لمن تُعطى المقاليد

بسم الله الرحمن الرحيم

        { فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ . لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة الشورى  ( ١١-١٢) }  .

 

مفتاح المعرفة

          قيل لرسول الله (ص) كيف عرفت الله ، قال : بالله عرفت الله .

          المعرفة في هذا العصر ، قضية خلاف بين السماويين والأرضيين ، وسيستمر حولها الجدل بين الفلاسفة وعامة أهل الفكر ، من حيث تعريفها وتحديد عناصرها ، ومضامينها .

          وكوننا مسلمين ، أهل دين منزل ، بكتاب منزل ، على نبي مرسل ، فنحن أحقُّ الناس بالتعامل مع هذا الموضوع ، موضوع المعرفة ، تعاملاً واعياً لا لبس فيه ولا شك ولا تعقيد .

المعرفة بالمنظور الإسلامي :

==================

          المعرفة هي مجموع الحقائق التي يحتاج الإنسان إلى التألـُّف معها ، ليجد نفسه ، مستقراً  ،  نفسياً  وبدنياً ، وبالتالي حياتياً وأبدياً .

          والحقائق العليا هي المطلب الأعلى .

          وهذه الحقائق العليا يستحيل التوصل إليها دائماً بالتجارب ، سقوطاً وارتفاعاً ووصولاً وفشلاً ، ولو بعد آلاف الأجيال من عمر البشرية . لسبب واحد ، هو أن الكون الذي أمام الإنسان معظمه مغلق ، أو غائب عن حسه وبصره ، وضمناً  عن أدواته وأرقامه واختراعاته . يعلم ذلك الإنسان العادي ، ويؤكده أفذاذ العلماء في مخابرهم ومراصدهم ،  وأجهزتهم  التي  هي  على مستوى الإنسان المحدود ، مذهلة ، ولكنها ليست كذلك بالنسبة لما هو مذهل أكثر منها ، وبلا قياس : الكون المرئي ، والفلك  المرصود ، وسياسة المجرات الهائلة المعقدة على سبيل المثال ، فكيف بالنسبة لما هو غير مرئي .

          أما عن التجربة في مجال الكشف العلمي والبناء العلمي ، فهي من أجمل الضرورات  وأجلِّها وفي الضرورات جمال وجلال .

          وأما عنها في مجال الغيب ، غيب ما فوق السماء الظاهرة ، وحتى غيب ما في النفس البشرية  ، ثم الأهم الأعظم بلا قياس ، غيب علام الغيوب  ، المتقن لهذا الكون المحكم ، شكلاً واتساعاً وجمالاً ، والمحكم  روحاً وأسراراً  وجلالا . فإن التجربة  لا تؤتي علماً ولا فهما . قال تبارك وتعالى :

          { الم . ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةََ ..  . سورة البقرة الآيات (١-٢-٣) } .

          فـ { آلـم } مفتاح من مفاتيح المعرفة ، من مفاتيح الكتاب ، أي القرآن الكريم ، والقرآن الكريم كون يفهم به الكون الخارجي ، والعكس صحيح ، أي كذلك يفهم القرآن الكريم بدراسة الكون الخارجي ، شـكلاً وروحاً ،  فـ { آلـم } كذلك من مفاتيح السماوات والأرض . وهذا أمر يمكن التوصل إليه حتى بالتجربة . وقد سبق أن جرَّب ذلك الدكتور رشاد خليفة المصري ، الذي كتب في ذلك دراسة  حول هذا الموضوع ، يوم كان مبعوثاً في الأمم المتحدة . ولعلها أول دراسة عن القرآن استعمل فيها الكمبيوتر .

وقوله  تعالى  :  { ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }  أي لا شك  فيه منـزلاً يقيناً من لدن رب العالمين وفيه من المعارف عن الحقائق العليا الكثير الوافي والكافي شهد الله بذلك ، وشهد أولوا العلم منذ أربعة عشر قرناً وما زالوا يشهدون وكفى بالله شهيـدا  .  وكذلك  { هُدًى لِّلْمُتَّقِين } وكونـه  { هُدًى }  و{ لِّلْمُتَّقِين }  هذا أمر حاصل بالتجربة . كما إنه بالتجربة حصل اليقين بأنه  { لاَ رَيْبَ فِيهِ } . أما سبب الثناء على هؤلاء المتقين ،  وهو قولـه تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةََ ..}  هو هذا الباب الأعظم من أبواب المعرفة ، أنهم يؤمنون بالغيب ، وبدون هذا الباب  تبقى المعرفة ناقصة ، وقد  يتزايد هذا النقص مع  الغرور العلمي التكنولوجي ، وينعكس سلباً على أصحابه ، قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ . إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ . سورة التين الآيات ٤ و ٥ و ٦ } .

          وفي قوله تعالى : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةََ ..} إعلام يتضمن مدحاً  ، أو مدح يتضمن إعلاماً ، مفاده أن الإيمان بالغيب وإقامـة الصلواة ، هما ركنا الهداية الأساسيان . أما الغيب ، ففي مقدمته غيبه هو سبحانه ، أي احتجابه عن خلقه ، وذلك لأسبـاب أهمهـا أن خلقه لا يتحملون مواجهـة نـوره الذاتـي : { وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ . سورة الأعراف الآية ١٤٣ } .

وأما الصلواة فهي لاستمرار الصلة به سبحانه من قبـل عباده ، وذلك لإدامة تلقيهم الفيض من نوره وعطاءاته ونعمه ، هداية وسداداً ورشاداً ورعاية للأنفس والأبدان ، ولجوءاً إليه  من آفات الدهر وآفات الفقر في الدين والدنيا . وبدون هذه  الصلة  أو الصلواة  يحصل  الإنقطاع  . كمثل انقطاع التيار الكهربائي أو انطفاء السراج : فالله يُعرض بنوره وعزته وجلاله وكبريائه ، والإنسان يقع في الكارثة : في ظلامه وضلاله وضياعه ، بمجرد الإعراض عن ربه  وعن آياته وكتبه . قولـه تبـارك  وتعالـى :

 

{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ـ سورة محمد آية ١١ } . ومعنى  { مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا } أي كافلهم وضامنهم وكافيهم وشافيهم ومشرفهم بإحدى الحسنين النصر أو الشهادة .

 فإذا كنت تسترزق الله وحده ، وتخافه وحده ، وتحبُّه الحب الأعظم وحده ، ولا تظن ألوهة في غيره ، تولاك الله سبحانه ، أي رعاك وحفظك وأجارك ، ورزقك علماً وعملاً ، وكفاك شر ما يرى وما لا يرى ، وكلما زاد ولاؤك لربك ، زادت رعايته سبحانه لك ، حتى ليصبح سمعك الذي تسمع به وبصرك الذي تبصر به وحتى يدك التي تبطـش بها : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . سورة الأنفال آية ١۷ } . 

          أما قوله تعالى : { وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ } أي لا ولاية لهم من قبل الله سبحانه أي لا رعاية ولا حصانة ، ولا حفظ ، يكلهم لأنفسهم ولمن يتولون هم من خلقه ، ومن يتولَّ المخلوقين من دون الله ، يخذله الله ، ولا يبالي به في أي واد ٍ هلك . لذلك نرى الأمراض النفسية والبدنية تستشري على مستوى العالم رغم التقدم المزعوم للطِّبين النفسي والعضوي ، ونجد كثرة من أنواع الشياطين تعبث بأجسام الناس وتحيِّر الطب والدواء والمختبرات ، وهي بين الميكروب والفيروس وأنواع الإيدز والسرطان ، وقائمة المستجدات الفتاكة طويلة ، حتى إنها أخذت تهدِّد الإنسان من داخل غذائه ، ولا سيما من الأبقار البريطانية المجنونة ، وهي تصدر إلى بلاد العالم  بأعداد وفيرة . وقضية التأثر العضوي بما يأكل الإنسان ويشرب ، قضية علمية متفق على صحتها .

 فإذا لم يكن هنـاك  حصانة من الله ، فالكوارث واقعة لا محالة ويكفي استعراض أعداد المرضى في المستشفيات التي أصبحت بهم مزدحمة ، واستعراض أمراضهم ، ثم أعداد الموتى المتزايدة بهذه الأمراض .

          وهل حصانة الله للمؤمن ، تجنبه هذه الكوارث ؟ يقيناً تجنبه ، ويقيناً تحفظه ويقيناً ترفع منزلته عند ربه وعند الناس وفي منجـاة من الشياطين مما دقَّ وصغر أو كبر وعظم . قال تبارك وتعالى :

{  وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الأعراف الآيات ( ۱٧٥ ـ ۱۷٦) } . فهذه الآية الكريمة من المعارف العالية ، عن الحصانة ، وعن ماهية الحصانة ، وكيفيـة الحصانة ، ضد الشياطين ، ما دق من أنواع الميكروب والفيروس وما عظم من أنواع  ما يرى من البشر  وما لا يرى من غير البشر .

          تلزم نفسك بآيات الله ، توقن بها ، تعتمدها عملياً ، فأنت في حصانة ، وكلُّ ذي قوة شريرة في خوف منك أو في شغل عنك . وأنت في رضى  من الله تعالى ، يعني في عافية . لولا بعض العقوبات  أو البلاءات للمؤمنين التي هي دائماً في مصلحتهم ، سواء  كانت عقوبة بعدها الراحة والفرج ، أو كانت امتحاناً بغية النجاح ورفع الدرجة .

          أما إذا انسلخت من الآيات ، يعني صددت عنها وأعرضت ، أو استهزأت بها وكفرت ، وهي تدعوك لرحمة الله ورأفته ورعايته وعنايته وحفظه ، فأنت مكابر ، وأنت مستكبر ، وأنت كما قال الله في الآية العظيمة ، فراجع الآية وتمعَّن بمعانيها ، لعلك ترجع من الآية معافى ، فتعود إنساناً سويا .

          من أراد مفاتيح المعرفة ، فليصْدقنَّ مع الله ، يؤته إياها ، أو يؤته منها : { لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة الشورى آية ١٢ } .

          وفي معنى الآية : له مفاتيح السماوات والأرض ، فمقاليد جمع مقلاد وهو المفتاح والسماوات والأرض مجمل الكون جملة وتفصيلاً . و { يَبْسُطُ .. وَيَقْدِرُ } أي يُكثِر ويُقِل من كل عطاء فيه خير  ومنفعة ومصلحة وحق وجمال ، والمعرفة من جملة الرزق : معرفة الحقائق ، الفصل بين ما هو حق وبين ما هو باطل ، بين ما هو  ضار  وبين ما هو نافع ، بين ما هو محي ٍ وبين ما هو قاتل . وفي خانتي الثواب والعقاب : التعليم من الله عز وجل والتقريب إليه  ، أو الإبعاد عنه  انتقاماً ومقتاً . قال تبارك وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ . سورة غافر آية ١۰ } .

          تقرب إلى الله ، يتقرب إليك ، ادعه تجده قريباً مجيبا ، ادع غيره يعرض  الله عنك ويكلك إليه ، والغير  فقير ضعيف عند الله ولو كان جبريل أو كان رسولاً نبيا ، أو إماماً ولياً . قوله تبارك وتعالى  : { .. ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ . إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ . سورة فاطر الآيات (١٣ ـ ١٤) } .

          أو قوله تبارك وتعالى : { وَأَنَّ الْمَسَـاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا . وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا . قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا . قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا . قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا . سورة الجن الايات ( ١۸ ـ ٢٢) } . 

          والآيات مشرقات المعاني واضحات ، لولا كلمة { قِطْمِيرٍ } ومعناها ذلك العرق الأبيض  الذي في شق النواة ، نواة التمر ، دلالة على أن المخلوقين  لا يملكون حتى أقل وأرخص الموجودات . وكذلك أبسط الإمكانات ، فمن كان  لا يملك القوة  ولا يملك السيطرة  على أنواع الرزق ، فكيف يجيب أو يلبي إذا دعاه أحد مستنجداً أو مستغيثاً أو مسترزقا .

         

          أما مجموعة آيات سورة الجن فيزيد فيها عن المنع  الواضح والحاسم  عن دعاء غير الله. قوله لرسوله محمد (ص) : { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ رَشَدًا } . فبموجب مجموع هذه الآيات ، إن محمداً (ص) لا يملك من قطمير في مجال الرزق  ولا يملك القوة لينفع أو يضر ، فالمالك لكل ذلك هو الله وحده ، وناصية محمد بيده ، وكذلك نواصي جميع خلقه . فمن أين إذن قدرة محمد على التبليغ ، وعلى  الصبر ، وعلى الجهاد الأروع في سبيل مولاه رب العالمين ؟ كل ذلك  من الله تبارك وتعالى . إسمع قوله سبحانه له (ص) :

          { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً . سورة الإسراء آية ٧٤ } .

          وكذلك قوله تعالى له :

          { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ . سورة الزمر آية ٦٥ } .

           وهكذا صنع الله محمداً  (ص) وأعلاه ونصره بعد أن جعله  يقود أعظم ثورة في تاريخ البشرية على الظلم والفساد وألوان الكفر وألوان الشرك في التاريخ العالمي .

          رباه وبناه هذا البناء المحكم الفذ ، وعرَّفه الحقائق الناصعة  في نفسه وفي ربه سبحانه ، وفي الخلق وفي الكون ، ومدحه ، قال سبحانه يثبته :

{ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ . مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ . وَإِنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ . وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ . سورة القلم الآيات ( ١ ـ ٤ ) } .

                   وهل يكون الإنسان على هذا الأساس ، فقط أداةً للتلقي ، لا يملك حتى الاختيار والأهلية لأن يكون شيئاً مهماً أو لا يكون ؟!.

نعمة التخيير من مفاتيح المعرفة :

====================

          لنسمع عن الاستعداد الشخصي ، وعن ضرورة أن يكون الإنسان مختاراً ، وعن مدى ما يترتب على  الاختيار والاعتقاد والبذل من أهمية ، قوله تبـارك وتعالى :

          { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى . وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى . سورة الليل الآيات ٥ ـ ١٠ } .

          فقضية الاختيار الشخصي ، والاعتقاد بعد التفكر والتأمل ، وبلا إكراه  ،  والأهلية الأخلاقية  من حيث البخل والكرم ، والتصديق بالنفس الطيبة ، أو التكذيب ولؤم السجية ، وما يترتب على ذلك من جزاء  هو التيسير  بلوغاً  إلى أعلى درجات الفلاح ، أو التعسير  هبوطاً إلى الدرك الأسفل من النار  نجد كل ذلك في ثنايا كلمات  هذه الآيات .

         ومن وجوه معانيها كمفاتيح للمعرفة :

          { فَأَمَّا مَن أَعْطَى  }  أي من مالـه  وجهده ووقته في سبيل الله ، حباً وتكرماً ،  { وَاتَّقَى } أي على رجاء وتخوُّفٍ من تقبُّله  سبحانه أو إعراضه ، إضافة إلى الحرص على الاستقامة وعدم  التلبس  بمعصية  ،  والمداومة على الذكر ، والتوبة النصوح في حال الذنوب . ثم أضاف إلى هذا ، العلم والفهم  ولا سيما في معرفة الله سبحانه  وذلك هو معنى { وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى } أي بأسماء الله الحسنى وأمثاله العليا وما تتضمن هذه الأسماء  من معانٍ تستقطب الكون ونشاطاته  والإنسان ومعطياته وأسراره التي فيه وفي محيطه ، وفي ماضيه ومستقبله . هذا النموذج ، يجزيه الله سبحانه بمقدار ما نوى وما عمل  أحسن الجزاء ، بدءاً بإصلاح نفسه  ،  مـروراً  بتيسير  أمـوره في الحيـاة الدنيـا ، وصـولاً  إلـى { الْيُسْرَى } النهائية في الآخرة ، بين الزحزحة  عن النار ، وبين عليين  وسدرة المنتهى .

          وأما من بخل بكل مكرمة ، وأعرض عن الله  وعن آياته وكلماته ، واستقل  أو  استغنى عن  الله  تعالى معتمداً على قوته وعلى القوى المزعومة الأخرى ، مكذباً ، جانحاً إلى الغدر والمكر والخديعة ، أو  إلى الكفر والعناد ، فجزاؤه  أن يمهِّد له الله سبحانه الدرب إلى  .. الهاوية  ،  بعد ضلال وضياع في الحياة الدنيا ونكبات .

          ونعمة التخيير ، هي سبب التفاوت في العزم بين المؤمنين ، وبين الأنبياء  وأصحاب الرسالات ، ويكفي  لفهم مدى أثرها وأثر المبادرات الشخصية ، في طاعة الله جل شأنه ، أن نتذكر قول الله تعالى في أبينا آدم عليه السلام :

          { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا .  سورة طه آية ١١٥ } .

أما أعظم مفاتيح المعرفة على الاطلاق فهو الاستشعار الدائم بقوة حضور الله سبحانه . وهذا الأمر يجهله أكثر الناس  ولا سيما  المشتغلين  بالتبليغ  أو أي نوع من أنواع الدعوة  إلى الله تعالى  ، أو الجهاد في سبيله . وللإلمام بشيء من معنى قوة حضوره سبحانه، يجب اللجوء إلى بعض مفاتيح المعرفة التمهيدية لهذا الأمر، ولعل أهمها قوله تبارك وتعالى :

{ هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سـورة الحديد آية ٣} .

          هو أي الله عزت عظمته ، الأول ، لا قبل قبله ، فمن استطاع أن يثبت قبل الله شيئاً أو أحداً  فليقدمه للبشرية . وقد فعل ذلك بعض علماء الفيزياء  في كلام عن المادة ، إلا أن السؤال : ومن خلق المادة ، هوَّن من شأنهم وأثبت عجزهم . أما عن وجود أحد ، فلا بد أن يكون خالق الخلق ولا خالق غير الله ، ومعروفة عند أهل المنطق والفلاسفة قضية الدور والتسلسل وبطلانهما ، ولن ندخل في ذلك لاستغنائنا بالدليل  من كتاب الله المجيد : قوله تعالى:

          { قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لأِنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ . سورة الرعد آية ١٦ } .

ربَّ من يقول هذا استشـهاد بكلام الله ، وفي الناس من لا يؤمن أصلاً بالله ، أو أنه يؤمن بالله ولا يؤمن بكتبه ، أو يؤمن ببعض كتبه ولا يؤمن بهذا القرآن .

          أما القول في من لا يؤمن بالله ، فهو مدان بقول الله عز وجل : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ . سورة الأعراف الآيات ( ١٧٢ ـ ١٧٣) } .

          أما الإيمان بالله وعدم الإيمان بكتبه ، فكذلك هو نوع من الكفر بقدرة الله على  إرسال الرسالات مع رسل من الناس ، ففي نفس الوقت إيمان وكفر هو إيمان أخرق ، والإيمان  بإلـه غير قادر ، هو والكفر الأصلي سواء . وأما الإيمان بالله وكتبه ما عدا القرآن الكريم ،  فهو كامل الشبه بمن يؤمن بالله ولا يؤمن بجميع كتبه ، أي هو كفر بقدرة الله على إنزال كتاب خاتم للكتب مصدق بها مهيمن  عليها ، على رسول ٍ خاتم للنبيين ، خاطبه الله تعالى بقوله :  { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ . سورة المائدة آية ٤٨ } .

          أما من لا يؤمن بالله أصلاً ، فلا يضرُّ أجيال البشرية ولا أعلامها الذين هم ذؤابات التاريخ وحججه من أنبياء وأولياء وعباقرة وعلماء في كل سبيل من سبل السماوات والأرض كما ولا يضر حتى الذين يؤمنون  إيمان العجائز  بفطرتهم السليمة وقلوبهم الذكية الطيبة . أما أولئك الذين لا يؤمنون بالله سبحانه ، فقد قال هو فيهم جلَّ في كبريائه :

          { وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ . سورة الشورى آية  ۱٦ }

          ورجوعـاً إلى آيـة سـورة الحديـد { هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ .. }  ، أما قوله تعالى  { وَالآخِرُ } أي الأبدي السرمدي ،  الذي لا شيء بعده  ولا أحد  إلا هو سبحانه ، مهيمناً على الكون وما فيه جملة وتفصيلا ،  محيطاً بكل شيء جملة وتفصيلا . وأما قوله تبارك وتعالى  : { وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } فهذه هي التي من يفهمها يكون الله قد أفرغ  عليه صاعاً من نوره ، ومن عمل بها يكون قد أفرغ عليه صـاعاً آخر ، ومن لزمها يكون قد استجاب سبحانه دعـاءَه الذي علمنا إيـاه : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ُ. سورة التحريم الآية ۸ } .

          ونحن وباللغة الممكنة سنحاول أن نساهم في استظهارها واستبطانها بقدر ما يؤتينا الله تعالى من نوره : { .. وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ . سورة النور الآية ٤٠ }  عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير .  ولقد تكلمنا وقد نتكلم غالباً  بصيغة الجمع ، فقط لكون الإنسان  له عدة أنفس وليس هو نفساً واحدة ، ولذلك تفصيل من أراده فليطلبه من مظانه .

