فهم الوجود بين موسى وعيسى ومحمَّد عليهم السلام

فهم الوجود

بين موسى وعيسى ومحمَّد عليهم السلام

         خاطب الله رسوله محمَّداً (ص) قال :

          { قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . سورة آل عمران الآية 84 } .

          الشاهد في الآية الكريمة { .. لاَ نُفَرِّقُ .. } وهي أمر لجميع المؤمنين أن لا يفرقوا بين جميع الأنبياء عليهم السلام ، بحيث يقول بعضهم ، نتبع هذا ولا نتبع ذاك ، ونؤمن لهذا ولا نؤمن لذلك .

          وعدم التفريق هذا ، ليس  معناه  أن الأنبياء والرسل جميعاً هم سواسية  من حيث القيمة وقوة النفس ودرجة التأثير ، والمكانة عند الله عز وجل ، وبالتالي لزوم أن يحقق بذلك الناس ، فيستفيدوا من الخصائص العليا ، عند من فضلهم الله سبحانه .

          قال تعالى :

{ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ … سورة البقرة  آية 253 } .

          ومن أبرز الذين فضلهم من الأنبياء ، أولئك الذين جمعهم  في هذه الآية الكريمة مخاطباً بها رسوله محمَّداً (ص) :

{ شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ . سورة الشورى آية 13 } .

          وحيث أن الله سبحانه أبرز من الكتب المنزلة التوراة ثم ألحق بها الإنجيل ، وأسماها { الكتاب } وأسمى أتباعها { أهل الكتاب } ثم  أنزل القرآن وجعله مهيمناً بمضامينه على { الكتاب }  أي على التوراة والإنجيل . وحيث أن التوراة انزلت على موسى  والإنجيل على عيسى  ، والقرآن على محمد  عليهم السلام أجمعين ، وحيث أن هذه الكتب هي المتداولة بين الأمم اليوم ،  والمعروفة وحدها  ككتب سماوية ، وحيث أن الله تعالى قرَّر في القرآن المجيد الحقيقة التالية عن القيمة الأعلى والأبقى للقرآن الكريم ، في قوله تعالى :

          { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ.. . سورة المائدة آية 48 } .

          لذلك كله ، وبإذنه تعالى  وبفضل  منه سبحانه ، عزمنا متوكلين عليه  ، أن نتكلم  في المقولة المتداولة بين أهل العرفان ،  والتي مفادها ما يلي :

          ” إن موسى عليه السلام  نظر بعين الكثرة ، وأن عيسى عليه السلام  نظر بعين التوحيد ، وأن محمَّداً صلى الله عليه وآله نظر بهما جامعاً “.  

ومفاد ذلك ، أن موسى (ع) نظر بعين الكثرة مستعيناً بالله سبحانه ، وأن عيسى (ع) نظر بعين التوحيد مستعيناً على الكثرة ، وأن محمداً (ص) نظر بهما جامعاً كما يحب الله سبحانه ، وذلك هو الكمال الأكمل في المخلوقين .

          كان موسى يرى أن الله في جانب ، والوجود ومفردات الوجود في جانب آخر ، لذلك ، وهو ـ على اعتقاده ـ كفرد ٍ من أفراد الوجود ، سأل ربَّه سبحانه قال : { .. رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ . سورة الأعراف آية 143 } .

          أما لماذا سأل موسى ربه ذلك ، فلأنه لم يكن يعلم  أن الله سبحانه محيط  به وأنه أقرب إليه من حبل الوريد ، وأنه سبحانه محيط  بالكون وبكل شيء في الكون  ، وأنه الأوَلُ والآخِرُ وَالظَاهرُ وَالبَاطِنُ .

          أما لماذا لم يشرح له الله سبحانه كل ذلك . فنلاحظ حسـب القرآن الكريم ، أنَّ بعض الأنبياء يسألون عن أمور  ، أو  يصرحون لله تعالى  عن أمور تدل على فارق عظيم بين ما آتاهم الله سبحانه من العلم ، وبين ما آتى محمَّداً (ص)  من جواهر الحقائق عن أُلهانيته ومثال على ذلك ما حصل لموسى  بعـد أن { .. نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ . سورة القصص آية 30 }  وبعد أن جعل معه أخاه هارون رسولاً وأرسلهما إلى فرعون وقال لهما ـ بعد أن ذكَّر موسى بعنايته به وحفظه له في أعجب الظروف ـ منذ  قذفته أمه  في التابوت ثم في اليم  ،  ثم  إلقاء  اليم له في الساحل . ثم أخذ فرعون عدوُّ الله وعدُّوه له ، ثم إرجاعه إلى أمه ، ثم قتله الرجل ، ثم لبثه في أهل مدين واكتمال تعلمه عند  شعيب النبي (ع) قال لهما سبحـانه : { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى . فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى . قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى . قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى . سورة طه الآيات ( 43 ـ 46 ) } .

