بحث يدحض النظرية العقلية في الفلسفة الإسلامية :
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }(سورة التغابن ، الآية 2).
نحاول في هذا البحث ، بإذنه تعالى ، أن نثبت أمرين : الأول ، أنه قبل الحياة الدنيا ، كان الناس في مكان ما وزمان ما ، فريقين كفاراً ومؤمنين . والأمر الثاني ، أن الجميع أهبطوا إلى هذه الأرض ، وبعضهم لبعض عدو ( أما لماذا أهبط المؤمنون ، فلأنهم عصوا وتابوا ، وكفر الآخرون ، وسنفصل ذلك إن شاء الله في نهاية هذا الباب ) . معتمدين لإثبات الأمرين المذكورين ، على خمسة أدلة رئيسة من القرآن المجيد ( عدا ما يلحق بها في السياق ) وعلى ثلاثة نصوص ، عن ثلاثة من آل بيت النبوة عليهم السلام : الإمام عليّ ، والإمام الحسين ، والإمام زين العابدين ، صلوات الله عليهم أجمعين .
(1) ـ قوله عز وجل :
{ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَض عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }( سورة طـه ، الآيتان ( 123 ـ 124 )).
فبخصوص هذه الآية الكريمة ، هناك ادعاءان :
أولهما : أن الخطاب لثلاثة : آدم وحواء وإبليس .
ويدل على وهنه قوله تعالى { اهبطا } ، فإذا كان إبليس فريقاً ، فما معنى قوله سبحانه : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } … والمعلوم أن إبليس عليه اللعنة ، أصرّ على كفره واستكباره بصريح النصوص . فلا معنى إذن من مخاطبته بالقول {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـم مِّنِّي هُدًى } وبالقـول : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } فواضح أنه لا يمكن أن يكون مقصوداً بالخطاب في هذه الآية أو في أشباهها كما سنرى فيما سيأتي .
الثاني : أن الخطاب لشخصين فقط ، هما آدم وحواء ، دون غيرهما من الأبناء والذرية.
وهذا مردود أيضاً ، لأنه سبحانه استعمل صيغة المثنى { اهبطا } ثم أتبعها بصيغة الجمع { يأتينكم } . وصحيح أنه يجوز خطاب الإثنين ، لغة ، بصيغة الجمع للتوقير والإحترام ، ولكن المورد هنا ليس كذلك ، بل هو مورد العقوبة . فلو كانا في هذا المورد اثنين فقط ، لكان قال سبحانه { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـما مِّنِّي هُدًى … } .
فنخلص من ذلك كله ، إلى حقيقة أن الخطاب كان لجمعين: آدم وزوجه، أي الذكور والإناث ، ومثله قوله تعالى :
{ … فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }(سورة فصلت ، الآية 11).
علماً أن الأرض سبعة أجرام . وكذلك قوله عز وجل :
{..وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا..}( سورة البقرة ، الآية 255) .
وهما جمعان ، فقال ( حفظهما ) بصيغة الإثنين .
على أن هذه الآية التي بدأت بصيغة المثنى ( قال اهبطا ) يقابلها ثلاث ، بخصوص نفس الموضوع ، بصيغة الجمع ( اهبطوا ) كما سنرى وقبل أن يتسرب للظن ، أنهما اثنان وإبليس معهما فإصبحوا جمعاً ، نعود فنذكّر ، بأن قوله تعالى في الآية :
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـم مِّنِّي هُدًى …} .
لا يمكن أن يشمل إبليس ، وهو قد أبلس (َئِسَ ) من رحمة الله تعالى ، ولو كان موجهاً لآدم وزوجه حواء ، فقط ، لكان قال سبحانه { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـماَ مِّنِّي هُدًى …} مستثنياً إبليس ، باعتبار ثبوت اللعنة عليه ، وهي الإخراج من رحمة الله ، ووعده بتخليده بالعذاب .
ثم نعود ، فنقول إنهم بعد الإهباط ، وعـدهم سبحانه بأن يأتينّهم بهدىً من عنده :
{ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } …
ـ قبل الإهباط ، وبعده ـ وهذا الإستنتاج ، سيصدم الفهم التقليدي ، ولكن مع تحرير الفكر مستعيناً بالله .
{ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى … } .
ومن أعرض عن الذكر ـ الذي هو الهدى ـ في السابق ، فله تجربة الحياة الدنيا ، وباب التوبة مفتوح أبداً ، وباب الرحمة أوسع .