          وباللغة الممكنة سأعرض موضوعاً أصبح معروفاً ومألوفاً تقريباً عن الذرَّة والتراكيب الذرِّية التي في الكون ، وسأعتبر عرضي لهذا الموضوع مداخلة نسبية تقريبية عن الظاهر والباطن المذكورين في الآية العظيمة الكريمة .

          علمياً أصبح من الثوابت التي لا مجال فيها للشك ، أن جميع ما يقع  تحت الحس أو البصر ، أو أيَّة إمكانية من إمكانيات الرصد العلمي ، حتى الرصد العادي هو ذرِّيٌّ ، أو هو بشكل ٍ أو بآخر تركيب ذري ،  من أدق ما في الكون إلى أعظم ما فيه من أجرام في الأرض أو في السماء .

          ولكي لا نقع في مشكلة وحدة الكون ، إنطلاقاً من الآية ، يجب أن نفصل فصلاً مسبقاً في أذهاننا بين المزج بين الله  وخلقه فيما يسمى وحدة الكون ، وبين وحدانيته واستقلاله عن مخلوقاته استقلالاً  أحَدِياً لا يشاركه فيه شيء ولا يشاركه فيه خلق . فمن يقول بوحدة الكون ، هو جاهل حتى في معاني الظاهر ، كبرياء الله وعزته وعظمته التي  لا تحاول ولا تطاول ،  ناهيك بجهله عن الفارق الذي يستحيل قياسه بين الله الذي لا إلـه إلا هو وبين خلقه.

          فبين الآية الكريمة وبين المفهوم الذرّي علاقة تبدأ من جزيئات الذرَّة في بواطنها ، ما عرف منها وما يمكن أن يعرف بعد ، إلى أعظم الأجرام في الكون بما فيه السماوات والأرض ، سواء بلغها أو لم يبلغها الرصد البشري ، وسواء بلغها  بالقوة أو بالفعل ، فيجب أن نوقن  أنها محكومة بهذه الآية العظيمة :  { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة الحديد الآية ۳ }  وبالآيتين التاليتين حيث تعتبران من روافدها  ،  وهما قوله عز وجل : { ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ . لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ . سورة الأنعام الآيات : ( ۱۰۲ ـ ۱۰۳) } وقوله سبحانه : { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ . سورة فصلت آية ۵٤ } .

          الشاهد في الآية  الأولى قوله تعالى : } .. لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ . }  وهذا يعني استقلاله تعالى في خلق  الأشياء وكذلك استقلاله بكفايتها وتدبيرها . والشاهد في الآية الثانية قوله تعالى : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ . }  والإحاطة ، تعني تفاصيل الباطن والظاهر ، لأن كل جزيء من الشيء هو شيء كذلك ، وهكذا تكون إحاطته بالأشياء إحاطة المراقب الفاعل  في بواطن الأجزاء وظواهرها وفي كلياتها ،  لا يفوته منها من مثقال ذرة  ولا أصغر من ذلك ولا أكبر . قوله تبارك وتعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ . سورة يونس آية ٦١ } .

          ومما يساعد كذلك في تفسير الآية  التي نحن بصددها التي هي : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ .. }  الآية التي بعدها مباشرة ، وفيها قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . سورة الحديد  آية ٤ } .

          هذه المعاني التي واكبناها حول آية سورة الحديد ، تؤكد قوة حضور الله وإحاطته  وإشرافه على الكون والإنسان  والجن والملائكة  وجميع ما خلق سبحانه ، حضوراً وإحاطة وإشرافاً ظاهراً وباطناً يتناسب مع عظمته وجبروته وكبريائه من جهة ، ومن جهة ثانية مع درجات الشرف في أصل خلقته للناس  وبقية الخلق ، ثم كذلك في تحولاتهم .

          ولفهم ذلك بشكل ٍ أوضح  نذكر قوله تعالى : { إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ. سورة التحريم آية ٤ } .

          وهو قول موجه حسب السياق لامرأتين من أزواج النبي (ص) هذا حسب الظاهر والتفسير المتداول ، وهو ممكن وصحيـح ، إلا أنه حسب الباطن والحقيقة فهو موجه للثقلين : الإنس والجن ، ومفتاح التأويل فيه ، قوله تعالى : { قُلُوبُكُمَا }  وهي بصيغة الجمع ، والقلوب تكون لأكثر من اثنين أو اثنتين ،  هذا من جهة ، ومن جهة ثانية ، فإن الخطاب يتناسب أكثر فأكثر مع هذين المجموعين من الخلق ، ربطاً بقدرة الله وهيمنته سبحانه . وهكذا فإن هذا التدريج في قوله تعالى : {هُوََ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَاْلمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ .}  هو حجة على ما قلناه عن التناسب في قوة حضوره سبحانه وإحاطته وإشرافه على خلقه . بسبب جلاله وكبريائه ، ولولا ذلك لكان تولى كذلك هو سبحانه الأمور التي يوليها لجبريل ثم حسب الأهمية لصالح المؤمنين والملائكة على درجاتهم .فإنه على كل شيء قدير ، وهو سبحانه ليس بحاجة لأحد من خلقه ، وفي جميع أصنافهم ومستوياتهم .

       حتى إن هناك أمور وأشياء يربأ بأن يعهد بها حتى لهؤلاء المكرمين من خلقه : جبريل وصالح المؤمنين والملائكة ، فهو يوظِّف لها أصنافاً من الشياطين تحت سلطة القهر والقوانين التي  تمسك بنواصيهم ، وتحت الرقابة الشديدة وجهوزيـة العقوبات لمن يتلكأ منهم أو يزيغ عن أمر الله جلت قدرته . نستفيد هذه المعاني وأكثر منها من قوله تعالى في سياق  عرضه لملك سليمان وما آتاه سبحانه من عجائب التسخير في شتى الميادين :

          { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ . وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ .. سورة الأنبياء الآيات ( ۸۱ ـ ۸۲ ) } .

          فعبارة { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ } فيها إشارة إلى أنه سبحانه يعهد إلى الشياطين قاهراً ، مطاعاً ، حافظاً لهم وحافظاً منهم ، بأمور وأعمال وأشياء  ينزه عنها كرام خلقه .

          أما قول رسول الله (ص) : ” بالله عرفت الله ” .  فهو كذلك أول  وأعظم مفاتيح المعرفة . وإنما للتوصل إليه ، ينبغي في البداية الإذعان مختاراً ، بعد تأمل وتفكر ، هما أبرز شيم الإنسان ، وهما اللتان تميزانه على أنه إنسان عاقل ، وإذا أهمل الإنسان هاتين الشيمتين ، كان إنساناً غير عاقل .

          فالإيمان بالله تعالى ، هو الإذعان لوجوده اعتماداً على آثار عظمته ، وهو إيمان غيبي بالنسبة لقدسية ذاته واحتجابه عن الأبصار ، ثم هو التصديق  بما يصدر عنه سبحانه  من إرسال رسل وإنزال تعاليم . قال تبارك وتعالى :

          { مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة التغابن آية ۱۱ } .

التفكر والتأمل من مفاتيح المعرفة :

=======================

          قال سبحانه عن التفكر والتأمل مشيراً إلى كونهما من المفاتيح الأساسية للإيمان والمعارف ، وكذلك إلى كونهما الميزتين الأصليتين  لأولي الألباب ، أي الناس العقلاء :

          { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ . الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ . رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ . رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ . رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ . سورة آل عمران الآيات ( ۱۹۰ـ ۱۹٤)} .

          في الحقيقة ، إن في هذه الآيات الأربع ، للمتفكر والمتأمل ، ثروة معارف . فأولاً قرر سبحانه أن آثار عظمته وعجائب خلقه التي يسميها آيات ، لا يفهمها إلا العقلاء ، أي أولوا الألباب . وهؤلاء إنما كانوا  عقلاء بذكرهم الله عز وجل  سواء بقلوبهم أو ألسنتهم . وما داموا يذكرون الله ، فإن الله سيذكرهم بأحسن من ذكرهم ، بأن يفتح لهم بالمفاتيح التي يسرها لهم أبواب السماوات  والأرض ، فيرون ببصائرهم من خلال التأمل والتفكر  والاستنتاج ، كما بأم العين : حقائق فيها القيامة  والحساب ، والثواب والعقاب ، والجنة والنار . كما ويسـمعون نداء المنادي من أعماق قلوبهم وكذلك من أعماق الكون : أن آمنوا بربكم ، فيؤمنون ،  ويجأرون إلى الله سبحانه  بالدعاء ، رهبة وخشية من الحقائق التي يدركونها  وأكثرها حقائق غيبية ، وإنما  لها قوة الحضور ، وقوة المعاينة ، وكثيـراً  ما  تكـون  المـعاينـة  بالعقـل  أقـوى  وأثبـت  من  المعاينـة  بالعين (*) ، وهذا أمر  قد ثبت علمياً وبالتجربة  بالنسبة لما يسمى خداع البصر ، أو عمى الألوان ، أو سرعـة  أو  بطء  الحـركـة أمام العين مما يؤثر على نسبية  ضبط  الحقيقة  بالنسبة للمرئيات . أما الحجج والبراهين العقلية التي يتوصل إليها بالتفكر والتأمل ، لا سيما في مواجهة هذا الكون الهائل في اتساعه وعمقه وأبعاده ، وجماله وإتقانه ، ودقة ضبطه ودورانه ، ثم قصور الإنسان . رغم كل تقدمه ، عن إدراك اليسير اليسير  من ظواهره فضلاً عن غيوبه  وبواطنه ، فتكون حاسمة تطمئن إليها النفس أكثر من اطمئنانها للعين المجردة .

أما قوله تبارك وتعالى على لسان العقلاء ، أولي الألباب : { رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ . سورة آل عمران الآية ۱٩۳ } . سمع هذا النداء رسول الله (ص) من جبرائيل قرآناً ، ثم أسمعه للخلق آياتٍ وحججاً هي على الأعناق . فأما أولوا الألباب فيقولون آمنا ، وأما من لم يؤمن فهو قد تخلى عن عقله ، ورهن نفسه بالطواغيت ، حتى لتغدو النفس كذلك طاغوتاً . كلما ابتعدت عن العقل الحقيقي ثم عن الله تبارك وتعالى . وذلك في قوله عز وجل ،  وهو من مفاتيح  المعارف الكبرى :

 

          { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . سورة البقرة ( ۲٥٦ ـ ٢٥٧ ) }.

          لا حجة للإنسان على ربه سبحانه وتعالى ، فقد خلقه مخيَّراً في قبول ربه وحبه  بعد استعراض نعمه ، وبعد أن هداه وناداه بكل صوت ونغم ، من حنجرة الكنار أو البلبل إلى صوت الرعد وأصوات القذائف الصاروخية  ، إلى  أصـوات  عالية  فوق   مستوى سمعه  إذا سمعها تفجَّر دماغه ، مثل صوت  دوران الأرض أو اندفاعها واندفاع أقرانها في الفضاء ، ولكن الإنسان علم هذا الصوت  بما علَّمه الله ،  فكذلك كان عليه حجة مع ما يسمع من الأصوات .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*)  انظر ( الصورة الإبصارية في العقل والدماغ ) مجلة العلوم ـ المجلد ١٠ العدد ٥  مايو / أيار ١٩٩٤م .

 وناداه بكل منطق ، نادى سمعه وكذلك نادى بصره  وجميع أحاسيسه ، وفوق كل ذلك نادى عقله .

 فعلام الصمم وعلام العمى وعلام الموت ، والسمع متاح والبصر متاح والحياة متاحة .

          { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ .. } .

          هذا القرار ” اللاإكراه ” هو على الإنسان حجة بالغة ، فهو في نفس الوقت تكريم له حيث لا يقـاد بالغريـزة قود من دونـه من القردة وأنواع المسوخ وبقية أنواع الحيوان . كرَّمه الله عزَّت عزته ، وسخر له ما في السماوات والأرض جميعاً منه . قوله تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً . سورة الإسراء آية ۷۰ } .

          وقوله عز وجل : { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الجاثية آية ۱۳ } .

          ولنلاحظ قوله تعالى في آخر هذه الآية : { .. إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }  وفي القرآن الكريم تتكرر كلمة { يَتَفَكَّرُونَ } بلفظها أحد عشر مرة سوى مشتقاتها ، ومثلها تقريباً { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أو يَعْقِلُونَ } ومشتقاتها ، وهذا غير العبارات والألفاظ التي تدعو إلى التدبر  والنظر والتأمل ، وهـي جميعاً متقاربة المعاني . وعلى هذا الأساس  نعود لنتدبر قوله عز وجل :

          { اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . سورة البقرة الآية ۲٥٧ } .

          ولفهم هذه الآية كفاية نستأنس بقوله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا . سـورة الشمـس الآيـات ( ۷ ـ ۱۰ ) } فنجد أن النور والظلام أرادهما الله تعالى رمزين للخير والشر  والصلاح والطلاح  والحق والباطل والفجور والتقوى وغير ذلك من الأضداد التي خلق الله عليها هذا العالم ، ذلك كله إضافة  إلى الحقيقة التي تعني عينية النور  وعينية الظلام .  وقد خلق الله مصاديق  لهذين الضدين . سواء على سبيل الأصالة كالليل والنهار أو على سبيل الإمكان والتحول كما هي الحال في الإنسان  .

          وعلى هذا الأساس ، نجد أن هذه المتناقضات جميعها ، تتعاور الإنسان في حياته ، فهو  يتعرض  دائماً  لمواجهات  نورانية  أحياناً  وظلمانية  أحياناً أخرى ، تتراوح بين الرمز والحقيقة . هنا يتضح التركيب الرائع للآية الكريمة : { اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ..} فكلما أخرجهم من ظلام أبدلهم  مكانه نوراً ، يضاف إلى نور متاح ، وهكذا تتناقص مساحات الظلام بالنسبة لتدرج المؤمن في إيمانه ، ثم في تقربه ، ثم في يقينه ، إلى حين وصوله . حتى تنعدم ظلمات النفس  فتصبح النفس نورانية مشرقة ، ويستمر الأمركذلك إلى يـوم القيامة ، حيث يبدو أنه يسود على الناس ظلام دامس ، فمن كان من المؤمنين  لم يستكمل نوره في الدنيـا ، فيدعو كما ذكر الله تعالى : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌُ. سورة التحريم الآية ۸ } . وهنا يشرق أكثر فأكثر معنى الآية  الكريمة قوله جلَّ شأنه : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ . يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ . سورة الحديد الآيات ( ۱۳ ـ ۱٤ ) } .

           كما ويتضح الشطر الآخر من الآية والذي هو قوله تعالى :

          { .. وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . سورة البقرة الآية  ٢٥٧ } .

          فكما أقبل المؤمنون على مساحات النور ، وتلافوا مساحات الظلام  ، فأعانهم الله على ذلك وزادهم نوراً وهدى . كذلك ، ولكن بعكسهم أقبل الطاغوتيون على مساحات الظلام وتنكروا لنورالله ،  لآياته  وطاعته وتعاليمه ، فأصبح  مثلهم  كما  قال سبحانه  فيهم :

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ . أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَـرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَـلِ اللَّهُ لَهُ نُـورًا فَمَا لَهُ مِن نُّـورٍ  .  سـورة النـور الآيـات ( ۳۹ ـ ٤۰ ) } .

          وفي نفس منهجية الأمر بالتفكر ، ينبغي التوقف أمام قوله تعالى : { .. وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ .. }  مقابل قوله تعالى : { اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ ..}. فالله عز وجل  ليس هو الذي يضلُّ ويربك أحداً من خلقه إذا اختار هذا المخلوق ربَّه وهدايته وطاعته ، إن الذي يضيِّع الإنسان وقد يمزقه ويحرقه مؤبداً في الآخرة ، وقد يحصل له ذلك في الدنيا والآخرة ، هو طاغوته ، أو طواغيته ، وقد يكون طاغوته نفسه الأمَّارة ، فضلا عن كثرة الطواغيت في ترادف المجتمعات البشرية ، متمثلة في مراكز القـوى التي غالباً ما يكون بيدها السلطان الدنيوي :

 الحكومات ، الأثرياء ، المتنفذين ، اللصوص القانونيين ، أعني المشرعين لأنفسهم ولأتباعهم قوانين  تبيح لهم سرقة الناس وإفقارهم ومنع حقوقهم والإثراء غيرالمشروع ، وبناء القصور على القبور ، ولا سيما قبور الضعفاء  الذين لا يتقنون فن السقوط مع الساقطين ، من المافيات المحلية أو العالمية .

طلاب  الدنيا هؤلاء يخرجهم طواغيتهم من النور المتاح إلى ظلمات الجهل والكفر والطمع والبهيمية ، ولو كانوا يحملون أعلى الشهادات التي تمنحها  الجامعات الصهيونية أو المبطنة بالصهيونية . وهؤلاء يتخلى عنهم  الله سبحانه ويمقتهم . وبتخليه عنهم ومقته لهم يصبحون بلا هاد ٍ ولا معين ، ولا مرشد ولا نصير .

          ولأنه ممنوع عليهم حتى أن يضلُّوا  بدون إذنه سبحانه ، وممنوع عليهم  أن يتخذوا قراراً قبل قراره ، أو حكما قبل حكمه ، لذلك تسبقهم  مشيئته ، فيضلهم ويتركهم في ظلماتهم يتزاحمـون . ذلك معنـى قولـه تعالـى : { .. وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ .  سـورة الزمر الآيات ( ۳٦ ـ ۳۷ ) } . وهي  معادلة إلـهية  منطقية على الفريقين : طلبة النور  الذين ينصرهم الله ، وطلبة الظلام الذين يخذلهم الله ، سبحانه وتعالى عما يشركون .

  

الصدق والتصديق من مفاتيح المعرفة :

========================

          جاء في لسان العرب  لإبن منظور : صَدَقَ : الصِّدق  نقيض الكذب ، صدق يصدق صَدْقاً وصِدْقاً وتَصْداقاً  : وصَدَّقه : قبل  قوله . وصَدَقهُ الحديث : أنبأه بالصدق . وفي التنزيل : { وَأُمُهُ صِدِّيقةٌ } أي مبالغة في الصدق والتصديق .

          وفي معاني الإيمان  ، أنه التصديق بالله وبكلام الله والصدق في  الإخلاص  له سبحانه ، أي عدم خيانته ، بإهمال قول من أقواله ، أو بالإصرار على ذنب أو على معصية . هذا بشكل عام ، ولكن لاستفادة أهم مفاتيح المعرفة في هذا الباب ، ينبغي التوقف عند الآيـات القرآنية ، التي تستقطب معاني وموضوعات لفظتي الصدق والتصديق .

قال تبارك وتعالى في جملة استعراضه لعناصر الإيمان وشروطه لقبول صلاة المصلين : { وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ . وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ . إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ . وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ . وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ . أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ . سورة المعارج الآيات ( ۲٦ ـ ۳۵ ) } .

والتصديق  بيوم الدين أو يوم الفصل أو يوم القيامة والحساب ، شرط أساسي قرآني  يتوقف عليه تصنيف الناس بين مؤمن وكافر . فمن يشك  في  قيام  الساعة وما يرافقها من حساب ، وثواب وعقاب ، وجنة ونار ، يخرج من التصديق إلى الكذب ، حتى ولو كان  يؤمن بالله تبارك وتعالى ، فشأنه شأن المشركين ، الذين يرفضون أخبار الله  بواسطة كتبه ورسله . وقد ضرب سبحانه مثلاً على هذا الصنف من ( المؤمنين ) في سورة الكهف : رجلاً آتاه الله حرث الدنيا : حدائق ومالاً وأولاداً وجاهاً بين الناس وأنصارا . أفصح عن معتقده ، وهو يحاور صاحباً له ، كما جاء في التنزيل العزيز :

{ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا . وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا . قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاًّ . لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَـدًا . سـورة الكهـف الآيـات ( ۳۵ ـ ۳۸ ) } .  

          فالرجل في حالة شك وتردد ، فيما يتعلق بعقيدته ، غير مستقر في طاعته لربه ولا مصدق ٍ بكلام الله عن قيام الساعة ، وفناء الأرض  ومن عليها ، وهو أعلن بصريح العبارة  عن شكه بالقيامة بقوله : {  وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً ..}  علماً أن الإجماع على القيامة في الكتب المنزلة أمر شائع  ومعروف عند جميع الناس ، وهو في القرآن الكريم  يتكرر ذكره عشرات المرات . وهذا سياق من السياقات التي يذكر فيها دمار الأرض  ثم مصير الإنسان بعدها إما إلى عذاب محتوم أو إلى نعيم محتوم ، قوله تعالى في آخر سورة الفجر :

{ كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا . وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا . وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى .  يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي   .  فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ  .  وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ  .  يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ  .  ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً  .  فَادْخُلِي فِي عِبَادِي  .  وَادْخُلِي جَنَّتِي  .  سـورة الفجـر الآيات ( ۲۱ ـ ۳۰ ) } .