          فبعد هذا كله ، وبعد وجوب ملاحظته أن الله في كل مكان وأنه معه ومع أخيه ومع كل الناس ، يراهم ويسوسهم ويفعل ما يريد ، سأل ربَّه سبحانه قال : { .. رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ .. . سورة الأعراف الآية 143  } .

          ومثل هذا قوله عندما قتل الذي من عدوِّه ، قال : { .. هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ.. }  ومعلوم عند من لهم حظ من الإيمان ومن المعرفة أن الشيطان غير مستقل بعمله ، وإنما هو في  سلطان الله تعالى ، يصرفه عمن يشاء ويقيضه لمن يشاء وقد جعل له حدوداً وقوانين ، يستحيل عليه تجاوزها . وإن لم يكن موسى يعلم في تلك الفترة أنه نبيٌّ ، فهو معلوم عند الله سبحانه ، وهو مؤمن وله شيعة آنذاك من المؤمنين ، فكيف يقيض له الله شيطاناً يفتنه عن دينه ويوقعه في جريمة قتل ، وهو في نظر الله يرعاه ويهيئه لأعباء الرسالة التاريخية في عمر البشرية .

          إنما الله ، وهو مسبب الأسباب ، جعل  قتله الرجل  ـ وهو من أعداء الله ـ سبباً لخروج موسى من المدينة ، وخائفاً يترقب ، وليذهـب إلى مدين بعينها ، وليصل إلى شعيب ، وليقضي عنده العشر سنوات ، بما فيها من العلم والأخلاق والمقدمات لتلقي النبوة وتكاليف الرسالة .

          ومع ذلك ، لم يعلق الله عز وجل ، على اعتقاد موسى بأن قتله الرجل كان من عمل الشيطان ، وأكثر من ذلك فإن الله سبحانه يوجز الموقف ، حسب نظر موسى ، قال سبحانه :

          { وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ . قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . سورة القصص الآيات ( 15 ـ 16) } .

          موسى أراد أن يغفر له قتله الرجل ، ولعلَّ الله جل وعلا أراد أن يغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر . وقرر سبحانه الحقيقة الجميلة : أنه هو سبحانه الغفور الرحيم .

          وقريب من هذا كـلام الله تبـارك وتعالى عن النبي أيوب (ع) قـال عزَّ شأنه : { .. وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ . سورة ص آية 41 } .

          ففي هذه الآية على أيـوب (ع) مأخذان : الأول ، أنه نادى ربَّه ، وهو عليه السلام ، لو كان يعرف مكانة ربه منه كما عرفها محمَّد (ص) ، وهي أن الله تعالى أقرب إليه من حبل الوريد ، لكان ناجاه ، أو دعاه ، بدلاً من أن يناديـه نداءً ، لأن النداء ، معلوم أنه للبعيد .

          لمَّا أُنزلت آيـة : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ِ.. . سورة البقرة الآية 186 } على رسول الله محمَّد (ص) ، كان أعرابي سأله قبيلها هذا السؤال الذكي : يا رسول الله ، ربنا قريب فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟  فكانت الآية الكريمة .

          على أنه مذكور في القرآن أن الله نادى آدم وزوجه ونادى موسى ، فهذا حق الله وفيه مطلبان . الأول فيه إشارة إلى أن آدم وزوجه أصبحا في مقام البعد عن الله تعالى  بعد أن قال : { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ .. . سورة البقرة آية 35 } حيث كانا في مقام القرب المعنوي من الله عزت عظمته ، فلما وقعت المعصية ،  وأصبح الفريقان ، رجالاً ونساءً ، في مقام البعـد المعنـوي : { .. وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ .. . سورة الأعراف  الآية 22 } .

