{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ . سورة فاطر الآيات (۳٤ ـ ۳۵ ) } .
سلَّطنا الله على ما في الكون :
===============
الكون بالنسبة للإنسان ـ تعريفاً ـ هو كل ما يقع أو يُسبَر بحواسه أو يكون ضمن حدود عقله ، وما زاد عن ذلك فليس لنا شأن ولا حق في التعـرض له .
والكون الذي يمكن سبره بالحواس أو يمكن إدراكه بالعقل الراهن ـ قبل الإنعتاق من البدن ـ هو ما حدَّث عنه القـرآن الكـريم ، بين العبارة والإشارة والتوصيف ، وبين ما يكشف لخاصة أولياء الله من ظهور الغيب وبطون الحقائق .
على هذا الكون ، سلّط الله الإنسان ، سلَّطه على ما فيه جملة وتفصيلا . يقيناً سيبدو هذا الكلام غريباً عجيباً لأكثر الناس ، وقد بدا لي كذلك ، لدرجة أني ألقيت القلم من يدي خشية من الله سبحانه ، خشية من أن أكون قد بالغت أو تجاوزت حدَّ الفهم ، عندما خطر ببالي هذا المعنى ، وهو أن الله جلَّت عظمته ، قد سخَّر هذا الكون لهذا الإنسان جملة وتفصيلا . ثم تناولت القلم واثقاً بالله وبكلام الله وبيناته .
إنما قادني لهذه الكتابة ، ولهذه العبارة ، قول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم ، ومعاني كلمة ( سَخَّرَ ) في القواميس . أما قوله عز وجل فهو :
{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الجاثية الآية ۱۳ } .
فكلمة (مَا) في قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ .. } ، تعني جميع ما خلق الله تعالى في هذه السماوات ، ابتداءً بالسماء الدنيا ، وانتهـاء بالسماء السابعة .
أما في السماء الدنيا ، فمن مجموعتنا الكوكبية أو الشمسية ، إلى المجرات التي فيها مليارات الشموس ، مروراً بمجرتنا درب التبانة ، إلى الثقوب السوداء المدَّعاة ، إلى آخر سرٍّ من هذه السماء لم يكشف بعد ، إلى حدود السماء الدنيا التي إلى الآن لم يتوصل إليها علم الفلك الرائع على تقدمه المذهل ، وأجهزته العجيبة العملاقة .
كل هذا أصبح سهلاً فهمه ، لا سيما لمن يتتبعون خطوات العلم الجبارة في مجال السماء الدنيا وأخبارها وكشوفاتها التي تصيح من أعماقها : { لا إلـه إلا الله ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن ولا حول ولا قوة ولا عزة ولا وصول إلا بالله العليِّ العظيم .} .
كذلك أصبح سهلاً فهم أن الله سبحانه سخر لنا الميزان الذي وضعه بعد أن رفع السماء : { وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ . سورة الرحمن الآية ۷ } والميزان بالضرورة ، هو التوازن في كل شيء أوجده الله تعالى تحت هذه السماء . بما فيه الأرض وحركات الأرض وما يتعلق بها من شمس وقمر وكواكـب ومجرات ، إلى نباتات وحيوانات البر والبحر . والحشرات ما دقَّ منها وما كبر ، وهو ما يسمـى بتوازن الطبيعة .
كذلك أصبح من البديهيات فهم قوانين الجاذبية المسخرة للإنسان تحت السماء الدنيا وحتى في باطن الأرض وجميع ما يتعلق بها أو يشبهها من قوى خفية كالضغط الجوي وضغط الماء وقوانين الحرارة والمغنطة إلى آخر ما هنالك من قوى تفعل في الإنسان وفي الكون دون أن نراها وحتى دون أن نحس بها إلا بعد التأمل والتبصر والحساب .
كل ذلك أصبح يسيراً فهمه ، وما زال يتناوله العلم متتبعاً تفاصيله ، كاشفاً خفاياه مستفيداً مما خلق الله له فيه من قواعد وقوانين ، ما كان للإنسان فيها أدنى فضل ، حتى كشف أسرارها ما كان ولن يكون إلا بإذن من الله تبارك وتعالى ، وضمن هذا القانون المبارك : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ … سورة فصلت الآية ۵۳ } .
إلاَّ أن ما لم يتعرض له العلم بعد ، وقد نصَّ الله سبحانه على أنه موجود تحت هذه السماء الدنيا ، وبقوة وبكثرة ، هو القوى الملائكية والقوى الشيطانية المسخرة كذلك جميعاً لمصلحة الإنسان ، وذلك ضمـن نص الآيـة الكريمـة : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ … } .
أما النصوص القرآنية المتعلقة بالقوى الملائكية وفاعلياتها في جميع وجوه حياة الإنسان تقريباً ، ولا سيما المؤمنون ، فكثيرة جداً ، وقد عقدنا لذلك فصلاً مسهباً في كتابنا ” دعوة إلى الله ” فلا ينبغي لذلك التكرار .
وأما النصوص المتعلقة بالقوى الشيطانية ، فكذلك كثيرة ، وقد ذكرنا عن أنواع الشياطين وفاعليات الشياطين معاني وعبراً ، كذلك في كتابنا ” العقل الإسلامي ” إلاَّ أن نصاً عنهم في سورة الصافات ، أودُّ أن أذكِّر به ، ملفتاً إلى ما فيه من عبر ، وما في هذا الصنف من الشياطين من قوى هائلة ، هي مسخرة كذلك لمصلحة الإنسان ، لضرورة الإيحاء في الآية الكريمة : { وَسَخَّرَ لَكُم … } .
