كما تكونون يولىَّ عليكم

أهمية القائد عند الله

فهو يقود إما إلى جنة إما إلى نار

” كما تكونون يولىَّ عليكم ”  قالها رسول الله محمَّد (ص) .

          هذا الحديث  يمكن أن يكون إجابة على السؤال : لماذا  يرضى الله بقادة للشعوب والعساكر ، ملوكاً وغير ملوك ، وهم من أهل  الطغيان أو الفساد أو الجور ، فضلاً عن شركهم أو كفرهم ؟

ولماذا لا يهيء الله سبحانه للشعوب قادة صالحين ،  يقودونهم على صراطه المستقيم ؟

          هذه التساؤلات صحيحة ، وكذلك الأجوبة ، انطلاقاً من هذا الحديث  المنطقي ، الذي يصدقه القرآن الكريم  : ” كما تكونون يولىَّ عليكم “.

          فنحن لكي لا نستعرض أمثلة من التاريخ الماضي أو المعاصر، وما أكثر المصاديق والنماذج ، في طبائع الشعوب  وملوكهم وقاداتهم ، مما نعي ونرى من الماضي والحاضر ، نكتفي بمثال ٍ واحد من كتاب  الله ، يكفينا  الغوص حول أسرار هذه الأسئلة المعقدة .

          مصر ، كانت في حقبة من الزمان ، مركز  الحضارة في العالم ، وقد حكم المصريون  الوثنيون وإلى آماد متطاولة أكثر العالم المعروف  آنذاك  سواء مما حولهم  من أفريقيا من جهة ومن آسيا من جهة أخرى . أي ما يعرف بمنطقة الشرق الأوسط  . ويبدو بقوة ، أن أخبارهم  التي ذكرها  القرآن ، عن بعض مراحل تاريخهم ، تصوِّر حقيقة شعب منقاد ٍ بأهوائه ومزاجيته ووثنيته ، إلى ملك ، هو   نص‍َّبه ، فقاده عبر انتصارات عسكرية وكذلك حضارية .. إلى جهنم .

          والسؤال هنا ، ما دام الله عادلاً ورحيماً ، فلم  لم يجعل  قائدهم  أو مليكهم أو يجعلهم  هم من المهديين الصالحين ، فيحكموا العالم  بالعدالة والرحمة والدعوة إلى التوحيد .. توحيد الله .

          في الحقيقة ، كما هو واضح في القرآن ، أن الله سبحانه فعل ، إذ لما وجدهم كذلك  شعباً وملوكاً ، جفاة ً طغاة يؤلهون فراعينهم الدهاة المتجبرين المتكبرين المفسدين في الأرض ، أرسل لهم  رسولاً لينقذهم مما هم فيه ويهديهم إلى منطق العدل والعقل وإلى رحمته . أرسل لهم موسى عليه السلام :

          ففي القرآن الكريم قوله سبحانه :

          { ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين . إلى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب . سورة غافر الآيات ( ۲۳ ـ ۲٤ ) } . واضح هنا ، أن المقصودين كانوا برسالة الله تبارك وتعالى ، هم زعمـاء البلاد : الرجل الأول ، أو الرياسة الأولى في الأمة ، والرجل الثاني  في الحكم ، ثم إلى مركز السيطرة المالية والإقتصادية المتمثلة بقارون .

          وواضح كذلك في تاريخ الحكومات الاستبدادية وحتى الديمقراطية  السائدة كما رأينا ونرى في القرن العشرين ، أن الحكام الذين هم من الدرجة الأولى يشكلون ما يشبه العصابة ، يتعاضد فيها سلطان النفوذ مع سلطان المال ، وما دام لا يلجم هذه الأنواع من التحالفات أو العصابات ، رادع ديني أخلاقي ، فإنها  تتحول  إلى مافيات  إرهابية  بثياب  رسمية  ،  تحكم  البلاد  والعباد ، وتقود الشعوب ، معظمها ـ كما سنرى في القرآن ـ إلى جهنم .