          أما المطلب الثاني ، فهو أن الله جلت عظمته ، من واقع علمه اللانهائي وكبريائه ، يخاطب أنبياءَه ورسله على قدر أفهامهم ، ومن خلالهم البشر ، تبعاً لتطور فهم البشرية في مراحل نموِّها ، ومعها تطور فهم الأنبياء . فالبشر في كل مرحلة ، لن تكون أفهامهم ، في أحسن حالاتهم ، إلا دون فهم أنبيائهم ، كل في مرحلته ، وهذه هي حكمة الله البالغة .

          لذلك نرى أن الله سبحانه ، كان ينادي من أنبيائه من يناديه ، وقد نادوه جميعاً ، إلا محمَّد (ص) فقد ناجاه ، ولذلك هو جعله خاتم النبيين وأعزَّ المرسلين ، وجعل رسالته خاتمة الرسالات ومهيمنة على جميع ما قبلها ، وجعل قرآنه كافياً شافياً ، لا  يأتيه الباطل  من بين يديه ولا من خلفه  إلى قيام الساعة .

          وصحيح أنه سبحانه ، قرَّب موسى (ع) نجياً ، وإنما عندما  أنزل عليه التوراة ، وحصراً في جانب الطور الأيمن ، أي طور سيناء ،  وهو الجبل المعروف في نواحي مصر في صحراء سيناء . قال تعالى :

          { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا . وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا . سورة مريم  الآيات (51 ـ 52) }  وكان ذلك مرةً ، عندما لقنه التوراة وأكتبه إياها خلال أربعين يوماً ، ودفعة واحدة .

          أما محمَّد (ص)  فإنه أوحى إليه القرآن دفعة واحدة في ليلة واحدة  ، أو في بعض ليلة ، وأين كان ذلك ؟! رفعه ربه سبحانه وتعالى ، إسراءً ، إلى ما فوق السماء السابعة ، ولقنه القرآن فوق الأفق الأعلى ، حيث دنا فتدلىَّ فكان قاب قوسين أو أدنى ، وذلك قوله تبارك وتعالى :

          { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى . ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى . وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى . ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى . فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى . سورة النجم الآيات ( 3 ـ 10) } .

          ويلاحظ الفارق العظيم بين الموقعين : الموقع الذي أنزلت فيه التوراة على رسول الله موسى (ع) ، وهو جبل الطور  في صحراء سيناء على كوكبنا هذا الأرضي ، تحت السماء الدنيا ، والموقع الذي أنزل فيه القرآن المجيد على رسول الله محمَّد (ص) وهو فوق السماء السابعة  . ثم  مستوى المناجاة هنا ومستوى المناجاة هناك .  نقول هذا تلمساً للحقائق بالمنطق البريء ، وتوخياً لطاعة الله جلَّ جلاله . غير ناسين ـ في هذا المجال ـ قّوْلَيْهِ تبارك وتعالى  ، الأول : { .. لاََ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ .. } أي بين أحد من أنبياء الله ورسله . والآخر : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ .. }  وهو حكمه تبارك وتعالى ، وهو خير الحاكمين .

          هذا ، ولقد أُحصي في القرآن الكريم ثلاثمائة وثلاث وثلاثون مرة كلمة : { قلُْ } أي يا رسول الله يا محمد ، خلال تنزيل القرآن عليه ، نجوماً ، عبر  ثلاث وعشريـن سنة ،  فضلاً عن بقية أنواع الخطاب . ليس فيها مرة واحدة  ، نادى ربَّه فيها نداءً ، ولا ربُّه عزَّت عزته ناداه .. من بعيد .

       ونسجل على الأنبياء عليهم السلام  الذين أورد الله تعالى عنهم  في القرآن العظيم أنهم نادوه سبحانه :                          

ـ         { وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي .. . سورة هود آية 45 } .

ـ         { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا . إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا  . سـورة مريم الآيـات ( 2 ـ 3) } .

ـ         { وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ .. . سورة الأنبياء  آية 76 } .

ـ         { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ .. . سورة الأنبياء آية 83 } .

ـ         { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ . سورة الأنبياء الآية 87 } .

ـ         { وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ . سورة الأنبياء الآية 89 } .

ـ         { .. وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ .. . سورة ص الآية 41 } .

