من النسوة كي يمنعن الرجال من الفرار إذا أحدق بهم المسلمون . وخرجوا من مكة وقد بلغوا ثلاثة آلاف مقاتل .

        وسمع رسول الله (ص) بالخبر ، فاستشار أصحابه وخيَّرهم بين الخروج لملاقاتهم وقتالهم ، والبقاء في المدينة ، فإن دخلوا عليهم فيها قاتلوهم ، فكان رأي بعض شيوخ من المسلمين عدم الخروج من المدينة ، وكان عبد الله بن أبي سلول من أصحاب هذا الرأي . غير أن كثيراً من الصحابة ممن لم يكن لهم شرف القتال في بدر ، رغبوا في الخروج ، وقالوا يا رسول الله أخرج بنا إلى أعدائنا ، لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا … ولم يزل أصحاب هذا الرأي برسول الله (ص) حتى وافقهم على ما أرادوا . فدخل بيته فلبس درعه وأخذ سلاحه ، وظن الذين ألحوا على رسول الله (ص) بالخروج ، أنهم استكرهوه على ما لا يريد ، فندموا على ما كان منهم ، ولما خرج عليهم قالوا : استكرهناك يا رسـول الله ، ولم يكن لنا ذلك ، فإن شئت فاقعد . فقال رسـول الله (ص) : ما ينبغي لنبـي إذا لبس لأمته ( أي درعه ) أن يضعها حتى يقاتل(1).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     رواه ابن إسحاق والإمام أحمد وروى الطبري قريباً منه 2/62 وتاريخ الطبري : 2/500 وترتيب مسند الإمام أحمد 22/52  .

        ثم إن النبي (ص) خرج من المدينة في ألف من أصحابه ، وذلك يوم السبت لسبع ليال خلون من شوال على رأس اثنين وثلاثين شهراً من هجرته عليه الصـلاة والسلام(1) . حتى إذا كانوا بين المدينة وأُحُد ، انخزل عبد الله بن أبي سلول بثلث الجيش ، وكان يتخذ منهم ( ميليشيا ) خاصة به ، وكرَّ راجعاً وهو يقول : عصاني وأطاع الولدان ومن لا رأي له ، وما ندري علام نقتل أنفسنا ؟

        وتبعهم  عبد الله بن حزام يناشدهم الله أن لا يخذلوا نبيهم ، فلم يستجيبوا لندائه ، وقال زعيمهم : ” لو نعلم قتالاً لاتبعناكم ” . في هذه الأثناء أنزل الله عزَّ وجل قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ . بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } .[  149 ـ 150  : آل عمران ] ، وأبلغ رسول الله (ص) ذلك كما أسلفنا ، إلى الذين ثبتوا معه من المؤمنين . وفي الآية الأولى كما هو واضح ، سمى الله هؤلاء الذين انشقوا : كافرين، { إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ } وفي الآية الثانية { بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ } وعد بتوليهم بعنايته ورعايته ونصره . مما كان يجب أن يلزمهم بالطاعة لأوامر رسول الله (ص) بحرفيتها ، ويجعل كل واحد منهم بصلابة الصخر لا يلين ولا يشك ، ولا يولي الأدبار . فماذا الذي حصل ، حتى قلب الله لهم النصر إلى خذلان ؟ مما جعل بعضهم يظن الظنون برسول الله (ص) الذي أبلغهم وعد الله سبحانه ، وهم كانوا كذلك معتمدين على وعـود كثيرة منه (ص) قبل ذلك اليوم ، بأن الله سينصر الإسلام والمسلمين على أهل الشرك .

        الذي حصل هو ما فصَّله سبحانه بقوله : { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي جبنتم عن عدوكم وكففتم وطمعتم بالمغانم { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } . [152 : آل عمران ] . وذلك أن النبي (ص) عسكر وأصحابه في الشعب من أُحُد ، فجعل ظهور المسلمين إلى أُحُد واستقبلوا المدينة . وجعل على  الجبل خـلف المسلميـن

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     طبقات ابن سعد : 3/87 . وسيرة ابن هشام : 2/62 .

خمسين رامياً ، وأمَّر عليهم عبد الله بن جبير ، وأوعز إليهم قائلاً : ” قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا قد انتصرنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا “(1) .

        وألحَّ كل من رافع بن خديج وسمرة بن جندب أن يشتركا مع المؤمنين في القتال وهما إبنا خمس عشرة سنة ، فردَّهما النبي (ص) لصغر أسنانهما ، فقيل له : يا رسول الله إن رافعاً رام ، فأجازه ، فجاء سمرة بن جندب يقول : فأنا والله أصرع رافعاً ، فأجازه هو أيضاً .