          ولا ننسى أن هذا التحالف ، قد يكون مع رجال دين نافذين مثل رؤساء الأديان وسدنة المعابد والهياكل وبيوت العبادة سواء على مستوى الوثنية ، أو  بعض ، بل أو كل الأديان السماوية إذا أفرغت من جواهرها ، وعمل بها بالبدع  والنفاق والتستر باسم الدين أو بثياب  الدين .

          وقليلة جداً هي الثورات الشعبية في التاريخ  القديم أو الحديث ، التي انتفضت فيها الجماهير ضد طواغيتها ، ولعلَّ أبرزها وأعظمها  في التاريخ ثورتان ، الثورة الفرنسية التي دمدمت على التحالف المتمثل بالسلطة  ورجال المال أي الإقطاع ، ورجال الدين الذين زوروا الدين المسيحي وسخروا الكنيسة لجشعهم وبدعهم .

          ولا بدَّ أن نلفت إلى أن الثورة الفرنسية ، لأنها لم تقم على أسس روحية ، بل هي  تنكرت أصلاً لهذه الأسس ، لعدم قدرتها آنذاك على تفسير الدين المسيحي الحقيقي ، ولنقمتها الشديدة على رجال الكهنوت . فقد  وقعت في مطبات وكوارث وكثير من سفك الدماء والإنقلابات  المتتالية  منها عليها ، حتى انتهت بعد مخاضات  عسيرة ، إلى صيغة علمانية ،  استبعدت فيها الدين عن الدولة .

          أما الثورة الثانية ، التي أثرت عميقاً ، على السياسة العالمية ، وزلزلت أركان الاستبداد الاستعماري ، بجميع أشكاله العسكرية والثقافية والاقتصادية ، والتي أنعشت تطلعات الشعوب  المصعوقة  بالحضارة  المادية  ،  والمسحوقة  تحت  عجلات قطارها السريع ، فهي الثورة الإسلامية في إيران . ورغم أن الثورة كانت معجزة بإطارها العام ، وإنما كان ضمن هذا الإطار  معجزات كثيرات ، لعلَّ أبرزها سرعة استقرارها ، والفشل المتكرر والمتلاحق لغزوها عسكرياً ومخابراتياً  واقتصادياً  وثقافياً  وعلى كل  صعيـد . { .. وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ .. سورة الحج الآية ٤۰صدق الله العزيز الحكيم . 

          ” كما تكونون يولىّ عليكم “ كذلك كان هذا الحديث الشريف انطباقياً على الثورة الشعبية الإسلامية في إيران . فإن نسبة التديُّن في الشعب الإيراني المسلم ، وتاريخ التدين والروحانية في هذه الأمة العريقة  بحضارتها وعقلانيتها ، كل ذلك جعل من نتائج  ثورتهم أن ولَّى الله سبحانه عليهم من هو أهل لهم  وهم أهل له ، ولا أعني واحداً فقط بشخصه وصفات القيادة الرائعة التي اختصه بها الله سبحانه أعني الإمام الخميني (س) . وإنما أعني كذلك كل رجل دين شارك في الثورة أو أيدها ولو بقلبه { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ . سورة الأحقاف 19} وكذلك كل مسلم ومسلمة ، وحتى من خارج الحدود الإيرانية ، فالثورة كانت بطلة ، معجزة ، وكان بطلاً كل من هلل لها وكبَّر وصاح بشعارها : الله أكبر . وهو التوحيد الأعظم .

          فالقيادة الحكيمة المجتمعة فيها كل أو معظم الصفات التي تمكنها أن تقود شعباً أو أمة أو أية مجموعة بشرية إلى شرف الدنيا والآخرة ، ليس مقدراً لها أن تنجح ، إذا لم تجد بيئة صالحة وأنصاراً صالحين ، نوعية وعددا .

          والعكس صحيح ، إذا وجد الصالحون  الكافون لتغيير وضع مـن طغيان وفساد ،  إلى  عدل  وصلاح ، ولم يكن بينهم  قيادي موفق  من الله وملهم ، فإن المجتمع يبقى في نوع من الفراغ  وفقد الراعي في المجال الإنساني .