          والرجل الذي شكك بقيام الساعة ، خسر بتكذيبه الآيات ، وتكذيبه منطق التأمل  في النفس والفطرة والكون ، ومنطق التأمل في أقوال الله ، ومن أصدق من الله قيلا وأصدق حديثا ، كفر  وطمع فوق ضلالته ، بمزيد من العطاء والإنعام ، إذا قامت الساعة وردَّ إلى ربه الذي يؤمن به على مزاجه وبحسب هواه ، قائلاً :  { .. وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا } .

هذا إنسان حَكَمَ الله عليه بالكفر وكذلك بالشرك على لسان صاحبه الذي رضي الله حكمه ، قال :  { أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ  ...  لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَـدًا }  اما الكفر ، فهو  بردِّ قول الله عز وجل أو بتجاهله أو بعدم تصديقه . وواحد من هذه الأمور الثلاثة يكفي لهدم إيمان المرء وتخليده  في العذاب ، وأما الشرك الذي يوصل إلى نفس النتيجة ، فهو إقحام رأيه الشخصي في الحكم على الأمور ، وكذلك الاستجابة لهوى نفسه . أما الخلاصة القرآنية الرائعة لهذه الواقعة ـ المثل ، فهي أن الرجل فوجىء يوماً بانهيار دنياه وآماله وأحلامه دفعة واحدة ، وذلك بخسران مواسمه وخسران ماله ، مع إشارات إلى أن هذه النكبة التي عوقب بها تستقطب دنياه وآخرته . ويعقب سبحانه على نكبة الرجل ، بهذه الكلمات التي هي خلاصة الخلاصة ، وعاقبة التجبر والوثوق بغير الله من مراكز القوى الدنيوية ، قوله تبارك وتعالى :

{ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا . هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا . سورة الكهف الآيات ( ٤٣ ـ ٤٤ ) } .

          وصحيح أن التصديق باليوم الآخر ، أو قيام الساعة ، هو شرط أساسي  لقبول الإيمان عند الله سبحانه . إلا أن هناك مقدمات واجبة من أنواع الصدق والتصديق ، تستقطب حياة الإنسان وعواطفه وأفكاره وأعماله ، فضلاً عن اعتقاده  ومنهجيته المترتبة على هذا الاعتقاد .

من ذلك ، التصديق بأسماء الله الحسنى ، وبفاعلياتها ، لا سيما ما ذكر منها في القرآن الكريم تصريحا ، أو ما خبِّىء في بعض  آياته وفي أحرفه النورانية ، لغة عالم الملكوت . على أن الله سبحانه يكشف الغطاء عن العبارة وعن الإشارة ، ويبدي ما يشاء من الحقائق ، لمن يشاء ويختار من عباده الأكثر صدقاً وتصديقا . لكل ٍ بنسبة صفائه وإخلاصه ، وجهاده،والله أكرم ، والله أعلم  وأحكم ، وهو أرحم الراحمين . قال تبارك وتعالى :

{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . سورة الليل  الآيات ( ٥ ـ ٦ ) } .

       نذكِّر بهذه الآية كمثال ٍعلى الواجب الإلزامي بمقدمات الصدق والتصديق ، بعد أن تعرضنا لها كفاية بفضل من الله آنفاً .

          ولمدى أهمية الصدق في المواقف ، وفي المقدمات والحيثيات  والنتائج فإن الله عز وجل ، تعليماً لرسوله (ص) ولكل مؤمن ومؤمنة ، ورحمة منه سبحانه ، قد أنزل إلينا في جملة روائع ما أنزل . هذا الدعاء : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا سورة الاسراء آية ٨٠ }  في ظل إخطاره للجميع : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا . سورة الفرقان آية ٧٧ } . وهذا من مفاتيح المعرفة .

       ومن مفاتيحها أيضاً في مجالات العرفـان عامة وضمنها الصدق والتصديق ، وبصيغة الدعاء الذي جعله كذلك أسلوباً من أروع أساليب التعليم والتذكير ،  قوله عز شأنه ، حديثاً عما دعا به عبده ورسوله إبراهيم (ع) :

{ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ . وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ . وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ . وَاغْفِرْ لأَِبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ . وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ . يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ . إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ . سورة الشعراء الآيات ( ٨۳ ـ ۸۹ )  } .

          فمن وفقه الله سبحانه لمثل هذه المفاتيح من مفاتيح السماوات والأرض ، فيكون فضل الله عليه عظيما . أولاً لأنها لغة القرآن ، يعني كـلام الله بعزته وعظمته ، ومعلوم أن الفارق بين كلام الله جل شأنه وبين كلام  المخلوقين ، هو كالفارق بينه سبحانه وبين المخلوقين ، أي فارق عظيم بغير قياس . وثانياً ، ولأن الكلام كلام الله فهو يختزن إضافة إلى المعاني الغزيرة المباركة ، أسراراً من الطاقات الفاعلة المحركة في ذات الداعي وفيما حوله ، نفعاً ودفعاً ، وشفاء ، وغير ذلك من المصالح التي هي نعم الله تعالى ، التي لا تعد ولا تحصى  { .. وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا .. سورة إبراهيم الآية ۳٤} .

            وصفات هذا الكلام القرآني يستحيل أن تتوفر في كلام أي مخلوق ، مهما كانت درجة هذا المخلوق في نفسه وعند ربه . ذلك لأن المخلوق ، مهما عظم ومهما علم ، فإنه يبقى فقيراً إلى رحمة ربِّه ، محدوداً في ذاته ، محدوداً في صفاته وطاقاته .

          فقوله { وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ . سورة الشعراء الآية ۸٤ }  أي في الناس  وفي الجن والملائكة ، ابتداء من تفضلك عليَّ بالإيجاد أو بالإيجاب وإلى قيام الساعة وبعد قيام الساعة في الخالدين .

          وقد ذكر سبحانه في كتابه المجيد ، أمثالاً من تفضله على  أهل  طاعتـه ، واستجابته لهم  .  فقد عقـب بعد توصيـف المخلصين من أوليائـه بقوله عزَّ من قائل : { وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا . سورة مريم الآية ۵۰ } . وقوله تبارك وتعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ . سورة يونس الآية ۲ } .  وقوله عز شأنه : { .. أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ . سورة البقرة آية ۱۷۷ } .

          فقوله تعالى : { .. أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ ..} وقوله : { أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ..} يؤديان إلى نفس المعنى والنتيجة ، فقد ورد كذلك { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ . سورة القمر الآية ۵۵ }  وكل ذلك كناية عن قيمة الصدق في المواقف والإخلاص في الولاء والحب له سبحانه ، والثبات على الجهادين الأكبر والأصغر : مجاهدة النفس ومجاهدة أعداء الله . وبما أنه سبحانه له الأسماء الحسنى وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ، فجزاؤه يتناسب مع كرمه ، وقدرته ورحمته ، لذلك هو يثبتهم ويزيدهم تثبيتاً ونصراً في الدنيا والآخرة . أما في الدنيا فبسبوغ النعم وإحدى الحسنيين : النصر أو الشهادة ، وأما في الأخرة فالمستفاد من قوله عز وجل :{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .  سورة السجدة آية ۱۷ } .

          فإذا كانت مفاتيح العرفان أو المعرفة ، تؤدي إلى مضامين هذه الآية الكريمة { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ .. }  فكم هو جدير بالإنسان أن يحكِّم عقله ويفكر ويتأمل ليجد نفسه وبالضرورة ، أحرص ما يكون على أن يكون من أهل العرفان ، أي  من أولياء الله الموحدين ، الناجين من كلا الشِرْكَيْن : الظاهر والخفي ، المتمسكين بكتاب الله وحبله المتين ، العاملين بآياته ، الواعظين أنفسهم وهم يشهدون هيجان طوفان الحضارة ، والأمواج المتلاطمة بالصراع على المكاسب والأموال والعقارات ، والتزاحم  والتحاسد والتنابز حتى بين أدعياء الدين فضلاً عن الغافلين والمستذئبين .. وكتاب الله ينذرهم :

 

{ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ . وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ .  سورة الذاريات الآيات ( ۵۰ ـ ۵۱ ) }  أما وعده سبحانه الذي اتخذه أهل العرفان نهجاً وديدناً فهو قوله : { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ . سورة القصص آية ۸۳ } .

          إلا أنه دون الوصـول إلى رضى الله ورضوانه ، وقبوله وحبه ، مخاطر ومحاذير ، وهو سبحانه قد نوَّه بهذا في سورة يدل اسمها على خطورة مضامينها ، وعلى الشباك والفخاخ التي تنصبها للإنسان نفسه قبل  كل شيء ، ثم شياطين الجن ثم شياطين الإنس  ، والنفس هي الأدهى  في الثلاثة ، وليس شياطين الإنس ، فهم غالباً تحت السمع  والبصر وعامة الأحاسيس . وليس  شياطين الجن ، ولو كان خفاؤهم يصعِّب الصراع معهم  كما يخيَّل لغير القرآنيين ، ولكن من يعلم ولوالقليل عن قوة حضور الله عز وجل  مع الإنسان وقوة حضور ملائكته بإذنه ، ومدى رعب الشياطين  من مجرد ذكر الله أو ذكر أي اسم من اسمائه الحسنى ، أو مجرد قراءة شيء من القرآن ، يطمئن بالاً على نفسه ومتعلقاته ، يدرك الحقيقة التي أثبتها لنا الله سبحانه ، وهي قوله  تعالى : { .. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا . سورة النساء آية ۷٦ } .

 وقد تكلمنا في فصل سابق عن الحصانة التي يحصِّن الله بها عبده ووليَّه ما دام ذاكراً شاكراً لربه متمسكاً بكتابه متدبراً آياته ، مقلعاً عن الذنوب والمعاصي ، تائباً منيباً والله يحب التوابين .

 أما إذا كان من مصاديق الآيتين  المخيفتين ، قوله عزَّ شأنه : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الأعراف الآيات ( ۱۷۵ ـ ۱۷٦ ) } . فلا تنفعه  شفاعة ولا فدية ، وكفى بالآيتين المخيفتين به تعريفا .

           أما السورة التي ذكرنا أنها تتضمن خطراً على المسافر إلى الله ومحاذير ، إذا هو سقط أو رسب في الامتحانات الدنيوية ، فتلك هي سورة العنكبوت .

          وقبل أن أتناول الآية أو الآيات ذات الصلة بالموضوع ، أريد بإذنه تعالى ، من جهة أن أجلوَ اعتقاداً عند العامة ، عن فوائد العنكبوت واستلطافهم لها . وهو بخلاف حقيقتها ، إذ أن حقيقتها تستدعي الذم ومن أصدق من الله قيلا ومن أصدق من الله حديثا ، حيث ذمَّها ممثلاً بها أهل الشرك ، أسوأ الشرك ، الذين هم في لعنة الله وسخط الله  وعاقبتهم عذاب الجحيم مخلدين فيه ، وذلك قوله جلت قدرته : { مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . سورة العنكبوت آية ٤۱ } ولو كانوا يعلمون أبسط العلم عن العنكبوت وهو أنها تصطاد في شباكها  في جملة ما تصطاد زوجها وأولادها ، وأكثر ضحاياها من الحشرات المفيدة والجميلة مثل النحل وأنواع الفراش . ومن جهة ثانية أن أردَّ سبب اعتقادهم البريء بلطفها وربما بقدسيتها ، وهو أنها ـ كما ثبت في الأخبار ـ  نسجت على باب الغار الذي اختبأ فيه رسول الله  وصاحبه أبو بكر الصديق ، نسيجاً سريعاً جعل المطاردين لرسول الله (ص)  يحسمون أمرهم أنه لو كان دخل الغار أحد لكان هتك هذا النسيج العنكبوتي  فرجعوا خائبين . وأنجى الله رسوله وصاحبه .

          والمفارقة هنا ، هي أنهم جعلوا الفضل للعنكبوت ، أو أنهم جعلوا لها من الفضل شيئاً ، والحق أنه ليس لها من الفضل شيء ، إلا إذا كان للشياطين الذين سخرهم الله لسليمان  يصنعون له ويبنون ويغوصون ويعملون عملاً دون ذلك ، مقهورين لا يملكون خياراً ، ويقول فيهم : { وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ . سورة  سبأ آية ۱۲ } .

          أما ما له صلة بالمخاطر والمحاذير التي تعترض المسافرين من أهل العرفان عبر الدرجات والمعارج ، إلى ربهم العظيم الحليم الكريم ، فهو مطلـع السورة ، قوله تعالى : { الم . أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . سورة العنكبوت الآيات ( ۱ ـ ۳ ) } .

          قبـل أن أتنـاول بدايـة الآيـات ، أُلفـت الانتبـاه إلى أن في قوله تعالى :         { فَلَيَعْلَمَنَّ } ثلاث قراءات : الأولى هي القراءة المتداولة ، أي لكي يعلم الله أي يحصل عنده العلم وسواء كان لها تخريج معنوي أو لا ، من حيث أنه سبحانه يعلم ما بين أيديهم ، وما خلفهم ، وما قبلهم وما بعدهم وما بين ذلك كله ، فإن القراءة الثانية والثالثة أولى من الأولى ، وهما :  فلَيُعَلِّمنَّ الله  ، بوجهيها : تعليمهم العلم  ووضع علامات عليهم تعرفهم بها ملائكة الله سبحانه .  والثالثة وليُعْلِمنَّ  كذلك بوجهيها : الإعلام أي إعطاء العلم والإعلام  أي جعل المرء مُعْلَماً أي ذا علامة أو سمة . وهكذا  عظمة القرآن  وعمقه وغناه .

          أما قوله تعالى : { وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }  ففيها  قراءة  واحـدة إضافة إلى القراءة المتداولة هي : فلَيُعْلِمنَّ : من وضع العلامة أو السمة ، وهذه تكون لتمييز الأشقياء والمجرمين بأنواعهم وأصنافهم من حيث الكفر أو الشرك أو النفاق أو الكذب . قال تعالى:  { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ . سورة الرحمـن آية ٤۱ } .

          وقوله تعالى يفتنون ، هنا معناها يمتحنون بأنواع الامتحانات فيكون معنى الآية الكريمة ، أحسب الناس ، أي أظنَّ الناس أن يتركوا على دعواهم في الإيمان ، أو على ادعائهم الإيمان ، دون أن نجري لهم امتحاناً بعد امتحان ، ويفتنون هنا من فتن الدرهم ، أي فركه بيده أو فتن الشيء في النار ليعلم معدنه . وهي من ألطف الكلام تعبيراً عن أنواع  البلاءات التي يعرِّض الله لها المؤمنين في تدرجهم إلى حبه ورضوانه . والحقيقة أن الصدق والتصديق في المسار ، هما  المعيار الأساسي  لإمكان الاستمرار بدون هفوات وسقطات كبيرة ، من  قبل المؤمن  المبتلى . على أن الله  تعالى يعين على الصبر بلطفه وبتسديده ، ولا  يترك عبده فريسة للظن أو الشك أو الارتباك ، إذا كان حزم أمره  وعزم على الهجرة إلى ربه الكريم  من بيت نفسه المظلم ، إلى  عالم آخر  سرعان  ما يتبين له اختلافه الشديد عن العالم الذي كان فيه  .

 على أن  العالمين  هذين لا يختلفان مكاناً ولا تركيباً من حيث ناسهم والأرض والبيوت والشوارع ، وإنما تختلف الرؤية والاحساس  والمشاعر .  ففي العالم  العادي السابق  على عزيمة السفر ،  ظلمة في النفس وضيق ، وشعور  بتفاهة كل ما يحيط  بالإنسان  من عاديات الناس ، ومجالسهم  وطموحاتهم ، وطرق تفكيرهم .. إلى العالم الآخر يسافر أو يهاجر ، فيختلف كل شيء ، حتى الصحبة ونوعية الصحبة ، ييسر الله لمحبه وقاصده ، صِحاباً آخرين ، خلَّصاً ، يذكرون الله ، أصفياء أنقياء ، حتى ليعجب  من وجودهم في المجتمع ، بعد إذ كان يظن الفساد والسطحية والعمى في جميع من يعاشر من الناس ،  ولا سيما  الطبقة التي تسمى مثقفة  ، وهذه  من المفارقات ، التي  إنشاء الله ، نحاول أن  نعقد لها فصلاً خاصاً بها تحت عنوان  : لماذا الخلل في الطبقة المثقفة . طبعاً حسب العرف العادي والأكاديمي للمعرفة .

          وينبغي أن نوضح أن ما نعنيه من كلمة السفر أو الهجرة ليس المقصود بهما الإنتقال من مكان إلى مكان ، فقد يسافر  الإنسان إلى ربه أو يهاجر قاصداً إياه سبحانه ، من متر ٍ مربَّع ٍ  هو واقف فيه ، فيهاجر  أو يسافر  ويبقى في نفس المتر المربع الذي هو فيه.  فالمعوَّل في هذا  السفر أو الهجرة  ، على المعاني والتوجه النفسي والفكري ، والانخلاع  تدريجياً أو دفعياً ، من دوائر الجذب والمسطحات الحضارية بمفهومها  العرفي  المبني على فقاعات الاعتقاد ، وعلى برامج هجينة في مجالات التعليم الأكاديمي ، ما زالت تمضي نزولاً إلى حضيض  الكفر  ونسيان مجد الله وعزة الله وحاكمية الله  ، وهو سبحانه لها بالمرصاد ، فتكاً بالأمراض والحروب ورعونة الاستعمار  المادي والفكري ، وابتذال التبعية للقوى الغاشمة في جميع أو في معظم أنحاء العالم ، إلا من رحم ربك .

 وكل هذا يندرج  على صعيد  المجاميع الإنسانية والأفراد ، تحت رصد آيات سورة العنكبوت قوله تعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }. وهنا ، وعلىهذا الأساس ، وعملاً بالغنى القرآني ، يفهم معنى يفتنون أنه الابتلاء بالفتن ، مثل الحروب والويلات الاقتصادية والغلاء وأنواع الظلم والقهر من قبل طغاة العالم .

          وعوداً إلى معنى السفر أو الهجرة ، أو حتى الرجوع إلى الله تبارك وتعالى ، نذكر بأن الله عز وجل لا يحدُّه مكان ولا زمان ، ولنتأمل بهذا الصـدد  في  قوله عزت عظمته : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ . سورة الزخرف آية ۸٤ } وقوله سبحانه : { .. وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . سورة الحديد آية ٤ }  وقوله عز شأنه : { .. مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ .. سورة المجادلة آية ۷ }  ولنأخذ  آية النفس المطمئنة نحاول بها أن نلقي الضوء على مفهوم السفر إلى الله أو الهجرة أو الرجوع إليه سبحانه . قوله تعالى : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَـادِي  .  وَادْخُلِـي جَنَّتِـي . سـورة الفجـر  الآيـات ( ۲٧ ـ ۳۰ ) } .

          هذه الآية الكريمة  لها مفهومان  تستفاد منهما قضية المسافرين  إلى الله : المفهوم الأول  ، وعلى أساس أن تكون النفس مطمئنة أي صِدِّيقة  يعني صادقة ومصدِّقة ، صادقة اليقين ،  ثابتة على عهود الله ومواثيقه ومصدقة بأنبياء الله ورسله  وملائكته وكتبه ووعده ووعيده ، كمثل قوله تبارك وتعالى : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لآقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ . سورة القصص آية ٦۱ } ثم كانت مطمئنة إلى عملها وصلاحها وإخلاصها لله عز وجل ولدينه ، تائبة منيبة ، مشتاقة إلى ربها والحياة الآخرة . صابرة بالله ، واثقة به ، متوكلة عليه … هذه النفس وبالمفهوم الأول للآية : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ… } تدعى من قبل الله وهي في الحياة الدنيا تمارس نشاطها  ولو في زهرة العمر وقمة الصبا والشباب ، تدعى إلى ربها : { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . } فهو معك قريب رقيب وحافظ ومجيب ورحمان وراحم ، ودافع عنك ومدافع ، إرجعي إليه لا تنسي ذكره وشكره والثقة به ، حاولي أن لا تنسيه ما دمت يقظة ، وإياك  أن  ترجعي  إليه  أو  تلجئي إليه وأنـت مضطربة ، إعتمدي عليه واهدئي ، وهدِّئي من انفعالك وتأزمك وغضباتك لغير الله ، هو الله سبحانه أقرب إليك من حبل الوريد ، هو معكم أينما كنتم ، وعلى هذا الأساس ارجعي إليه راضية بحكمه وحكمه العدل ، وحكمه الرحمة للمسترحمين  ، وحكمه الكرم لسائليه ، وحكمه  أن يمتحنك حتى بشتى البلاءات لتنجحي وتفوزي بالدرجات العلى ، في الدنيا ، وفي ما ينتظرك في الآخرة ، ولو  وجدت في ذلك صعوبات ، فكوني  بها راضية ، ولو عانيت من أوجاع ٍ عارضة ، فكوني بها راضية ، ولو عانيت من بعض الحاجة  ، إذا قدر  عليك الرزق فكوني راضية ، لأنه هو سبحانه  معك وهو حسبك ، وأيُّ غنىً أعظم من هذا الغنى الحاضر الناظر  الجاهز للعون والغوث والإعزاز ، بوجود الله وحضور عزته ، اعتقدي بذلك ولن تشعري بجوع مع عدم الطعام ، ولن تحتاجي لمتاع أو أي ضرورة مع قلة المال ،{ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ..  . سورة الزمر آية ۳٦ } وعلى هذه الأسس كذلك إرجعي إليه وتوجهي إلى وجهه الكريم القريـب الحبيب { مَّرْضِيَّةً } منه ، راضياً هو عنك ، استغفريه واسأليه العفو والعافية ، تجديه راضياً عنك فعودي إليه سبحانه ، إرجعي إليه ، وادخلي في عباده  في الحياة الدنيا ، عباده الصالحين ، وعباده المخلصين ، ونعم الصحاب ، إذا كانوا ممن تصاحبين وأكثري من قولك ، ومن القلب : الحمد لله رب العالمين .