        وأمسك النبي (ص) بسيف فقال : من يأخذ هذا السيف بحقه ؟ فأقبل أبو دجانة قائلاً : أنا آخذه بحقه ، فأعطاه إياه ، فأخرج أبو دجانة عصابة حمراء فعصب بها رأسه ( وكان ذلك شأنه عندما كان يريد أن يقاتل حتى الموت ) ، ثم راح يتبختر بين الصفوف ، فقال رسول الله (ص) : إنها لمشية يبغضها الله إلاَّ في مثل هذا الموطن (2) .

        فاقتتل الناس ، وحميت الحرب ، وراح المسلمون يحسون المشركين في اندفاع مذهل .

        وقتل صاحب اللواء وكان من بني عبد الدار ، فأخذ اللواء علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وما هو إلاَّ أن أنزل الله نصره على المسلمين ، فانكشف المشركون منهزمين لا يلوون على شيء ونساؤهم يدعون بالويل . وتبعهم المسلمون يقتلون ويغنمون . فتكلم الرماة الذين كانوا يرابطون على الجبل في النزول ، واختلفوا فيما بينهم ، فنزل كثير منهم ظناً منهم بأن الحرب قد وضعت أوزارها ، وراحوا يأخذون مع أصحابهم الغنائم . وثبت رئيسهم عبد الله بن جبير مع بضعة من أصحابه قائلين : لا نجاوز أمر رسول الله (ص) . ونظر المشركون إلى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)     ابن سعد 3/80 وابن هشام بألفاظ قريبة من هذه وروى نحوه البخاري 5/28 .

(2)     ابن هشام 1/233  وروى مثله مسلم عن طريق حماد بن سلمة . إلاَّ أنه لم يرد في  مسلم  : إنها لمشية يبغضها الله ( انظر صحيح مسلم : 7/150 ) .

خلاء الجبل وقلة أهله ، فكرُّوا راجعين بالخيل ، وحملوا على من بقي من الرماة، فقتلوهم وأميرهم ، وأخذوا يهجمون على المسلمين من الخلف .

        ومرة ثانية كان قد أبلغ رسول الله (ص) المسلمين وعد الله بالنصر ، وقبل بدء المعركة ، حيث أنزل الله تعالى قوله : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُـمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّـالِمِينَ}. [ 151 : آل عمران ] . ورغـم أن هذه الآية طبعت بداية المعركة بطابعها العميق ، واستقطبت المشركين فيما بعد ، في حمراء الأسد ، الغزوة التي تلت أُحُد، فستبقى كذلك سنَّةً من سنن الله تعالى في خلقه ، يرون مصاديقها في كل آن وزمان إلى قيام الساعة .

        وعلى هذا الوعد المبارك من الله جلًّ وعلا ، ترتب حسم المعركة في البداية لمصلحة المسلمين ، حيث وضعوا سيوفهم في رقاب أعدائهم الذين تضعضعت صفوفهم ، مع أول صدمة صدمها إياهم أنصار الله المسلمون ، ودفع بهم  ما تملكهم من الرعب الشديد ، إلى الهرب ، حتى أن النسوة كن يتصدين للهاربين يعبن عليهم  جبنهم وفرارهم . وقد اشتهر عن هند بنت عتبة ، زوجة أبي سفيان ، قائد المعركة آنذاك ، قولها شعراً ، تهزج به في وجوه الفارين من المعركة ، وبعض النسوة معها يرددنه ، فمنه قولها :

