ماء السماء

{ .. وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ .. سورة هود ۷ }

 {..أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا .. سورة فاطر  ۲۷ }

 

من أصول المعرفة : اليقين بإدارة الله للكون ومـا فيـه

          من المؤسف جداً ، أن مناهج التعليم عالمياً ، تقدم إلى الطلبة في شتى مراحل الدراسة والإختصاصات ، المـواد العلمية ، وقوانين المادة ، وشتى الحقائق الكونية المدركة ، دون نسبتها إلى خالقها وموجدها ، والذي يدير  بها ويدبِّر أمر البشر  والكون جملة وتفصيلا . وعدم ذكر الله ، وعدم نسبة  فضله وتحقيق الحقائق والجمال الفوق العبقري إليه ، كفر أيما كفر  ، وجحود ونكران حق ٍ  واتباع باطل  ونكران جميل . وهو يعاقب على ذلك . قال تعالى :

          { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلآَ يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . سورة طه الآيات ( ۱۲۳ ـ ۱۲٦) } .

          فالعيش الضنك ، أي الصعب  المعقَّد ، الذي فيه الأرق والقلق ، والحيرة والضياع في الدنيا ، والعمى المذل المكبِّل يوم القيامة ، ذلك كله ، هو نتيجة للإعراض  عن ذكر الله ، إقراراً بنعمته وإخلاصاً  لوحدانيته .

          ومثال من الأمثلة  التي لا تكاد تحصى على ذلك . مثل تعليم الدورة المائية على مستوى  السماء والأرض  ، بين تبخر من البحار والأنهار  إلى تحولها  إلى غيوم إلى تكاثفها في شنّ رياح باردة عليها ، ثم هطولها  أمطاراً . ولا يتوقف التعليم  في شتى مراحل الدراسة عند هذا الأفق من المعرفة ، بل يتعداه إلى غطرسة العلم  الذي قال وما يزال يقول  : والإنسان كذلك  يخلق دورةً مائية على مستوى السماء والأرض . بلى ، هو بخَّر ماءً بنسبة ٍ ما تحت  وطأة الحرارة ، وجعل منه غيماً  بنسبة ما وبرَّده بطريقة ما  فنزل مطرا . وهذه لعبة كنا نلعبها في المراحل الإبتدائية وفي البيوت ، إلا أن لعبة العلماء  المتغطرسين ووراءهم جماهير الفتوحات العلمية المنقطعة في نظرهم عن الله ، هذه اللعبة أكبر قليلاً .

          نسوا أن النواميس العلمية التي استعملوها ، إنما كانت جاهزة أظهرها لهم  مخترعها الذي هو الله سبحانه ، والذي هو  مخترع جميع قوانين وقواعد وأسس الإختراعات والفتوحات العلمية الذي توصل إليها ، بالتقليد والتطبيق ، العلم المدعي أنه الخالق .

          ولنحاول الآن ، أن  نحكي حكاية ماء السماء الذي خلقه الله تبارك وتعالى ، والذي لن يستطيع خلْقَ مثله بآثاره الإنس والجن وجميع  خلق السماوات والأرض  ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا .

          الماء الذي قال الله سبحانه إنه أنزله من السماء ، أخرج به من الثمرات  ما لا يكاد يعد ولا يحصى ، رزقاً للعباد ، على مستوى الأرض وأجيال البشر وغير البشر ، واستعراضاً للقارات الخمس  وسكانها  اليوم  ، نـجد  المليارات  تستمتع  وتغتذي بأنواع هذه الثمار ،  لولا بعض التصحُّر في مناطق كانت خضراء خيِّرة نضرة ،  وانقلاب الخصب إلى الجدب والريَّ إلى الأرض الظمأى . هذا إلى أن لله في ذلك حسابات أُخر .

          لنتصور أن المطر انحبس عن كوكبنا الأرضي  هذا ، وأن التصحُّر زحف على بقاع الدنيا هذه الخضراء ، وجفت الأنهار والينابيع والمياه الجوفية ، فماذا يستطيع العلم الذي ادعى أنه يخلق مطراً أن يفعل .  وهو في الحقيقة لم يستطع أن ينقذ أية منطقة في العالم  تصحرت أو ضربها  الجفاف .