         

          ونذكر  الذين أورد الله أنه هو سبحانه ناداهم ، طبعاً في مقابل أنهم نادوه تبارك وتعالى :

ـ         { وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ . سورة الشعراء الآية 10 } .

ـ         { .. وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ.. . سورة الأعراف الآية22} .

ـ         { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْـتَ الرُّؤْيَـا .. . سـورة الصافـات الآيات  ( 104 ـ 105 ) } .

          يبدو  بقوة أن الله عز وجل ، ومنذ بداية  البشر ،  فصَّل أنبياءَه ورسله ، كلاً على قدر قومه الذين أرسل إليهم من جهة ، ومن جهة ثانية على قدر الرسالة التي أرسل بها . مع أفضلية على القوم وليس  ـ طبعاًً ـ على الرسالة .

          والأفضلية ، تارة تكون بنسب بسيطة ، فأكثر أنبياء بني اسرائيل ، بدءاً بأبيهم  إسرائيل الذي هو يعقوب ، ومروراً ببنيه الأسباط الإثني عشر ، ثم عشرات الأنبياء ، منهم من سماه القرآن الكريم وذكر أهمَّ مناقبه ، ومنهم من سماه ولم يذكر عنه إلا أنه كان من الصالحين ، وكثير منهم لم يتعرض لهم لا بالأسـماء ولا بالصفات . إلا أنه كان جلياً إبراز موسى  ربطاً بالتـوراة ، وإبراز عيسى ربطاً بالإنجيل ، وهو عليه السلام آخر من ابتلاه الله تبارك وتعالى بفظاظة بني إسرائيل وقسوتهم وعصيانهم لله تعالى ولرسله عليهم السلام ، وبتحريف كلام الله ، وبقتلهم النبيين ، وبقولهم على مريم عليها السلام بهتاناً عظيما ، حتى بعث الله رسوله محمَّداً  (ص) ، النبي العربي ، رحمة للعالمين .

          وحيث قلنا إن الأفضلية بين أكثر أنبياء بني إسرائيل وبين عقلاء الناس ، طبعاً المؤمنين ، كانـت بسيطة ، فلا بدَّ أن نعطي أمثلة على ذلك . وحيث أن الكلام في هذا كثير ، لذلك نكتفي بلمحات عن إسرائيل ذاته أي يعقوب (ع) وبنيه الأسباط الذين ذكر الله سبحانه أنه جعلهم كذلك من الأنبياء :

          إن يعقوب كذب عليه عشرة من أبنائه وغدروه وأخذوا أخاهم ليقتلوه ، موهمين أباهم أنهم ذاهبون ليلعبوا ويستبقوا . وأول بادرة كانت من يعقوب ، وهو يحب ولده يوسف ـ حباً مميزاً وفوق العادة ـ أنه قال : إني أخاف أن يأكله الذئب . والحـق هنا يقال ، لو أن مسلماً عادياً قال كذلك ، وهو يعلم أن الله معه ومع  ابنه ، ولو كان هذا في بحر  وذاك في بر أو في سماء ، للمناه على قوله واعتبرنا ذلك نقصاً في إيمانه .

          الثانية ، ولعلها أكبر ، أنه بعد أن فعل إخوته فعلتهم ، وألقوا اخاهم في الجب ، وعادوا إلى أبيهم يبكون محتالين بدم ٍ كذب على قميص مدَّعين أكل الذئب له ، وكان هو ، أي يوسف ، قد أنجاه الله بأن أرسل له سيارة من الناس أخذوه ، واستقرَّ في مصر.  هنا بدأ يعقوب (ع) بالبكاء .. ثم ما رقأت له دمعة طيلة سنيِّ غياب يوسف ، ويقال إنها خمس وعشرون سنة ـ تقريباً ـ  حتى ابيضَّت عيناه من الحزن .