أقوى من المركبات الفضائية وأقوى من الصواريخ:
=========================
قال الله تبارك وتعالى :
{ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ . وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ . لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلأِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ . دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ . إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ . فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَزِبٍ . سورة الصافات ، الآيات ( ٦ ـ ۱۱ ) } .
وبين عفاريت سليمان عليه السلام وهذه العفاريت أو الشياطين التي ذكرها سبحانه في سورة الصافات ، نستطيع وبالمقارنة أن نفهم مدى القوى التي جهَّز الله تعالى بها هذه المخلوقات غير المرئية والسابحة في هذا الفضاء الشاسع .
قال تعالى ذاكراً نقل عرش ملكة سبأ من اليمن إلى بلاد الشام ، في كلام عن سليمان الحكيم :
{ قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ . سورة النمل الآيتان ( ۳۹ ـ ٤۰ ) } .
ففي آيات سورة الصافات هذه الأوصاف : { وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ . الآية ۷ } ، ومعنى المارد ، القوي والمتمرد والخبيث . ثم { لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلأِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ . الآية ۸ } والملأ الأعلى هو عالم ثم عوالم ما فوق السماء الدنيا ، وهو عالم الملائكة وأخبار السماوات وفيها هندسة ما يجري وما قد يجري على الأرض وأهل الأرض في مجالات العلم والمشيئة والتقدير ثم القضاء الحتم الذي لا راد له . وقد كان هؤلاء المردة من شياطين الجن يتخذون ـ قبل بعثة محمد رسول الله (ص ) ـ مقاعد للسمع ، كما أخبر الله سبحانه على لسانهم في سورة الجن :
{ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا . وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا . سورة الجن الآيات ( ۸ ـ ۹ ) } .
ثم في أوصاف هذه المخلوقات في آيات الصافات : { دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ . الآية ۹ } والدَّحر ـ كما في القواميس ـ الدفع الشديد المذل المهين مع الإبعاد ، والعذاب الواصب ـ في اللسان ـ الوصب الوجع الدائم . فيفهم من ذلك أن هؤلاء الشياطين في واقع حبس في أجواء ما تحت السماء الدنيا ، معذبون ، ذووا نفوس ٍ عدوانية ، حيل بينهم وبين ما يريدون هم من سماع أخبار السماء أو من أذىً لبقية ما خلق الله تحت السماء الدنيا . والصفة الأخيرة في الصافات تحسم عدم معرفتهم بشيء من أخبار غيب السماوات : قوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ . الآية ۱۰} يصدِّعه أو يمزقه أو يفجره تفجيرا .
أما قوله تبارك وتعالى : { فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَزِبٍ . الآية ۱۱} فيه دلالة قوية على مدى الفارق الكبير بين قوة الإنسان وقوة أمثال هؤلاء المردة ، يذكرنا بذلك بالضـرورة القرآنية أحد عفاريت سليمان ، ذلك الآنف الذكر ، الذي سخَّره الله فيما سخَّر له من شياطين وعجائب .
وهذا ينقلنا أيضاً بالضرورة ، إلى مقارنتهم ـ أي هؤلاء الشياطين المردة ، ليس فقط بالإنسان ـ الذي من طين لازب ـ وهم كما في سورة الرحمۤن { … مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ . الآية ۱۵} . وإنما مقارنتهم كذلك بما يصنع الإنسان من طائرات وغواصات ، ومراكب فضائية ومحطات وصواريخ وأقمار ، وما نعلم من أخبار العلم المذهل في مجالات التكنولوجيا الظاهرة والسرية وما لا نعلم .
فإذن ، إنَّ بين كل هذه الأعاجيب الآلية التي اخترعها الإنسان وأطلقها أو سيرها في البر والبحر وأجواء ما تحت السماء الدنيا ، إنَّ بينها مخلوقات هائلة غير مرئية ، هي أقوى وأعظم بكثير ، مما خلق الإنسان على دعواه ، تروح وتجيء بين آلياته وعجائبه ، تنظر إليها ، إلى ما صنع الإنسان ، وتتمنى لو يأذن لها الله رب العزة والجبروت ، فتدمر بلحظات ، جميع هذه الأدوات الإستفزازية التي أصبحت والعلم الذي وراءها أوثاناً تعبد من دون الله عزت عظمته وجلت قدرته .
ومنها ما قد يظهر للعين المجردة ، لحكمة أرادها الله سبحانه ، وهو أحكم الحاكمين .
فإننا نعتقد ـ بإذن الله تعالى ـ أن ما يسمى بالصحون الطائرة ، التي كثر وما زال يكثر عنها الكلام . ما هي إلا حقائق ، وأشكال من هذه المخلوقات التي سخرها الله للإنسان .. الإنسان الذي ما طغى بعد في الميزان .
.. ألاَّ تطغوا في الميزان :
====================
قال الله تبارك وتعالى : { أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ . سورة الرحمۤن الآيات ( ۸ ـ ۹ ) } . وقال تبارك وتعالى : { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى . وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى . سـورة طـه الآيـات ( ۸۱ ـ ۸۲ ) } .
إنسان حضارة اليوم ، طغى في الميزان
على أبواب القرن الواحد والعشرين يتأرجح العلم مختل التوازن . الولايات المتحدة الأميركية تمسك بالميزان العالمي وتتحكم بأركان الحضارة : الإيديولوجيات والسياسة والإقتصاد وثورة الإتصالات .. تحاكم الدول ورؤساء الدول والشعوب ، أميركا هذه هي النموذج الأعلى عالمياً بالمفهوم الحضاري السائد . وأميركا هذه هي الزنديقة الكبرى والنموذج الأعلى في الطغيان في الميزان .