          والله سبحانه لم يترك هذا الإنسان الذي خلقه عاقلاً وحمَّله مسؤولية عقله ، دون أن ينصب له الشواهد ، ويعرفه على الأضداد ، تحت عناوين الحسن والقبح ، والحق والباطل وغير ذلك في مجالي المحسوس  والمجرَّد . وما دام الكلام عن خلق ماء السماء وآثاره  البالغة في الأرض  والإنسان وعامة الكون كما سنرى إن شاء الله ، فقد خلق الله الصحاري الكبرى  على هذا الكوكب السيار ، وعرضها برمالها  ومتاهاتها ، وعطشها وجدبها ، واستحالة  العيش في بعضها ، لأسباب أبرزها رمال متحركة  أو رياح وأعاصير دائمة الهبوب أو غير ذلك . لا ماء مخصب ، إذن لا زرع ولا ضرع ، إذن لا إنسان  وبالتالي لا حياة ، فإذن تلك هي الآية الكبرى من آيات الله ، الخلاصة العجيبة على مستوى السماء والأرض : لا حياة بدون ماء السماء .

          ومن أين ، وكيف الحياة بدون ماء ؟!

          نبات الأرض الذي لا عيش لإنسان ولا لحيوان بدونه ، لا ماء مـن السماء ، إذن لا نبات : لا غابات ولا حقـول ، ولا أنهار ولا ينابيع ولا جداول ، ولا رغيف من أي نوع ، وباختصار شديد : لا يبقى على الأرض ما يؤكل أو ما يشرب . بما فيه الثروة الحيوانية المائية .

          فالبحار كذلك ، تمويلها من ماء السماء .

          أنهار العالم تصب في البحار ، وفي العالم أنهار ضخمة تسيَّر فيها  السفن وتقام على شطآنها الموانىء ، وما أكثرها وما أغزرها ،  نذكر منها  على سبيل المثال : النيل أطول أنهار العالم  والأمازون أضخمها  والمسيسيبي والنيجر والراين والدانوب إلى مئات الأنهار في كل قارة  من القارات  التي تشكل هذا الكوكب .

          وهذه الأنهار  هي بجملتها وتفصيلها من ماء السماء . تهطل الأمطار وتتكدس الثلوج ، وبين انسراب  الأمطار وذوب الثلوج إلى خزائن الينابيع الهائلة عمقاً واتساعاً يتكون المخزون العظيم الذي يمدُّ الأنهار على اختلاف أطوالها وأحجامها . فإذن هو ماء السماء منه الأنهار ومنه البحار .

          ومن عجيب صنع الله تبارك وتعالى ، في هذه الدورة المائية بين البحار والأنهار ، أن معظم  الحيوانات التي يزعمونها  بحرية فقط  ، قد أثبت البحث العلمي الرائع ، أنها  إنما تهاجر من البحار ، في رحلة عجيبة شاقة صاعدة في الأنهار المتحدرة من سفوح الجبال  العالية  ،  متعرضـة  للأخطار المميتة ، حتى تصل إلى مطمئن الينابيع ، لتفقس هناك وتموت راضية هنيئة في أوطانها الأصلية ،  حتى إذا كبرت الفراخ بملايينها انحدرت في أنهارها إلى البحار والمحيطات ، لتبقى ما يشاء الله لها أن تبقى ، ويُصادُ منها ما يُصاد . ثم من شاسع  المسافات وعميق اللجج  تنفصل الجماعات ، وتعود كل جماعة  إلى مصب النهر  الذي أتت منه ، لتعيد الكرة التي كرَّتها أُمَّهاتها ، دون أيما دليل يعرفه الإنسان ، تفرِّق به الجماعة المائية بين نهرها وبقية الأنهار  المشرورة مصبَّاتها  على اتساع المحيطات .

          فسبحان الله الذي أعطى كل شيء خَلْقَه ثم هدى .