          ولأهمية القيادي عند الله تبارك وتعالى ، إذ أنه قد يقود قوماً إما إلى جنة إما إلى نار . فقد رأينا أن الله سبحانه أرسل إلى ثلاثة من القادة ، الذين يحكمون أمة ضخمة ، بل أمماً ، أرسل إليهم وبالتالي  إلى شعبهم  رسولاً من أولي العزم ، هو موسى عليه السلام .

          ولكن طواغيت الأمة هؤلاء ، وكأكثر طواغيت الحكم في بلاد الدنيا ، أخذتهم العزة بالإثم ، فكذبوا موسى ، وأنكروا رسالة الله إليهم وإلى شعبهم ، وتعالوا وتجبروا ، رغم آيات معجزات ، أبداها لهم الله سبحانه على يد موسى (ع) . فأضلوا شعبهم وقادوه  ـ كما سنرى ـ  إلى الهلاك ثم إلى النار والعذاب المؤبد .

          وللمقارنة وأخذ العبر ، نرى موسى (ع) في المقابل عبداً لله مطيعاً ، يحرص بكل ذرة في كيانه على طاعة مولاه الله عز وجل . فيقود قومه إذ اتبعوه ، ويخلصهم بعون الله وقضائه من الذل والقتل والمهانة التي كانوا يرزحون تحت وطأتها في حكم فرعون .

          قد يقال موسى نبي وفرعون ليس بنبي ، فنقول هناك جوابان : الأول أن الناس سواسية في الفهم والاعتقاد والاتباع ، وبكلمة واحدة هم سواسية في الاختيار ، فلماذا اتبع فريقٌ  فرعون  واتبع فريقٌ موسى ؟! والجواب الآخر هو إنه حتى النبيّ  ذو العزم  المميز والصفات القيادية  العالية  ،  قد  يخونه  أتباعه ويكفروا ويتفرقوا ، كما فعل بنو إسرائيل  حيث عبدوا عجلاً معدنياً نحته لهم أمام أعينهم أحد الصنَّاع .

          يبقى الكلام المهم ، عن مدى التأييد الإلـهي لنوعية القائد أو خذلانه في الدارين . والخذلان في الدار الآخرة أمرُّ وأخزى .

          ففرعون وزملاؤه  في الحكم ، برغم  ما هو عال ٍ في الأرض ، قوي بعصابته ، وجيشه واتساع ملكه وسلطانه ، وعبادة شعبه له ، فقد  حطَّه الله من شاهق ، هو وزبانيته وجميع أتباعه وعامة شعبه الذي أساء  الاختيار . فكفروا حتى بما أبصرت أعينهم ، فضلاً عن منطق العقل ، وعظائم ما خلق لهم الله  في السماوات والأرض .

          فذلوا بعد عز وعيش كريم ، ثم إلى أين بعد الهلاك ؟

          وفي ثلاث آيات بينات تختصر أبعاد الحدث التاريخي الذي أراد منه سبحانه أن يكون عبرة للحكام ولتابعيهم فيما بعد من حياة البشرية . وتلخص مدى مسؤولية القيادي ومدى مسؤولية من يتبعه من الناس ، وضرورة  أن يرى كل إنسان مصيره ، هل هو إلى عذاب دائم أم إلى نعيم مقيم .

          وهذه الآيات هي قوله تبارك وتعالى :

          { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى . فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ . وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى . سورة طه الآيات ( 77 ـ 79 ) } .

     فمن قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي ..} تستفاد عبرة عظيمة يجب أن يتوقف عندها كل قائد وكل مقود أو تابع . وهي أن يكون القائد ربانياً متبعاً لتعاليم الله باسمه يقود وإلى صراطه يدعو وفي سبيله يجاهد ، ويقود الذين يقودهم ـ عالماً عارفاً بالله ـ إلى شرف وكرامة الدارين الدنيا والآخرة .

          أما قوله تعالى : { .. فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا .. } فهي طريق الحياة الواضحة المعالم  ، التي يسلكها  السالكون ، وهم على يقين  وعلى بينة من استقامتها  وسلامتها ، لكي لا يغرقوا في بحر الحياة ومتاهاته  وظلمة لججه وعنف أمواجه .