ومن أعرض عن الذكر ، في النشأة الأولى وفي النشأة الثانية ، فقد حرم هو نفسـه من رحمـة الله تعـالى ، وفوّت على نفسـه فرصـة التوبـة ،متفلسفاً ، أو مقلداً ، بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير . مما ينتج عنه المعيشة الضنك ، والعمى يوم القيامـة ، يعني عيـش الغفلة والبهيميـة والتـأزم ، ويوم النشـور يحجبه صدوده عن الرحمـة ، وآثامه وكفره ، وعدم توبته ، عن مصدر العفو والعافية الأبدية ، فيسقط في الظلام الأبدي ، هكذا ، مختاراً ، جهاراً نهاراً :
{ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }(سورة آل عمران ، الآية 117) .( صدق الله العظيم ).
وفوق ذلك كله ، يبدو أن الأمر أبلـغ وأعمـق ، فالذين آمنوا قبـل الإهباط ، وكأنه محسوم أمر هدايتهم بعد الإهباط . أما العكس فصحيح . ولعل هذا يلقي ضـوءاً على قول رسول الله صلى الله عليه وآله ، الذي ، بسبب من عدم فهمـه ، حـاول الكثيرون ردّه أو تضعيفـه ، أو في أحسن الحالات تجميده . والحديث الشريف هو قوله صلى الله عليه وآله : ” السعيدُ سعيدٌ في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه ” .
وهنا ، ينبغي لجلاء الأمر ، إعطاء فكرة كافية مقنعة بما نشير إليه ، أن نذكِّر بالأحد عشرة آية من بداية سورة ( يس ) ، وهي السورة التي أَلْفَتَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله إلى تميـزها بقوله ” لكل شيء قلب وقلب القرآن سورة ( يس ) ” .
فلنرجع إلى المرجع ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولنتأمل بخشوع وتدبر وروية هذه الآيات ، ولا نكوننّ ممن عناهـم سبحانه بقوله :
{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }( سورة محمد ، الآية 24) .
ولا من الذين قال تعالى فيهم :
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } (سورة لقمان، الآية 21) .
وآيات ( يس ) التي ندعـو للتأمل فيها ، تشهد لنفسها ، لغناها عن البيان . ولعلنا في ضوئها نفهم نسبة صحة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله قوله : ” السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه ” .
وتزول غرابة ما نرمي إليه ، إذا تأملنا ضمن هذه الآيات الكريمة خاصة في قوله تبارك وتعالى :
{ لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } (سورة يس، الآية 7).
وقولُه عز شأنه :
{وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }(سورة يس، الآية 10) .
2) ـ قوله تبارك وتعالى :
{ ..وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ .. } (سورة البقرة، الآية 36). { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ..}(سورة البقرة، الآية 38) .
تكرار هذه الصيغة تجده في بضع آيات تتعلق بنفس الواقعة ، وفيه لغة الجمع ومبدأ العداوة .
ومصداق ذلك ما نراه مستمراً بين ولد آدم في تواريخ الأمم ، والتاريخ المعاصر ، وطبعاً إلى قيام الساعة .
والذي يحلم منا ، بمرحلة من الزمان يكون فيها النعيم على هذه الأرض ، فهو مشتغـل بروايـات ما أنـزل الله بها من سلطـان ، منسوبـة زوراً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأئمة الهدى عليهم السلام ، وبينما القرآن يردها وينفيها ، نراهم ، إما يفسرون القرآن بموجبها ، والعكس هو المطلوب ، وإما يخوضون فيها خوضاً شنيعاً ويجعلون القرآن وراء ظهورهم .
ونعود لنقول إن النشأة الثانية هذه ، في الأرض الدنيا ، هي من حيث العداوة بين فريق الخير وفريق الشر ، يبدو أنها صورة مكررة عن النشـأة الأولى.
وهذه العداوة كانت عبر نوح وإبراهيم ولوط وهود وصالح عليهم السلام وأقوامهم ، ثم موسى وعيسى عليهما السلام ، ثم الخاتم محمد صلى الله عليه وآله ، وفي ذلك قول الله عز وجل :
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ }(سورة الفرقان ، الآية 31).
والملاحظ بشكل مدهش ، عبر القصص القرآني ، دائماً ، القلة النوعية من المؤمنين ، المنتصرة بالله عز شأنه ، والكثرة الكاثرة من الكافرين ، المخذولة من الله عز وجل .