          وماء السماء عافية للنفس والبدن ، فرضه الله وضوءاً لمقدمات الصلاة ، ومن أسراره  أنَّ اسم ماء الوُضوء ( بضم الواو )  وَضوء  ( بفتحها )  وكلمة وَضوء مشتقة من الضَوء ، وبالتالي اشتقـاق عملية الوضوء كلها ، ظاهرها وباطنها . أما الظاهر فمعلوم ، وهو تطهير وإنعاش للبدن ، { .. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ..} . أما الباطن ، فيبدأ بعقد نيَّة التقرب إلى الله تبارك وتعالى ، فيكون فيه غسل الوجه عن التوجه عن المخلوقين ، من أجل حصر التوجه إلى الله وحده ، عقلاً وقلباً وسمعاً وبصراً ، وبكل حاسة . ويكون فيه غسل  اليدين عن مدِّهما  لغير ما يرضي الله  ، وعن رفعهما للدعاء والقنوت رجاء  غير الله . فالماء مع عقد نيَّة التوجه إلى الله هو حالة ضوئية نسبية في الحياة الدنيا ، وهو حالة نورانية حقيقية يوم القيامة ، ولنعي ذلك بوضوح ، لنتأمل هذه الآيات الكريمات :

          { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. سورة التحريم آية  ۸ } .

          والحكاية المطمعة المفزعة ، التي يحكيها لنا الله بالأسلوب القرآني الحكيم ، قوله تعالى  :

          { يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ . يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ . فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاَكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ . سورة الحديد الآيات ( ۱۲ ـ ۱۵) } .

          ولذلك حبَّب الله لرسوله (ص) وللمؤمنين  إسباغ الوضوء ، وهو بعد الوضوء ، غسل  الوجه مرتين  بماءٍ غزير وغسل اليدين إلى المرفقين .

          في معـركة بدر ٍ الكبرى ، جعل الله ماء السماء عنصراً من عناصر النصر المبين . فذكر سبحانه في القرآن الكريم  أنه أنزل على جنده  المسلمين من السماء ماءً  ليطهرهم به ويذهب عنهم رجز الشيطان ويربط  به على قلوبهم ويثبِّت  به الأقدام .

          وفي أهم آية تتعلق بالماء  ودرجاته ، ونواميسه وقوانينه وكيميائه ، تلك التي يذكر فيها سبحانه أنه عندما خلق السماوات والأرض  كان عرشه على الماء . وقد قيل في معنى الآية عدة أقوال ، إلا أننا واعتماداً على قوله تعالى : { .. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ..} نعتقد أنه سبحانه إنما أراد بقوله : { .. وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء .. }  أي كان بناؤه للسماوات والأرض على أساس  أسراره في الماء  وفي كيميائه وفي تحولاته بين تبخر وتكثف ، وما ينتج عن ذلك من طاقة ، وما ينتج عن الطاقة من مادة . قال تبارك وتعالى :

          { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ . ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . سـورة فصـلت الآيـات ( ۹ ـ ۱۲ ) } .

          ولنفهم أن كلمة دخان هنا ، هي حالة مائية متحولة من نشاط  ومعادلات فيزيائية وكيميائية . نقرأ معاً نصاً لأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (ع) ، طبعاً هو  استفاده من النبي محمد (ص) . والنص هو بعض من كلام حول خلق العالم  ، قال (ع) ، في سياق أدلة  ساطعة عن وحدانية الله تبارك وتعالى :

          ” أنشأ الخلق إنشاءً ، وابتدأه ابتداءً ،  بلا رويََّة أجالها ( الفكر   وأجالها  : أدارها ورددها) ، ولا تجربة  استفادها ، ولا حركة أحدثها ، ولا هَمَامَةِ ( مصطلح عند متكلمي  المجوس) نفس ٍ  اضطرب فيها . أحال الأشياء لأوقاتها ، ولأَم (قرن) بين مختلفاتها ، وغرَّز (أودعها  طبائعها) غرائزها ، وألزمها أشباحها ، عالماً بها قبل ابتدائها ، محيطاً بحدودها وانتهائها . عارفاً بقرائنها وأحنائها(جمع قرونة وهي النفس .  والأحناء  : الجوانب) . ثم أنشأ ـ سبحانه ـ فتق الأجواء ، وشقَّ الأرجاء ، وسكائك (جمع سكاكه بالضم وهي الهواء الملاقي عنان السماء) الهواء ، فأجرى فيها ماءً متلاطماً تيَّاره (موجه) ، متراكمـاً زخَّارُه (الشديد الزخر) .