          أما  المفهوم الثاني للآية الكريمة ، فهو المفهوم المتداول عرفاً وليس عرفاناً . وهو أن مفعول هذه الآية ومضامينها ، وخطابها ، إنما يكون بعد الموت . وهذا صحيح ، إلا أن اعتماده فقط يشكل بتراً للحقيقة ، التي فرضت في الآية ، أن تكون مستقطبة للحياتين : الدنيا والآخرة ، بفضل ٍ ورحمة ٍ وكرم ٍ  من ربنا الله رب العالمين .

           وهكذا ينبغي أن نفهم أن مواكبته  سبحانه للأنفس ، كذلك كما هي في الآخرة ، هي في الحياة الدنيا ، وهي ما بينهما ، وإنما على مستويات عزته وكبريائه ورحمته . ولكل مقام مقال . فهو في المفهوم الثاني ، وبقية المفاهيم  وبدون حصر : { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاَقِ . يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ .  سورة  غافر الآيات ( ۱۵ ـ ۱٦) } .

          هكذا ، وبدون نفس مطمئنة ، لا يُنال رضى النفس  ولا ينال رضى الله ، بل النقيضان  اللذان  يشكلان خسارة الأبد وندامة الأبد وعذاب الأبد ، وهما نزاع النفس بدون موت ، حالة من الإختناق المستمر أو الإحتراق المستمر ـ نعوذ بالله وبه نستجير ـ ، وغضب الله أو سخطه ، وذلك يعني الجحيم . { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . سورة الأحقاف آية ۱۹}  وبدون صدق وتصديق ، صدق مع الله سبحـانه وتصديق لمضامين قرآنه المجيد ، فلا نفس مطمئنة .. ولا راضية ولا مرضية . 

          أما الصدق مع الله ، فهو  في قلب لا يزاحم عزة الله فيه مخلوق ، ولا يكون فيه لغير الله حب ، حب الآخرين ، يكون بما يفيض على جوانب القلب من حب الله . وأما التصديق بمضامين كتابه ، فيكون بتدبر آياته كما أمر وبفهمها وليس ببغاوية تلاوتها وتجويدها .

 التجويد ، هذا المرض المستشري ، الذي أخذ يحتل مكانة العقل والفهم والتأمل والتدبر ، وهو اختراع ما أنزل الله به من سلطان . بلى للخشوع في التلاوة  ، وبلى للترتيل ، وأما تعليم التشدق والتقعُّر بالآيات والكلمات والحروف بدون فهم  ولا توقف ولو يسير أمام  المعاني فهـو ديدن قوم قصَّرت علومهم وهممهم عن تدبر القرآن  كما أمر الله سبحانه ، فراحوا يتنافسون بفتح مدارس لتقديم هذا البديل الضحل الذي اسمه التجويد أو التغني بألسن ببغاوات .

                   { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا . سورة محمد آية ۲٤ } .

          وصفة الصدق التي يريدها الله تعالى في عباده ، ليست من الصفات العادية عند المؤمنين ، وإنما  هي من صفات أهل اليقين . فقد لا يصْدُق المؤمن في عهد من عهوده مع ربه فيغدو من الفاسقين . قال تبارك وتعالى : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِسورة الأحزاب آية ۲۳ } ولم يقل سبحانه :  المؤمنون صدقوا ما عاهدوا الله ، . والحقيقة أن جميع الناس  ذووا عهود مع الله  ، ولا سيما  منهم المؤمنون .

 أما الناس ففي عهدهم مع الله يوم الإشهاد : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا سورة الأعراف  آية ۱۷۲ } . أما المؤمنون  فجملة عهود الله عز وجل ومواثيقه معهم ، وهي جملة الدين بما فيه الأوامر والنواهي ووجوب الطاعات  منها  مثلاً قوله عز وجل : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لاَ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ . وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ . سورة  يس الآيات ( ٦۰ ـ ٦۱ )  } وعبادة الشيطان طاعته . وقوله تعالى  حاكماً بالفسوق على من لا يصدق ما عاهد الله عليه ويقطع ما أمر الله به أن يوصل : { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ . سورة البقرة آية ۲۷ } .

          والله سبحانه إذ يعدد أركان الإيمان عند أهل طاعته المرضيين المقربين ، يقول : { وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ . سورة الأحزاب آية ٣۵ } .

          وعن تصديق البعث والنشور والتصديق بالجنة والنار ، يقص واقعة من وقائع الآخرة ، تأخذ بأنفاس قارىء القرآن ومشاعره ، فيزداد يقيناً وتصديقاً ، وصدقاً مع ربه الكريم ، وصدقاً مع الناس في دعوتهم إلى الله واليوم  الآخر وفي كل تعامل معهم ، إذ أن نقيض الصدق ، الكذب  والكفر والفسوق . يقول تبارك وتعالى في آيات جميلات الوقع في النفوس  الصافية ،  محدثاً عن صِحاب ٍ في مجلس ٍ من مجالسهم  في جنة الخلد يتذاكرون فيه أخبار الدنيا ، ونحن  نختصر بدءاً بكلام أحدهم :

 { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ . يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ . أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ . قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ . فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ . قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ . وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ . سورة الصافات الآيات ( ۵۱ ـ ۵٧ ) }

          ومطلبنا في هذه الآيات ، هو محور الواقعة ، التي تربط أحداثها بين الدنيا والآخرة وهو قول الكافر لصاحبه المؤمن : { أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ } . إذ على التصديق أو عدمه يكون المصير إما إلى جنة إما  إلى نار .

          أما عن نتائج الصدق ، وما يترتب عليه من عطاءات وتوفيق وكشف وتجليات وكرامات وخوارق ، فالحديث طويل ، ومنه ما يقال ، ومنه ما لا يقال . أما ما يجب قوله أو يجوز ، فهو ما كان بإذن من الله  تعالى للعارفين ، ذلك بعد أن تستقر نفوسهم عبر الرحلة الصعبة الميمونة ، فيحدثون أو يكتبون ما فيه نفع وسداد ورشاد للمؤمنين خاصة وللناس عامة . وأما ما يمنع قوله ، فهو ما كان في منـزلة الأسـرار بين الله وبين أصفيائه  ، وهي أسـرار لسببين : سبب اختصـاص  تحت عنوان الآية الكريمة قوله تعالى :

{ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ . سورة القصص آية ٦۸ }  والسبب الآخر هو عدم قدرة الناس الذين لم يرتاضوا رياضة الصدق والتصديق تقرباً وتعبداً لله جل  ثناؤه ، على استيعاب أو حتى على قبول الكلام عن بعض الكشوف أو التجليات أو الكرامات التي يتفضل بها الله من واسع علمه وعظيم قدرته وجليل ألطافه ، ومن بروق جماله ، ورحابة ملكه وروعة مخبآته … على عبد من فقراء عباده المطيعين  والمغمورين  في أكثر حالاتهم أو حتى في أسمائهم وكناهم ، إلا من أراد الله سبحانه إظهاره  في جانب من جوانب تميزه ، أو سبيل أو أكثر من سبل الدعوة إلى ربه ذي الجلال والإكرام .

          وقد يكـون المتحاملون على أخبار العرفانيين ، من أكثر الناس إيماناً وعلماً ظاهرياً ، وصلاحاً وتقوى ، وإخلاصاً لله وجهاداً في سبيله ، وقد تكون منزلتهم عند الله في الدرجات العلى ، وقد يكونون حتى من الأنبياء والمرسلين . وأفضل مثال على عدم قدرتهم  على تحمل سلوك العارفين قصة موسى (ع) وعدم تحمله عرفان صاحبه العالم ، ثم قصة مريم (ع)  ملفتين إلى أن الله سبحانه رغم كل الكرامات التي ذكرها عنها أبقى أسرارً في مثل قوله تعالى : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا . سورة آل عمران آية ٣٧ }  يأتيها هذا الأمر ـ كما هو فهمه الظاهري ـ فور ولادتها وهي نفساء ، أضعف ما تكون المرأة في هذه الحال . في وقت كان يأتيها طعامها جاهزاً وبدون أي علاج له أوعناء في تدبيره وإعداده : { .. كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ . سورة مريم آية ٣۷ } يأتيها طعامها هكذا من عند الله الرؤوف الرحيم بها وهي بعد ، في كامل قواها ونشاطها ولم يكلفها من العناء شيئاً . فكيف يكلفها سبحانه مشقة هزِّ نخلة بغية  إسقاط بعض رطبها ، وذلك يلحق العياء  حتى بالرجل القويّ . ومن أجل إبداء  بعض كراماتها اتخذها بعض الأقوام إلـهة هي وابنها عليهما السلام ، ولذلك قال  سبحانه فيهما وإنما مركزاً على أهمية الصدق والتصديق في السيدة الكريمة العذراء { مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . سورة المائدة  آية ٧٥ } .

          وفي جملة العبر التي من أجلها سقنا هذا المثل ، نذكر أن بعض العرفانيين يدَّعون فهم قوله تعالى : { وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} استبطاناً للآية ومفرداتها ، مع الحفاظ على حجية الظاهر . وذلك تفضل من الله عليهم وتخصيص لا يحط من شأن العلماء ولا حتى الأنبياء الذين لم يؤتهم الله سر ذلك . كما سنرى في قصة موسى وصاحبه عليهما السلام . ولكن يجدر بنا أن لا ننسى أن الله سبحانه آتى محمداً (ص) فوق نبوَّته وتكليفه بالرسالة  الميمونة الخاتمة ، أسراراً ، لم يبدها إلا لقلة قليلة جداً من أصحابه ، وفي مقدمتهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه الذي قال فيه : ( أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها ) لذلك يعتبر هذا الإمام الذي شغل الأولين والآخرين ، بصفاته الفذَّة ومناقبه الفريدة ، وعلمه وفقهه وقضائه وفروسيته وأسراره وزهده ، يعتبر  بحق إمام العارفين وإمام الصوفيين وإمام العابدين ، وقائد الغر الميامين .

          وقد عهد الإمام علي كرم الله وجهه بهذه الأسرار إلى ولديه الحسن والحسين عليهما السلام وإلى جملة أهل  بيته الميامين الأطهار  الذين قال فيهم الله عز وجل من فوق سابع سماء : { .. إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا . سورة الأحزاب آية ٣٣ }  وقد ذكرنا ذلك وغيـره مفصـلاً في كتابنـا  ” الحكمة الإسلامية  ـ بحوث من مقتضيات العصر . ” . إلا أنه لا بأس  بالتذكير هنا  ، بأبيات  لحفيد أمير المؤمنين (ع) ، هو الملقب بالإمام زين العابدين وهو علي بن الحسين  بن علي بن أبي  طالب عليهم جميعاً أزكى الصلاة والسلام : حيث أن هذه الأبيات تلقي الضوء ، على ما يجب أن يحفظه أهل العرفان من أسرار ، سواء  كانوا بمستوى الأنبياء أو الرسل أو الأئمة أو أولياء الله الصالحين . وأن لا يبوحوا بذلك إلا لأهل الخاصة الذين هم أهل لحمل مثل هذه الأمانات وأهل لتصديقها  وعدم الإفتتان  بها .  يقول  الإمام زين العابدين عليه السلام :

إني لأكتم من علمي جواهـره      كي لا يـرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حســن      إلىالحسين ووصَّى  قبله  الحسنـا

يا رب جوهر علم لو أبوح بـه      لقيل لي أنت ممن يعبد  الوثنــا

ولاستحلَّ رجال مسلمون دمـي      يرون  أقبـح  ما  يأتونه  حسنـا

          وهذه الأبيات  من أغنى الكلام الإنساني بالرموز والإشارات إلى لباب الحقائق العرفانية ، ولا سيما البيت الأخير  الذي يعرِّض بأدعياء الإسلام وأدعياء الإيمان الذين يرزحون  تحت أثقال البدع مكبلين بشباك  الضلالات  التي أبرزها الشرك الظاهر  والشرك الخفي . والشـرك  الخفيُّ فتح الله على  وليِّه أمير المؤمنين علي (ع)  بمقلاد من مقاليد مدينة العلم  ليقول فيه : ” الشرك الخفيُّ أخفى من دبيب النمل في الليلة الظلماء  على الصخرة الصماء .” والله عزَّت  عظمته يقول  : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ .. سورة النساء  آية ٤۸ وآية ۱۱٦ } .  وكفى بالله شهيدا .

          أما قصة موسى (ع)  مع صاحبه الرجل العارف الصالح ، فهي قصة غنية بالدروس  والعبر ، ونحن نعوِّل على عظيم أهميتها والحقائق التي فيها لأنها قرآنية ، ونوجب التقيد بمضامين الآيات تفسيراً وتأويلاً ، ولا نسمي الرجل صاحب موسى الذي أمر الله موسى أن يتعلم منه ، لأن القرآن لم يصرِّح باسمه .

 ونحن الآن نذكر مقدمة الآيات ذات العلاقة ، متأملين  بمضامينها ، متعجبين من غرابة الحوار ، بين رجل اكتسحت شهرته الآفاق نبياً ورسولاً من لدن الله عز  وجل ، أرسله إلى فرعون مصر  وطواغيته ، يتحداهم ، ويذهلهم بخوارق المعجزات التي أجراها الله على يديه  ويقهر  بقدرة ربه العظيم غلوَّهم وكفرهم وسحرهم ، ويكلمه الله سبحانه  فيتلقى منه الألواح التي عرفت باسم التوراة . هذا الرجل ،  موسى (ع) كليم الله يبعثه الله إلى رجل مغمور لا يعرفه أحد ولا يشعر به أحد وكان مع موسى فتاه الذي لم يسمه كذلك القرآن الكريم  ، يسأله موسى (ع) هل أتبعك على أن تعلمني مما علِّمت رشدا ، فيقـول له :  إنك  لن تستطيع  معي  صبرا . الحق ، إن  ذلك من العجب العجاب . ولكنَّ مشيئة الله وحكمته وموازينه هي الأعجب وهي الأحكم  وهي الأرحم بغير قياس . وهذه هي مقدمة الآيات . قال تبارك وتعالى :

          { فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا . قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا . قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا . وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا . قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا . قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا . سورة الكهف الآيات ( ٦٥ ـ ۷۰ ) } .

          هذه الآيات لا تحتاج إلى كبير  عناء لفهمها ، فوضوحها شاف ٍ كاف ٍ  ، ونحن نكتفي بهذا المقدار منها وقد حصلنا على المطلب ، وهو عدم تحمُّل موسى عليه السلام عرفان صاحبه ، وهو من هو عند ربه وبين أقرانه من الأنبياء والرسل . أما من يتشوق إلى بقية تفاصيل القصة ، فليرجع إلى سورة الكهف في القرآن الكريم ، وهنيئاً له تعلمه واعتباره .

          وأقصوصة ثالثة موجزة من سورة النمل نختم بها  بإذن الله فصلنا هذا  ، عن سليمان وعرش ملكة سبأ فقد جاء في التنزيل العزيز :

          { قَالَ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ . قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ . سورة النمل الآيات ( ٣۸ ـ ٤۰ ) } .

          المجلس مجلس سليمان  (ع) وفيه ما فيه من الجن والإنس وقاداتهم وعلمائهم وجبابرتهم ، وسأل سليمان من منهم يأتيه بعرش  ملكة سبأ ،  من اليمن إلى بيت المقدس . وهنا تقع المبارزة  بين القـوة التي تكاد تكون خارقة والتي وهبها الله سبحانه لعفاريت الجن ،  والعفريت هو المارد القوي الداهية ، وبين العلم الذي  به أو ببعضه فعل صاحب موسى ما فعل  وبه قد تفتح أبواب السماوات لمن يريد الله  أن يصعده فيها في إسراء أو في معراج ، وهو وإن لم يكن بمستوى معراج محمد (ص)  ولا بغنى معراج  محمد (ص)  بالآيات الكبرى ، وإنما  يكون صورة من صوره ، ومنازل من منازله ، وبهذا العلم أو ببعضه أمكن لمن  يعلمه الله إياه أن يحبس مردة الجن في قماقم  وبهذا نفهم  قول الرجل العالم  الذي كان في مجلس سليمان  والذي جعله الله من أهل العرفان : { .. أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ .. }  ونفَّذَ  قولـه  علـى الفـور ، { .. فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي .. } . ذلك ما لم يقدر عليه سليمان (ع) وهو من هو  في عجيب ملكه الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، والذي وهبه الله  إياه  بسبب تخلِّيه عن أجمل ماله وأغلاه ـ الصافنات الجياد ـ خشية من الله وتكفيراً عن تأخير فريضة صلاة عن ميقاتها . وذلك ما لم يقدر عليه المردة من أقوياء الجن ودهاتهم .

          ويبقى السؤال الذي لا بدَّ منه وهو : هل كل عارف أو عرفاني يستطيع أو يعلم علم صاحب موسى ، أو صاحب سليمان .  طبعاً لا ، فالعرفان ، عقلاً ، درجات هي رهن بقابليات  أصحابها ونسب صدقهم وتجردهم لطاعات الله سبحانه وتخليهم  عن الدنيا  وحفرياتها  ، وفخاخها وشباكها ، وحتى عن التطلع إلى نعيم  الآخرة ، حيث  يجدون في الله وحده حبهم ودنياهم  وآخرتهم ونعيمهم وجنتهم ، ومن الطبيعي أن يوجد بينهم فوارق من حيث مقادير  فهمهم لحقيقة التوحيد والألوهة ، من جهة ، ومن جهات أخرى  لتطبعهم على ما يحب الله ويرضى ، ويرضى ويحب من سلامة قلوبهم من الشرك ولله في خلقه شؤون وهو أسرع الحاسبين .

          أما نقطة الإنطلاق ، في الطريق الشائك ،  الذي ينتهي إلى الورديّ فاللاّزورديّ فالنوراني ، فنور على نور ، فهي الصدق والتصديق ، يعني أن يكون عبد الله من الصدِّيقين : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ .. سورة الحديد آية ۱۹ } . والحمد لله رب العالمين  أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً كما حمد نفسه وكما شكر نفسه وكما ينبغي لكرم وجهه .

 من مفاتيح المعرفة  الإيمان بما نُزِّل على محمد (ص)

          أصل الإيمان هو الإيمان بالله ، أي التصديق به والصدق بتوليه .  والإيمان بالله والصدق معه  يقتضي التسليم بشروطه ، ومن شروطه كمفاتيح لمعرفة دينه ، الإيمان بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب المكي القرشي  نبياً ورسولاً من لدنه تبارك  وتعالى وإلى  الناس كافة . والإيمان بالله وبرسوله محمد (ص) يقتضي بالاصالة شرط الإيمان  بما نزل الله سبحانه على رسوله محمد (ص)  من كتـاب ومن آيات بينات . هذا الإيمان إذا تكامل يكون مفتاح الدخول إلى معرفة محمد (ص) والكتاب الذي أنزل على محمد (ص)  والدين الذي أرسل به محمد (ص) . أما معرفة  الله ، فبالله عرفنا ونعرف الله ويُعرف الله استقراءً واستنتاجاً ، وتبصراً وتذكراً وإشهاداً .

          وإصلاح النفوس واجب إلزامي : قال تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا . سورة الشمس الآيات الآيات  ( ۷ – ۱۰) } .

          والنفس إذا صلحت ، خلص الإنسان من العنت ومن القلق ومن الأرق  ومن المنغِّصات على أشكالها . وخلص من الوقوع في حبائل النفس  الأمارة وحبائل ما يرى من شرار الخلق وما لا يرى  .

          والنفس إذا آمنت بالله وبرسوله وبما نزل الله على رسوله دخلت في العرفان من باب إلى باب ..  فصلحت وسعدت ، ونستفيد هذه المعاني بشكل حاسم  ، إذا تأملنا بقول الله عز وجل  في هذا الباب من العرفان ، متيحاً لعباده مقلاداً  من مقاليد الدخول  إلى الإيمان الحق والدين الحق والتوحيد الحق ، يعني  إلى رحمته ورضاه ورضوانه ، قوله تبارك وتعالى :

          { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ . سورة  محمد الآية ۲ } .