مثلاً واحداً نعطيه عن وجه أميركا التي تقود وتحكم العالم ، لنفهم مدى التردي في بقية المجتمعات ، شعوباً وحكومات ، خلا بعض الدول المباركة التي هاجرت أو تهاجر إلى الله ، متحدية الحضارة الزنديقة وأسيادها في العالم ، بين روسيا وأميركا وأصحاب الشمال :
جاء في جريدة السفير عدد الإثنين ۵ تشرين الأول ۱۹۹۸ الموافق ۱٤ جمادي الثانية ۱٤۱۹ وتحت عنوان : ” بكلمات ” للمفكر والشاعر الكبير سعيد عقل ما يلي :
“في روسيا ۲۱۰۰۰ عصابة وفي الولايات المتحدة ؟” من أخبار ” السفير ” ـ والخبر من موسكو هذه المرة ـ أن ” مكتب التحقيق الفدرالي ” عندهم أحصى وجود ۲۱۰۰٠ عصابة إجرامية تنشط داخل البلاد .
من المستحيل القبض على أفراد ۲۱۰۰۰عصابة وتحويلهم إلى المحاكم . فما تعمل الدولة ؟ تكتفي بأن تسكت مسجِّلة وجود المصيبة ، وتروح تتأقلم معها . هذا في روسيا . وما في الولايات المتحدة ؟
إقرأ هنا ملخصاً لما نشرته ، قبل بضعة أشهر ” تايم ” أهم مجلة لا في أميركا وحدها وإنما كذلك في العالم .
في الولايات المتحدة عصابات مسلحة ومنظمة التسليح والقيادة ، يبلغ عدد أفرادها ۱۲ مليوناً .
وإن عرفت أن عدد جيش الولايات المتحدة هو نصف مليون فقط أدركت أن عندهم ، كما في روسيا ، مصيبة تروح الدولة تسكت عنها وتتأقلم معها .
قلنا : ( والكلام ما زال لسعيد عقل )
ـ هذا الوضع المأساوي يضرب الدولتين : “الأولى كبرى دول العالم ، والثانية كانت ذات يوم ندَّتَها … “
طغوا في الميزان .. طغوا في العالم في ذبح الشعوب وفي حرق الشعوب وفي تجويع الشعوب ، وطغوا مع حليفتهم الصهيونية العالمية ، متوسلين كل الغدر وكل الخساسة ، وكل مفردات الشر بمضامينها لينالوا من دين الله ومن عباد الله المسلمين تحت كل كوكب .
اليوم ، على أبواب القرن الواحد والعشرين ، همُّ العالم ، بما فيه طواغيت المسلمين ، همُّ الجميع محاربة دين الله ، الإسلام ، وهذا يعني محاربة الله ، وهذا يعني أنهم أعداء الله .
وهذا يعني بمنطق الآية التي يقول فيها الله تبارك وتعالى : { … وَلاَ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } ، هذا يعني أن غضب الله قد حلَّ عليهم ، وأنهم في الحقيقة قد هَوَوْا إلى أسفل سافلين . ومن ثم إلى الجحيم .
أما هُويُّهم فهو شديد الوضوح في شتى جبهات الحياة ، فكل جبهة عندهم هي من مستدعيات غضب الله جلَّت عظمته .
ويكفي أن نذكر مدى طغيان الفحشاء عند قدواتهم رؤسائهم ، حتى نعلم كيف يكون الناس على دين ملوكهم في الحقارات التي بعضها شذوذ الجنسين ، وأكثر من ذلك إباحة هذا الشذوذ وحمايته بقوانين .
القرآن الكريم ، يندِّد بهذه الفاحشة ، في تسع سور . ولعلها أكثر معصية يندِّد بها بهذا التكرار ، كما ويفصِّل أنواع العذاب الذي أنزله بأصحابها ، وهو من أشد أنواع العذاب .
يطول تعداد مستدعيات غضب الله في أهل هذه الحضارة .
لذلك ليس عجباً أن تكون الكرة الأرضية اليوم محاصرة بالغيوم الحرارية ، وبانشقاقات الأوزون ، وانقلاع الجبال الجليدية الهائلة من قارة الأنتركتيكا في القطب الجنوبي ، لكي ترفد بدايات طوفان ، يحدثه ارتفاع الحرارة العالمية ، هو آت على أوروبا وأكثر سواحل العالم بدءاً بأوروبا الوسطى ثم الغربية ، ثم .. وصولاً إلى نيويورك .
هذا الكلام ، هو شديد الإختصار من تقارير علماء المناخ عندهم .
هذا في التقارير المعلنة ، التي صدرت عن أكثر من عشرين مؤتمراً تداعت إليها الدول الصناعية الكبرى وعلى رأسها أميركا ، بداعي الرعب مما تحمله إليهم السماء والأرض من غضب الله العزيز المنتقم الجبار .
مفزعة تقاريرهم المعلنة ، وقد تسرَّب أن ما هو غير معلن أشد إرهاباً وترويعاً .
فهل نحن على أبواب قيامة أرضية ـ سماوية أم على أبواب قيامة كونية ؟
قلنا في كتابنا ” العقل الإسلامي ” أن كليهما وارد ، وقد تحدثنا هناك بإسهاب عن أشراط الساعة ، وأنها قائمة ، ماثلة لكل ذي علم وذي عينين مؤمنتين ، تقرآن وتتبعان ما في الكتابين العظيمين : القرآن والكون .