                عِرْسُ المُولِّيِ طَـالِقْ              والعَـارُ مِنهُ لاحِـقْ

                إن  تَهزِمُوا  نُعانِـقْ              ونَفْرُشُ   النَّمَـارِقْ

                أو تُهْزَمُوا  نُفَـارِقْ               فِرَاقَ غَيـرِ وَامِـقْ

        وهكذا يحاولن إرجاعهم إلى ساح المعركة ولكن عبثاً . فأصبح المسلمون مهيمنين على المكان . ولكن بدلاً من أن يتعقبوا القوم ويكسروهم  شر كسرة ، انشغل أكثرهم بالمغانم وجمعها من أرض المعركة ، وتركوا علياً بن أبي طالب رضي الله عنه مع مجموعة قليلة من الفرسان همهم طاعة الله وجهاد أعدائه من المشركين ، ينقضُّون على شراذمهم كالصقور والعقبان . وبينما هم كذلك ، صاح صائح : يا خيل الله … إلتفَّ علينا المشركون بخيلهم فارجعوا وراءكم . وصائح آخر يقول : ها هم يتوجهون إلى رسول الله (ص) وقد أصبح بينهم وحده . فالتفت الأبطال الذين ثبتوا  ، فإذا الأعداء يضعون سيوفهم في رقاب المسلمين . وكان أول من قتل من المسلمين من الخلف ـ بعد استشهاد ابن جبير ومن ثبـت معـه على الجبل ـ أولئك الذين عصوا الله ورسوله بنزولهم من حيث أوصاهم بالبقاء . فأبيدوا وهم منشغلون مع آخرين بجمع الغنائم . فكان أول هم بديهي لصاحب الراية ومن صدق الله معه من الفرسان والرجَّالة ، أن يعودوا مخترقين ساح المعركة، وقد عاد المشركون الهاربون ليطبقوا عليهم من أمامهم ومن خلفهم  بفكي كماشة. وأعانهم الله عزَّت عزته ، حيث وصلوا إلى النبي (ص) ليجدوه جريحاً في وجهه الشريف ، ينزف دماً غزيراً وقد أحدق به الأعداء من كل جانب ، لولا بعض الفدائيين الذين نصبوا أنفسهم تروساً حوله يتلقون بأبدانهم السهام والسيوف والرماح الكافرة . ثمانية أو أقل من ذلك ، أولئك الذين ثبتوا مع رسول الله (ص) حتى النهاية ،بعد أن استشهد دونه في سبيل الله من استشهد، وقُتِلَ في سبيل الله أو في سبيل المغنم من قُتِل . أما الباقون فقد ولَّوا الأدبار في كل اتجاه تمكنوا من الهروب فيه . ولا سيما الذين صعدوا الجبل خائفين هلعين لا يلوون على شيء . وقد صوَّر الله سبحانه هذا المشهد ، ظواهره وبواطنه ، بآيات رصدت في القوم حتى الأحاسيس والنوايا الدقيقة والعميقة ، فضلاً عن الصور الخارجية لتصرفاتهم  وتحركاتهم السلبية منها والإيجابية . وسنجد كل ذلك ، من سبر أغوارهم  وأعماقهم وكشف نواياهم ، على اختلاف معادنهم آنذاك ، في هاتين الآيتين الكريمتين ، قوله تبارك وتعالى مخاطباً المسلمين ، وطبعاً بالطريقة القرآنية التي تقول  الكثير الكثير من البيان ، بالقليل القليل من الكلام : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.[153 ـ154 : آل عمران ] .

{ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } ، لا للنبي ولا لمخلوق غيره :

        هم ، أي المسلمون ، آنذاك ، لعلهم اعتمدوا على نبوة النبي (ص) وعلى وعده العام بالنصر على المشركين . وباعتمادهم عليه (ص) اعتبروه الحصن والملجأ والمعقل الذي لا يضام ولا يرام ولا يحاول ولا يطاول ، ونسوا الله عزَّ وجل ، الذي هو وحده المعتمد والحصن والملجأ والمعقل الذي لا يضام ولا يرام ولا يحاول ولا يطاول . فحاسبهم سبحانه على الإعتماد على غيره وهو المُعْتَمَد ، وعلى الإعتقاد بكفاية غيره وهو الكافي . وحكم عليهم بهذا الدرس التاريخي ليكونوا عِبْرَةً لأنفسهم وعِبْرَةً لغيرهم في مسار التاريخ إلى قيام الساعة .

وهذه واحدة في عمق الحدث .

        ولعلهم كذلك اعتمدوا على حقهم بالنصر ، حتى ولو عصوا ولو أخطأوا، كونهم  مسلمين لله . فهم يطالبون الله سبحانه ـ بغير استحقاق ـ بحقوقهم المظنونة عنده ، فعلَّمهم بخذلانه لهم أدب الإعتقاد ، وأنه ليس لأحد حقٌّ على الله سبحانه . وإن كان هو تعالى جعل على نفسه حقوقاً للمؤمنين ، فإنَّ ذلك بتفضُّلٍ وتكرُّمٍ منه ورأفةٍ ورحمةٍ . وإلاَّ فالحقيقة أنه جلَّ شأنه خلق الجميع من العدم ، وتفضَّل عليهم  بنعمة الوجود ، ثم ببقية النعم التي يتميز بها البشر . ولولا أن رحمته تسبق على المؤمنين غضبه لما ترك على ظهرها من دابة ، ولذلك وبهذه المحاكمة التي رأيناها ، وسنراها بعد في الآيات  ، وبإصدار هذه الأحكام  ، يكون سبحانه قد تفضَّل عليهم وعلى من يأتي بعدهم من الناس ، بعلمٍ عميقٍ وتربية عالية تليق بأنصار الله ، وبحاملي رسالته إلى العالمين .

 

وهذه ثانية في عمق الحدث .

         وأما الثانية في عمق الوقائع فهذه : لعل النبي (ص) إذا لم يكن داخله شيء من الظن بعدم بشريته ، فقد داخل الآخرين ، حتى ظنوا به بعض الألوهة ، واعتقدوا بأنه حيث يمسح بيده ، تمرع الأرض خصباً ، وتنبت زرعاً ، وتبرىء جراحاً ، وتشفي أمراضاً ، وتحيي وتميت ، وتنصر وتخذل على مستوى أفراد الناس ومجاميعهم ، وكل ذلك بدون الله عزَّت عظمته ، وبدون إذنه ، وحتى مع نسيانه ونسيان ذكره تبارك وتعالى عما يشركون .