          وهنا مناقشة ثانية ، وهي أنه لو فعل كذلك رجل مؤمن اليوم , وقع  له تماماً ما وقع ليعقوب وابنه وجملة بنيه ، ثم فعل فِعل يعقوب ، فبكى خمساً وعشرين حتى ابيضت عيناه من الحزن . بدعوى شدة حبه لولده  ، للمناه  كذلك لوماً شديداً ، واتهمناه كذلك بنقص في إيمانه ، وفنَّدنا له هذا النقص في عدة أمور ، أهمها :

          هذا السؤال : أين حسن التوكل على الله الذي يصحبنا جميعاً كمؤمنين ؟ ثم بعد أن طال غياب يوسف ، كان لا بدَّ من أحد احتمالين أولهما وهو الملزم ليعقوب أن يعتقده بدرجة اليقين ، وهو سلامـة يوسف ، وأنه في مكان ما على هذه الأرض وفي أحسن حال ، وذلك لما يعرفه يعقوب عن إيمان يوسف ، كصبي مميز ، ثم الرؤيا التي قصَّها يوسف على يعقوب ، ومضمونها أنه سيعمِّر حتى يسجد لله بين يديه  ، أبوه وأمه واخوته الأحد عشر .

          والاحتمال الثاني :  أن يعتقد يعقوب عدم صحة الرؤيا وأنها أضغاث أحلام ، فيكون بذلك خرج هو من النبوَّة وأخرج معه يوسف على الأقل من صفة التميز  عند الله تبارك وتعالى . فيصبح بذلك يعقوب في حكم الرجل العادي المهزوز الإيمان .

          ومع هذا الإحتمال الثاني ، نضل نلوم هذا الرجل العادي المؤمن ، إذا استمر يبكي طيلة خمس وعشرين سنة حتى تبيض عيناه ، وأول ما نحذِّره  منه كونه يأثم بذلك حيث يضر نفسه بدون مبرر قاهر  ، ثم نقول له ، إما أن يكون ولدك قد مات فهو  في  رحمة  الله  ، أو هو ما زال حياً في رعاية الله ، وأين الصبر بالله ، والثقة بالله ،  وأين التصديق بوعود الله للمؤمنين ، .. وبشِّر الصابرين .

          وقد يداخل الرجل العاديُّ الإيمان فكرة ثالثة ، هي أن ابنه قد ضلَّ ، فلا هو ميت في رحمة الله ولا هو حي في رعاية الله ، فنقول له ، وقد أعطاك الله في هذا المجال سلاحاً ولا أقوى : الدعاء . فإمَّا أن يفعل فيه ، فيستجيب لك الله ويهديه ، وإما أن يكون كابن نوح ٍعليه السلام ، الذي اختار ـ والموج يتلاطم ـ جبلاً يعصمه من الماء ، بدلاً من سفينة أبيه والمؤمنين . فكان من المغرقين . وعرَّفنا الله بعد ذلك  أنه كان عملاً غير صالح . فلا يؤسف عليه .

نبي   اليهود       : موســى  (ع)

ونبي المسيحية     :  عيـسى   (ع)

ونبي الإسـلام     :  محمَّــد  (ع)

 

كيف كانوا يرون الله عزَّ وجل .  ؟

أولاً موسى عليه السلام :

         

          هو نبي الله ورسوله  إلى فرعون وقومه ، وهو من أكثر الأنبياء بروزاً في تاريخ الرسالات ، وهو نبي اليهودية ، أحد الأديان ، أو الأصح إحدى الشرائع الموجودة على الأرض  اليوم ، إلى جانب المسيحية والإسلام .

          معلوم أن موسى تربى في مصر، بين قصر حاكم البلاد والعباد : فرعون ، وبين قومه بني إسرائيل الذي كان يقيم بهم علاقة سرية  حميمة ، ومعلوم  كذلك  أن  الله  سبحانه  ،  هيأ  له ـ  تعليماً آخر دينياً إلـهياً في مدين  ـ عند نبي الله شعيب  (ع) . ثم نبّاه أثناء رجوعه إلى مصر ، في بعض الطريق . وحمَّله الرسالة .  إلى فرعون وقومه وتخليص بني إسرائيل من فرعون وطغيانه إذ هو لم يؤمن ، وزاد سبحانه ، فأيده كذلك بنبوة أخيه هارون .

فبناءًً على الآية الكريمة : { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ .. } ، سنجد تفاوتاً مهماً بين موسى وعيسى ومحمَّد عليهم السلام  تقرره المقارنة ، تبعاً للنصوص ، وللسيرة  المباركة لكل منهم .