حملـه على متـن الريح  العاصفة ،  والزعزع (الريح التي تزعزع  كل ثابت) القاصفة ،  فأمرها بردِّه ، وسلَّطها على شدِّه ، وقرنها إلى حدِّه . الهواء من تحتها فتيق (مفتوق) ، والماء من فوقها دفيق(مدفوق). ثم أنشأ سبحانه ريحاً اعتقم مهبَّها(جعل هبوبها عقيماً والريح العقيم التي لا تلقح شجراً  ولا سحاباً ) ، وأدام مُربَّها(مصدر ميمي من أرب بالمكان  لازق فالمُرب الملازقة) ، وأعصف مجراها ، وأبعد منشاها ، فأمرها بتصفيق (تصفيق الماء  : تحريكه وتقليبه ) الماء الزخَّار، وإثارة موج البحار ، فمخضته (حركته بشدة كما يمخض السقاء)  مخض السِّقاء ، وعصفت به عصفها  بالفضاء ، تردُّ أوَّله إلى آخره ، وساجيه (الساكن) إلى مائره (الذي يذهب ويجيء)  ، حتى عبَّ  عبـابُه ، ورمى بالزبد رُكامُه (ما تراكم منه بعضه على بعض) ، فرفعه في هواء منفتق ، وجو  ٍ  منفهق (مفتوح واسع) . فسوى منه  سبع سماوات ، جعل سفلاهنَّ موجاً مكفوفا (ممنوع من السيلان) ، وعُلياهنَّ سقفاً محفوظا ، وسمكاً مرفوعا ، بغير عمد ٍ يدعمها ، ولا دسار (واحد الدسر  وهي المسامير) ينظمها . ثم زينها بزينة الكواكب ، وضياء الثواقب(المنيرة المشرقة) ، وأجرى فيها سراجاً مستطيرا (منتشر  الضياء) ، وقمراً منيرا :  في فلك دائر ، وسقف ٍ سائر ، ورقيم (إسم من أسماء الفلك . سمي به لأنه مرقوم بالكواكب)  مائر . “

          لعل ابـن ابي الحديد أفضل من فسَّر  كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام  في  » نهج البلاغة « . ومع ذلك فإنه فيما يتعلق ببعض القضايا العلمية  ولا سيما علم الفلك ، فإن تفسيره كان قاصراً ، نسبة لقصور علوم عصره (عاش في العصر العباسي الثاني  وتوفي حوالي  ٦۵٦ هجرية)  في هذا   العلم ، ولو كان ذهبياً في بقية العلوم  . إذ أن علم الفلك لم يصبح عملياً وتحت المشاهدة  البصرية إلا في القرن السادس عشر  الميلادي ، حيث اكتشف الإيطالي غليليو أول تلسكوب  رصد به بعضاً من حركات مجموعتنا الكوكبية ، وظل هذا العلم  يكبر ويتطور ، حتى صعدوا به إلى القمر  وكشفوا اللثام  عن الكثير من أسرار ما تحت السماء الدنيا . لذلك ـ في شرح كلام أمير المؤمنين  عن خلق العالم ـ سأواكب العلاّمة الفذّ ابن ابي الحديد في شروحه اللغوية ، مسقطاً الشروح الظنية التي كانت سائدة في عصره عن مفهوم السماوات والشمس والقمر والكواكب  وبقية العناصر . وبعد ذلك إن شاء الله  ، أقيم مقارنة بين المفهوم الإسلامي لخلق العالم ، والذي تضبطه النصوص الإلـهية ، وبين الإعتقاد الظني المتداول بين كثير من علماء القرن العشرين ، والذي اتفقوا على تسميته بالإنفجار الكبير ( BIG BANG ).

          أما قوله عليه السلام : ” أنشأ الخلق إنشاءً  وابتدأه  ابتداءً “

فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء والبلغاء كقوله سبحانه : { .. لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ . سورة فاطر الآية ۳۵}  وقوله : { .. لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا .. . سورة المائدة الآية ٤۸}  .