إلى هنا حقَّ للقارىء أن يسأل : وما علاقة كل هذا العرض بآيـة التسخير ، قوله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ … } .
تركوا الكتاب والتسخير .. وانشغلوا بالتكنولوجيا :
==========================
قد ـ وكالعادة ـ قد يثور ذوو الرؤوس المملوءَة بالأفكار الحضارية الدسمة ، الثائرون على الدين وعلى المتدينين المتخلفين عن التكنولوجيا وغزو السماء .
في الحقيقة ، نحن معكم من الثوار ، وإنما مشكلتنا التي باعدت بين منهجيتنا ومنهجيتكم ، هي أننا آمنَّا عميقاً بكتاب الله ، وأيقنا أنه الحق من رب العالمين :{ … وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ . لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ . سورة فصلت الآيات ( ٤١ ـ ٤۲ ) } كما قال الله تبارك وتعالى .
ووجدنا في هذا الكتاب ، العجب العجاب ، من إمكانيات التسخير بآيات الله بإذن الله سبحانه وتعالى عما يشركون .
لا سحراً ولا شعوذة ، وإنما تسخيرات لقوى غير مرئية فاعلة ، سمِّها نورانية إذا شئت ، وبشتى أنواع الأشعة المعروفة ، وربما غير المعروفة في علومنا الأرضية .
يعرف ذلك كل عالم ديني ، وكل مؤمن ورع ٍ تعرض بشكل أو بآخر لبعض ما تعلم من الغير ، أو لبعض ما علمه الله سبحانه من الرقى والتعاويذ .
تعامل بذلك أنبياء وأولياء وأئمة أطهار، وهذا أمر مجمع عليه عند كافة المسلمين . لذلك أقدمنا على عرضه بقوة المحقِّ وعنفوان المحقِّ ، وبروح التحدي في مواجهة المستقيلين من الدين ومواجهة المبطلين .
نحن هنا ، ندعو إلى كتاب الله المجيد ، دون أن نتنكر للتكنولوجيا ، ويا حبذا لو أننا ركبنا أجنحتها منذ العباس ابن فرناس ، المسلم الذي اخترع أول طائرة في العالم ، ولكن لله في خلقه شؤون ، تبعاً لإقبالهم عليه وعلـى كتابه سبحانه ، أو تأجيلاً لهم أو تجميداً تبعاً لإدبارهم .
وهل الله سبحانه أعطى التكنولوجيا لأهل الغرب وأهل الحضارة الزنديقة حباً وكرامة ؟ لن نخوض في هذا لأنه يخرج بنا عن أصل موضوعنا .
وموضوعنا الذي هو آية التسخير الكريمة لا يدخل إليه إلا بمفتاح أساسي وكبير ، والمفتاح هو هذا السؤال :
هل الله سبحانه وتعالى ، سخَّر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ، وجعل أيدينا فوق كل ذلك ، ليكون كل ما في السماوات وما في الأرض في خدمتنا بسلطان منه أم بسلطان منا ؟!
هذا أولاً .. وثانياً ، هل للإنسان سلطان خارج عن سلطان الله عزَّت عظمته .
ولنحسم الأمر وبسرعة بالنسبة للسؤال الثاني ، فنرى بعين العقل أنه يستحيل الخروج من هذا الكون أو الوجود بأطواله وأبعاده وأعماقه وأسراره لأنه كله خلق الله وملكوت الله .
فيبقى السؤال الأول ، وجوابه أن الإنسان لا يمكن أن يتوصل إلى علم أو إلى دراية أو انتفاع بشيء مما خلق الله في السماوات والأرض إلا بسلطان من الله .
هذا السلطان هو نسبي ، يعطيه الله عز وجل للأقوام والأمم والأفراد مترتباً على قربهم أو بعدهم منه سبحانه . ومنهم من يعذبهم به فيكونوا من مصاديق قوله : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا … سورة مريم الآية ۷۵ } وليريَ جميع البشر صـدق وعده جل شأنه : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ . سورة فصلت الآية ۵۳ } .
ولشرح ذلك نذكر ما جاء في سورة الرحمن قوله عز وجل :
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلآء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ . سورة الرحمۤن الآيات ( ۳۳ ـ ۳۵ ) } .
يروى أن الإمام علي بن أبي طالب سلام الله عليه ، استدعى أحد كبراء علم الكلام عباية بن ربعي الأسدي وكان له أتباع يقول ويقولون إن الإنسان يستطيع بدون الله أن يفعل وأن .. وأن .. وقد دبجوا في ذلك مقالات ورسالات . فسأله أمير المؤمنين يا عباية ماذا تقولون في الإستطاعـة . قال كما تسمع عنا يا أمير المؤمنين . قال : يا عباية والله إن كنت تقول أنك تستطيع بدون الله قتلتك . وإن كنت تقول إنك تستطيع مع الله قتلتك . قال : إذن فما يجب أن نقول يا أمير المؤمنين . قال تقول : أن لا استطاعة إلا بالله العليِّ القدير وحده لا شريك له . يا عباية أوَ ما تسمع العلماء وعامة المؤمنين يتعبدون بالقول : لا حول ولا قوة إلا بالله . هنا سأل عباية : يا أمير المؤمنين معلوم معنى لا قوة إلا بالله ونحن نعلم أنَّ الحول من معاني القوة فلماذا التكرار . قال : ليس كذلك . وإنما المعنى : لا حول عن معاصي الله إلا بلطف من الله ، ولا قوة على أداء الطاعات لله إلا بتوفيق من الله جلت عظمته ..