          ولقد نجا قوم محمد (ص) وتسنَّموا قمم البطولة  والفتح والتاريخ ، بعدما استجابوا لأمر الله ونهيه ، وتشريعه وتعليمه ، وتوحيده ونفي الشركاء المزعومين عنه ، سبحانه  وتعالى عما يشركون ، نجوا وهم مهدَّدون كانوا بالإبادة والإستئصال  إذا لم يستجيبوا لله ولرسوله  ، ونكبات الأمم  والأقوام غيرهم  ماثلة أمامهم ، ولعلَّ أبرزها كان الطوفان حيث لم يستجب الناس لرسـول الله إليهم  ، نوح عليه السلام ، وعنَّتوه  وآذوه وكذبوه ، وأقفلوا دونه آذانهـم وقلوبهـم … { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ . فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ . وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ . وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ . تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ . وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ . فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ . سورة القمر  الآيات ( ۱۰ – ۱۷) } .

          نجا قوم  محمد (ص) ربما لأن أكثرهم آمن ، إذ لو أن أكثرهم بقي على كفره ، لكان  الإجتثاث ، ولذلك نقرأ في القرآن الكريم ، أن الله عز وجل كلما أنزل العذاب بأمة من الأمم  يقول : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ . سورة الشعـراء الآيات  ( ۸ و ٦٧ و ١٠٣ و١٢١ و ١٣٩ و ۱۵۸ و ۱۷٤ و ۱۹۰) } .

          ولو أن جميع قوم محمد (ص) آمنوا وصدقوا الله ورسوله ، لكان خير الإسلام عمَّ الدنيا بأسرها . ولكنَّ قوماً من فراعين العرب أظهروا إيماناً واستبطنوا كفرا ، وقد عرَّض ببعضهم الله عزَّ شأنه . وأسرَّ ببعضهم الآخر إلى رسوله النبي الأمين (ص) وذكر أوصافهم  بشكل عام تحت عنوان : المنافقين . وهؤلاء  وأبناؤهم وأحفادهم وأمثالهم فيما بعد انقضُّوا على الدنيا وسلطانها ، فأخذ الفريق الآخر ، فريق المؤمنين الأبرار ، والأئمة الأطهار ، وأولياء الله الصالحين ، الخط الآخر ، خط المعارضة ، هذه التي كانت تحتدم أحياناً غيظاً وغضباً لله ، فتتفجر سخيَّة بالدماء الغالية الزكية عند الله ، فتزلزل الأرض وتخضب بالحمرة  الآفاق  وتهدم العروش على رؤوس أصحابها ، وتمضي على درب الشهادة لله وفي سبيل الله  كما حصل في كربلاء . أو أنها تحكم بعد بذل ودماء ٍ غزيرة  ومواجهات عنيفة مع جيوش ودول . كما حصل في الثورة الإسلامية  المظفرة في إيران . وهكذا ظل الخطان خط الكفر من جهة وخط الإيمان من جهة عبر التاريخ العام ، والتاريخ الإسلامي الخاص  ، في مواجهة . وكأنما ذلك كان وما زال وسيبقى إلى قيام الساعة مصداقاً لقول الله عز وجل ، ينطبق على الأفراد  والشعوب :

{ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى . قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا . قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى . سورة طه الآيات ( ۱۲۳ – ۱۲٦) } .

          ثم يفصِّل عن أهل الضلالة في مثل قوله عز وجل : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ . سورة الأنعام آية ٤ }  أو قوله سبحـانه  { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ .سورة الأنعام  آية ۷ } .

          وفي أهل الإيمان مثلاً من أقواله تعالى في أوصافهم : { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاَ . سورة الأحزاب آيــة ۲۳ } أو في توجيهه لعامة المؤمنين  وتعليمه لهم وعنايته بهم  ، وسخيِّ  تعويضه عليهم وما يخبِّىء لهم من العطاءات  والنصر في الدنيا والآخرة ، قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ . تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ . وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ . سورة الصف الآيات ( ۱۰ – ۱٤) } .

          هذه المفاتيح من المعرفة التي ييسر الله منها لمن يؤمن به ربَّاً وبمحمد ٍ (ص) رسولاً نبيا وبالقرآن كتاباً منزلاً ، حسب درجات الإيمان ونسب الصدق ومقادير  الأعمال الصالحة . هذه المفاتيح أو المقاليد ، يفتقدها من يكفر أو يشك أو يتردد ، فيغدو مقفلاً مغلقاً دون الحق والمعرفة الحقة ، مهما تثقف وقرأ وكتب وتفنن . وأمثال هؤلاء الذين ينكرون أو يشكون بالله جلت عظمته أو بإرساله محمداً (ص)  أو بتنزيله عليه القرآن كتاباً ، تجدهم لو كشفوا عن حقائقهم ،  كثرةً في المجتمعات الراهنة ، بعد هجمات الإلحاد المعاصرة ، بين الفلسفات  المادية  وانفلات حضارة الغرب عامة بفواحشها ،  ومخالفاتها للأخلاق والقيم الدينية .

          هؤلاء يغلب عليهم القلق ، والتأزم النفسي والعصبي ، والضياع ، والخوف مما يخبئه المستقبل ، والخيبة ، والشعور الدائم عند كل واحد منهم بأنه لم يحقق وجوده ، ولا آماله وأحلامه ، فهو مهزوم في داخله ، ناقم إذا كان مقدوراً عليه رزقه ، ظالم إذا كان ميسور الحال . تجد كل هذه النماذج  أينما ذهبت وحيثما  احتككت بعامة الناس أو بخاصتهم ، وتجد اعظم محور من محاور اهتماماتهم : الاقتصاد . فهم يعتبرونه في الحقيقة رباً ورسولاً وكتاباً مقدساً .

          وهؤلاء أبرز ميزاتهم أنهم يجهلون كونهم مقفلين دون الحقيقة ومغلقين .  وإذا جادلوا فبالباطل ، وتراهم اكثر الناس غروراً بما يظنون أنه ثقافة وأنه تقدم ، وأنه سلوك العقلاء . قال فيهم تعالى :

{ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ . سورة فاطر آية ۸ }  وقال عز وجل مظهراً حقائقهم الباطنة ومصائرهم المرتقبة :

         

          { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ . سورة المجادلة آية ۵ } .

          ومعنى يحادون يخالفون ، فالمحادة الخلاف والعداوة ، وتجاوز الحدود  التي أقرها الله لعباده . وكبتوا ، الكبت في الأصل صرع الشيء لوجهه ،  ومعناه كمدوا وغيظوا وخذلوا ، من الكمد وهو الحزن الذي يثقل على الدماغ والقلب والغيظ والخذلان معروفان .

فيكون معنى الآية الكريمة أن الذين يخالفون الله ورسوله  وطبعاً يخالفون  ما أنزل سبحانه على رسوله ، أي القرآن الكريم ، ويتنكرون لكل ذلك أو يشككون بشيء من ذلك ، هؤلاء يحرمهم سبحانه من مفاتيح المعرفة  أو العرفان ، وفي العرفان فرج ومخرج من الضيق ومن كل مشكلة .  أو أن الله سبحانه يمضي حرمانهم  بعد أن حرموا هم أنفسهم منها ، ومعاذ الله أن يظلم سبحانه أو أن يعتدي ،  وهو لا يحب المعتدين  ، وهو الأرحم وهو الأكرم ، وهو يسَّر السبل للهداية  والخلاص بما وهب من العقل والسمع والبصر والفؤاد ، وهو سبحانه { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . سورة الزخرف آية ۱۰ } وأوضح السبل وأهمها وأكرمها أنبياؤه ورسله ، وكتبه المنزلة ، وقد ختم  النبيين بخاتم رسوله محمد الأمين (ص)  وختم كتبه  ورسالاته بالقرآن المجيد مصدقاً لما بين يديه  من الكتب المنزلة ومهيمناً عليها كما جاء في التنزيل  العزيز .

          من هنا يتبين إلى أية مدينة عظيمة من العرفان يؤدي هذا الباب الذي يفتح بمحمد (ص) رسول الله ، وبالكتاب الذي أنزل على محمد  صلى الله عليه وعلى آله  وصحبه الأطهار الميامين .

          ووظيفة محمد (ص) ودينه وديدنه ، وليله ونهاره ، وأنفاسه وجهاده ، وكيانه كله عاملاً  ناشطاً ، كان هو الدعوة إلى الله ، تلك إرادة الله ، ورسالة الله إلى البشر مع محمد رسول الله ، { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ . سورة الحج آية ٦۲ } .

روح القرآن : الدعوة إلى الله  .. في بيوتٍ أذن الله أن ترفع

           على محمَّد (ص )أنزل القرآن العظيم ، هذا الكتاب الذي ملأ الدنيا دويّاً ، وملأها بركات وملأها علماً ومناهج سلامة واستقامة ، ونُظماً سديدة ، ومجتمعات رشيدة ما دام الناس ، يعملون ويسترشدون  بكتاب الله العظيم ، القرآن الكريم  .

          والقرآن الكريم  لباب ما يتوخاه الناس من حصاد المعاني ، في رحلة  اللغات والأفكار ، والأخلاق والنظم ، في تاريخ البشرية ، وتتويجاً لتاريخ البشرية ، وذلك جدُّ بديهي ، وجدُّ طبيعي  لأنه كلام الله جل جلاله .

          فأي عالم من المعارف ، وأي كون هو هذا القرآن الكريم الذي وصفه الله تعالى  بقوله : { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ . فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ . سورة البروج  آية ( ۲۱ –۲۲) } وقوله عز شأنه : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ . لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ . تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ . سورة الواقعة الآيات ( ۷۷ –۸۰ )  } . وإشارة إلى عظمة القرآن ، وعظيم ما فيه ، وسموِّ ما فيه ، وعميق معانيه ، وبليغ مراميه ، يقول سبحانه : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ويكررها لجلاء جواهر الحكمة فيها ، عدة مرات في سورة القمر .

          أما ما هي روح القرآن ، وهدف توجهاته وتوجيهاته ، وهدفه الذي يختصر كلام أهل السماوات والأرض ، وتطلعات أهل السماوات والأرض ، وشرف أهل السماوات والأرض ، فهو بين الدفتين ، وبكل وضوح : الدعوة إلى الله ، إلى كلمة { لا إله إلا الله } إقراراً بنعمته وإخلاصاً لوحدانيته ، والتقرب إلى كرم وجهه ، والتشرف  بمعرفته ، كل ذلك بالطاعة والعبادة والحب ، والجهادين الأكبر والأصغر . بهمة مستفادة  من فضله سبحانه ، ومن قرآنه هذا العظيم وهذا الكريم ، يخلع معها العارف ثياب الدنيا ثوباً  ثوباً ، ليجد نفسه متوجهاً إلى ربه العظيم بثوب نوراني لا أثر فيه لألوان الثياب وجفاف الثياب ، وما تكشف الثياب من سوءات ، هو {.. نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأََمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. سورة النور آية ۳۵ } .

إذن تكامل الإستنارة بنور الله ، يؤدي إلى السعادة المطلقة في الله ، تلك هي روح القرآن .

          وإذا أردنا أن نتوسع أكثر عن نورانية أهل اليقين ، من الذين يرزقهم الله  من العرفان درجات ، نذكر الآية التي بعد هذه {.. نُّورٌ عَلَى نُورٍ .. }  مباشرة ، وهي قوله تعالى :

          { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ . رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُـونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ . لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَـنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ .  سورة النور آية ( ۳٦ –  ۳۸ ) }  فقوله تعالـى : { فِي بُيُوتٍ } إلى قوله : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } هو إعراباً خبر بعد خبر ، بعد قوله عز وجل : { نُّورٌ عَلَى نُورٍ } ، وقوله : { يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } وكأن القارىء  الواعي لا بد أن يسأل : { نُّورٌ عَلَى نُورٍ ؟ } كيف ؟ و{ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } من هم الذين يشاء أن يهديهم الله لنوره  ؟ من هم ؟ وأين هم ، وكيف ، ومتى … ؟  فيأتي الجواب الشافي  :

          { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} .

          فإن قيل هي المساجد ، كان صحيحاً ، وإن قيل هي كذلك بيوت عادية من حجر في أهل حضر ، أو شعر في أهل وبر .. كان ذلك صحيحاً . وإن قيل هي أبدان العابدين التي هي بيوت نفوسهم ، كان ذلك صحيحاً . إنما هذه البيوت لا يرفع شأنها إلا بإذن الله ، ولا يذكر فيها اسمه سبحانه إلا إذا أذن هو تبـارك وتعالى بذلك . وقوله عزت عظمته : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ .} أي حالها كذلك ، أي ، لكي يأذن لها أن ترفع ، ينبغي أن يكون من صفاتهم ومن نهجهم ، أن يذكروا اسم الله بالغدوِّ والآصال  أي في أوقات تكاد تكون موصولة بذكره وبالتسبيح بحمده ، لا تقطعها تجارة  بمقايضات وصفقات وأنواع تثمير ، لتجميع المال والإنشغال بتجميعه ، زيادة عن حاجة الأسرة في مسكنها ومآكلها ومشاربها .

          أما إذا قيل : واضح تفسير قوله تعالى : { رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ .. } ولكن ما المقصود بقوله تعالى : { .. وَإِيتَاء الزَّكَواةِ ..  ؟ } وهم ، أي هؤلاء  المستنيرون بنور الله ، بعد أن تفرغوا  للجهاد بأنواعه وللعبادة آناء الليل والنهار ، فمن أين لهم المال لكي يؤتوا الزكواة ؟  الإجابة ذات وجهين ، قد يتفقان وقد يفترقان . ويفهم ذلك إذا عرفنا أن الزكواة لا تكون فقط بأداء المال ، وإنما قد تكون زكاة علم وزكاة أبدان جهاداً في سبيل الله ، فإذا فتح الله على عبده باب علم وباب مال ، فلا كلام في أن العبد الصالح يؤتي  الزكواة من هذين الرزقين ، وإلا فمن العلم والجهادين الأكبر والأصغر . وقد جمع الله كل ذلك بقوله عز وجل في آخر هذه الآيات ، حيث قال: { لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ }  وذلك بعد ذكر صفة مهمة من صفاتهم ، هي كونهم { يَخَافُـونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ } .

          لا تستغرب ! …

          فبين يديك مصاديق كثيرة لهذه الآيات ، ولما ذكرناه في تفسيرها ، وهذا غير محصور  كما قد تظن بالأنبياء والأئمة المعصومين ، وإنما هو مشاع للصالحين  من عباد الله في كل زمان ومكان . ولو أنك تفحصت  تاريخ أولياء الله وحيواتهم وما قد يصلك عن سلوكهم في الماضي والحاضر والمستقبل ، لبدلت استغرابك  بالإعجاب بمدى لطف الله وكرمه وحبه لأوليائه .

          ولا تنس روح هذه المطالب ، وأساسها الذي هو في قوله : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وتوقف طويلاً عند { .. اسْمُهُ ..} فقط وتأمل ، وسافر إذا شئت ـ مقبولاً إن شاء الله ـ  في فكر التوحيد والحب ، فإن أخلصت القلـب لله ، وتخلصت من خفايا الشرك وتأليه المخلوقين ، فأنت بإذنه تعالى من الواصلين ، ترفل بقلب من نور وعقل من نور وثياب من نور .

          ولا تستعجل !…

          واسأله تعالى وحده ، اسأله لنفسك السكينة ، لنتفاهم بروية ، فإنا قد ذكرنا لك عن هذا العلم  ، أنه لشرفه ، ليس كثيراً أن تخاض إليه  اللجج ، وتسفك دونه المهج ، كما قال الإمام السجاد عليه السلام .

          ولسنا نكتب لك لتترك دنياك ، هكذا بجرة قلم تقفل بها باب ماضيك وحاضرك  وتفتح بها باباً لمستقبلك . فإني وإن كنت أحبك في الإنسانية وأحب لك الهداية فإني لن أقدرعلى هدايتك ما لم يأذن الله ، فإن الشفاعة لله جميعا ، أولا تذكر قوله تبارك وتعالى  :

          { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء ..} .

          هذا القول قاله الله تعالى لمحمد (ص) عبده ورسوله ، وفحواه أن محمداً لا يستطيع أن يهدي من يحب ، لأن الله هو وحـده الذي يهدي من يشاء ، فإن اهتدى بمحمد ٍ ( ص) أحد ، فلا يكون ذلك إلا بإذن الله ومشيئة الله وشفاعـة الله . فلا تسألنَّ إلا من الله الهداية وكلَّ خير . لأن  بيده الخير ، كل خير ، وهو على كل شيء قدير .

          ولا  تخش  من هذه الكتابة وهذا التفسير على الناس ، أن يتركوا قصورهم ويتخلَّوا  عن تجاراتهم واختراعاتهم  وغزوهم الأسواق .. والأفلاك  ، أو حتى  عن مقعد في مقهى أو تخصص في جامعة  أو بناء ناطحة سحاب .

          وإياك والقعود عن الجهاد أو الدعوة إلى الجهاد ، جهاد الفرد وجهـاد الأمة ، فإن ههنا دليل الجهادين ، وبغير هذا الدليل  وأمثاله ،  يبقى الجهاد كما هو مطروح في الساحات ، محلياً وعالمياً ، جهاداً تعبدياً للتراب والصخر ، والأرض والعزة  والكرامة ، والوطن والإقتصاد … إلى آخر حلقة من حلقات الحياة الدنيا . وصحيح  أن كل هذا مطلوب الحفاظ عليه  ، إنما ـ إن لم تكن من المتبحِّرين  ـ ستصدمك الحقيقة  التي نسوقها إليك ، وهي أن كل ذلك الذي ذكرناه ، إذا لم يكن مقروناً بالإيمان بالله ،  سيكون عملاً حابطاً ، أي مردوداً على أصحابه ، وسيحاسبون عليه حساباً عسيرا . فأين هم من الله ، من ملك الله وحكم الله وقيومية الله وحق الله ؟ جلَّ وعلا تعالى عما يشركون .

          لن يتأثر بهذه الكتابة ، ولن ينتفع بها ، إلا من أراد الله هدايته ونقله من درجات الإيمان إلى درجات اليقين ، ومن أدنى درجات الجنان إلى عليين . فإن هذه الكتابة فقط لأهل الإيمان ، وتحت عنوان قوله تبارك  وتعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ . سورة الذاريات آية ۵۵ } .

          أما كيف يصبح ما في رأسك نورانياً ، وقلبك نورانياً ، ودمك نورانياً ،  فمعاً فيما وفقنا الله تعالى إلى تأويله في بعض  وجوه آيات النور ، التي ذكرنا  بعض انعكاساتها ، والآن نعود إلى أصلها ، وهو قوله تبارك وتعالى : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة النور آية ۳۵ } .

          لن أتكلم عن أنوار الله تعالى ، التي بها  نرى حمرة الوردة ، وبياض الياسمين  وغير ذلك من الألوان  والأشكال ، في الأرض وفي السماء وما بين الأرض والسماء ، حيث أنه ثبت علمياً  كما أنه ثابت بالنظر  العقلي والنظر الظاهري ، أنه لولا أنوار الله التي  بها نرى ، وعلى أساسها نحيا ونتحرك ويعمر هذا الوجود ، لكان الناس  عمياناً والكون ظلام دامس . إنما سأتكلم عن نور هو أعجب مما نرى  وندرك في ظواهر الأشياء ،  هو  نور  الإنسان الذي يجتبيه الله أو يصطفيه  نبياً أو ولياً ، أو صالحاً في الصالحين ، في كل زمان وإلى يـوم الدين ، وهذا النور هو في قوله جلَّ  شأنه:  { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} .

          قوله تعالى : الله نور السماوات والأرض ، واضح المعنى ، فلا نور في السماوات والأرض إلا نوره ، وهو إما مادي وإما معنوي ، فأما المادي  فكنور الشمس ونور الفجر وأنوار النجوم والأقمار ثم أنواع النور التي علم الإنسان استنباطها من الزيت إلى الطاقات النووية ، وأما المعنوي فدينه سبحانه ، ودينه الإسلام ، أرسل به الأنبياء تترى ، منذ آدم عليه السلام إلى نوح إلى إبراهيم  إلى موسى إلى عيسى إلى محمد صلوات الله عليه وعليهم ، وغيرهم من الأنبياء كثير ، ودليلنا التمهيدي على أن المراد  بـ { مَثَلُ نُورِهِ } : الاسلام  دينه الحنيف ، قوله عزت عظمته :

          { أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ . سورة الزمر  آية ۲۲ } .

          ويعني أن من لم يشرح الله صدره للإسلام ، فليس على نور من  ربه ، يعني هو  في ظلام ، ومعلوم أنه كذلك يكنَّى بالظلام عن الضلالة  والجهالة والعماية ،  والتلبس بالباطل والبعد عن الحق …

          وديـن الله تعاليمـه .  يقـول رسـول الله  محمد (ص) في بعض الدعاء  :      ” وبنور وجهك الذي صلح عليه أمر الدنيا والآخرة ” . فتعاليمه سبحانه لأهل السماوات  وأهل الأرض نور من نوره .