          فالبنسبة لما ذكرنا من أن موسى (ع) نظر بعين الكثرة وأن عيسى (ع) نظر بعين التوحيد وأن محمَّداً (ص) نظر بهما جامعـاً ، نرى أن موسى (ع) على أساس هذه الحقائق ، كان قومياً إسرائيلياً ، فهو ، كاد ـ  لولا أمر الله تعالى له  بمواجهة فرعون ورهطه ـ يحصر الدعوة والرسالة ، بقومه الإسرائيليين . ومـع ذلك ، لم يفلح معهم ، رغم أنهم كانوا يشكلون له قاعدة شعبية  معقولة، قبل تكليفه بالرسالة ، ثم بعد تكليفه بها . فلا هو حملهم على أن يكونوا ، مثلاً ، ثواراً إنقلابيين ، باسم الله  وباسم دينه ، على  الحكم الكافر الطاغوتي ، ولا فكر أن يجعل منهم ـ وهو في مصر ـ أمة مقاتلة . وصحيح أنه كان وقومه أمة مستضعفة في مصر ، إلا أنهم كانوا جماعة متماسكة قومياً ودينياً .

بينما كان محمَّد (ص) وحده في مكة ، بدون أدنى قاعدة شعبية  تنصره أو تدفع عنه طواغيت قريش وعدوانيتهم ، كان محمَّد (ص) وحده أمة مستضعفة في مكة ، ثم أصبح والناس الذين أسلموا معه ، الأمة التي فتحت العالم ، ومدَّنته ، وشرفتـه بعبـادة الله العظيم …

          هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، إضافة إلى تجنيب موسى قومه الجهاد في سبيل الله ، مراعاة ربما لجبنهم أو طبيعتهم الأنانية ، فإن اعتقاده بالله عز وجل ، إضافة إلى ما قلناه سابقاً ، كان ذا أفق ضيق ، بالنسبة لأفق محمَّد (ص) أو آفاقه المفتوحة بدون حدود ، ولنفهم ذلك بوضوح ، نورد هذا النص القرآني :

          { وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ . فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ . إِنَّ هَؤُلاَء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ . وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ . وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ . فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ . كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ . فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ . فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . . سورة الشعراء الآيات ( 52 ـ 62 ) } .

          الذي نريده من هذه الآيات المباركات ، الآية الأخيـرة ، أي قـول موسـى (ع) { .. كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ . } .

          هذا عجب من موسى (ع) بالنسبة لمحمَّد (ص) . فلو كان الموقف لمحمَّد (ص) لما تفرد بنسبة الله تعالى إليه وحده ، أي لكان قال إن معنا  ربنا سيهدينا ، أي معه ومع الناس  ، وسنرى ذلك الفارق أنه كبير جداً وخطيرجداً بين القولين ، يعني بين المفهومين ، عندما نأتي إلى الكلام عن محمَّد (ص) . ونحن لكي لا نطيل الكلام  في مقارنتنا  بين الأنبياء الثلاثة ، نكتفي بهذا القدر من الأفكار المكثفة والرصد الموجز .

ثانياً : عيسى عليه السلام  :

          نبي الله ورسوله عيسى (ع) كان من حيث التوجه والتعاطي مع الرسالة بعكس سلفه موسى (ع) ، فهو من جهة قد حصر نشاطه وما كان يتبلغه عـن ربه  ، يإثني عشر رجلاً  تقريباً ، كان يتجاوزهم أحياناً في ظروف أشبه بالمحاكمات في جموع  من الناس ، أو إلى معجزات على صعيد أفراد مثل شفاء الأكمه والأبرص وإحياء موتى بإذن الله .

ومن جهة ثانية ، لم يعتن عيسى بقومه كإسرائيليين ، أي لم يتخذ موقفاً قومياً كما فعل موسى (ع) ، وكذلك لم يوجه الناس توجيهاً ثورياً ، أو بطولياً في الدفاع عن ديـن الله . سأل : من أنصاري إلى الله ؟ قال الحواريون : نحن أنصار الله ، والحواريون هم تلامذته المعروفون الإثنا عشر . هؤلاء كانوا في حياته عليه السلام  أنصاره  إلى الله تعالى ، وقد خرج واحد منهم  بخيانته التاريخية ، فبقي أحد عشر رجلاً إضافة إلى أمه القديسة مريم عليها السلام وبضعة عشر رجلاً وامرأة ، ثبتوا كمؤمنين ، وليس كصحابة .