        والحق يقال ، إن هذه الحسابات هي لباب العلم الحقيقي الذي أراد الله أن يعلِّمه ، وقد علَّمه لعباده . ورغم ذلك كله ، فإن أكثر الناس ، حتى من أدعياء العلم الديني ، يظنون في الأنبياء والأئمة والأولياء ، أُلوهية تخرجهم عن بشريتهم ، ويعتقدون معها أنهم ينصرون ويخذلون ، ويحيون ويميتون ، وينسون أن هؤلاء الأنبياء والأئمة والأولياء ، منهم من تفرَّق عنه أتباعه بعد أن أسلموه لعدوِّه ليعذِّبه ويصلبه ، ومنهم من انهزم عنه جنده حتى استفرد به الأعداء ، وجرح كما جرح رسول الله محمّد (ص) وكسرت رباعيته ( السن التي قرب الناب ) وهو أعز المرسلين . ومن الأئمة والأولياء من أُوذِي شديد الأذى هو وأتباعه ومنهم من قتل وما أكثر من قتل من الأئمة ومن أولياء الله . فعلام لم يستطع النبي (ص) أن يرد عن نفسه حجراً رُمِيَ به فشجَّه في وجهه الشريف ؟ وعلام لم يستطع استكمال النصر لجيشٍ هو قاده بنفسه ، بعد أن نصره الله في جولة حاسمة محقِّقاً له فيها  وعده سبحانه ، ثم بسبب مباشر من معصية بعض الجند ، إذا بهذا الجيش ينهزم شرَّ هزيمة ، ويحاول رسول الله (ص) الصعود في الجبل فيقع لشقِّه ؟ وعلام لم يرد الأئمة عن أنفسهم  القتل بالسيف أو بالسم أو بالمرض أو بأية وسيلة  أو سبب من أسباب القتل أو الموت ؟ فما داموا هكذا لا يستطيعون أن يردوا عن أنفسهم ولا عن أتباعهم وهم أحياء ، فكيف يطمع بهم ويرجى منهم الإحياء أو الإماتة أو الشفاء أو النصر على الأعداء بعد أن ماتوا أو قتلوا أو حتى إذا كانوا أحياءً يرزقون ؟

        أفلا يمكن أن يكون هذا الوجه ، كذلك هو المراد مع جملة الوجوه والعِبَر ، التي جعلها الله بليغة في وقعة أُحُد ، حتى لا ينساها الحريصون على الفهم والعلم  وصحة الإعتقاد وسلامة الدرب والولاء الذي لا بديل عنه لرب العالمين ؟ بلى ، والعقل والنص والسيرة والإجماع ، مؤيدات لذلك بقوة الحجة وسطوع البرهان .

        هذه بعض الوجوه التي هي وَمَضاتٌ من أنوار التفسير القرآني ، المكنونة في الكلمات وما بين الكلمات . ولكي نتأكد من { إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } كما قال سبحانه ، وليس هو لنبي ولا إمام ولا لمخلوق من دون الله ، فلنقرأ  في حنايا وقعة أُحُد وبين كلمات الآيات ، ولنعد ونتأمل بدهشة وبخشوع عميق فيما نحن بصدده من الآيتين الكريمتين المذكورتين آنفاً : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ …} ، لنرى مدى أفضال الله على عباده في عمر الدهر،منذ تلك الواقعة ،بما أظهر لهم من عِبَرِها،وبما أنزل إليهم من آيات بينات لتكون لهم مرجعاً في كل حين وكل زمان .

        ففي الوقت الذي كان رسول الله (ص) مشغولاً بالدفع عن نفسه ، وبضعة فدائيين معه مشغولين بالدفع عنه وعن أنفسهم ، كان بقية المسلمين يصعدون  الجبل لا يلتفتون إلى أحد ورسول الله في مؤخرتهم يدعوهم إلى الرجوع والثبات ومناهضة المشركين . ذلك قوله تبارك وتعالى : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ }  أما قوله سبحانه : { فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } فمتعلق بحمراء الأسد ، وهي المكان الذي وصل إليه المسلمون  في اليوم الثاني  متعقبين أهل الشرك .

        وذلك انه حين انصرف رسول الله  (ص ) من أُحُد مساء السبت ، فبات تلك الليلة في المدينة هو وأصحابه ، وبات المسلمون يداوون جراحاتهم . فلما صلىَّ رسول الله (ص) الصبح يوم الأحد ، أمر بلالاً أن ينادي  أن رسول الله يأمركم بطلب العدو ، ولا يخرج معنا إلاَّ من شهد القتال بالأمس … ودعا رسول الله (ص) بلوائه وهو معقود لم يحل ، فدفعه إلى علي رضي الله عنه ، وخرج القوم 

 

وهم ما بين  مجروح وموهون ومشجوج ، حتى عسكروا بحمراء الأسد ( مكان من المدينة على بُعد عشرة أميال ) فأوقد المسلمون هناك نيراناً عظيمة ، حتى ترى من المكان البعيد وتوهم كثرة أصحابها .