          وقبل أن نستبطن بعض رموز آية النور التي نحن بصددها ، من البديهي أن نشرح ظاهر الألفـاظ  :  مشكاة ومصباح ، زجاجة ، كوكب دري  ، شجـرة ، زيتونـة ، أمثال …  فالمشكاة هي الطاق أو المجسم  المتعدد الأشكال الذي يوضع فيه المصباح ، والمصباح كل ما يستنار  به في الظلام ، قلَّ ضوؤه كمصابيح الزيت أو الغاز ، أو كثر كمصابيح الكهرباء . والزجاجة ، ما شفَّ  وصَفَا من القوارير ، وهي لحماية  قبس النور من الريح والمطر وهي كذلك لحصر الضوء  ونشره في كل الاتجاهات . والكوكب واحد الكواكب التي في السماء ، ودريٌّ لعله يفهم  هذا العصر  أكثر من العصور السالفة ، حيث عرف  أن مادة الكواكب  بشكل عام ترابية  أو صخرية ، ومع ذلك فهي تتلألأ وتضيء ، بما ينعكس عليها  من ضوء الشمس ، فكيف  إذا كان أحد الكواكب  درِّيـاً أي من الدُّر.

 والدُّرُّ واحدته درَّة ، وهي الجوهرة  التي تؤخذ من المحار الذي  يغاص عليه في البحار، ويقال لها لؤلؤة ، فإذا كان الكوكب درِّياً فسيكون نقيَّ الجوهر من داخله وخارجه . وشجرة ، كل ما اشتجر  بأصول وفروع ،  وكثيراً ما يتداخل  فيها الرمز أو المجاز  بالحقيقة ، فنقول شجرة الأخلاق ، وهو مصطلح  عند علماء الأخلاق  يدَّعى معه أن الشجرة التي  نهي عنها القوم – آدم  ، أو آدم النوع ، إنما كانت شجرة مفاسد الأخلاق . ويقال شجرة الأنساب و{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء .  تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا سـورة إبراهيـم الآيات ( ۲٤ ـ ۲۵ ) } وزيتونة  ، يعني خضراء نضرة مثمرة بزيتها يستضاء ، وبثمرها الطيب ينتفع . وأمثال ، واحدها مِثْل ومثَل ، وتستعمل للتشبيه ولتقريب المعاني  العميقة إلى الأذهان ، وكثيراً ما يستعمل معها الرمز  للدلالة على الحقيقة :  { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ . سورة الرعد آية ۱۷ }  و  {  مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . سورة البقرة  آية ۲٦۱ } و { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . سورة البقـرة  آية ۲٦۵ } .

          نلاحظ في هذه الأمثلة  أن الله سبحانه لكي يقرب  إلى الأفهام المعاني المجردة ، والكبيرة ، والعظيمة ، وأحياناً  غير المحدودة ، أي المطلقة ، فهو يعرض لها أمثالاً من الملموس  والمجسم ، ومن الأشياء  التي يتداولها  الناس  أو يتداولون بها بكثرة في حياتهم اليومية ، ولا شك أن هذا الإسلوب  أسرع في إيصال المعاني إلى القلوب  والأذهان ، إنما يزداد تعقيداً وحملاً للوجوه ، كلما كانت المعاني  أعظم  وأقدس ، وكلما كان المخاطبون  أفهم وأعلم ، وبالتالي  أملك لأدوات التحليل والتعليل ، والاستقراء  وسبر الأغوار والإستنتاج . وذلك بما يعلمهم الله ،  واتقوا الله ويعلمكم الله ، فـ { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ . سورة يوسف آية ۷٦ } .

          ففي الآيات الكريمة التي أوردناها بين يدي قوله تعالى : { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}  نجد في الآية الأولى ، المعنى المجرد الذي أراد سبحانه تعليمه للناس ، هو الكلمة الطيبة ، ضرب لها مثلاً  بما هو محسوس ومتعارف : شجرة طيبة . وفي الآية الثانية ، المعاني المجردة التي أراد ، المذكورة في الآية : الحق والباطل ، والمجردة  المستفادة  من كلمات النص وما بين الكلمات : هي العقول والأفهام ، وقد تمثل سبحانه لكل  ذلك ، بالأنهار والجداول على اختلاف أعماقها وأحجامها من جهة ، ومن جهة أخرى  ، على ما تحمل  ، أي على مضامينها  ونتاجها ، والمحسوس جداً في هذا النص  الكريم ،  هو المـاء  الصافي  والنمير الشافي أصلاً  ، وهذا مثل أولوا الألباب  من أهل الحق ، وما تكِن صدورهم  وما يقولون وما يفعلون ، ثم الزبد ، أي غثاء السيل  وما فيه من قش ونفايات ، وكذلك ، حتى ما يستخرج من الأنهار من ذهب  وغير ذلك مما يوقد عليه في النار  ابتغاء حلية أو متاع ، هو كذلك كالزبد وغثاء السيل  لا قيمة له عند الله تبارك وتعالى  ولا نفع له في الحقيقة عند أولي الألباب  يفتتن به أهل الدنيا ، وهو بمنزلة الباطل يذهب جفاءً .

          وفي المثل الثالث  الآية الكريمة  تتعرض لمعنى البركة  والخير الكثير  المعنوي والمادي وفي الدارين الدنيا والآخرة ، مثَّل لذلك  بالسنبلة والقمح الذي فيها  وهو في مفهوم الناس وفي الحقيقة رمز خير وبركات .  وكذلك في المثل الرابع  عن الذين ينفقون  أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم  وهما معنيان تجريديان ، فيهما من الجمال المعنوي  الخيِّر الشيء الكثير ،  ولم يترك  سبحانه في هذه الآية قضية النسبية ، إذ ليس كل الصالحين يتقربون  إلى الله تعالى  بنفس المقدار من الحب والولاء  والبذل ابتغاء مرضاته وإخلاص أنفسهم  له سبحانه وتثبيتها على صراطه . فجاء المثل الرائع  المعجز ببلاغته ، التي هي  من السهل الممتنع ، قوله تعالى : { .. كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ ..}  وجعل الجنة في هذا المثل وهو ما نسميه نحن في العادة الروضة أو الحديقة أو البستان ، جعلها في ربوة ، أي في مرتفع من الأرض لا صعباً كالجبل  ولا منخفضاً ، دلالة  على مكانة  المنفق  ابتغاء مرضاته عنده سبحانه ، والوابل المطر الغزير  الذي يتضاعف منه نتاج الأرض  ، وهذا لمن يسخون ويكرمون ببذلهم حباً بالله  وتقرباً إليه ، وقوله : فإن لم يصبها وابل فطلّ ، كناية عن الإنفاق قد يكون قليلاً أو إخلاص العبد لربه ، قد لا يكون كاملاً ، فيعطيه الله سبحانه ما يتناسب مع نيته وقدرته ، من حيث كثرة ماله أو قلته …

      هكذا نكون قد قدَّمنا لفهم قوله عز وجل ، { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} ما يساعدنا على الكشف عن وجه من وجوه تأويلها ، وهي الآية التي ما زال يتصدى لتفسيرها  وتأويلها أهل الفضل من العلماء ممن تفضل عليهم الله سبحانه  بألوان من أنواره ،  سواء كانوا من الصوفيين  أو العرفانيين أو عامة أولياء الله الصالحين ، وبنور وجهه الكريم أهتدي وبه أستعين ، وعليه أتوكل ، وهو وحده ربي وحسبي وحبي .

بين المشكاة والمصباح والزيتونة :

===========================

          قلنا إن { ..  نُورِهِ ..} في قوله تعالى { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ}هو دينه وتعاليمه ، أما التجريد والإطلاق الذي لا يحده عقل ولا واقع  ، فهو قوله تبارك وتعالـى أول الآيـة { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .. } نقول هذا تجريد مطلق ، والتجريد كما نوهنا هو اللامحسوس ، واللامدرك ، إلا بآثاره ، وآثاره كذلك فيها المجرد وفيها المحسوس نجد ذلك في نفس الآية بعد قوله عز وجل : { اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ .. } قوله : { .. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ .. } فقوله تعالى : { .. مَثَلُ نُورِهِ ..} فيه تنويه عن آثار النور المطلق ، فإن قلنا ـ كما قدمنا ـ إن المقصود بالمثل هو دينه ، فهذا صحيح  ،  وإن قلنا ـ بناءً على مفردات الآية ـ هو مجسَّم دينه ، فهذا كذلك صحيح ،  وإن قلنا إنَّه الإبداع في دينه أو الإبداع في نوره  أو  الإبداع  في خلقه ، فهذا كله كذلك صحيح . وإن قلنا أنه سبحانه قصد بذلك محمداً (ص) أو قصد بذلك النموذج البشري الأول السويَّ آدم ، أو نوحاً أو موسى  أو عيسى أو كل نبيٍّ أو رسول ٍ أو ولي من أوليائه المنتجبين وعبـاده الصالحين  ، كان كل ذلك صحيحاً .

         فخلاصة القول في الآية الكريمة : { .. مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ .. }  أنها حمالة وجوه نورانية غنية بالدلالات واضحة الظهور ، كثيرة الإشارات  ، بليغة الرموز ، نستخلص منها عبر قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُـورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ . صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ. سورة الشورى  الآيات  ( ۵۲ ـ ۵۳ ) } عامة حقائقها :  بعد أن فسَّرنا مفردات الآية بالمتعارف  في حقيقة اللغة ،  علينا الآن أن نعرض  مجازاتها المقصودة بإذنه تعالى :

          فالمراد بالمشكاة ، الإنسان المجتبى ، المؤمن الموقن الصالح ، شكلاً ومضموناً ، عرضاً وجوهراً .

          { ..  فِيهَا مِصْبَاحٌ .. }  المصباح قلبه المستنير  المنير  بالإيمان المكتوب فيه ، لا يمَّحي ، لأن الله سبحانه هو الذي كتب فيه ، أي في القلب المخلص  لله . ومن الأدلة المشرقة ، قوله تبارك وتعالى: { لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ . سـورة المجادلة آية ۲۲ } .

          هؤلاء الموصوفون في هذه الآية تجردوا لله ، إخلاصاً وطاعة ، وجهاداً في سبيله  وحباً ليس فوقه حب .

رهنوا أنفسهم  بالشروط الثلاثة المنجية : الإيمان بالله  والإيمان باليوم الآخر ، وأما الثالث  فمستنتج ، إذ من أعلى الأعمال الصالحات ، أن تضحي بمحبتك ، تلك التي تربيت عليها طفلاً وصبياً حتى كادت أن تتملكك ، ما هو مكنون منها أكثر مما هـو ظاهر ،  وهي لأقرب الناس إليك نسباً وتعاملاً واحتكاكاً يومياً ، في  عشرة العمر ، هم الأهل  أباً وأماً  وأبناءً وإخوةً  وعشيرة ، هؤلاء إن خرج أحد منهم على حـدود الله ، إن { .. حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ..} ، أخرجت من نفسك حبه ، وإذا توافق أنهم جميعاً حادُّوا الله ورسوله ،  تجاوزوا حداً من حدود الله أو أكثر ، كذلك تخرج محبتهم جميعاً من نفسك ، ولا أقول من قلبك لأن القلب كله لله ، كم هو صعب ذلك ؟!

كم يلزم من التصفية  ثم الصفاء ، كم يلزم من التحليل والتعليل والمقارنة ، التي  تنتهي إلى أن تختار الله ، أو أن تختار أباك أو أمك أو ابنك أو أخاك أو عشيرتك على فسوق منهم أو إخلال في دين الله ، خروجاً على حدوده أو على حد من حدوده ، والله يأبى عليك  أن تكنَّ لهم مع  ذلك وداً  أو محبة . إخترت الله عز وجل ؟  وأخلصت له قلبك  وحبّك  وطاعتك ؟ إذن كتب الله في قلبك الإيمان .

          وما يكتبه الله عزت عظمته لا يمحَّى أبدا . وأكثر من ذلك وأعظم ، أيَّدك بروح منه ، لا يؤيد به إلا أمثالك على درجات ٍ من تقدمهم عليك أو تأخرهم عنك فـ { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . سورة الأحقاف الآية ۱۹} .

          ثم ما هو  هذا الروح  الذي يختص  الله سبحانه هذا النمط من الناس به  ؟ أهو الروح  الذي في  آية الشورى : قوله  تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا}  إلى قوله : { .. وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا .. الآية ۵۲ }  هل  هو  هو  أم  أنه  روح آخر ونور آخر ؟ 

المهم أن أهل اليقين المخلصين ، الذين يريدون  وجه الله وحده ، يؤيدهم سبحانه ـ إضافة للملائكة الذين يصحبون كل إنسان في العادة ـ بروح منه ، هو أعلى درجة ، وأميز نوراً ، وبالضرورة أكثر خيراً وبركات وتسديداً ، وتجنيب عثرات .

          فالقلب الذي يكتب الله فيه ، لا بدَّ أن تكون كتابته بحروف النور ، فكلامه نور وحروفه من نور ، ولذلك  هو سبحانه ، وفي أكثر من آية ، سمى القرآن الكريم نوراً ، لأنه كلامه . هذا إضافة إلى الروح الذي يؤيد ويختص به  عبده الصالح ، وقد جعله الله نوراً كذلك ، كما في آية الشورى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا...} : فاجتمع في القلب المخلص  لله ، ما كتب سبحانه بحروف النور ، مع الروح  النوراني المنوه عنه ، فكيف يغدو هذا القلب وفيه كتابة من الله وروح منه نوراني ، يغدو أبهى وأزهى وأزهر المصابيح ،  بل أين  منه المصابيح العادية ؟ يتلألأ نوره  بحروف نور الله ، فهو فوق المصابيح التي من صنع البشر، مهما تقدمت الصناعة ، وتصفىَّ الضوء ، وأين في مصابيح البشر  ما قاله الله عز وجل . عن مثل هذا القلب ، حيث تابع سبحانه قوله : { ..  الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ .. سورة النور الآية ۳۵ } .

       في تقدم صناعة المصابيح ، كان لا بد لكل مصباح مهما كان نوع وقوده ، من زجاجة تحمي الوقود من عاديات الجو ، وتزيد في قوة انعكاسه وصفاء إشعاعه . وما لم يكن من المصابيح في زجاجة ، سرعان ما يخبو وينطفىء .

          وحتى يظهر الله عز وجل الفارق بين مصباح المؤمن  الذي هو قلبه ، وبين المصابيح المصنوعة  المتطورة ، وفي زجاج متطور ، أعطى  هذا المثل عن قلب المؤمن المصباح ، الذي يستحيل على البشر ، تصنيع مثله .

وكيف يستطيعون ، وهو في زجاجة كأنها كوكب دريّ ؟ هم قد يحصلون على الدرَّة من محارتها ، ولكن أن يحصلوا أو يصنعوا كوكباً درياً ، مثل الذي يصفه الله تعالى وقد يكون أكبر من حجم الأرض ، هكذا وببساطة ، تلك هي اللغة عن الكواكب . إذن هو التميُّز النوراني ، في قلوب أهل اليقين .

ضوء القمـر الجميل الهادىء ، هو انعكاس لأشعة الشمس عن جرم القمر ، والقمر تبين أنه صخري ترابي ، وكذلك ضوء الشمس يصدر عن جرم غازي مركب متفجر ملتهب  بدرجات الحرارة الهائلة . فلا ضوء إذن يمكن أن يكون أصفى من نور يصدر عن كوكب دريٍّ من داخله وخارجه ، هكذا وصف الله تعالى له : { ..  الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ .. } .

 فلا أبهى ولا أصفى ولا أروع ولا أجمل ، ولا عجب فهو من نور الله ، تبارك وتعالى وعزَّ وجل .

          هل في هذا الوصف لقلب المؤمن الموقن المخلص لله ، ثناء على المؤمن ؟ بلى ، لأن الله يقول الحق  ،  ومن  أصـدق  من  الله قيلا ؟ ومن أصدق من الله حديثا ؟ فما دام الحق  كذلك فهو من أجمل الثناء من مقام عزته سبحانه ومن مقام كرمه ورحمته ، وهنيئاً للمؤمنين أنوار الله ، المصابيح التي في صدورهم .

          أما الزجاجة التي كأنها كوكب دري ، فهي في صدر المؤمن الموقن الواهب نفسه وكل كيانه لله عز شأنه . كناية عن ندرته بين الناس العاديين ، وعن صفائه وشفافيته وفوق ذلك كله عن قيمته المميزة عند الله . مقارنة مع الكثرة التي لا تفقه ولا تعي أو التي  اتخذت نهج أصحاب الشمال ، أو التي قست قلوبها عن ذكر الله ، فأظلمت ووقعت في خزي الدنيا وعذاب الآخرة .

          وصدر المؤمن الصِّديق ، كونه كأنه كوكب دريٌّ ، فهو لشفافيته ورقَّة نوره وصفائه ، مهبط أو مقام أو مزار للملائكة ، ملائكة الرحمة ، يقول تبارك وتعالى : { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ . سورة فصلت الآيات  ( ۳۰ ـ ۳۱ ) } .

          والمؤمنون الموقنون ، فعلاً ، كأنهم كواكب دريَّة في الأرض ، ليس غيرهم يلوح  للملائكة مضيئاً متألقاً ولأهل السماء . هكذا ، قلوب ذات جمال متوقد أخاذ ، كلما  ازداد واحدهم من الله قرباً ولله حباً ، زاده الله نوراً وجمالاً وألقا . هذا في الدنيا ،  أما في الآخرة ،  فبحسبك قوله تبارك وتعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . سورة السجدة الآية ۱۷ } .

          وإلا فما هو الشيء الذي مثَّل له الله عزوجل وقال فيه هذه الآيـات النيرات ، إذا لم يكن الإسلام لله والإيمان بالله  والعرفان بجميل الله وجمـاله  وجـلاله  ،  وآثار  نوره في الألباب وأولي الألباب ؟!…

الدماغ هو الشجرة المباركة :

=========================

          قوله تبارك وتعالى : { .. يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ .. سورة النور الآية ۳۵ }  أي المصباح  يوقد . وإذا كان المصباح هو قلب  الرجل الصالح ، فالتركيب الفسيولوجي للإنسان  يقضي  بأن  يكون  تفعيل  القلب من  الدماغ ، كما هو المحسوم في علم الطب والتشريح . فالدماغ  إذن هو المرموز إليه ، في جـملة ما ترمـز إليه كلمـة { شَجَرَةٍ }  في الآية الكريمة . وليس أبلغ من وصف الدماغ  وجملة الجهاز العصبـي بكلمـة { شَجَرَةٍ } فهو يشتجر في جميع انحاء الجسم انطلاقاً من الرأس وعبر النخاع الشوكي ، حتى أنه لا يوخز موضع في الجسم برأس دبوس إلا أصاب فرعاً من فروع  هذه الشجرة التي هي الدماغ  والجملة العصبية  ، التي تتفرع منه وتستقطب البدن كله ، وتديره ـ انطلاقاً من الرأس الرئيس ـ ضمن هيمنة رب العالمين ، هي  { .. لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ..} .

          أما لماذا هي مباركة هذه الشجرة ؟ فلأنها شجرة الإنسان الصالح  ، ولأنها على  هذا الأساس { مَثَلُ نُورِهِ } تبارك وتعالى . فإذا فسد الإنسان ، فسدت  شجرته ، أي نزعت منها البركة . وهذا تراه حولك في كل مجتمع : فساد في الأدمغة  وتبعاً لذلك فساد في القلوب ، والعكس صحيح . فإذن ، ليست كل شجرة هي مباركة ، فقط أدمغة الصالحين ، يباركها الله ، وينوِّرها ، ويجعلها في عافية من كل فساد  مادي أو معنوي .

          أما قوله تعالى : { زَيْتُونِةٍ } ففيها ثلاث دلالات على دمـاغ الرجل الصالح : الصبغ ، والدهن أو الزيت ، والخضرة الدائمة .

          وهذه الصفات هي مشتركات بين الدماغ الصالح والزيتونة المباركة ، نستفيدها من المداخلة مع قوله تعالى : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ . سورة المؤمنون الآية ۲۰ } الحقيقـة أنها في باب التفسير ، زيتونة حقيقية وفي باب التأويل  ،  زيتونة  مجازية  ،  إنما  هي  كأنها زيتونة بسبب دهنها وصبغها للآكلين .

          ثم إن في هذه المداخلة ، مقارنة لطيفة مستفادة ، وهي أن الزيتونة الحقيقية صبغها للآكلين ، أما الزيتونة المجازية المباركة فصِبغها : { صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً . .. سورة البقرة آية ۱۳۸ }  .

          بقي أن نقول إن التأويل في قوله تعالى : { وَشَجَرَةً .. } هي زيتونة النبوَّة  التي خرجت من طور سيناء . يعني هي قطعاً دمـاغ موسى عليه السلام ، الذي تفاعل معه قلبه ، ضمن هذه الرموز :

          { اللَّهُ نُورُمَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌيُوقَدُ مِن شَجَـرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ}

          وهنا  لا بدَّ للمتأمل أن يلاحظ هذه الأبَّهة وهذا الجمال ، في اللغة والرموز ، فلو افترضنا أن هذه الأشياء سميت بأسمائها كما يفعل علم التشريح : قلب ودماغ وكتلة عصبية … لافتقدنا أولاً نعمة المجاز وعمق التأويل ، وثانياً هذا الرونق الأخاذ لأولي الألباب ،  في اللغة والرموز ، وهذا مثال كذلك ، في جملة  الأمثلة التي تكاد لا تعدُّ عن إعجاز هذا القرآن العظيم .