          وقوله تعالى : { ..  لاَ تَخَافُ دَرَكًا وَلاَ تَخْشَى . } فيها  إخبار لموسى عن حاله ، فالله أعلم بنفس موسى من موسى بنفسه ،  فهو سبحانه إذن طمأنه إلى هذه الحقيقة ، وهي أنه في هذه الآونة البينة الخطر ، وبعد أن كان موسى يخاف في بدء تدرجه في تكاليف النبوة والرسالة . أصبح اليوم أكثر إدراكاً ويقيناً  بأن الله عزت عظمته معه ، حاضر بقوته المطلقة وعزته التي لا تحاول ولا تطاول ، وقد رأى بالأمس كيف دكَّ أمامه الجبل دكاً وخرَّ موسى صعقا ، وكيف  أنه جل شأنه خذل السحرة وأذهلهم  وهدم عزة فرعون  التي أقسموا بها ، ورأى موسى .. ورأى ..  ما جعله اليوم أثبت أركانا وأعظم يقيناً بنصرة ربه له وبخذلان عدوِّه ، فهو إذن لا يخاف أن يلحق به فرعون وجيشه ولا يخشى من البحر ومفاجآته ، بعد أن جمَّده الله له وادياً بين جبلين كأنما بنيا من الحجارة .

          واندفع هذا  القائد بين الجبلين متوكلاً على الله ، لا يخاف دركاً ولا يخشى ، واندفع وراءه قومه ، كذلك متوكلين على الله كما علمهم هذا  القائد الفذ ، وكذلك غير هيابين ، لكثرة ما رأوا من أفضال الله عليهم ومن آياته وعجائبه .

          وهنا يظهر مدى تأثير القيادة سلبية كانت أو إيجابية ، على حق كانت أو على باطل ، والنموذجان في بحثنا هذا حاضران موسى عليه السلام وعدوه عدو الله فرعون . هذا قاد قومه إلى ولاية الله ورضاه ورضوانه ما داموا في طاعته ، وذلك قاد قومه إلى العداوة لله وإلى غضبه  وانتقامه .

          وهنا تظهر بقوة ، الضرورة ، ضرورة المعرفة ، أولاً معرفة الله جلَّ وعلا ، ثم بعدها بقية المعارف ، وأعلاها بعد معرفة الله ، معرفة القائد لنفسه ، أعلى حق هو أم على باطل ، أفي طاعة ربه هو وعلى بينة منه ، أم أنه يخبط خبط عشواء ، فيلقى بعدها في جهنم . وكذلك مدى مسؤولية الأتباع وضرورة أن يتريثوا طويلاً قبل اتباع أي قائد أو زعيم أو إمام ، وأن يعرفوا بمستوى اليقين لا الاشتباه ، ولا الظن ، أإلى الله ورضوانه يقودهم أم إلى الهاوية .

          والمثال على الحالة السلبية ، هذا أحد الطواغيت ، جعله الله سبحانه نموذجاً يعتبر به ويقاس عليه : قال تعالى في سياق الآيات :

          {  فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ  } .

          هكذا في الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل . فلماذا نقم فرعون وهامان وقارون وقومهم من موسى ؟ نقموا منه أنه يؤمن بالله العزيز الحميد ، نقموا منه ومن أتباعه ذلك . وكالعادة بين أهل الباطل وأهل الحق . أرسل فرعون جنوده  بأثر موسى وقومه ، والتحق هو بهم بكوكبة من فرسانه . وكذلك بصدد سنة الله في أعدائه ، حيث يخذلهم ويذلهم ويخزيهم ، فقد خذل فرعون وتابعيه وأذلهم وأخزاهم ، إذ أدخلهم من حيث أخرج موسى وقومه من بين الجبلين  المائيين ، فأنجى هؤلاء ، وأطبق الجبلين على فرعون وجنوده ، بعد أن تكاملوا عدداً في هذا الوادي من الخضم الزاخر ، هكذا خضم الحياة الدنيا وأوديته وجباله وأمواجه ، فقادة وأتباع ينجون بولائهم لله وخشيته وحبه ، وقادة وأتباع يهوون في الأودية ، أو تمزقهم الأمواج العاتيه ، فيكون لهم خزي في الدنيا وفي الآخرة عذاب أليم . وذلك بكفرهم أو بشركهم أو بعدم تقصيهم للحق وأهله .