وفي كلام لأحد الصادقين سلام الله عليهم : ” هو سبحانه المالك لما ملَّكهم ، وهو القادر على ما أقدرهم عليه .. “
بومضة عين أتى بالعرش من اليمن إلى بلاد الشام :
========================
{ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ … سورة النمل آية ٤۰ } .
قوله تعالى :{ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ .. } هذا الكتاب أي كتاب ؟ ما دام القائل الذي عنده علم من الكتاب ، في مجلس سليمان عليه السلام ، فلا يمنع أن يكون الكتاب الذي عناه هو التوراة . أي الكتاب الذي أنزله الله تعالى قبل سليمان على موسى عليه السلام . وما دام الأمر كذلك ، ففي التوراة مفاتيح من مفاعيلها ما علمناه من نقل عرش ٍ من اليمن إلى الشام ، كان يقتضي مارداً من مردة الجن بذل جهد ٍ وقوة ٍ ومدة زمنية ليتمكن من حمله ونقله إلى المكان إياه . بينما استطاع الذي عنده علم من الكتاب أن يأتي به بومضة عين . وذلك معنى قوله : { .. قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.. } .
وما دام الأمر أيضاً كذلك ، فحتماً إن في القرآن الكريم مفاتيح من شأنها أن تكون أعظم فاعلية من تلك التي في التوراة ، لسببين أقوى من وضوح الشمس :
أولاً : أن الله سبحانه نصَّ على أفضلية القرآن الكريم على الكتب السماوية التي من قبله .
قال سبحانه مخاطباً رسوله محمداً (ص) :
{ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ… سورة المائدة آية ٤۸ }
فقوله تعالى :{ .. وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ ..} يعني القرآن الكـريم ، وقوله :{ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ…} أي ما قبله من الكتب السماوية المنزلة . فجميع المنزلات أصلها كتاب واحد ، تدرَّج مع الأنبياء من البدائية إلى الكمال المتناسب مع ترقي البشرية ، بثورات العلم عقلاً ونقلاً وتجاريب . يتمحور ذلك كله حول التعاليم الإلهية ، حتى كان آخر الرسالات مختوماً بكمال الرسالة الخاتمة المنزلة على رسول الله محمَّد (ص) ، متمثلة بالقرآن العظيم . والكتاب الذي يهيمن عليه القرآن الكريم ، هو كذلك حصراً ، التوراة والإنجيل . وإشارة إلى هذه المعاني بخصوص لفظة (كتاب) نستفيدها من قوله تعالى :
{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . سورة البقرة آية ۲۱۳} .
والسبب الآخر في أفضلية القرآن المجيد وبليغ أسراره في ظواهره وبواطنه ، هو حفظه من قبل الله تبارك وتعالى ، من أن يزاد عليه أو ينقص منه أو يحرَّف الكلم فيه عن مواضعه كما فعلوا بالتوراة وفعلوا بالأناجيل . قال تعالى فيه : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ . سورة الحجر آية ۹ } .
وفي إشارة لفاعلية ما فيه من مفاتيح بإمكان القرآنييـن إذا أوتوها مأذونيـن بتفعيلها ، أن يغيِّروا بها وجه الأرض ، والحضارة الزنديقة هذه إلى حضارة كريمة ، يحكمها الشرف والعدل والمحبة ، وليس وحوش البشر وطواغيتهم ، قوله تعالى :
{ وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ . سورة الرعد آية ۳۱ } .
بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا :
=================
{ .. بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ..} هذه الخلاصة هي خلاصة الآية السابقة : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ … } وهي قلبها ومحورها التي تدور عليه حقائقها وأسرارها ، بل هي المحور الذي يدور عليه القرآن العظيم كله ، والوجود الأزلي الأبدي السرمدي كله .
وغاية درجات العلم هي إدراك هذه الحقيقة : أنَّ { .. لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ..} .
ولن تقوم للمسلمين قائمة من حالة التردي التي هم فيها حتى يدركوا هذه الحقيقة : أنَّ { .. لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعًا ..} .
ولن يدركوا هذه الحقيقة حتى يتبعوا هذه المنهجية الرائعة البسيطة المنجية ، على مستوى الأمة وعلى مستوى القيادات :
أولاً : على مستوى الأمة ، فأن يتوخى المسلمون العلم بالله . العلم الذي آتاهم الله إياه عن نفسه وإحاطته بهم ، وقوة حضوره سبحانه معهم وهيمنته على الكون جملة وتفصيلا . وأن يتفهموا معنى الإحاطة ، انطلاقاً من الآية الكريمة ، التي فيها أعظم تعريف لله تبارك وتعالى عن نفسه :
قوله جلَّـت عظمتـه : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة الحديد الآية ۳ } .
وبعد هذه الآية مباشرة قوله تبارك وتعالى :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ . سورة الحديد الآيات ( ٤ ـ ۵ ) } .
هذا أولاً . وسنعود إنشاء الله لتفسير هذه الآيات .
أما ثانياً ، وعلى مستوى الأمة ، فأن يكثر المسلمون من قراءة القرآن الكريم ، ويعملوا بظواهره ، فإن كانوا صادقين صديقين ، يؤتهم الله من بواطنه وأسراره ، ومن مفاتيح أرضه وسمـاواته التي فيه ، مع تفصيل ما شاء منها لمن شاء منهم سبحانه له الحمد .