        ومرَّ بهم  معبد بن معبد الخزاعي ( وكان يومئذ من مشركي خزاعة ) ثم تجاوزهم ومرَّ على المشركين  ولهم زجل وزهو بالنصر الذي لاقوه في أُحُد ، وهم يأتمرون بالرجوع إلى المدينة للقضاء على المسلمين ، وصفوان بن أمية ينهاهم . فلما رأى أبو سفيان معبداً قال : ما وراءك يا معبد ؟ فقال ويحكم ! إن محمّداً قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم تحرقاً فيهم من الحنق عليكم شيء لم أر مثله قط … فأدخل الله بذلك رعباً عظيماً في قلوب المشركين ، وهبوا مسرعين عائدين إلى مكة . وأقام النبي (ص) في حمراء الأسد : الإثنين والثلاثاء والأربعاء ، ثم رجع إلى المدينة .

الثواب بعد العذاب : حكم الله على النية المقرونة بالعمل :

        فذلك قوله تبارك وتعالى : { فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ } أي أن الغم الذي لحقكم في أُحُد ، قد أَلْحَق مثله بالمشركين حين ألقى في قلوبهم الرعب فولَّوا مغمومين هاربين منكم ، إذ تعقبتموهم وأنتم في حمراء الأسد .

        والحقيقة ،أنها قضية إن لم تكن فريدة في تاريخ الحروب ، فهي نادرة جداً . وهي كما رأينا وبإيجاز : رجل قائد مسلم لله ، هو رسول الله (ص) يقود جيشاً صغيراً ، يقاتل به جيشاً ثلاثة أضعافه ، فيهزمه هزيمة نكراء في البداية ، وتتغير النوايا في أكثر جيش محمّد (ص) ، فيقلب الله سبحانه الموقف عليهم ، فيقتل من أصحاب محمّد (ص) أشاوس وأبطال وأعظمهم قدراً كان حمزة بن عبد المطلب ، البطل المعلم الذي كانت تهابه مكَّة بأسرها ، وهو العمُّ الأحبَّ إلى رسول الله آنذاك ، فيغتاظ محمّد (ص) أشد الغيظ ، ويتفرق عنه المسلمون ، مصعدين في جبل أُحُد ، فراراً من عدوهم الذي كان منهزماً أمامهم لساعات خلت . ويُجْرَحُ القائدُ النبيُّ (ص) جرحاً بليغاً في وجهه ، ويجرح العشرات كذلك ، وتنجلي ساح المعركة، بعد أن ذهب المشركون منتصرين ، عن مناظر تفتك في نفوس المسلمين الذين عادوا لتفقد قتلاهم ، فتكاً ذريعاً ، كان حرياً معها ـ لولا اليقين والإيمان العظيم بالله ـ أن ينهزم محمّد (ص) هزيمة نفسية ، هو ومن ثبت معه ، لا سيما بعد أن شكك كثير من القوم الذين رجعوا والذين شاركوا في المعركة ـ بِنُبُوَّتِهِ ، وبوعد الله له بالنصر ، بعد أن باؤُوا بالقتل والجرح والهزيمة . ثم استقبال المنافقين لهم بالشماتة ، وكذلك الفرحة التي عمَّت اليهود في حصونهم في المدينة وخارجها . كان كل ذلك محتملاً أن يقعد بالمسلمين هؤلاء عن متابعة القتال في اليوم التالي ، وخصوصاً لأن جراحهم ما زالت نازفة ، وكسورهم موجعة ، والإرهاق الذي أصابهم لا يزول بنوم ليال .

الله يقوِّي الأنفس التي يعلم بها خيراً :

        تاريخي وفريد ، ذلك الذي حصل في صبيحة اليوم التالي للمعركة الكارثة ، إذ نادى منادي القائد العام ، أن يا جرحى ويا مرهقين ، ويا حزانى ، قوموا وحدكم  إلى اللحاق بالعدو القوي المنتصر ، ولا يقومنَّ معكم أحد ممن لم يشهد أمس حربنا . وما هي إلاَّ لحظات ، حتى أخذت باحة المسجد تزدحم بهم ، أولئك الذين ثبتوا بالأمس وكذلك الذين قال تعالى فيهم : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } . [ 155 : آل عمران ] . وقوله تعالى : { إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } يعني فيما مضى من الخطايا فقيَّض الله لهم شيطاناً بعدما عقدوا النوايا السلبية ، فكان ما لحقهم من جراء ذلك من غم وأذى عقوبة لهم على ما سلف ، وكانت العقوبة كفَّارة { وَلَكُمْ فِي الْقِصَـاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ ..} . [ 179 : البقرة ] .