          أما قوله  تبارك وتعالى في وصفها : { .. لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ..} .

 فالقول فيه :

                   إن موسى حين تلقى كلام الله على الطور ، غدا لا شرقياً ولا غربياً  ، أي انفصل عن الزمان والمكان ، وخرج هكذا من طور سيناء حاملاً الألواح ، منعتقة نفسه من جهات الكون ومن حدوده ، فصح في دماغه ونفسه العصبيـة المشتجرة فيه ، أن يقال في وصفه وقد تمكنت منه النبـوة : { وَشَجَـرَةً تَخْرُجُ مِن طُـورِ سَيْنَاء تَنبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِّلآكِلِينَ . } أما الدهن أو الزيت  الذي قال عنه  سبحانه في آيات النور  { .. يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ .. }  فسيأتي ذكرها إن شاء الله في كلام علميّ عن الدماغ . وأما الصبغ ، فهو لعباد الله ، صبغة الإيمان ونور اليقين في وجوههم  وسلوكهم . والصبغ أو الصبغة في الإيمان والسلوك والأخلاق بشكل عام ، هي ما يتمكن من الإنسان بدءاً بالإقتناع فالخشوع فالحب لعزة الله ، بحيث تصبح هذه الأمور عند صاحبها عادة ثم تصبح  ملكة ، لا تختلف  عنه ولا يختلف عنها .

          فقوله تعالى : { وَشَجَـرَةً تَخْرُجُ مِن طُـورِ سَيْنَاء .. }  هو موسى خرج من هناك بنبوته وكامل ألواحه .

          وقوله تعالى  :  {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ .. }  هي تخصيصاً نبوة محمَّد (ص)  وتعميماً  عامة الأنبياء والصالحين .

          إذن هي النبَّوة ..

          تلقاها موسى من عزة الله الذي لا إلـه  إلا هو  على طور سيناء  .

          وتلقاها محمَّد من عزة الله الذي لا إلـه إلا هو  من فوق سابع سماء .

          موسى أكمل الله له نبوته  على الجبل الذي في سيناء  .

          ومحمَّد أكمل الله له نبوته  فوق السماء السابعة .

          موسى أكتبه الله التوراة  في أربعين ليلة .

          ومحمَّد أقرأه الله القرآن في ليلة واحدة فحفظه . ثم أنزله عليه نجوماً مدة نبوته على الأرض .

          تلك الليلة هي ليلة القدر  ، وهي لا شرقية ولا غربية  ، بل هي على مستوى الكون ، متضمنة عشر ليال ٍ  على مستوى أرضنا الدنيا ، هي العشر الأُخر من شهر رمضان من كل سنة .

          فنبوة محمَّد (ص) التي استكملها فوق سابع سماء  ، كانت هنالك لا شرقية ولا غربية ، ومن أين الشمس  ومشارقها ومغاربها وقد أصبحت دونه تفصل بينه وبينها  السماوات السبع ، وبلغة هذه الأيام ، مليارات السنين الضوئية .

          وعاد محمَّد (ص)  إلى الأرض ، بالشجرة المباركة  الزيتونة اللاشرقية واللاغربية  ، مستمراً بها (ص) سراجاً منيراً إلى أن قبض إلى الرفيق الأعلى .

          { .. لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ..}  من مفاتيح العرفان :

          الله عز وجل بكثير من آياته البينات  ، يستشرف للإنسان مستقبله { .. لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ ..}  واحدة من هذه الآيات المنجيات ، إذا فهـمت وعمل بها وجوباً .

          أنواع الولاء ، لمراكز القوى على مستوى الحياة الدنيا ، كثيرة .  تضيق فتكون على مستوى الأفراد والجماعات الصغيرة النافذة . وتتسع فتستغرق جهات الأرض ، ودول الشرق والغرب .

          هذه الولاءات التي تحدُّها الأمكنة وتحدها الأزمنة وتحدها قطاعات الناس ، هي بخلاف المطلوب  في تعاليم الله  التي فرضها عليه ، توخياً لسلامتـه وخلاصه في الدارين .

          هذه الولاءات تحكمها الجهات ، تشرِّق وتغرِّب . كمصاديق ، كم تمزق الناس ، وما زال أكثرهم يتمزق نتيجة الولاء  للطواغيت في المشرق  والمغرب ، وبشكل عام نتيجة الولاء لغير الله .

          المطلوب هو التجرد لله ، حتى من قومك حتى من بدنك ، حتى من نفسك . وإذا لم تصل إلى أن تفنى في فناء الله ، فلن تفهم هذه الإشارات .

          أن تتأمل  وأن  تتجرد  لله  جلا  وعلا ،  وأن تهاجر إليه من  وطنك ومن بدنك ومن الناس  باقياً في وطنك وبدنك وفي الناس  ، تفنى في فناء الله ، ثم يعيدك بكرمه ورحمته ولطفه للصحو بعد المحو ، فتعلم أن دماغك أصبح لا شرقياً ولا غربياً ، وكذلك قلبك ، وكذلك جملة أحاسيسك : السمع والبصر ، وكلية الرصد في الشجرة المباركة الزيتونة اللاشرقية ولا غربية .

          { .. يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ .. }  كذلك من المفاتيح :

          الدماغ ، قبل أن يغدو شجرة  مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية ، هو من أعاجيب خلق الله دقة وتعقيداً ووظائف مذهلة وعمليات  مدهشة ، نحاول إن شاء الله  في نهاية هذا الفصل أن نختصر بعضها ، مما توصل إليه العلم من الكشف عن القليل من أسرار عوالم هذا الدماغ . ولكن الآن ـ ونحن بصدد الآية الكريمة ـ وجب علينا أن نتحدث عما يتعلق بها بخصـوص قوله تعالى : { .. يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ .. } .

          فالدماغ مادة دهنية فوسفورية ـ هذا في تعريفه العلمي ـ والدهن والزيت في  اللغة العربية بمعنى واحد ، والفوسفور  مادة عجيبة  ذاتية الإضاءة . والعلم الحديث قال عن خلايا الدماغ أنها عبارة عن ملايين البطاريات التي تشحن نفسها بنفسها ، والتي كل واحدة منها تصدر الشرار تباعاً ، بحيث أنها وهي تعمل مجتمعة يكاد الدماغ بها يضيء ، هذا هو الخبر العلمي الذي توصلوا إليه فقط في القرن العشرين  الميلادي ، واعتبر ـ  وهو كذلك حقا ً ـ من الكشوف الجليلة ، التي ترتبت عليها فتوحات علمية كثيرة ، فيما يتعلق بالإنسان وحياته وحركاته وسكناته ، وأسراره النفسية والبدنية .

          إلا أن هذا الخبر ، سبق إليه القرآن الكريم بما يقرب  ألف وأربعمائة سنة ، وقد كان هذا الخبر  في القرآن وما زال ،  كنزاً من روائع كنوزه . حتى قضى الله سبحانه ، اليوم ، فتح هذا الكنز له الحمد أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً .

          هل هذه خصوصية لعباد الله الصالحين ؟ أعني أن يكون الدماغ مكوناً من مادة فوسفورية  دهنية يكاد  زيتها يضيء بمليارات انقداحات المحاور في ملايين البطاريات الذاتية الشحن  والتفريغ الدائبين في الليل والنهار  ومدى العمر ؟  الجواب : لا ، من حيث مبدأ خلق الله لأدمغة جميع البشر ،  إلا أنه يصبح خصوصية ، أقصد  البناء السويَّ للدماغ واستمرارية عمله المخلوق بعد سن التكليف عند ذكور الناس وإناثهم . وباختصار شديد : إن الدماغ مع تصاعد العمر ، إما أن يخبو  تدريجياً ، حتى لا يعلم من بعد علم  شيئاً ، وإما أن يقتصد ، أي يأخذ طريقاً  مستقيماً ليس فيه عوج . وإما أن يزيد استنارة من نور الله ، شأن الأنبياء  والرسل وخاصة الله وأوليائه . وهذا موضح في سياق  آية النور هذه ، قوله تبارك وتعالى : { .. يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء .. } .

          فإذن { .. نُّورٌ عَلَى نُورٍ ..}  كذلك هي من المفاتيح .

          نور في الدماغ يزيد { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى . سورة مريم الآية ۷٦ } يلقيه إلى جميع أنحاء الجسم عبر النخاع الشوكي واشتجار  تفريعاته المتماسة في جسم الإنسان الذي هو الآن  العبد الصالح ـ  وضمن عملية التغطية هذه لجسم الإنسان ـ طبعاً  يفيضـه على القلـب  الذي  بدوره  يضخـه عبر الدم  والدورتين  الدمويتين  الصغرى

والكبرى  في جميع الأوردة والشرايين والشعيرات الدموية التي كذلك تلتقي أطرافها بالنهايات العصبية الدقيقة لتغطي أيضاً باطن البدن وظاهره جملة وتفصيلا : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ . سورة سبأ آية ۳ } . هذا في رأس معانـي قوله تبـارك وتعالـى : { .. نُّورٌ عَلَى نُورٍ ..} .

          بقـي أن نذكر ، وبغبطة كبيرة ، أن الله عز وجل قد هدى الإنسان ، منذ أيام قلائل ، على مستوى الطب وعلم الأشعة ، إلى العلاج بأشعة اللايزر ، يعني إلى إجراء عمليات داخل جسم الإنسان ، باللايزر ، بديلة عن العمليات الجراحية ، أي بدون جراحة ، وكذلك حتى رتق ، وخياطة بعض الجراح الباطنية . هذا بعد أن كان سبحانه هداه ، منذ منتصف القرن العشرين إلى الكشف بالأشعة  على أنواعها وبغيرها مما تفضل الله به على البشرية .

          قلنا إننا نذكر هذا الخبر ، وبغبطة كبيرة ، لأنه سبحانه ما إن يكشف للإنسان  عن علم يعلِّمـه إياه ، حتى يكشف مقابله في قرآنه المجيد عن علم من سنخه وإنما بفارق أعظم ، طبعاً  لمصلحة الذين يستشفون بالله ـ إذا احتاجوا ـ وبقرآنه العظيم . وطبعاً  هذا العلم القرآني ، لا يستطيعه ، ولا يدركه ، إلا نبي مرسل أو ملك مقرب أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان .

          قد يقول قائل مظلم الدماغ : بلغ  أهل الغرب بعلومهم الأفلاك ، وما زلنا بالنسبة إليهم كالإنسان الأول جهلاً وأمية .  أقول هذا صحيح ، من حيث مقارنة ظلمانيين بظلمانيين . أما المستنيرون بالله جلت عظمته ، فيقولون : بلغ أهل الغرب  بحضارتهم الزنديقة دركات الجحيم ، عاجلاً أو آجلاً ، ويرفع  الله النورانيين  فوق هذا الفلك  الدوار ، وعبر أقطار السماوات  السبع ، وليس فقط هذه السماء  التي لم يبلغ علماء  الأرض  بعـدُ حدودهـا :

{ .. فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ .. سورة الكهف الآية ۲۹}  و { .. الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ . سورة آل عمران الآية ۹۷ } .

 

          أما عن الذين اتخذوا العلم رباً ، ونسوا ربهم الله فأنساهم أنفسهم ، يقول عزت قدرته : {  فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون . فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ . سورة غافر الآيات ( ۸۳  ـ  ۸۵ ) } .

        ومن يمنع الذين يعترضون على الدعوة إلى الله سبحانه ، وإلى دينه وطاعته ، من يمنعهم أن يكونوا هم وأبناؤهم وأحفادهم وأقوامهم  أعلم أهل الأرض  سواء تلقوا علمهم في  المغارب أو المشارق .

والحقيقة أنه ما من داع ٍ إلى الله  وإلى دينه وقرآنه ، وما من رباني أو عرفاني إلا وهم يدعون إلى العلم  الأمة جمعاء ، ولكن الذي قعد بالأمة عن تلقي العلم  من أعلى مصادره  وأصدق مصادره ، هو الإخلال  بعهود الله ومواثيقه ، والشرك الظاهر  والشرك الخفي  اللَّذين اكتسحا المذاهب وعصبياتها وانشغالها فيما بينها بالفتن والخلاف والترهات ، ثم تشقق الأمة  إلى دويلات متنابزة  سرعان ما ضعفت وهانت حتى استبدَّ بها طواغيت أهل الأرض كفاراً ومشركين ، فابتزوها أصالتها وهيبتها وقواعد علومها ، التي  كانت حكراً عليها طيلة  سبعة قرون من الزمان حكمت بها المشارق والمغارب ، حتى بلغ الأمر  بأحد خلفائها إذ أعجبه منظر سحابة كبيرة تتهادى في السماء ، أن يقول لها كلمته التي حفظها التاريخ : إذهبي أنى شئت  فإن خراجك سيعود إليَّ .

          حرم الأمة من العلم  الحق ، خيانتها لله ولرسوله ولكتابه المجيد .

          ومع ذلك فالله يتحداكم  فكونوا علماء . من يمنعكم أن تكونوا علماء ، وأن تحكموا الأرض وأفلاك السماء ؟

          أقول لكم ؟ لن تكونوا كذلك إلاَّ إذا رجعتم إلى الله  خاشعين خاضعين ، تائبين مستغفرين  ، وإلاَّ أن تنصروه  وتنصروا دينه ، وهو عنكم غني وعن جميع خلقه ، ولكنه  هو سبحانه قـرر، والمشـيئة مشيئتـه والحـكم حكمـه  ،  قال : { .. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ .. سورة الحج الآية ٤۰ } وقال جلَّت اسماؤه : { إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ .. سورة آل عمران الآية ۱٦۰} وقال .. وقال .. ولكنكم لا تقرأون كتاب الله ، وإذا قرأتموه لا تتدبرونه .. وإنما تقرأون الفكر الصهيوني المعلَّب في الغرب ، في الجامعات والكتب المسممة ، والأفلام والبث الفضائي الذي يزلزل أركان الأسر  والبيوت ويصدع الشخصية الإسلامية والإنسانية ، ثم تسمون ذلك حضارة  وثقافة وتقدم .

          ثم إذا تليت عليكم  آية من آيات القرآن المجيد ، وتَوافَقَ أن أصابت  وتراً من أوتاركم  فارتحتم لها  فتسألون : وهل هذه في القرآن .. ما شاء الله .. تقرأون عشرات ، بل مئات كتب الثقافة  التبنية ، والأفلام الحقيرة والفاجرة ، وإذا أردتم أن تتفاصحوا ، انطلقت ألسنتكم  بالنقد الهدام للدين وللمؤمنين  ولعباد الله الصالحين .  واتهمتم  الدين وعلماء  الدين  بالحيلولة  بينكم وبين  أن تكونوا  أنتم أو أبناؤكم من عباقرة العلم الحديث بين الذرة والمجرة .

          { .. نُّورٌ عَلَى نُورٍ ..} .  هي كما ترون ، بعض آية في القرآن المجيد  ولكن سرَّها  وقد انكشف وأثرها الذي عرف وسيعرف ، أليس كل ذلك علمٌ بها ، عنه يتفرع  علم العلاج  باللايزر  وبقية أنواع الأشعة الصادرة بالضرورة عنها ، لأنها مثلٌ من نور الله الذي هو نور السماوات والأرض .

          وإذا كان الله بعزته أو بملائكته أو بأسراره الغيبية الخفية ، ينوِّر نفس وبدن عبد صالح من عباده ، وطبيب من أساطين الطب من خلقه يعالج بالليزر مريضاً من مرضاه ، فأيهما أولى بالسلامة  والعافية والحصانة من كل داء خطير ، العبد الصالح الذي يتولاه الله سبحانه بنوره ورحمته ؟ أم المريض الذي يتولاه  الطبيب بأشعته ؟

          صحيح أن الله خلق الطب والطبيب وخلق الأسباب ، إلا أنه فضل سببـاً على سبب ،  إذ جعل الأسباب  درجات ، من البديهي أن يكون أعلاها أفضل من أدناها . واسمعه سبحانه في الشفاء يقول : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا . سورة الإسراء آية ۸۲ } . ويقول : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ . سورة فصـلت  آية ٤٤ } .

          ونلاحظ في الآيتين أن الاستشفاء  بالقرآن وآياته نعمة على المؤمنين وليس على عامة الناس غير المؤمنين . ففي الآية الأولى : { .. مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ..}   وفي  الثانيـة :  { .. قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء .. }  ثم  {  .. َالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيد } .

          بينما هو سبحانه فرَّق بين كون القرآن  يشفي المؤمنين دون سواهم ، وبين أشياء أخرى تشفي أو قد تشفي بقية الناس ، حتى  من غير المؤمنين ، وإنما لا يكون  لهؤلاء شرف الاستشفاء بالله وحده أو بكلام الله تبارك وتعالى وحده . وأعطى مثلاً عما يشفي الناس مما خلق لهم من الأدوية والأغذية تفضلاً عليهم ورحمة بهم  دون أي استحقاق منهم لذلك  : عسل النحل ، وقوله تعالى في ذلك ، في معرض كلام عن  النحل : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ . سورة النحل الآية ٦۹ } والقوم  الذين يتفكرون هنا وتفكراً سليماً قطعاً ، كذلك  هم المؤمنون . وتفكرهم إنما يكون أولاً على تفضيلهم على بقية الناس ، وثانياً تشريفهم وتكريمهم بالتداوي بكلام الله سبحانه ، أو بأعلى  درجة من ذلك : بالصبر به عز شأنه وبحسن التوكل عليه ، لعلمهم أنه : { هُوَ الأَوَّلُ وَالآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . سورة الحديد آية ۳ }  وثالثاً أن يتناولوا  العسل إذا استطابوه ، لا كدواء غالباً يكون فيه شيء من الإكراه أو الكراهية شأن كل دواء . كما أن فيه للعارفين شيء من الشرك الخفي ، حتى إذا تناولوه كمقو ٍ أو كمغذّ ٍ ، أو أي معنىً آخر  يعتمد عليه من دون الله  وحده سبحانه وتعالى  عما يشركون .

          والشفاء شفاءان : شفاء من الأمراض ، ومصداق ذلك في قوله تبارك وتعالى على لسان ابراهيم عليه السلام : { وإذا مرضت فهو يشفين } وشفاء  من العماية والغواية والضلالات ، وقد نوَّه سبحانه بالشفاءَين  وبخطاب للناس  الكافرين منهم والمؤمنين بقوله تبارك وتعالى : { يا أيها الناس  قد جاءَتكم  موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور  وهدىً ورحمة للمؤمنين . سورة يونـس الآية 57 } .

         

فقوله تعالى : { شفاء لما في الصدور.  سورة الشعراء الآية ۸۰ } يشترك فيه شفاء غير المؤمنين  من الكفر وأنواع الضلالات  وكذلك الشفاء من الأمراض النفسية والعضوية ، من قلبية ورئوية وغير ذلك ،  كما هي الإشارة في الآية ـ فقط بالمؤمنين ـ  وذلك في حال إعراض  الإنسان عن الموعظة وعن اللجوء إلى الله سبحانه ذاكراً شاكراً .

 قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا . سورة الكهف الآية ۵۷ }

          وتأكيداً على التفريق في الخطاب بين الناس عامة وبين المؤمنين ، نذكِّر بقوله تعالى : {… وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ . سورة الحج آية ۲ } . ونقابل هذا بقوله عز شأنه : {… أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ . لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ . لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ … سـورة الأنبياء الآيات ( ۱۰۱ ـ  ۱۰۳ ) } . ترى الناس  سكارى من شدة العذاب يوم القيامة . إلا أن المؤمنين

لا ينالهم شيء من هذا العذاب . بدلالة  الآيتين  الآنفتين  اللتين  هما  إخبار عن حال المؤمنين الموقنين ، كذلك يوم القيامة . فاقتضى التنويه .      

ونعود إلى قوله تبارك وتعالى : { .. نُّورٌ عَلَى نُورٍ ..} ، أي نور التفضُّل المميز من الله ، على النور الجاهز في الزيتونة أو جملة كيان العبد الصالح ، وهذا لا يكون لغير أهل اليقين أو لغير أولياء الله الصالحين .

          ويظهر بوضوح أن معنيين أساسيين يتداخلان في نورانيـة هذه الآية الكريمة : أما الأول فقد أشرنا إلى بعض حقائقه الإشعاعية التي قد تصل إلى حالة غامرة عند الواصلين .

          وعلى كل حال ، وفي جميع مصاديق قوله تعالى : {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} إلى هنا  ، يكون للنور  الذي يتعاور  كيان العبد الصالح من عباد الله المهاجرين إلى ربهم  ، ميزة النور المنعكس كما من كوكب دريٍّ على النور المنعكس كما من صخر أو تراب . ومن البديهي أن تكون آثار النور الأرقى ، أفعل في مجالات السلامة والعافية والإدراك ، من آثار  النور الأدنى ذلك في الأنفس والأبدان ، وفي الدنيا والآخرة .