          ومن جهة ثالثة ، ولعلها الأهم ، ويقيناً هي الأهم ، أعني مفهومه عن الله تبارك وتعالى ، فهو  شبيه من حيث قصوره وضيقه بمفهوم موسى (ع) وهذان المفهومان مكرَّسان في التوراة وفي الإنجيل ، وتبعاً لذلك في صلوات  اليهود والمسيحيين . مع ما في عباداتهم من التعقيد  في الطقوس  والوسائط والرتب الكهنوتية ، وهذا كله بخلاف  عبادة المسلم البسيطة غير المعقدة ، وكذلك  فهمه عن الله الواحد الذي لا شريك له ، وكذلك عدم وجود الوسـائط بينه وبين ربه . المسلم ينظر إلى الأنبياء والأوصياء والأولياء ، معلمين وقادة ، ولا ضرورة لتوسطهم بينه وبين الله جلت عظمته ، وهذا معلوم ومشهور في صلاته التي يصليها كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها . وهو يخاطب الله عز وجل كل يوم في كل صلاة عدة مرات ، خطاباً مباشراً ، مع فهمه ويقينه أن الله معه ، أو قريب منه يراه ويسمعه . بينما عيسى عليه السلام علم الناس أن يقولوا في صلاتهم : ربنـا الذي في السماوات . كان يرى الله بعيداً عن الناس .

وإليك  هذا  المثال  عن  علاقة  المسلم  المباشرة بربه تبارك وتعالى  ،  في  وصية الإمام علي(ع) لولده الحسن (ع) :

         “واعلم أن الذي بيده خزائن السماوات والأرض ، قد أذن لك بالدعاء ، وتكفل لك بالإجابة ، وأمرك أن تسأله ليعطيك ، وتسترحمه ليرحمك ، ولم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه ، ولم يلجئك إلى من يشفـع لك إليه .. ولم يمنعك إذا أسأت من التوبة .. ولم

يعاجلك بالنقمة ، ولم يعيرك (1) بالإنابة .. ولم يفضحك حيث الفضيحة بك أولى .. ولم يشدِّد عليك  في قبول الإنابة ، ولم يناقشك بالجريمة (2) ، ولم ييئسك من الرحمة .. بل جعل نزوعك من الذنب حسنة ، وحسب سيئتك واحدة ، وحسب حسنتك عشرا.. وفتح لك باب المتاب ، إذا ناديته سمع ندواك (3) ، وإذا ناجيته علم نجواك(4) . “

 

ثالثاً : مفهوم محمَّد (ص) عن الله تبارك وتعالى :

       ففي هذه الآيات البينات التي كان يتلقاها ويبلغها ويعمل بأنوارها الكاشفة :

          { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ . لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ . هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي اَلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . سورة الحديد الآيات (1 ـ 4) } .

          { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ . الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ . وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ . إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . سورة  الشعراء الآيات (217 ـ 220) } .

          {.. أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون. سورة الأنفال الآية 24}.

{ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا . سورة الطلاق الآية 12 } .

          { .. أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ . سورة فصلت الآية 54 } .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)       لم يعيِّرك بالإنابة  : من عيَّر الدينار بالدينار  إذا وزن به .

(2)        الجريمة . الكسب  ، ومفروضه هنا الكسب الحلال . والجريمة : الكاسب على أهله .

(3)        سمع ندواك  : دعاءَك .

(4)        نجواك : دعاؤك الخافت . 