على أن تلاوة القرآن وتدبره واجب عينيّ ، وهي من أفضل العبادات وأفضل الطاعات التي لا يقبل في حال الإعراض عنها وعدم الإحـاطة بها عذر لمعتذر ، وذلك في نذيره سبحانه إشـارة إلى محاكمته الجاهلين بالقرآن المعرضين عن آياته أو المكذبين بها . قوله سبحانه :
{ حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ . سورة النمل آية ۸٤ } .
َماذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ؟ مخيف هذا السؤال يوم الحساب ، يوم القيامة . ولا سيما لأكثر الأكاديميين من المسلمين والذين يطلقون علـى أنفسهم إسم النخبة ، أي المثقفين من حملة الإجازات فما فوق .
ومن البداهة لهؤلاء حتى يحملوا إسم النخبة المتعارف ، أن يكونوا قد قرأوا وتمعنوا بعشرات الكتب والمجلدات وربما بالمئات منها إضافة إلى مواد الإختصاص وهم مع ذلك لا يعرفون القرآن الكريم . وربما بعضهم يتلوه خطأ إذا تلاه ، وقليل منهم يقرأونه قراءة صحيحة وإنما لا يتدبرونه ، أي أنهم لا يفقهون معانيه ولا مراميه ولا عظائمه ، ناهيك بأسراره ومفاتيح السماوات والأرض التي فيه . هؤلاء ستمتقع وجوههم وترتعد فرائصهم ويتمنون لو أن الأرض انشقت فابتلعتهـم ، عندما يطرح عليهم السؤال المخيـف : { .. أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي ؟! وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا ؟! أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ؟! } .
ويقيناً ـ كونهم النخبة ، ولو أنهم هم سموا أنفسهم كذلك ـ فسيتحملون ، بل ويحمِّلهم سبحانه ، مسؤولية فشل هذه الأمة ـ زمانهم ـ وإحباطاتها ، بعد أن يحبط أعمالهم ، مهما كانت في أنظارهم وأنظار العامة مجيدة وجليلة ، حيث لا يقبل عمل بلا إيمان حقيقي ، ولا إيمان حقيقي لمسلم بلا قرآن ، وتدبر واع ٍ للقرآن .. الكريم والمجيد والعظيم ، تصديقاً وتطبيقاً .
هل يعدم القرآنيُّ العاديُّ فاعلية المفاتيح ؟
=====================
أعني بالقرآني العادي ، الذي ليس في درجة الأولياء الذين يفتح عليهم الله سبحانه من فضله ورحمته ، من المعارف والحكمة ومغاليق المعاني والأسرار ما شاء أن يفتح ، وهؤلاء في العادة أهل عبادة ونسك واجتباء ، وهجرة عن مفاتن الدنيا وحتى عن مغريات الآخرة ، إلى الله وحده ، الحبيب الأعظم .
هؤلاء العارفون بالله ، قد يؤتي الله بعضهم كذلك من المثاني التي آتى منها محمَّداً (ص) ما شاء سبحانه ، وهذه المثاني هي من أعلى مقامات الذكر والثناء والدعاء والتقرب إلى الله في آن واحد . وقد جاء عنها في القرآن الكريم قولـه تعالى :
{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . سورة الزمر آية ۲۳ } .
ولقد عقدنا عن المثاني ومعانيها ومغازيها فصلاً في كتابنا ” الحكمة الإسلامية ، بحوث من مقتضيات العصر ” . وينبغي هنا أن لا نطيل فيها ، لكي لا نبعد عن السؤال : هل يعدم القرآني العادي فاعلية المفاتيح ؟ أو المثاني ؟ إذا لم يكن يعلم أنها من أسرار الله في كتابه ؟
في الحقيقة أنه من فضل الله العظيم على القرآنيين خاصة وعلى المسلمين ، بل وعلى جميع أهل الإيمان عامة ، أن جعل الله سبحانه في قراءة القرآن الكريم فوائد جليلة للقارىء العادي في نفسه وبدنه ومتعلقاته ، وكلما كان أكثر تدبراً كان أكثر فائدة ، فضلاً عما فيه من أدعية خاصة وعامة تنال بركاتها المؤمنين أينما كانوا ، ولا سيما تلاوة ما أسماه الله سبحانه مقاليد السموات والأرض ، أي المفاتيح التي نحن بصددها . قوله تعالى في سورة الزمر الآية ٦٣ :
{ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ .}.
وقوله تبارك وتعالى في سورة الشورى الآية ۱۲ :
{ لَهُ مَقَالِيـدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . } .
من هنا وجوب الإعتبار ، أنه كلما زاد عدد قراء القرآن على مستوى الأمة ، في البيوت والمساجد والمدارس وكل مكان تمكن فيه التلاوة ، حتى في جبهات القتال ، رفع الله عن الأمة بعضاً من غضبه وخذلانه ، وآتاها نصره على أعدائه وأعداء دينه ، وأنقذها من الهوان التي هي فيه إلى العزة التي يحبها لها والسؤدد والكرامة .
وحتى يوم القيامة ، تتفاضل الأمم بمدى التزامها بكتبها وستحاسب أمة القرآن بالقرآن ، قوله تبارك وتعالى :
{ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ .سورة الجاثية الآية ۲۸ } .
كما سيحاسب كل فرد عن نفسه ، كذلك بالقرآن ، وعن اعتقاده في كونه منزلاً من الله سبحانه على قلب رسوله محمَّد (ص) جملة وتفصيلا . وأن القرآن المجيد فيه صفوة دين الله ، وهو الصراط المستقيم . وقد وصف الله سبحانه من يشك في القرآن المجيد ، أو من يكفر بكونه من لدن الله تبارك وتعالى ، وصفاً تختلج له العروق ، وتضطرب القلوب التي في الصدور خوفاً وجزعاً ، قال تعالى في سورة المدثر :
{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا . وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا . وَبَنِينَ شُهُودًا . وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا . ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ . كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآَيَاتِنَا عَنِيدًا . سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا . إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ . فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ . ثُمَّ نَظَرَ . ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ . ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ . فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ . إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ . سَأُصْلِيهِ سَقَرَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ . لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ . الآيـات من ( ۱١ ـ ۲۸ ) } .