          هذا هو المعنى الأول لنورانيـة الآية ، وهو المعنى الحقيقي الملتبس بظاهر العبارة .

          أما المعنى الآخر ، فهو المجازي ، والمراد منه الهداية  إلى كل ما يتعلق بالحقائق الظاهرة والباطنة ، حسب وسع وأهلية المتقرِّبين إلى ربهم . وفي أساس عناوينه :  العلم  اللدني ،  أي الذي هو مباشرة من لدن الله تبارك وتعالى ، وضمـن قولـه عـز شأنه : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا … سورة الشورى الآية ۵۲ } فعبارة : {نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا } تقتضي استكمال الهداية لمن يجتبيهم الله سبحانه  في مراحل الزمان وإلى قيام الساعة . يؤيد هذا وبقوة ، قوله تعالى في نهاية آية النور هذه التي نحن بصددها ، وهذا هو نص آخر مفاتيحها : { نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . } .

الدماغ ـ  الزيتونة أو المفاعل النووي المعجز :

=======================

          هل لوزن دماغ الإنسان أهمية لتمييزه عن بقية المخلوقات المعروفة ؟ 

          قبل أن نجيب على السؤال ، لا بد من التنبيه ، إلى أننا عندما نتكلم عن وزن الدماغ والفوارق فيه بين الإنسان والحيوانات ، فإنما نعني دائماً الوزن النسبي ، أي المتناسب مع  أوزان الأبـدان . ( فالفيل مثلاً يزن دماغه ثلآثة أضعاف وزن دماغ الإنسان ، والحوت الكبير  يزن دماغه خمسة أضعاف دماغ الإنسان . ولكن النسبة ما بين وزن الكائن ووزن دماغه هي أرقى وأكبر شيء عند الإنسان فقط ،  حيث تعادل النسبة تقريباً : ٧٣, ٢٪ (( الطب محراب العلوم ) للدكتور  الجلبي) بينمـا هـي عنـد الحيـوانات القاضمة : ۲, ۰ ٪ ) (( الطب محراب العلوم ) للدكتور  الجلبي) .

وهكذا على الصعيد الإنساني ، فقد يكون وزن دماغ إنسان نحيل بالنسبة لجسمه ، هو أرجح  وزناً من دماغ إنسان ضخم أو يعادله ، أو تنعكس القضية ، فالأمر متعلق بأمور  متداخلة بين النشأة الأولى  والنشأة الثانية (أنظر كتابنا ( العقل الإسلامي )) .

          إلا أن الأهم في الموضوع ، هو أن رجحان الوزن ، وإن كان دليلاً على السعة ، إلا أنه ليس دليلاً على العقل المؤمن الفعَّال ، ولا على سلامة  التفكير واتباع الحق .

          ولتفصيل ذلك ، فإنه  ما من شك أن لفارق الوزن بين دماغ إنسان ودماغ إنسان آخر ، دلالة أكيدة على الفارق بالطاقة والكفاءَة ، والقدرة على الإنتاج والفاعلية ، ولكن يتضح لنا من القرآن المجيد ، أنه مع كل رجحان ، تكون هناك زيادة في التكليف وحمل المسئولية ، قوله عز وجل :

          { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا … . سورة البقرة الآية ۲۸٦ } .

          وقوله تعالى :

{ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ سورة التوبة الآية ۱۰۵ } .

          وقد ضرب الله مثلاً على سعة وأوزان الأدمغة وأصحابها ، ومقادير ما تنتج ونوعية ما تنتج ، وما ينفع من نتاجها وما يضر ، والمحقُّ منها والمبطل ، والسقيم  منها  والصحيح  ،  بقوله  عز شأنه : { أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ . سورة الرعد الآية ۱۷ } .

وفي الآية التي تليها ينقلنا  تبارك وتعالى  من  روعة المثل البليـغ وجمـال رموزه ، إلى ما يترتب  على هذا المثل من واقع الحال وخطر المسئولية ، بسبب ما تحمله هذه الأدمغة من حريات عامة وحرية خاصة هي حرية الإختيار ، وبخصوص انقيادها للعقل المهتدي بالله ، أو انقيادها لهوى النفس وأهواء الآخرين ، وبكيفية تفاعلها  مع ما تحمل ، وأيضاً بخصوص ما تترك من آثار .. ونتيجة كل ذلك .. بقوله سبحانه  :

          { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ . سورة الرعد الآية ۱۸ } .

          ثم هذا النص المدهش في كتاب الله الكريم ، وفيه حوار بين التابعين  الضالين ويسميهم الله { المستضعفين } ، وبين الذين ركبوا رؤوسهم عناداً وبهيمية من أصحاب الأدمغة الوازنة ، ويسميهم الله { المستكبرين } يقول عز شأنه :

          { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلاَلَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .  سورة سبأ الآيات  ( ۳۱ ـ ۳۳ ) } .

الإنسان ليس أفضل خلق الله :

=======================

          قوله عز وجل :

          { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً . سورة الإسراء الاية ۷۰ } .

          فيستفاد من هذه الآية الكريمة أن الإنسان ليس هو أفضل مخلوق في خلق الله ، ومن الأدلة على ذلك ، قوله عز وجل مخاطباً إبليس لعنه الله عندما امتنع  عن السجود لله سبحانه ، باتجاه آدم ، بعدما أمره الله بهذا الإتجاه :

          {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ . سـورة ص الآية ۷۵ } إذ  إنَّ  { الْعَالِينَ } خلق  لم يدخل في الملائكة الذين أمرهم الله بالسجود لآدم عليه السلام .

          يبقى أن الخلق الكثيرالذي فضل الله آدم عليه هو المدرج في الآية الكريمة :

{ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ  سورة الجاثية الآية   ۱۳ } .

          وقوله تعالى :

          { أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ … سورة لقمان الآية ۲۰ } .

          مع الإلتفات إلى لفظة ( ما )  في الآيتين ، حيث تستعمل في اللغة عامة لأصناف الحيوان وللأشياء .

يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول :

===========================

          أما ذووا الأدمغة الكبيرة الذين ضلوا وأضلوا  فمن شأنهم على اختلاف درجاتهم  وحقول نشاطهم  ، أن يبرزوا وينشهروا ، ويتصدروا المواقع في المجتمعات والأمم ،  ويكون لهم من ذوي الأدمغة الأدنى وزناً ، أو من ذوي  النفوس الضعيفة ، أتباع وأتباع ، كان فرضاً عليهم وبالحد الأدنى من التفكـير السليم ، أن يتبعوا أولي الألباب من الأنبياء والأولياء  والصديقين . وقد أوجب الله عليهم ذلك ويسَّرهم لهم إلى قيام الساعة .

 أما وقد هانوا وانقادوا إلى ذوي الأدمغة  الكبيرة الشاردة ، والنفوس المجرمة ، بين إلحاد وعلمنة ونرجسية ، أو قوة مال ٍ وجاهلية ، في شتى نشاطات الحياة ، من سياسة وعلم ظني ، وشعر وأدب  وفن ، وأخلاق  ، كل ذلك مما تمارسه أبالسة الأقلام  أو  أبالسة  الإعلام  ، فسيكون لهم  مصير لا تنفع معه ندامة . والله عز وجل يصور مصيرهم بقوله :

          { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ . وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ . سورة الأحزاب الآيتان ( ٦٦ ـ ٦۷)} .

 

الفوارق في الأدمغة :

================

          كما رأينا بخصوص المفاعل الذي هو المخ ، فإن الفارق التقريبي بين وزن دماغ الإنسان ومتوسط دماغ القردة العليا هو :  ١٣٦٠ ـ ٣٦٠  = ١٠٠٠  غراماً لمصلحة الإنسان ، أي بنسبة واحد عند القردة العليا إلى أربعة أمثال عند الإنسان المتوسط .   

روعة الإنسان بين العقل والنفس والدماغ :

=====================

          إن الدماغ هو  ( اللب ) الأوسع نشاطاً ، أو هو المفاعل الأعلى خطراً في عالم الجواهر المادية . فهو مركز التبليغ والترجمة والتفسير ، إضافة إلى الإحساس  والذاكرة ،  والعواطف والقدرة على الحركة . فإن ضاق عن العقل  ، تحوَّل إلى الآلية والغريزية بنسبة ما يضيق ، وبقيت له هذه الأمور كما هي للدماغ الألكتروني  أو المخلوقات الغريزية الراقية .

          أما العقل ، فهو الروح  المؤيد بعلم الفطرة ،  السابقة على البدن ، ومن ميزاته  إدراك الحقائـق المجردة  ، البسيطة والمركبة ، غير مستقل  عن ربه تبارك وتعالى ، خالد ،  يغضب ويتأذى  ، ولكنه لا يتعب  ولا يتعذب ، . تأخذ منه خلايا الدماغ  توجيهاً وتعليماً وهداية حسب استعدادها ، يرجع إلى ربه ، والنفس هي التي تسعد  أو تشقى ، ووظيفته دعوة النفس إلى خالقها الله الذي لا إلـه إلا هو ، ومقاضاتها  بتعاليمه سبحانه ،  مبيناً لها الحق من الباطل ، والمطلوب من السلوك  في معراج العبادة .  موصلاً إياها  إلى أعلى  درجات اليقين والعلم ـ في حدود العقل الإنساني  ـ والسعادة  الحقيقية في الدارين ـ قول أحد العارفين : لو عرف الملوك  سعادتنا لقاتلونا عليها  بالسيوف .

 كل ذلك  برموز تفهمها  جميع لغات البشر  ولهجاتهم .  هذه الرموز  يقوم  الدماغ بترجمتها  بناءً على ما علِّم ولقِّن ،  ليقدمها للنفس باللغة  التي ترتاح إليها ، وذلك  أثناء التزام  النفس بكلية البدن والجهاز العصبي . أما إذا تحررت النفس ، فلا تعود بحاجة  إلى الدماغ ، ولكنها تحتفظ بأدائه ،  وتفهم لغة الرموز الكونية  بدون ترجمة ، فضلاً عن إمكانية تعبيرها بأية لغة شاءَت لم تكن تعلمتها في حالة  الارتهان .

          وإن العلاقة  بين العقل والدماغ ، هي علاقة الطاقة الغيبية الموجهة لبرمجة مفاعلها  الأرقى في جواهر المادة . والنفس هي التي تسبب انفتاح الدماغ على العقل  أو انغلاقه دونه ، أو جعله في حالات  بين الحالتين . يعني يكون  هذا الواقع المتكيف ، رهن بمدى إقبال الإنسان على ربه ، أو تباعده عنه جلَّت عظمته .

          وفي حال  تلبس النفس بكفر ٍ أو شرك ٍ أو استكبار ، أو الوقوع  في هوىً أو إثم ، ينشغل الدماغ والنفس بالحدث منصرفين عن العقل ، فتفقد النفس بذلك الهداية والسَّداد والرشاد ، وتحاول الاستئثار  ظالمةً بموقع القيادة ، مأذوناً لها بذلك تبعاً لاختيارها وتنكرها لولاية الله ورعايته ، فيتخلى عنها الله امتهاناً وإمهالاً وتحجيماً ، وليس إهمالاً وتفويضاً ، وفيها قال سبحانه :

          { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا . قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا .  سوة الشمس الآيات ( ٧ ـ١٠) } .

          ومن حيث رعايته سبحانه ، للأنفس البارة النقية المجاهدة ،  وخذلانه للأنفس  الجاحدة المعاندة البهيمية في الحياة الدنيا وعند الموت ، وحين الإنتقال من محطة الأنفس ، هذه  الأرض الدنيا ، إلى الأرض العليا على اختلاف درجاتها  ، قوله تبارك وتعالى في الأبرار :

          { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ سورة النحل الآية ٣٢ } .

          { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ . ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً . فَادْخُلِي فِي عِبَادِي . وَادْخُلِي جَنَّتِي . سورة الفجر الآيات ( ۲۷ ـ ۳۰ ) } .

          وقوله سبحانه في أهل الضلالة :

          {… وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ . سورة الأنعام  الآية ۹۳ } .

          وهنا  يخطر سؤال مهم ، وهو كيف يكون مستوى الإنسان الفكري والإنساني عامة ، إذا  هو لم يقلع  عن غيه ولم يعقل ؟ والجواب ، ولو أنه قد مرَّ موزعاً خلال البحث ، إلا أنه ينبغي  إيجازه بالقول : يكون شأنه كشأن حيوان ٍ راق ٍ متحضر ، متعلم ، أمثال الأنواع العليا من القردة ، إنما يميزه  شكله وذلاقة لسانه وقلمه ، وكثرة الأرقام التي يتعامل معها ، والمهارات التي يباشرها  في شتى حقوله ، وكذلك  حجم دماغه المتناسب مع بدنه . وقد تتراوح  هذه الحالة بين التضيُّق في التعامل مع العقل ، مع رحمة الله وسمائه وأسمائه ، وبين تجافي الإنسان  وتباعده عنها ، ثم انقطاعه بشكل نهائي ، حيث لا يفلح بعد ذلك كيد في إذهاب غيظ ،  قوله تعالى :

          { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ . سورة الحج الآية ۱۵ } .

حقيقة الإدراك من الذرَّة إلى المجرَّة :

===================

          لا شك أن العقل هو الميزة الكبرى التي تميز الإنسان عن سائرالمخلوقات ، إلا أن هذا لا يعني  عدم الوعي أو الإدراك النسبي  لدى المخلوقات غير العاقلة ، من الجمادات إلى النبات  إلى الحيوان ، إلى الإنسان الذي سخَّر له الله ما في السماوات وما في الأرض  جميعاً منه سبحانه .

          والحقيقة ، إنه ثبت بوضوح ، أن لا شيء في الكون المعروف ،  له صفة الجمود الحقيقي ، من الذرة إلى المجرة ، بل الأشياء كلها في حركة دائمة دائبة . حتى تماسك الحديد  الظاهري ، ليس هو كما نحسُّه  ونفهمه ، بل هو ربما بالنسبة لمخلوق أرقى من الإنسان ، وأكثر إحاطة وأبصر ، سيبدو مختلف المظهر والملمس ، وقد تظهر  ذرات الحديد لهذا المخلوق الأعلى من الإنسان ، كما تظهر لنا نحن ، عبر التلسكوب ، المجموعة الكوكبية  في أبعادها عن بعضها في حركتها المتصلة .

          المناظير  المكبرة والمقربة العجيبة ، التي  علمها الله للعلماء ، تحكي حكايا  من هذا القبيل . ومن هنا أيضاً ، إن لهذه الأشياء  نسب من الوعي ، درَّجها فيها  خالق كل شيء ، المحيط بكل شيء الله العلي القدير .

          ومن الأهمية بمكان ، معرفة أن الإنسان مجرداً من العقل ، هو أرقى وعياً وإدراكاً وغرائز ، من جميع الكائنات المحسوسة . أما بالعقل ، فهو أقدس من ذلك ، إذ أن العقل صلتـه مع خالق الأكوان الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر . فأرضنا هذه التي نحن عليها والصخور التي فيها ،  والجمادات ( ظاهرياً ) لها نسبة من الوعي. إلا أن النبات أظهر حياة  وإحساساً  ، كما أن الحيوان درجته وميزاته على النبات واضحة . وهكذا ترجح المعطيات عند الإنسان على الجميع ، وعياً وإدراكاً وغرائز ، وإرادة ومنهجية . وكل ذلك بدون العقل ، فالعقل أقدس من كل ذلك .

          وهكذا ، فلم يعد عبثاً ، أو مجـازاً ، فهمنا لقول الله عز وجل  ، للسماوات والأرض :

          { … اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ . سورة فصلت الآية ۱۱ } .

          وقوله تعالى :

          { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا . سورة الإسراء  الآية ٤٤ } .

          ثم قوله عز وجل :

{ وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ . سورة يونس الآية ٦١ } .

          فإذن نستنتج  من الآية الأولى أن الأشياء واعية ، والحقيقة أنه لا معنى  لتسبيح الأشياء  وهي لا تعي ما تفعل   .

          حتى الحياة ، هي  مفهوم نسبي أيضاً ، فكما نفهم الحياة للإنسان وللحيـوان والنبـات بدلالة الحركـة وردود الفعل  ،  فكذلك هي للجمادات ( الظاهرية ) ، وحتى  لأرضنا هذه وللشمس والقمر  وبقية الأجرام  السماوية ، وذلك أيضاً في صريح قول الله عز وجل في الآية الثانية .

          فكل  هذه المجسمات ،  من الإنسان  إلى المجرات  إلى  بقيـة   الكائنات الأرضية والسماوية ،  مبنية على الذرة ، أو النظام الذري . وأصبح معلوماً وببساطة أن في الذرة حركة لأجزائها لا تهدأ .  و ( الكتاب المبين )  المذيلة به الآية الكريمة ،  هو الحقائق الباطنية للأشياء ، فضلاً عن حقائقها الظاهرية ، ومن قبيل ذلك  ، التركيب الذري للكون وأجزائه ، بما في ذلك أسرار الذرة  وأسرار أجزائها .

          وهكذا فإن جميع ما في هذا الكون متناغماً ، متناسقاً ، يسبح بحمد ربِّ      ذه ، واعياً مدركاً حقيقةً لا مجازاً . إلاَّ البشر ، فإنهم انقسموا فريقين : فريقاً للجنة وفريقاً للسعير .

          إن درجات الوعي في الكائنات ، هي حقائق مرهونة بالألوان والأشكال . والجواهر هي معاني الحقائق وتفاعلها ونتائجها وتوجهاتها ضمن النواميس الإلهية . ندرك  أن فيها  من وجوه الحكمة ، وإظهار  سلطان العقل ، وقوة النفس  إذا انقادت إليه وانعتقت به ، فتحررت من حبس ما تحت السماوات السبع إلى سدرة المنتهى ، مرتمسةً بنوره منغمرة ً برحمته ، على أنفاس مشتاق ٍ إلى الله الحبيب الأبدي ،  في صعوده  يخترق السماوات بصوته يقول : لا إلـه إلا الله .

          بلى ، هكذا فإن من خصائص العقل ، أن تنفتح له السماوات بإذن الله الحبيب الأبدي . وهذا لا يقال عن النبات أو الحيوان أو الإنسان اللارباني . فالنبات ليس له قدرة على فهم الحيوان ، أو الإفادة منه ، والحيوان يفهم النبات ومنافع النبات فيقبل عليه وكذلك يتفاعل مع أبناء جنسه ، ولكن دائماً موجهاً بدافع الغرائز ، توجهاً لا يخالفه مختاراً أبداً ، وذلك لأنه  ليس لديه الملكة التي تحدد له المسار والهدف ، يعني ليس عنده خيارات لأن ذلك  يحتاج إلى نفس فيها قابلية أن تستلهم وتختار ، كما هي الحال عند إنسان النوع قبل أن يصبح ربانياً ، فإذا أصبح ربانياً ،  تصنَّف درجة عليا دونها درجة إنسان النوع وما دونه نزولاً في سلم الخلق .

          من مهمات العقل وحده إذن ، المنهجية التي تؤدي إلى  الكمال ، الكمال الذي يتناسب مع العقل ، هذا الذي  يسود ما دونه ، ويقود إلى الأبقى والأجمل .

          ورضوان من الله أكبر لو كانوا يعلمون .

الإنسان مثلَّث النفس :

=================

          من خلال مشاهداتنا  واتفاق أكثر الفلاسفة  الاسلاميين ، واستئناساً  بكتاب الله  وعرضاً عليه ، ثبت لنا  بفضل  من الله تبارك وتعالى أن لذات الإنسان ثلاث أنفس  ،  بينما هي أربع للرسل والأنبياء والأولياء .

          أما الثلاث فهي : النامية المادية ، والحسية البهيمية ، والملهمة  فجورها وتقواها .

          وأما الرابعة التي هي للرسل والأنبياء  والأولياء  إضافة  لهذه الثلاث  ، فهي النورانية  الملهمة .

١ـ       فالنامية المادية ، هي البدن بحركاته العضوية ، الداخليـة والخارجية ، ولها  خاصية التنامي فالتناهي إلى الضعف ، وماهيتها هي المقصودة  بقوله تبارك وتعالى :

                  

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . سورة غافر الآية ٦٧ } .

۲  ـ     والحسية البهيمية ، هي الجهاز  العصبي ، من الدماغ  إلى النخاع الشوكي  إلى أدق تشعباته العصبية في جسم الإنسان ، وقد قلنا عن الدماغ إنه المفاعل الأعلى خطراً في جواهر المادة ، وأنه هو مركز التبليغ والترجمة والتفسير ، إضافة إلى الإحساس ـ سيما الحواس  الخمس ـ والذاكرة والعواطف المتضادة .

۳  ـ     والملهمة فجورها وتقواها ، هي حقيقة الإنسان ، وجوهـره الباقي  ،  ووجهه الذي لا يفنى  ، المقصود بقوله تعالى :

         

         { … كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ… . سورة القصص الآية ۸۸ } .

                   وبقوله تعالى :

{ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا …  سورة الروم الآية  ۳۰ } .