        وهكذا فقد عفا الله عنهم  ، وتولاّهم بعنايته وبرعايته ، فرفع معنوياتـهم

 

وأعلى هممهم وشدَّد من عزائمهم ، بعدما جعـل نومهم في تلك الليلة ، نوماً عميقاً ، مريحاً ، شافياً من التعب والوجع ومضاعفات نتائج الجراحات . ذلك بعد أن صحَّت نواياهم بعد الرجوع من المعركة وندموا على تفرقهم عن قيادتهم ومعصية أوامرها ندماً كاد يكون قاتلاً . ولذلك حين نادى المنادي للجهاد في سبيل الله وسبيل الذود عن دينه المجيد ، نفروا كأفضل ما تكون نفرة الأصحَّاء ، الأشداء ، ملبين مكبِّرين لا تأخذهم في الله لومة لائم .

        وقد بدأ الله سبحانه  بإثابتهم فور تصحيح نواياهم ، قولـه تبارك وتعالى : { …فَأَثَابَكُمْ غُمَّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ …}. [ 153 ـ 154  : آل عمران ] .

والله يترك المنافقين تحت وطأة همومهم :

        وذلك في قوله تعالى : { … وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } . [ 154 : آل عمران ] .

        كذلك العذاب في الدنيا ، درجة من درجاته : { … وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ …} . هؤلاء طائفة من المسلمين في المدينة ، الذين انشقوا وبعض الذين شهدوا المعركة وتولوا هاربين : استخرج الله من نفوسهم ما لم يكن يعرفه محمّد (ص) ولا أحد من العالمين : الأنانية ،والحرص على الدنيا ، حتى إن مطلب السلامة عندهم هو سيد المطالب،ولوكان يغضب رب العالمين. وهم بذلك غير سعداء،بخلاف ما يتوقعون،فإن هذه الحالات النفسية التي يعانـون منها هي حالات مرضية،حالات تفقس وتفرخ بدلاً من السعادة المتوهمة،هماً وكمداً ، وضيقاً في الصدر والنفس والتفكير .ذلك لأنهم يظنون بالله غير الحق ظن أهل الجاهلية ،الذين ما عرفوا الله إلاَّ وقد أشركوا به .وإن كان بعضهم عرفه إلـهاً واحداً أحداً ،فما عرف مدى حاكميته وهيمنته وإحاطته بالكون وبالإنسان إحاطة استبطان لا يدرك مداها وتفاصيلها الغيبية أحد غيره من خلقه . وهؤلاء المنافقون نمط موجود بيننا اليوم ، وهم من الكثرة بمكان،كما إنهم موجودون في جميع مراحل التاريخ .لذلك ،فإن آيات القرآن الكريم التي تحمل معاني مطلقة ،هي لا تعني فقط، وقت النزول ومناسبة النزول وأولئك الأشخاص بأعيانهم فحسب.وإنما توجب على أهل كل زمان الإفادة منها ربطاً بالوقائع والظروف والتعامل مع الناس حسب نوعياتهم وأوصافهم الظاهرة والمستبطنة،التي أخرجها لنا الله سبحانه لنثبت منها في نفوسنا ما كان في حب الله شرفاً لنا وللإنسانية،ولنباعد منها ما كان بغيضاً إلى الله تعالى كالنفاق والجبن والخسَّة والذُّل والطمع والأنانية والشك بوعد الله ووعيده ومهادنة المحاربين من الكفار وأهل الشرك وجملة أعداء الله وأعداء  تعاليمه.

        أما قوله تبارك وتعالى : { … يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ …} . [ 154 : آل عمران ] ففيه بيان اعتقادهم الخاطىء ، ثم فيه الحقيقة التي يخبر عنها سبحانه في مواجهة هذا الإعتقـاد وتقرير بطلانه .أما اعتقادهم  ، ففيه تلميح أولاً، إلى أنهم أتوا إلى المعركة مكرهين وشاكين بوعد الله سبحانه ووعد رسوله (ص) ، مما  يجعل الإنسان الذي كذلك شأنه ، متردداً في المواقف ، جباناً في المواجهات القتالية . وثانياً سوء ظنهم برعاية الله وإحاطته العامة والمفصلة بالأحداث والوقائع والأفراد ، وكذلك هيمنته على المقدمات والنتائج وما يستقطب المقدمات والنتائج من الأسباب السابقة والطارئة واللاحقة . وأنه سبحانه أسرع الحاسبين . لذلك إذا قتل أو جرح أو كسر أو أصيب بأية مصيبة إنسـان ما ، فإن هؤلاء وأمثالهم في الدهر ، يعزون ذلك إلى الصدفة ، وإلى الأسباب الظاهرية المرافقة للحدث ، دون الإلتفات إلى الأسباب والمقدمات التي يحيط بها  الله سبحانه ، والتي بموجبها يُقرِّر النتائج ، ويوقعها تامَّةً بدون أي خلل ، أو نقص أو زيادة . تلك هي عدالة الله سبحانه ، المبطَّنة دائماً برحمته ورأفته ، وغفرانه وعفوه لعباده الصالحين والموقنين والمؤمنين : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } . [ 19 : الأحقاف ] .