          وقبل أن نتابع  سرد بقية الآيات ، نتوقف وجوباً لفهم الآيات التي ذكرناها ولعلَّ أدعاها للتأمل والتفكر  والسفر في مضامينها ، قوله تبارك وتعالى  : { هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .}  فأما قوله تعالى : هو الأَوَّلُ وَالأََخِرُ فمعلوم عند العقلاء أنه سبحانه كان ولم يكن قبله شيء وهو الحي القيوم الباقي الذي لا يموت وليس بعده ولا فوقه شيء . وأما قوله تعالى : { وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } أي  وهو الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ، فالظاهر هو المرئي والمحسوس ، والباطن  هو المدرك من الوجود وأشيائه ومفرداته وغير المدرك . ويتبادر على هذا الأساس أن الله تعالى هو الوجود وهو الكون جملة وتفصيلا ، وهذه حقيقـة محدودة ، ما دام للكون حدود ، وبما أنَّ الله سبحانه بكل شيء محيط ( كما سيأتي من الآيات ) فهو محيط بالكون بظاهر الكون وباطنه . وهو سبحانه بنوره غمر الأشياء  واستغرق جواهرها  ، متميزاً عنها بألوهيته  ولا نهائيته عبر الأكوان وفوق الأكوان ، فهو غيرها ، وهي  غيره ، مشهودة منه ، لا يفوته من كلياتها ولا من جزئياتها  مثقال ذرة ، ولا مثقال جزيء من الذرة ، ولا جزيء جزيء ، من أدقِّ وأعجب ما خلق وبرأ وصوَّر ، مما دون عرشه وملكوته ، ولا شيء فوق عرشه وفوق ملكه وملكوته إلا هو . وهذا معنى قولنا : الله أكبر ، أي أكبر من الوجود والعوالم والأكوان ، وأكبر مما يصل إليه الظن أو الخيال أو التصور ، ويقف الظن ويقف الخيال ، ويقف التصور، وحيث يقف كل واحد من هذه القوى ، التي هي أسرع من الضوء ، في مرحلته عاجزاً  أو متعباً ، مهما أبعد وتعالى ، يجب أن يقرَّ كما يقرُّ العلم اليوم ، شاعراً بضعفه ، مستصغراً أدواته وتقنياته ، مستقلاً كثرته ، مستهيناً بصلفه وكبره ، مبعثراً أرقامه .. يقول عن وعي  أو عن غير وعي  : الله أكبر ! … وهنا إما أن يستمر في دوخته ، وإما أن يسعد بعقله ،  فيطيل السجود لله تعالى  ، من خشية ٍ ومن رهبة ٍ  ومن حب ، فيكون من المهتدين .

          وأما قوله تعالى : { .. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ .}  عليم بكل شيء ،  كذلك باطن الشيء وظاهره ، مما دقَّ وصغر وتناهى في الصغر ، مما أحاط الإنسان  بوجوده أو لم يحط بوجوده بعد ، وكذلك مما كبر وعظم ، عليم بمبادىء تركيب الأشياء وفاعلياتها وتفاعلها فيما بينها ، بسلبياتها وإيجابياتها ، وتآلفها وتضادها ، بفيزيائها  وكيميائها والكترونياتها ، مما علَّمه للإنسان  عن بعض أسرارها ومما لمَّا يعلمه بعد ، ومما لن يعلِّمه أبداً من مكنون أسراره ، عن أشياء الكون المدرك ، وهو قليل ، والكون غير المدرك بعلوم الإنسان وحواسه وأدواته وهو أعظم . { .. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . } : لنأخذ مثلاً عن بعض وجوه علمه سبحانه : إنسان ما  فيه علة يحاول أن يحصيها ويحاصرها ليعالجها . في علوم  الإنسان المتقدمة ، لا بدَّ له للوصول إلى غايته  من ورشة عمل ؛ مختبر لتحليل دمه وإفرازاته ، أجهزة تصوير ، أشعة على أنواعها ، رنين مغناطيسي … إلى آخر ما توصل إليه ، وسيتوصل إليه ـ ربما العلم . مع ما يرافق ذلك من أخصائيين وأطباء وأنواع اختصاص متعددة ، هذا  ، ما عـدا السهو منهم والخطأ الكثير  ، فضلاً عن مرور الزمن ، وطول المعاناة ، وكثرة التقارير ، والأرقام وأسماء المواد . وهل يكون على صراط الله أثناء ذلك ، العليل ؟ هيهات !‍ … أما الله تعالى  : .. { .. وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . } في هكذا حال ، وفي غيره من الأحوال . وعلمه دفعي ، كاشف لكل ما  يكشفه علم الإنسان وأجهزته ، في أيام وشهور وربما سنين ، وكذلك ما لا يستطيع الإنسان كشفه ‍‍، كل ذلك  هو عند الله في كتاب مبين ، وظُنَّ في الكتاب هذا ما شئت ، من حيث عظمة الإبداع والشمول والإحاطة  بالكليات والجزئيات وتفاعلاتها السابقة والآنية والمستقبلية ، كل ذلك يتم عنده سبحانه في جزيء من اللحظة ، إضافة إلى شفاء عاجل مضمون ، بكلمة كن فيكون . هذا إذا لجأ إليه صاحب العلة ، ولم يلجأ إلى غيره ، لأنه لا يقبل التشريك بينه وبين غيره ، سبحانه وتعالى عما يشركون .