          وقوله : ” بلا روية أجالها ”  ، فالروية الفكرة ، وأجالها ردّدها ، ومن  رواه أحالها بالحاء ، أراد صرفها . وقوله : ” ولا تجربة استفادها ” ، أي لم يكن قد خلق من قبل أجساماً فحصلت له التجربة التي أعانته على خلق هذه الأجسام .

          وقوله : ” ولا حركة أحدثها ” ، فيه رد على الكرامية  الذين يقولون : إنه إذا أراد  أن يخلق شيئاً مبايناً عنه أحدث في ذاته حادثاً ، يسمى الإحداث ، فوقع ذلك الشيء المباين عن ذلك المعنى المتجدد المسمى إحداثاً .

          وقوله : ” ولا همامة نفس اضطرب فيها ” ، فيه ردٌّ على المجوس  والثنوية ، القائلين بالهمامة ، ولهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات ، وهذا يدل على صحـة  ما يقال : إنَّ أمير المؤمنين عليه السلام  كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين ، ويعلم  العلوم كلها ، وليس  ذلك ببعيد من فضائله ومناقبه عليه السلام  .

          وأما قوله : ” أحال الأشياء لأوقاتها ” ، فمن رواها :” أحلَّ الأشياء  لأوقاتها “، فمعناه جعـل محل كل شيء ووقَّته كمحل الدين .  ومن رواها : ” أحال ” ، فهـو من قولك : حال في متن فرسه ، أي وثب  وأحاله غيرُه ، أي أوثبه على متن الفرس ،  عدّاه بالهمزة ، وكأنه لما أقرَّ الأشياء في أحيانها وأوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه .

          وقوله : “ولأم بين مختلفاتها ” ، أي جعل المختلفات ملتئمات(ب ” ملتئمة ”  وما أثبته عن أ ) كما قرن النفس الروحانية (لنا اعتراض على المثل . انظر كتابنا ” العقل الإسلامي)  بالجسد الترابي ، جلَّت عظمته .

          وقوله : ” غرَّز غرائزها ” ، المروي بالتشديد ، والغريزة : الطبيعة ، وجمعها غرائز ، وقوله : ” غرَّزها ” ، أي جعلها غرائز ، كما قيل : سبحان من ضوأ الأضواء !  ويجوزأن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست ، وقد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف .

          وقوله : ” والزمها أشباحها ” ، الضمير المنصوب في ” ألزمها ” عائـد إلى الغرائز ، أي الزم الغرائز أشباحها ، أي أشخاصها ، جمع شَبَح ، وهذا حق لأنَّ كلاً مطبوع على غريزة لازمة(

حصر الكلام عن الغرائز بالإنسان ، والمقصود خلاف ذلك ، فالإنسان  مكلـف بموجب العقل وأوجب عليه سبحانه التربية ، أما الغرائز فلما دون الإنسان     مـن مخلوقات) .

 ، فالشجاع لا يكون جباناً ، والبخيل لا يكون جواداً ، وكذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل .

          وقوله : ” عالماً بها قبل ابتدائها ” ، إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزَل . وقوله : ” محيطاً بحدودها وانتهائها ” ، أي بأطرافها ونهاياتها .

          وقوله : ” عارفاً بقرائنها وأحنائها ” ، القرائـن جمع قَرونة ، وهي النفس ، والأحناء : الجوانب ، جمع حنو ، يقول : إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها ، عارف  بجهاتها وسائر أحوالها المتعلقة بها والصادرة عنها .