        وأما قوله تبارك وتعالى : { … وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ…} فهو خطاب موجه للجميع :  للمؤمنين على درجاتهم ، وللمنافقين على  درجاتهم  ، وقوله سبحانه { وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ } ابتلاءً ، والإبتلاء هو الإصابة بالبلاء بمعنييه : إما الفلاح وإما المصيبة . { وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي ليخلِّصها من الشك . بقي قوله عزَّ شأنه : { وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أي أنه تبارك وتعالى يعلم بالفكرة وأسبابها وعناصرها قبل أن تتجمع لتنعقد نيَّة عند صاحبها ، فإذا صدرت عنه بعزمٍ كامنٍ أو بقول أو بعمل ، تخرج عن كونها نية وتصبح ذات الصدور .

تعليم تحت طائلة المسؤولية :

        ومن الآيات المتعلقة بوقعة أُحُد ، والتي جعلت درساً بليغاً وملزماً للمؤمنين إلى يوم القيامة ، قوله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللّهُ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعونَ.وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ}. [  156 ـ 158  : آل عمران ] .

        يريد الله تعالى بهاتين الآيتين التركيز على الحقائق وضبط الإعتقاد والتفكير عند المؤمنين ، تخليصاً لهم من الهم والغم من جهة ، ومن جهة ثانية التسليم لقدر الله وقضائه ، وحسن التوكل عليه سبحانه ، والثقة القصوى به ، وبإحاطته بالأمور ضبطاً وربطاً من جميع وجوهها ونواحيها .

        وكم يخطىء الناس في إصدار أحكامهم على الوقائع ،ولا سيما ما يتعلق  بالموت إذا ضرب بعضهم في الأرض ، مسافرين مغتربين عن ديارهم ،أو إذا كانوا غُزّىً ،أي غزاة مجاهدين في سبيل الله ، فماتوا أو قتلوا ،فإن أحكامهم غالباً ما تأتي باطلةً ،يأتمون بها ويستدعون بذلك غضب الله سبحانه .وذلك بأن يزعموا أن هؤلاء الذين ماتوا أو قُتلوا في سفر أو جهاد في سبيل الله ،لو كانوا عندهم أي في ديارهم ما ماتوا ولا قتلوا .وهذا الزعم الباطل ، هو جهل بحاكمية الله وإحاطته بالأمور ،لذلك هو سبحانه يعلِّمهم الحقائق ،تارة بقوله تعالى كما في الآية السابقة : {…  قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ …} . [ 154 : آل عمران ] وتارة كما في هاتين الآيتين حيث يعتبر التثبيط عن الجهاد في سبيل الله وزعم الصدفة  في الموت أو القتل كفراً بالله وكفراً بقدره وقضائه  وسيطرته على الكون بجميع تفاصيله.ونحن إذ ألزمنا أنفسنا بهذه المعاني المأخوذة من كتاب الله ، فلأنها حقائق تؤخذ من مصدرها الأعلى والأصفى .قال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ …}. [ 17 : الشورى ].الحق مصدر ( حقَّ) وفيه مجموع الحقائق ، مثل الرَّقّ ، مصدر ( رَقَّ ) وفيه مجموع الرقائق ( والميزان ) أي العدل بين المقدمات والنتائج وفي كل شيء في الكون . قال تعالى : { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ . فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ } .[2 ـ 3 :الطور] .وقال سبحانه : { وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيـزَانَ . أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيـزَان ِ }.[ 7 ـ 8 :الرحمن ] . فإذن هي الحقائق في الآيات القرآنية ، والآيات القرآنية تعاليم ، أي إنصراف عنها أو إخلال باعتقادها والإلتزام بها ، ينتج عنه إخلال ونقص في الدين وفي طاعة رب العالمين . فيختل الميزان ، وتترتب على المقدمات الخاسرة ، نتائج خاسرة ، إلاَّ من يسرع بالتوبة والإنابة وترميم ما فات ، فإن الله يحب التوابين .

        ومن هنا يتبيـن معنى قوله تعالى{…لِيَجْعَلَ اللّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ…}.[156 :آل عمران ] هو عدله سبحانه ، وهو المعادلة التي في التعليم: ظنوا بالله ظن السوء ، فدارت عليهم دائرة السوء . نسوا الله ، ونسوا ذكره ، ونسوا أو جهلوا أنه هو سبحانه يحيي ويميت أينما كانوا ، فأعقبهم  ذلك في قلوبهم حسرة وضيقاً وتأزماً يفتك بأنفسهم وبأعصابهم ، بقدر إصرارهم على الضلالة والجهالة .