ثالثاً : لكي تكون مقبولاً عند الله ولياً من أوليائه :
=========================
فأول عمل تعبدي يتفضل به عليك سبحانه هو أن يتقبلك في فِنائه . ثم أن تفنى في فِنائه .. طاعةً وحباً . والفِناء دار البيت .
أما كيف ؟ فيستحيل أن تعرف قبل أن تصل .
وهذه أول وأهم مراحل الهجرة إلى الله سبحانه وتبارك وتعالى عما يشركون .
ثم أن تحب الله أعظم الحب ، وإذا أحبك هو سبحانه أدخلك في بحـر أحديته ، وآتاك أنواراً تصيِّرك من مصاديق قوله تبارك وتعالى :
{ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة النور الآية ۳۵ } .
ثم قوله تعالى :
{ .. وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ . سورة النور الآية ٤۰ } .
وأن تكون :
{ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآَصَالِ . رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ . سورة النور الآيات ( ۳٦ ـ ۳۸ ) } .
وأظهرُ هذه البيوت ، بيت نفسك .
وأن تعي هذا الحديث الممثل لروح القرآن وأصالة العقل ومغزى التوحيد والتفريد والشمولية والإحاطة والهيمنة وسائر معاني الأسماء الحسنى ، وأن تقـع فيه ، وهو حديث مهيب بن الورد :
” إذا وقع العبد في أُلهانية الرب ومهيمنية الصديقين ورهبانية الأبرار لم يجد أحداً يأخذ بقلبه . “
يريد إذا وقع العبد في عظمة الله وجلاله وغير ذلك من أنوار الربوبية والأسماء الحسنى ، وصرف همه وإرادته إليها ، عزف عن الناس ، حتى لا يميل قلبه إلى أحد ، وأحب الله الحب الأعظم حتى ليملك عليه قلبه وعقله ونفسه وأشرف أحاسيسه .
وفي تفسير هذا الحديث في اللسان (*) قال : أي لم يجد أحداً يعجبه ولم يحب إلا الله سبحانه .
وفيـه (*) ” قال ابن الأثير : هو مأخوذ من إلـَـه ٍ وتقديرها فُعلانية بالضم ، تقول إلَــهٌ بيِّن الإلَـهيَّة والأُلهانية ، وأصله من ألِهَ يأله إذا تحيَّـر . يريد إذا وقع العبد في عظمة الله وجلاله وغير ذلك من صفات الربوبية وصرف همه إليها أبغض الناس حتى لا يميل قلبه إلى أحد . “
نحن قلنا : عزف عن الناس … وأحب الله الحب الأعظم … هكذا تكون ـ إذا واليته حقَّ ولايته سبحانه ـ من الذين اجتباهم الله وأورثهم الكتاب وأذهب عنهم الحزن في الدنيا والآخرة ، قوله تبارك وتعالى مخاطباً رسوله محمَّداً (ص) ومنوِّهاً بورثة الكتاب من أوليائه :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) لسان العرب لابن منظور ج ۱۳ باب هـ مادة أله ص ٤٦۷ دار صادر .
{ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ . ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ . جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ . وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ . الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ . سورة فاطر الآيات ( ۳١ ـ ۳۵ ) } .
يبدو إذهاب الحزن ـ في الآية ـ مقروناً مع الآخرة بعد دخول الجنة ، والحقيقة ، أن العبد الصالح قد يؤتى أن يكون من مصاديق هذه الآية { .. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ..} في الحياة الدنيا ، ولكن بعد أن يكون قد مرَّ في أنفاق ٍ من الابتلاءات في الجهادين الأكبر والأصغر : جهاد النفس وجهاد أعداء الله وأعداء دينه على اختلاف انواعهم ومشاربـهم . فبعد أن يكتب له الفوز إذا كان من الصديقين وأهل اليقين ، يؤتيه الله سبحانه ، وبنسب ٍ تتناسب مع مؤهلاته ، أن يجد نفسه في ظلال هذه الآية الكريمة ، متعبداً بتلاوتها بين نوم ويـقظة وإحساس عميق بانطباق معانيها عليه في المراحل المتقدمة من هجرته إلى الله سبحانه . يداخله معها شعور عميق بالأمن والطمأنينة ، والراحة النفسية والعصبية ، ولو كان في قبضة عدوِّه أو تحت قذائفه أو في حميا معركة أو أية مواجهة معه ، ومن البديهي أن يصحبه هذا الشعور ، في جميع المواقف في حياته الإجتماعية ، فيطبعه بالحكمة والشجاعة والصفاء ، والقدرة على الفصل بين الأسود والأبيض في مجالي المعاني والضمائر ، وحتى بين الرماديِّ والأبيض . فيكون ذلك له من جملة الثوابت التي تثبته ولياً من أولياء الله تبارك وتعالى .