          ورجوعاً إلى كلمة : ” هَمامة ” ، في قوله عليه السلام : ” ولا همامة نفس اضطرب فيها ” ، فقد حكى زُرقان(1) في كتاب : “المقالات ” ، وأبو  عيسـى  الوراق والحسن بن موسى ، وذكره شيخنا أبو القاسم البلخي في كتابه في : ” المقالات ” ، أيضاً عن الثنوية :  أن النور الأعظم اضطربت عزائمه وإرادته في غزو الظلمة والإغـارة عليها ، فخرجت من ذاته قطعة ـ وهي الهَمامة المضطربة في نفسه ـ فخالطت الظلمة غازية لها ، فاقتطعتها الظلمة  عن النور  الأعظم ، وحالت بينها وبينه ، وخرجت هَمامة الظلمة غازية للنور الأعظم ، فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة  ، ومزجها بأجزائه ، وامتزجت هَمامة النور  بأجزاء الظلمة أيضاً ، ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان وتتدانيان وهما ممتزجتان ، بأجزاء هذا وهذا ، حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس .  ولهم  في الهَمامة كلام مشهور ، وهي لفظة اصطلحوا عليها ، واللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهَمامة بمعنى الهمة ـ كما زعم القطب الراوندي ـ والذي عرفناه الهِمَّة والهَمَّة بالكسر والفتح ، وتقول لا هَمام ِ لي بهذا الأمر ، مبني على الكسركقطام ِ، ولكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها .

الكون حيٌّ عاقل :

================ 

          بما أن كل شيء خلقه سبحانه هو حي بنسبة أو بأخرى ، بدليل النص القرآني وثبوت النظريات العلمية ، فنستطيع أن نقول في الآية الكريمة : { .. وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ .. سورة الآنبياء الآية ٣٠ } أنه جعل كل شيء في السماوات والأرض من الماء ، حتى النور والنار .

          أما النص القرآني الدال على حياة الأشياء ، وحتى على وعيها وإدراكها ، وإن اختلفت بذلك النسب والمقادير فقوله تعالى :

          {  تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا . سورة الإسـراء الآية 44 } .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)        هو زرقان المتكلم تلميذ ابراهيم بن سيار النظام ، وقد حكى زرقان عن النظام أقوالاً في الفرق بين الفرق 50 ـ 51 ، وذكره المسعودي  في  التنبيه والإشراف 342 .

          ففي قوله : { تُسَبِّحُ لَهُ .. }  التسبيح نوع من ذكر الله  يحث عليه الإعجاب والإعظام والإكبار والشوق إلى الله سبحانه ، وفي جملة معانيه  تنزيهه وتمجيده .  وهذه المعاني يتعاظم معها الحب لله ، كلما تعاظم الإدراك ، وبنسبة القصد والتركيز  ومراتب المخلوقين  في سُلَّم  الوجود .

          أما قوله تعالى  : { .. السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ .. } فقد أجمل  فيه سبحانه العناصر الثلاثة  التي تتكامل فيما بينها مؤلفة هذا  الكون  ، والتي إذا نقص منها أحد عناصرها فقد الكون حقَّ قيمته ، فلا تقوم أرض بدون سماء تتفاعل معها حسب ما هندس  الله عز وجل وقدَّر وقضى ، وبنفس المقتضى لا تقوم سماء بدون أرض . ثم لا يكون لهما  قيمة بدون سكان يروحون ويجيئون عليهما وبينهما . هذا في وجدان العقل  العادي . أجمل سبحانه القول  ثم فصَّل متابعاً  في آيته الكريمة : { .. وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ .. } المعنى ، ما من شيء في الكون إلا يسبح بحمد الله ، أي معجباً منزِّهاً ممجداً ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، وهذا طبيعي جداً ، فالناس وهم من صنف واحد هو صنف البشر ، لا يفقهون لغات بعضهم البعض ، فكيف وقد اختلفت الأصناف ، أصناف الخلق ، واختلفت معها اللغات بين سماوية  وأرضية وحتى أبجدية . وبين ما هو مسموع وما هو غير مسموع ، أو حسب التعبير العلمي : ما هو في مستوى الصوت أو فوق مستواه أو تحت مستواه .

          والخلاصة ، بما أن كل شيء يسبح بحمد الله ، فكل شيء ، وبالضرورة ، يعي ويعقل ، وما دام كل شيء يعي ويعقل ، فكل شيء هو حيٌّ ، وما دام الكون مؤلف من الأشياء  ، وهو في ذاته شيء مجمل ، فإذن الكون كله بجملته وتفصيله هو حيٌّ وعاقل .