        أما قوله تبارك وتعالى ، بعدها ، { وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } بدون قيد ولا ربط بموضوع الإحياء والإماتة ، فإذن يعني ذلك إطلاق المعاني والمواضيع المرتبطة بحياة أو بموت ، ويعني ذلك أننا مهما توسعنا في معاني هذا القول ، الحقيقية والمجازية ، نكون ما زلنا ضمن المطالب المقصودة ، ومن هذه المطالب ، قوله تعالى : { أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ }. [ 10 : ص ] . فهو سبحانه { يُحْيِي وَيُمِيتُ } في ملكه ، وملكه لا يملك أحد فيه شيئاً غيره ، فهو مالك الملك ، وملكه السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وفي طوايا هذا الملك هو سبحانه { يُحْيِي وَيُمِيتُ } ، فالذين لا يؤمنون بذلك ،أو لا يعجبهم ، أو يعترضون عليه ، { فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ } أسباب السماوات والأرض ، أي دروبها ومساربها وغيوبها ، ذلك هو التحدي بالمحال ،أو بمعنى آخر مضاف إلى هذا: فليتحكموا هم بالأسباب ،إما أن يفرضوها فرضاً ،وإما أن يمنعوا نفاذها ، وكذلك هذا عليهم مستحيل ، وهكذا يكون قوله سبحانه { وَاللّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ } هو خلاصة هاتين الآيتين وخلاصة مالكيته وقهره بالموت وإنعاشه بالحياة ، على أساس عدله وميزانه : إعلم وأطع وثق بالله وتقرب  إليه واستنر بكتابه = تنج من الظلام والجهالة وتهتد إلى طريق مستقيم لا ملتوٍ ولا موحش ، ولا مهلك ، ولا تنالك حسرة ولا ندامة دهر الداهرين .ومعادلة أخرى هي أرقى من هذه ، لمن يطلبون المزيد ،للصديقين المجاهدين الطموحين ،الذين توصلوا بعد اليقين إلى الحب الأقدس، أي أحبوا الله أكثر من أي شيء في الوجود ، وأغلى أمانيهم وطموحاتهم أن يحبهم الله جلَّت عظمته . فتلك معادلة في قوله سبحانه مخاطباً محمّداً (ص) : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ …} . [ 31 : آل عمران ]  أي كونوا مثل محمّد (ص) صدقاً ويقينـاً بالله وبوعده ووعيده ، وكونوا مثل محمّد (ص) دعاةً إلى الله وحده ليس لأحد من خلقه أبداً ، وكونوا مثل محمّد (ص) مستنفرين

 

استجابة ً لأمر الله وطاعةً لتعاليمه ، وكونوا مثل محمّد (ص) لا تستغيثون بأحد غير الله ولا تدعون أحداً غير الله ، ولا تستنصرون بأحد غير الله . وكونوا مثل محمّد (ص) مجاهدين في سبيل الله وحده ، لا في سبيل أرضٍ ولا مالٍ ولا نبي ولا إمام ولا ولي ولا زعيمٍ ، ولا قائد ٍ ولا رئيسٍ ، ولا مخلوقٍ من خلق الله سبحانه وتعالى عما تشركون . ترسَّموا آثار محمّد وتعالي محمّد (ص) عن الدنيا وتساميه عن دناياها واجعلوا أغلى وأعلى مطلب في أعماركم رضى الله وقربه وحبّه ، بذلك وعند ذلك يحببكم الله ، وما أعزَّ وما أغلى وما أسمى ، وما أعذب وما أجمل وما أروع .

        وأما قوله تبارك وتعالى : { وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ }. [ 157 ـ  158 : آل عمران ] .

        نفس الإنسان إذا لم تكن ممهورة ً بتعاليم الله ، مزكاةً بتزكيته ، مصفَّاةً بطاعته وأوامره ونواهيه ، فإن ميلها إلى الراحة والسلامة وحب العافية يكون شديداً ، بخلاف الذين باعوا أنفسهم وأدمغتهم وقلوبهم لله تبارك وتعالى ، فهؤلاء وحسب درجاتهم ، أقلُّ حرصاً على الحياة ، وعلى الدنيا وما فيها . ومنهم  من يشتاق إلى لقاء الله تبارك وتعالى ، غير مبال بما يفوته من قيودها التي من ذهب أو زمرد أو جمال فانٍ ، أو أي شيء يقطعه عن حب الله أو يمنعه من ذكر الله .

        لذلك نجد كيف أن ذكر الموت أو القتال أو القتل ، يجعل وجوهاً تمتقع وقلوباً تخفق خوفاً ووجلاً ، ونفرة من هذه المعاني ومستدعياتها . علماً بأن حصول الموت مع الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل الصالحات ، هو حالة تحوُّل إلى الأفضل والأحسن والأجمل ، بدرجات ، أدناها ، أفضل من الحياة الدنيا بجميع وجوهها . ولعلَّ كثيراً من الناس لا يعرفون حقيقة الموت ، فلذلك ينبغي أن نعرِّفه .