          ثم كانت في الآيات البينات ، خلاصة  الخلاصة ، قوله تعالى:

{ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى . } . وصدق الله العزيز الحكيم .

          فـ{ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ . سورة النمل الآية 59} .

          الحمد لله قبل كل شيء وبعد كل شيء . الحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً  ، هذه الصيغة { الحمد لله }  هي الثقل الوحيد في الميزان الذي يملكه الإنسان  ،  في إحدى الكفتين ، في مقابل عطاءات الله ونعمه التي لا تحصى ، وأنه سبحانه  سخر  للإنسان ما في السماوات والأرض ، في الكفة الأخرى . وماذا يستفيد الله عز وجل من كلمة { الحمد لله } ، سوى أنها إخلاص له سبحانـه ، وإقرار بنعمه ووحدانيته ، وهو الملك الحق  المبين ، خالق الخلق ومالك الملك ، والغني عن العالمين .

          أما قوله تعالى : { .. وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى .. } ففيها من رحمته ورأفته وعنايته ، وحتى من حبه للمخلصين من عباده ، الشيء الكثير ، والشأن العظيم .

          ولماذا ؟ للفرق بين اختيارين لرجلين كليهما من طينة واحدة ، أحدهما اختار أن يكون كافراً طاغية فاسداً مفسدا ، والآخر اختار أن يكون مؤمناً مخلصاً صالحاً مصلحا . فالله  سبحانه يلعن الطاغية ويبعده من رحمته ، ويقرِّب الصادق المؤمن ويصطفيه ، ويقول له  سلام مني عليك ، فهل أجمل وهل أغلى من هذا السلام ، والله سبحانه ، هو السلام ومنه السلام وبه السلام .

          فرعون أشرك بالله نفسه ، حتى إنه جحد الله تعالى وأعلن نفسه إلـهاً .. وليس بعيداً  عن فرعون كل من يجعل نفسه محور اهتمامه وشهواته وأطماعه ومصالحه وجمعه المال واستقطابه الناس ليرضي طموحه وكلبه على الدنيا ، فهو كافر من ناحية ومشرك من ناحية ، كافر بنسيان خالقه ورازقه ومحييه ومميته ، ومشرك بأن جعل لنفسه عدة أرباب منها المال والجاه والناس ..

          والمؤمن  الصدِّيق ، يبذل نفسه حباً بالله وجهاداً في سبيل الله ويسترخص كل ما دون الله تعالى ويزهد . يعلم أن كل شيء يملكه هو ملك لله ، حتى نفسه ، لذلك تراه عند الإقتضاء يجود بها غير مبال بالعواقب : ” والجود بالنفس أسمى غاية  الجود ِ”.

          وإذا كانت مفردات الشرك التي يتعبد لها أهل الشرك والجحود ، هـي هذه : الإنسان ، النفس الأمارة ، مظاهر القوى في الطبيعة ، مراكز القوى في الأرض ، ملوك ، زعماء ، وحتى الأنبياء والأولياء ، إذا عبدوا  من دون الله  أو  دُعوا  من دون الله ،  كل هذه المفردات  من الإنسان إلى جميع ما خلق الله  في الأرض أو في السماء ، مجتمعة ومتفرقة ، لا تعادل في قاموس الألوهة والعزة والكبرياء ، إلا كلمة ، هي : باطل ، . قال عزَّ وعلا : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ . سورة لقمان الآية 30 } وقال رسـول الله محمَّد (ص) : أصدق كلمة قالتها العرب ، هي قول لبيد : ” ألا كل شيء ما خلا الله باطلُ “.

          لذلك  قوله تبارك وتعالى : { ءََإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ . سورة النمل آية 63 } وتعالى علواً كبيراً ، له الحمد وله الشكر كما حمد نفسه وكما شكر نفسه وكما ينبغي لكرم وجهه .