          ولا بدَّ هنا من القياس المنطقي ، فالمعلوم أن الإنسان هو الأرقى في المخلوقات في ظاهر هذا الكون . يأتي دونه في الدرجة : عامة الحيوانات ، التي  نعلم أنها تعي وتدرك  ولكن بنسبة أقل على اختلاف أصنافها . يأتي بعدها النبات ولا خلاف في ظهور الحياة فيه ، وغموض الوعي والإدراك . ولكن التأمُّل من جهة والتجارب من جهة ثانية ، يثبتان وعياً ولو غريزياً للنبات ، يعلم ذلك علماء النبات وكذلك الأذكياء من المشتغلين في أنواع الزراعة .

          وما دام  هذا التدرج من حيث نسب الحياة والوعي ، قائم بوضوح ، بين الإنسان والحيوان  والنبات ، فلماذا لا نلحق به الجمادات ، أو ما تعارف الناس على تسميته بالجمادات ، اعتماداً على الظواهر من جهة ، وعلى محدوديَّة البصر الإنساني من جهة ثانية ؟

          هنا جاء دور العلم الفذّ ، الذي  قيَّضه  الله  سبحانه  للإنسان { عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . سورة العلق الآية ۵ } . جاء دورالعلم ليكشف ويثبت أن الجمادات ليست جمادات .

          فقد تبين منذ النصف الثاني من القرن العشرين ، وبعد انفلاق الذرَّة ، أنَّ كل شيء ظاهر في الكون ، كل مجسَّم ، من سائل ٍأو غازي ، أو جامد أو متحرك ، هو ذريٌّ أو نووي نسبة إلى نواة الذرة  .

          وداخل الذرَّة ـ على صغرها المتناهي ـ  عالم مدهش مذهل ، نموذج مصغَّر عن مجموعة شمسية مثل مجموعتنا هذه التي في الطرف الجنوبي من مجرة درب التبانة . شمسها النواة التي فيها البروتون  الذي حيَّر العلم والعلماء  ، حيث أنه لا يموت أبداً ، بينما كل شيء في الذرة يموت دونه .

          ويدور حول هذه الشمس  ـ النواة ـ  ما أسموه  بالالكترونات كما تدور حول شمسنا الكواكب السيارة ، ولكن سرعة الألكترونات هائلة ، ولكنها تزيد وتنقص حسب أوضاع أجسامها تبعاً للحرارة  أو البرودة . كل نواة فيها وحولها حركة دائبة ، وكل جسم في الكون من الزهر إلى الصخر، إلى العطر إلى الحديد ، مروراً بالإنسان ، هو نوويّ ، فإذن هو  متحرك بحركة دائبة ، وتبدو ذاتية ـ أي  بدون طاقة مفتعلة ـ فإذن هو حيٌّ . وربطاً  بالنصوص الإلـهية ، وكون كل شيء يسبِّح بحمد ربه ، فإذن هو مدرك ، وإنما ـ كما ذكرنا ـ  حسب درجته التي درَّجه الله سبحانه فيها ، في هذا الوجود .

          بقي أن نلفت ، إلى أنه لا يجوز لنا أن نقول  هذا ” شيء ” إلا لما وقعت عليه  المشيئة ، أي  لما شاءَه الله تعالى أن يكون وأن ينسب إليه . فلا يجوز أن ينسب إلى الله أي فعل ٍ من الإنسان مشين ، أو أية قذارة من القذارات . وقد خلق الله الإنسان في الأصل نظيفاً نورانياً ، يغتذي ولا يقذِّر ، كما الجنين في بطن أمه . ولكن كانت المعصية ، ثم على أثرها الإهبـاط . فكان على الإنسان أن يجهد ليرتقي من جديد ، من المادية وإفرازاتها ، إلى النورانية ونظافتها وطهارتها . والإنسان مندوب لهذا الترقي في الدنيا  قبل الآخرة . وهذا ميسَّر له إذا عرف كيف يحب الله ، وكيف  يفنى في فِناء الله  . فإذا  ابتعثه الله في الدنيا من جديد ، علَّمه  الترقي وأعانه على الوصول .