ويستمر صراع النقيضين : المؤمنين والكفرة ، في المحطة الثانية أرضنـا هذه :
{ .. لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً.. }(سورة الأنفال ، الآية 42 ).
3) ـ قول الله عزّ وجل :
{ قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون . وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }( سورة البقرة ، الآيتان ( 38 ـ 39 )) .
كذلك ، بخصوص أن الناس كانوا قبل الحياة الدنيا ، أيضاً نلاحظ عبـارة :
{ فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } .
التي قلنا إنها تحمل معنى الماضي . وكذلك عبارة :
{ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } .
والقرآن كما هو معلوم له ظهور وبطون .
وقد حمّلهما سبحانه معنى ( الماضي ) قبل هذه الدنيا ، إرشاداً لواقع الحـال . وأما المستقبل الذي هو بعد الإهباط ، فجلّيٌ في قوله تعالى :
{ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } .
وكلا الأمرين الإهباط وتجديد الهداية ، ما هما إلاّ تفضل منه وتكرم وحجة على رحمته الواسعة التي هي الغايةُ من خلقه ، والتي صدّ عنها من صدّ ، وكفر بها من كفر ، وما أراد بها سبحانه إلاّ إسعادهم ، وهو تبارك وتعالى بغنىً عنهم وعن عباداتهم وعن طاعاتهم وعن جميع ما خلق ومن خلق ، قوله سبحانه الكبير المتعال :
وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }(سورة الرعد ، الآية 13).
وقوله عز شأنه :
{ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }(سورة التغابن ، الآية 6 ).
4) ـ قوله عزّ شأنه :
{ قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(سورة الأعراف ، الاية 24).
إن إهباط الكفرة للأرض كان إمعاناً في إلقاء الحجة عليهم .
ولماذا لم يُنْزِلْ بهم العقوبة سبحانه قبل الإهباط ؟ لأن القضية قضيـة تخليد في العذاب ، والأمر جلل . ولأن رحمته سبحانه تسبق غضبه .
أما إذا كان الإصرار على استدعاء غضبه ، والإعـراض عن رحمتـه ، والتعرض لنقمته ، فالكافر هو يستعجل العذاب في هكذا حال. والله عـز وجل يعطيه فكرة عملية ، عن العذاب والآلام ، سواء عبر العداوة لأهـل الحق ، وما يتعرض له الكفار من خزي وعنـت وخذلان ، أو عـبر شتى الإبتلاءات التي تلحق بالمؤمنين ، ثم مقارنة ذلك كله ، بتذوق ألوان المتع والسعادات .
والإنسان ملزم في ذلك بالإستنتاج عقلاً ، أن عذاب الله عز شأنه ، في الآخرة هو العذاب الأكبر الأبدي ، وأن نعيم الله تبارك وتعـالى ، في دار البقاء ، هو النعيم الأبهى والأشهى والأرغد والأخلد .
ونستفيد استعجال الكافر العذاب ، وتأكيده سبحانه أن وعده الحق آت ولو بعد حين، رغم تأجيله النقمة بالرحمة ، مع النذير بشدة العذاب ، لعلّ الكافر يرعوي ، أو يثوب إلى رحمة ربه ، من قوله تبارك وتعالى :
{ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } (سورة الحج ، الآية 47 ) .
وإشـارة إلى طـول العـذاب لمن أعرض عن رحمة الله تبارك وتعالى ، وجه من وجوه قوله عز شأنه :
{ وَإِنَّ يَوْمًا } .
معنى ذلك أنه يوم من أيام عديدة . أبو عبد الله الصادق عليه السلام ألقى عليها الضوء في حديث : ألا فحاسبوا أنفسكم قبـل أن تحاسبـوا فإن
في القيامة خمسين موقفاً كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ثم تلا هذه الآية :
{ … فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }(سورة المعارج ، الآية 4 ).
وفي المجمع روى أبو سعيد الخدري قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله : ما أطول هذا اليوم ! فقال : ” والذي نفس محمد بيده أنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا “(الميزان ، المجلد العشرون ، ص 12).
والفرق العظيم الهائـل ، بين حـال من يعرض عن ربه وعن رحمة ربه ، وبين من يقبل عليه سبحانه ، وعلى رحمته عابداً ساجداً شاكراً ! …
ذلك هو الفرق بين أقصى درجات الشقاء وأعلى درجات السعادة .
* ولماذا أمرنا بدعوة الكفار إلى الله وإلى دينه الحنيف ؟
* كذلك لإلقاء الحجة وإبراء الذمة .