فإذا أصبح على بينة من ربه ، وأنه أصبح من عباده الصالحين ، يصبح همه الله وحده ، ذاكراً شاكراً ، متهيباً ، خائفاً من الوقوع في أدنى خطأ قد لا يرضي الله سبحانه ، لا الماضي يشدُّه فيتحسَّر على فواته ، ولا المستقبل يشغله عن حبه لربه وعن ذكره وشوقه إليه ، حتى أنه ينشغل بحب الله سبحانه عن الجنة والنعيم الموعود ، فيصبح الله عنده ، هو جنته ونعيمه وروحه وراحته ، يأنس أكثر ما يأنس به وحده ، بمناجاته وبالتأمل في آياته ، وكلما ناجى وتأمل ، كلما فتح الله عليه فتوحاً من العلم ، ومن بواطن الآي المدهشات ، ومن القوة والعافية في النفس والبدن ، وتجنيبه الآفات ، ويكشف له من الحقائق ما لم يكن يحلم به ، ويؤتيه من الإحساس بالسعادة والفوز ، وقوة اليقين ، وجمال الهداية ، ورونق الصلاح ، ما لو عرضت عليه الدنيا بأموالها وكنوزها ومغرياتها كبديل عن قربه لربه وانشغاله بحبه ، لا يرضى بكل ذلك بديلا .
فهل يعيش العبد الصالح بعض معاني الجنة الموعودة ؟ لا بدَّ من ذلك ، وقد يكون في طرف من أطرافها ، وهو ما زال في الحياة الدنيا ، فروحه ونفسه في حالة انعتاق ، تتجولان حتى في عوالم الملكوت ، وحتى ـ بالنسبة لبعض المقربين ـ وصولاً إلى سدرة المنتهى .
أما الدليل على ذلك فآية { ..النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } ، وآيتا : { .. الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا ..} .
قال تبـارك وتعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي . سورة الفجر الآيات ( ۲٧ ـ ۳۰ ) } .
وقال سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . سـورة فصلـت الآيات ( ۳۰ ـ ۳۱ ) } .
وقوله جلَّ وعلا : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . سورة الأحقاف آية ۱۳ } .
ليتم لنا تحسس اطراف الجنة الموعودة والنعيم المقيم ، أول شرط ينبغي أن يتوفر فينا هو طمأنينة النفس ، أي الشعور شبه الدائم بالطمأنينة والسكينة . لكي يصحَّ ـ بموجب الآية الكريمة الأولى ـ أن النفس راضية وتبعاً لرضاها بالله وبما قسم الله تكون مرضية . ولا يحصل الإطمئنان الكلي إلا مع اليقين بوجود الله وبإحاطته بالكون ومفرداته ـ ومنها الإنسان ـ إحاطةً كلية . وبأن الله سبحانه وتعالى : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة الحديد الآية ۳ } .
فإذا حصل هذا الإيمان بأعلى درجات اليقين . يأتي شرط آخر لا ينفك عن الشرط الأول لحصول الطمأنينة ومعها الرضى ، هذا الشرط هو الإستقامة . والإستقامة هي الطاعة ، والطاعة هي الإئتمار بأوامر الله والإنتهاء بنواهيه .
فإذا تكامل هذان الشرطان : الإيمان بالله ومعه الاستقامة ، كان الإنسان معهما على أطراف الجنة ، مقبولاً عند الله ، راضياً مرضياً في الدنيا والآخرة .
وهذه المعاني هي من الحقائق القرآنية ، فيقول الله عز وجل أنه في السماء إلـۤه وفي الأرض إلـۤه وقوله سبحانه أنه معكم أينما كنتم ، وقوله عزت عظمته ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم … ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم . ثم قوله للنفس المطمئنة : يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية .. الآية . ألا يعني هذا ، أن جنته سبحانه وتعالى لها أطراف في الدنيا تتحسسها النفوس المطمئنة الراضية بربها المرضية عنده في الدنيا وفي الآخرة .
ومن حقائق كون النفس المطمئنة تلامس أطراف الجنة الموعودة أن الملائكة يواكبون أهل الطاعات وأهل الصلاح في الدنيا ، والملائكة خيرات وبركات ، هم قوى نورانية واعية مأمورة بحفظ الإنسان المستقيم في نومه ويقظته ، وحله وترحاله . وعندما نقول بحفظ الإنسان المستقيم ، يعني توليه بالحراسة والحماية وتجنيبه العثرات ، وطرد الشياطين عامة ومنها الميكروب وأنواع الفيروس وجميع مسببات أو مستدعيات الأمراض الخطيرة . والملائكة يقومون بمهماتهم وخدماتهم بموجب منهجية من لدن الله تبارك وتعالى ، إذ يكون هو رقيبهم وحسيبهم بواسع علمه ورحمته : قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ … سورة ق الآية ۱٦-١٧ } والمتلقيان ملاكان كما هو محقق .
ذلك معنى الولاية ، ولاية الملائكة للإنسان المستقيم في الآية : { .. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا.. . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ..} فقوله تعالى : أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا : يتداخل فيه الأمر بالخبر . فالأمر من الله على ألسن الملائكة يأمرون المؤمنين إلهاماً أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا .. والخبر أن الملائكة كذلك مأمورون من الله جل شأنه أن يحولوا بين المؤمنين هؤلاء وبين أن يخافوا أو أن يحزنوا . وجميع هذه الحالات ، يحكمها الله سبحانه ويرعاها بمبدأ النسبية المتعلقة بتفاوت إيمان المؤمنين وتفاوت إخلاصهم وصدقهم وولائهم لله سبحانه وتعالى عما يشركون . فالمؤمن بالله ، المستقيم على الطريق المؤدي إلى الله ، لا يخاف ولا يحزن ، وهو مأمور الآَّ يخاف ولا يحزن . وهذا معنى الآية الثالثة : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ . } .