بين يدي كتاب ” العقل الإسلامي ” بقلم الدكتور علي مقلِّد

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الأبرار

 

        الحمد لله

 وبعد

        تيسر لي بحمد الله مراجعة كتاب ” العقل الإسلامي ” للعلامة الشيخ عبد الكريم آل شمس الدين . وأحب أن أدوِّن مشاعري بعد أن انتهيت من قراءته الأولى وأقول الأولى لأني أرغب إن تيسر لي الأمر في مطالعته ثانية وأكثر .

         فالكتاب يعطي القارىء نفحة إيمانية فريدة .

        وبتواضع أقول إني مكرّس وقتي لمراجعة الكتب الدينية بمذاهبها المختلفة وبخاصة الأحاديث النبوية الشريفة . ولكني لم أحسّ بعظمة التوحيد وأهميته في الإسلام كما أحسسته عند مراجعة هذا الكتيب الصغير الحجم إذا قورن بغيره في موضوعه .

         فهل سرّ هذا الكتاب نابع من بلاغته .

         والبلاغة حسن الأداء بأخصر الكلام وأوجزه .

         هل في الكتاب أسرار من القرآن ، والآيات القرآنية لحمته وسداه ومبدأه ومنتهاه . والقرآن لا تنضب معاجزه .

 ـ        هل في الكتاب ارتقاء في فهم مراتب التوحيد إلى أعلاها .

        وللتوحيد كما هو معلوم مراتب أربع وربما أكثر :

ـ        توحيد المنافقين الذين يظهرون بألسنتهم التوحيد وقلوبهم خالية منه .

ـ        توحيد المقلدين الذين يذكرون التوحيد بألسنتهم  ويؤمنون به لا عن تفكير بل بالوراثة  وبحكم مماشاة  الناس فيما يقولون .

ـ        توحيد الممحِّصين الذين يحاولون جهدهم الإهتداء إلى أدلة عقلية صحيحة تثبت ما ورثوه من معتقد بالتوحيد . وهؤلاء تحكمهم مخافة الله وتقواه فهم يسألون الله الهداية إلى  صراطه المستقيم وهم على خوف دائم من أنفسهم وعلى إيمانهم أن ينازعهم الشيطان فيه .

ـ        وأخيراً توحيد العارفين ، وهم الذين تجاوزوا مرحلة الشك إلى اليقين ، فأعانهم الله عز وجل على أنفسهم فأزهر مصباح الهدى في قلوبهم ، وخلعوا سرابيل الشهوات من نفوسهم ، أبصروا الطريق المستقيم فسلكوه مطمئنين .

وسيكون واضحاً لمن يطالع هذا الكتاب  بتجرد من أية رواسب أو تعصب لغير الله ، أو هوىً مضل  ، أو مزاجية سوداوية ، أن الشيخ عبد الكريم آل شمس الدين واحد من هذه المرتبة ، مرتبة العارفين الذين هزموا الشيطان بعون ربهم ووهبوا أنفسهم لله عز وجل وتبارك وتعالى .

                هل سر الكتاب كان في الروح الإشهادية والإستشهادية المنبعثة من طياته فكأن الشيخ شدته أكثر من غيره في عصره تكاليف آيات الإشهاد والإستشهاد الواردة في القرآن الكريم :

 

              { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ … }. ( البقرة /143)

{ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ، وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ }.( أل عمران 140ـ 141)

فكلمة شهداء في الآية الثانية لها معنيان : الأول الذي في  الآية  الأولى وهو الإشهاد , والثاني وهو الإستشهاد أي بذل النفس في سبيل الله على سن رمح أو سيف أو على سن قلم ، أو كلا الجهادين الأصغر والأكبر معاً . ويبدو أن الله عز وجل أراد هذه  الملابسة  بين الجهادين ، أي بين الجهادين وغاية كل منهما .

وهنا تتجلى روعة حديث  رسول الله صلى الله عليه وآله  في هذا الشأن :

” مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء ” أو كما قال  صلى الله عليه وآله . ونفس هذا الذي نقوله  نجده تقريباً في جميع الآيات التي وردت فيها كلمة شهادة أو شهيد أو شهداء. ونكتفي للدلالة بالآيتين التاليتين ، قوله  تعالى :

 { وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } . ( الزمر/69)

وقوله عز وجل :

 { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلىأَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} .               (النساء/135)

ويكاد قارىء ” العقل الإسلامي ” يشك بين كون الكاتب ، بسيف كتب أم بقلم، وبحبر غمس  أم بدم  كربلائي .

بل هو التوحيد في الكتاب  فوق كل شيء ، يقيناً  إن السر هنا في معطيات الكتاب:  في جمال ديباجته وعمق مضامينه . والسر  هو توفيق  الله وتأييده  وتسديده للشيخ المؤلف .

 وهذا  الكتاب بما فيه من دعوة إلى الله  الذي هو غاية  الغايات ، خير شاهد على أن الله  سبحانه يهدي  إلى مقاليد أرضه وسماواته من يخلص له نيته وقلبه  وعبادته في كل زمان ومكان ، ومن  هذه المقاليد  ، القلم  :

 { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } .  ( القلم/1)

والملاحظ والمعلوم ، أنه عز وجل يقسم بكثير مما خلق ، ولكن يقسم بما هو حق وبما هو خير  .  وهو إذ يستحيل أن يقسم  بباطل ،  فإن قسمه إذن (… وما يسطرون ) يعني  ما يسطرون من الحق وما يسطرون من الخير  وما يسطرون من الجمال الذي لا فحش فيه ولا رذيلة  ( ولا جدال بالباطل ليدحضوا به الحق ) ولا كفر ولا شرك  ، ولا تهتك ولا تميّع ولا فلتان ، ولا بدع في الدين ولا ضلالات .

وتبقى  { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } أوسع وأرحب مساحات من مساحة الفن للفن  والفكر الضارب خبط عشواء . فـ ( خبط عشواء ) تبقى مهما حلّق فيها الفكر وجنّح فيها الخيال محصورة  تحت  هذه السماء الدنيا ، بينما مساحات ومسافات { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } عرضها السماوات والأرض ( من فعل عرض وليس العرض مقابل الطول ) أعدت للمتقين ، يجوبونها بالفكر وبالخيال ، وبعضهم بالنفس  وبالروح ، ثم يوماً ما ـ لجميع أهل الزلفى ـ  بالواقع الحسي المطلق الجناح والجمال .        

                وفي جميع هذه الحالات يعطون مقاليدها أو من مقاليدها :

               { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } . ( الأحقاف/19)

                وهكذا نجد الكاتب  والكتاب في ظل هذه الآية  الكريمة  {  نّ وَالْقَلَمِ  وَمَا يَسْطُرُونَ }، يستعرضان الكون الأرحب ، ومنه السبع سماوات وما فيهما وما بينهما،

        دليلهما الأوثق ، هادياً ومسدداً ومعلماً ومرشداً ، كلام الله : أي القرآن الكريـم .

                ترى ذلك في مواضيع الكتاب التالية :

  • ( القرآن بين العقل والكون ) .
  • ( كتابان في كتاب الله : القرآن والفلك ) .
  • ( القرن العشرون الميلادي في مواجهة أشراط الساعة ) .

ـ        فهل هذا الذي ذكرت هو سر الكتاب ، أم أن سر الكتاب يكمن في قدرته على شدّ القارىء كي يمعن النظر جيداً في مصيره في الدنيا وفي الآخرة ، هذا المصير الذي يتهرب  كل منا من النظر فيه مخافة أو جهلاً أو تقصيراً .

ـ        أم تصديه لمواضيع تلّح في أذهان الخاصة ولكنهم يتهربون منها  إلى التلهي بطروحات لا تجرح الرأي العام : كموضوع : القرآن والعلوم الحديثة ، القرآن والحضارة ، القرآن وعلم الفلك …. وبخاصة موضوع المهدي : وأن الله عز وجل هو صاحب العصر والزمان دون غيره .

        لا شك أن فرادة الكتاب وجاذبيته تكمن في كل ما ذكرنا . ولكن سرّ سره ، هو أن الكاتب انطلق فيه مسترشداً بالله وحده دون جميع خلقه ، ولم لا، وهو سبحانه يقول : 

 {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }. ( الطلاق / 2 ـ 3 )

 أما غايته من كتابه هذا كما بدا لنا ، فهي أولاً أن يرفع إليه حبه الأعظم ، ثم المحبة المخلصة للناس ، محبة الشاب المندفع بإخلاص ، محبة العالم الموحد المخلص في توحيده لله ، محبة الإنسان المحب للإنسانية  جمعاء .

 يوضح ذلك، ما أوجزه هو في مقدمته التي هي مناجاة محب مهاجر إلى حبيبه ، أكثر مما هي  مقدمة  للكتاب  ،  وفيها يسأل ربّنا  الكريم  :  ( فاجعل اللهمّ هذا الكتاب سبيل هداية ورحمة ونجاة ، ورفع درجات لعبادك ) .

 فمن كان الله هاديه ودليله ، ومن كان  الإخلاص في العمل سبيله ، ومحبة الناس بغيته ، فإن التوفيق سيكون حليفه إن شاء الله  .

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين  .