* ولماذا كان إهباط المؤمنين ؟
* لاستكمال التوبة ، وللأخذ بأسباب القوة على أساس دين التوحيد ، لضبط
المجتمعات ، وعمارة الأرض ، وتحقيقاً لوعده سبحانه بالإستخلاف. وزيادة
في أجر المؤمنين في المجاهدة ، وحمل الأمانة ….
ثم نظرة في قوله عز وجل :
{ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }(سورة الذاريات ، الآية 55 ) .
تفيد أن غير المؤمنين مستثنون .
أما إلقاء الحجة وإبراء الذمة ، فيجعلنا غير قادرين غالباً على ضبطهم ، حيث إنهم في حال تمكن المؤمنين ، يتسترون بالإيمان ، ويلبسون لباس التقوى وهم ألدّ الخصام .
فإلقاء الحجة عليهم يكون من المؤمنين من جانب ، ومن اللباس الذي هم
تلبسوا فيه من جانب آخر .
أما إبراء الذمة ، فتلبية لأمره . عز وجل ، قوله تعالى :
{ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }P(1) P.
فلحكمة منه سبحانه في جعلنا أيضاً غير قادرين غالباً على التمييز ، بين من هو مؤمن ومن هو كافر أو منافق .
ومن وجوه حكمته في ذلك ، الرحمة بالفريقين ، لأنه إذا رفع الغطاء عن الكفرة ، انكشفت حقائقهم عن قردة وكلاب وخنازير ، منها من يحكم ، ومنها من يساكنك ويؤاكلك ، وتعالج معه شؤون الساح وشؤون المجتمع ، فكيف تكون الحالة والعيش معهم إذا أطلوا بهذه الحقائق من تحت الجلود ؟! …
لذلك سبحانه احتفظ بعلم ذلك وحجبه عنا ـ إلاّ لمَََـَاماً ـ حيث يتفضل تعالى بشيء من ذلك إذا كان فيه مصلحة للعباد . أما القاعدة العامة في هذا الصدد فهي قوله تبارك وتعالى :
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}( سورة النحل ، الآية 125) ً
*ولماذا ،أيضاً،كان اهباط المؤمنين؟
*فوق ما ذكرناه مختصراً : للتزود بالباقيات الصالحات ، استعداداً لتلبية أمره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه :
{ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي }(سورة الفجر ، الآيات ( 27 ـ 30 ) ).
{وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(سورة الأحقاف ، الآية 19).
5) ـ وأخيراً وليس آخراً ، من أدلة القرآن الكريم على ما نحن في صدده
_ إذ ما يزال في القرآن الكثير من الأدلة الدامغة على ما نقول _ هذه الآية المدهشة ، قوله عز شأنه :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ . أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا …}(سورة القصص ، الآيات ( 52 ـ 54 )) .
قبل أن نرصد في هذه الآيات الكريمة ، نشأة أولى قبل نشأة الحياة الدنيا هذه ، يجب أن نحل عقدة في آية مشهورة هي قوله عز وجل :
{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(سورة النحل ، الآية 78).
وشهرة هذه الآية الكريمة عائدة إلى كون كثير من الكتاب الإسلاميين في مجال التفسير عامة ، وفي مجال الفلسفة خاصة ، كثيراً ما يعتمدون عليها كدليل قوي يستدلون به على كون الإنسان لا يملك أية معلومات سابقة قبل خلقه على هذه الأرض .
ومن هنا كان إسقاط نظرية المُثُل عند أفلاطون (1)، وكذلك مقولات (كانت)(2) و (ديكارت) وغيرهمـا في هـذا المجال ، ومقاربـة آراء الحسيـين مثل ( بيكون ) ، والخروج بنظرية الانتزاع وما شاكلها .
(1) أفلاطون ( 427 ـ 347 ق.م.) فيلسوف مثالي يوناني وتلميذ لسقراط ومؤسس المثالية الموضوعية . حارب التعاليم المادية ولكي يتمكن من تفسير الوجود أنشأ نظرية عن وجود الصور الخالدة للأشياء سماها ( المُثُل ) أو الأفكار ، ووحَّدَ بينها وبين الوجود ، ووضع في مقابل ( المُثُل ) العدم الذي هو المادة والمكان … ( المراجع ) .
(2) اعتبر أرسطو المقولات Categories أنها الأحوال الرئيسية للوجود إذ رصد عشر
على أنه في معزل عن الفلسفة التي لا نتحمس لها لا من قريب ولا من بعيد ، نبقى مع القرآن المجيد ، لنتابع القول ، أنه في مجال تعارض الأدلة القرآنية إذا رجح المحكم على المتشابه أخذ بالمحكم ، ثم وجوب النظر في عدد الأدلة الصريحة ، من حيث الكثرة في مقابل دليل واحد ، أو أدلة قليلة يكتنفها الغموض .
ويظهر الغموض في آية :
{ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا..} .
كلما أمعنا النظر في الآيات السابقات ـ مما ذكرنا ومما لم نذكر كثير ـ ولكن الغموض ينجلي بقليل من التأمل والمقارنة :
فعوداً إلى قوله تعالى في آية الإشهاد :
{.. أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } .
يبدو أنها الغفلة الطبيعية، بسبب رحلة ما بعد الإشهاد ، وصدمـة الإهباط :
{.. قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً } .
والسفر في الأصلاب والأرحام عبر ظلمات ثلاث ، والظاهر أنه بديهي أن يخرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ، وهم في حالة ما يشبه فقد الذاكرة ، إلاّ أنه لا بدَّ من تذكر الحقائق العليـا ، التي نـوه عنها سبحـانه في آية الإشهاد وآية الفطرة وآية إقرار الأنبياء والآيات التي فصلنا في هـذا البحث ، سيّما الدليل الخامس . والمتأمل في سياقات القرآن الكريم يجد الكثير من المدهشات ، التي يصبح معها خبر :
{ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
مقولات ( الجوهر الكيف الكم … إلخ ) أما المقولات عند كانت الذي طوَّر المذهب المثالي ، فهي أشياء قَبْلية للتأمل والعقل . ونظر هيغل Hegel إلى المقولات في تطورها الجدلي ولكنها في مذهبه أشكال ومراحل مثالية في تطور الفكرة المطلقة التي تخلق العالم الواقعي ، ويجـري تجاهل المقولات في الفلسفة المثالية المعاصرة .. ( تراجع الموسوعة الفلسفية … بإشراف م . روزنتال و ب . يودين … دار الطليعة بيروت ، 1967 ص 449 ) .
قضية مرحلية في بداية العمر ، بعد السفر الطويل في الزمان والمكان ، والصدمات بين إهباط وتحويل وولادة .
نعم ، لا بد من تذكر الحقائق العليا ، ولكن لكي يتم التذكر ، لا بدّ من مثيرات ، تماماً كما يحصل للناس الأسوياء في حياتنا العادية ، حيث إنهم يتعلمون أموراً عقلية وبراهين ثم ينسونها فإذا هم سمعوا ، أو رأوا ، أو شعروا ، أو فكروا بما يذكرهم بها ، تذكروها . والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى .
وعلى ذلك نبّه الله سبحانه في آية { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئَاً } بقولـه عز شأنه :
{ وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } .
وهذه الجوارح خلقها عز وجل ، لغايات ومصالح وفوائد ، تكاد لا تحصى ولكن لعل أهمها وأبرزها ، التذكر . إذ لولا التذكر ، والذكر ، والذاكرة ، لما صمد علم ولا فقه ولا دين عند الإنسان ، ولضلّ الإنسان حتى عن نفسه ، وعمن وعما حوله ، فضلاً عن بقية الضلالات .
من هنا أصبحت الآيات الثلاث في الدليل رقم (5) أبلغ حجة ، وحقيقة النشأة الأولى قبل نشأتنا في هذه الحياة الدنيا ، أكثر إشراقاً .
فمن يدعي في معنى قوله عز وجل :
{ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ }(سورة القصص ، الآية 52 ) .
والكلام عن القرآن المجيد ، والخبر فيه تعميم ، من يدعي أن المقصود بذلك هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؟ وهل يزعم عاقل تدبر القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي ، أن أهل الكتاب هؤلاء ، آمنوا بالقرآن المجيد ؟ إذن ما قضية جدال اليهود ومعاندتهم وكذبهم، وتحريفهم الكلم عن مواضعه ، ثم مساعدتهم لأهل الشرك ومؤامراتهم ، وبعد ذلك كله كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وللمسلمين .
وما قضية حرب المسلمين لبني القينقاع وبني النضير وبني قريظة واجتياح حصونهم .
ثم النصارى ووفدهم الرئيسي وجدالهم الذي تعنتوا فيه حتى كانت قضية المباهلة .
وبعد ذلك كله كيف يقال إن هذه الآية الكريمة تعني اليهود والنصارى وإنهم آمنوا بالقرآن الكريم ؟ إذن هم أسلموا وهذا خلاف الواقع التاريخي والواقع الراهن .
وكذلك قوله تبارك وتعالى في الآية الثانية :
{ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (سورة القصص ، الآية 53).
وهذا المعنى قطعاً لا ينطبق لا على اليهود ولا على النصارى ، ولا على أي أهل كتاب غيرهم في حياتنا الدنيا هذه . ونعود لنلفت النظر إلى أن الكلام فيه تعميم .
ثم الآية الثالثة وهي الأعجب ، قوله عز وجل :
{ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } …
أي اليهـود والنصـارى ، حسب التفسير التقليدي ، وعلى ذلك فإن الكافر الأصلي يؤتى أجره مرة واحدة ، إذا هو صدّق بالقرآن وأسلم ، وهو لا يملك أية مقومات دينية أو إيمانية ، بينما الذي يملك مقومات ، وهو المفروض به أن يسارع إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وما أنزل الله عليه من القرآن ، نراه يؤجر مرة زائدة على الكافر الأصلي . وهذا خلاف منطق العقل السويّ . وشرع الله عزّ وجل ، فُصِّل كفاية للعقول السوية ، فإذن هذا يخالف شرع الله تبارك وتعالى .
إذن ما معنى هذه الآيات الثلاث الكريمة ؟
لم يبق هناك مجال لأي افتراض . إذن الحقيقة هي نشأة أولى قبل نشأة الحياة الدنيا هذه، والمقصود بالآيات الثلاث ، أولئك الذين أوتوا الكتاب في النشأة السابقة فصدَّقوا به وآمنوا ، ثم صدَّقوا بالقرآن الكريم وآمنوا ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين ، والحمد لله رب العالمين .
أما النصوص الثلاثة التي كنت وعدت بها فـي مطلـع هـذا البحث فهي :
* في ( دعاء الصباح ) لأمير المؤمنين قوله عليه السلام ، مصلياً على محمد وآل محمد :
ـ صـلّ اللهم على الدليل إليك في الليل الأليل ، والماسك من أسبابك بحبل الشرف الأطول ، والناصع الحسب في ذروة الكاهل الأعبل ، والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول …
* ( دعاء عرفه ) للإمام الحسين عليه السلام ، وهو من الأدعية الطوال ، وشهرته عائده لكونه كنـز لا يثمّن ، من شفيف المعاني ، وحرارة التوجه ، وصدق التبتل وصفاء العبرة ، ورقة النبرة ، إلى معان يشعر معها الإنسان المؤمن ، بمدى حبه العظيم لخالقه العظيم عز شأنه وجلت قدرته، وبشوق إلى رحمة الله ونعيمه تصغر معه هذه الأرض ، حتى لتغدو لعباد الله الأحرار ، سجناً مُمِضّاً ، مُمِلاًّ خانقاً يحنون فيه لفك القيد والانعتاق.
وفي هذا الدعاء ، دليل على المطلب الذي نعالجه منذ بداية البحث ، وهو قول الإمام الحسين عليه السلام :
ـ … لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي له يسـرتني ، وفيـه أنشأتني ومن قبل ذلك رأفت بي بجميل صنعك وسوابغ نعمك ، فابتدعت خلقي من منيٍّ يمنى ، وأسكنتني في ظلمات ثلاث من لحم ودم وجلد ، لم تُشهدني خلقي ، ولم تجعل لي شيئاً من أمري ، ثم أخرجتني للذي سبق لي من الهدى إلى الدنيا تاماً سوياً ، وحفظتني في المهد صبياً …
* أما النص الثالث للإمام زين العابدين عليه السلام ، فهو أيضاً ( دعاء عرفه ) الخاص به ، وهو الإمام السجاد ، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، عليهم السلام ، من دوحة طيبة زكية طاهرة مطهرة ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها . وهذا الدعاء في الصحيفة السجادية ، التي ما زالت تكتب فيها الشروح والتعليقات ، وهي على كثرتها ، لم تف بعد ببعض بعض فضل الله تبارك وتعالى على العباد فيها .
والدليل الذي نريد ، هو قول الإمام السجاد عليه السلام :
ـ اللهم وأنا عبدك الذي أنعمت عليه قبل خلقك له ، وبعد خلقك إياه ، فجعلته ممن هديته لدينك …
ونحن لم نعلق على النصوص الثلاثة لوضوح المطلب ، وآخـر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .