مؤمنون وكفار قبل الدنيا .. أهبطوا إليها جميعاً

  بحث يدحض النظرية العقلية في الفلسفة الإسلامية :

 

       { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }(سورة التغابن ،  الآية 2).

        نحاول في هذا البحث ، بإذنه تعالى ، أن نثبت أمرين : الأول ، أنه قبل الحياة الدنيا ، كان الناس في مكان ما وزمان ما ، فريقين كفاراً ومؤمنين . والأمر الثاني ، أن الجميع أهبطوا إلى هذه الأرض ، وبعضهم لبعض عدو ( أما لماذا أهبط المؤمنون ، فلأنهم عصوا وتابوا ، وكفر الآخرون  ، وسنفصل ذلك إن شاء الله في نهاية هذا الباب ) . معتمدين لإثبات الأمرين المذكورين ، على خمسة أدلة رئيسة من القرآن المجيد ( عدا ما يلحق بها في السياق  ) وعلى ثلاثة نصوص ، عن ثلاثة من آل بيت النبوة عليهم السلام : الإمام عليّ ، والإمام الحسين ، والإمام زين العابدين ، صلوات الله عليهم أجمعين .

(1)    ـ قوله عز وجل :

       { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ  لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى . وَمَنْ أَعْرَض عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى }( سورة طـه ،  الآيتان  ( 123 ـ 124  )).

       فبخصوص  هذه الآية الكريمة ، هناك ادعاءان :

        أولهما : أن الخطاب لثلاثة : آدم وحواء وإبليس  .

        ويدل على وهنه قوله تعالى  { اهبطا } ،  فإذا  كان إبليس فريقاً ، فما معنى قوله سبحانه : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } … والمعلوم أن إبليس عليه اللعنة ، أصرّ على كفره واستكباره بصريح النصوص . فلا معنى إذن من مخاطبته  بالقول  {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـم مِّنِّي هُدًى  } وبالقـول : { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } فواضح  أنه لا يمكن أن يكون مقصوداً  بالخطاب في هذه الآية أو في أشباهها كما سنرى فيما سيأتي .

        الثاني : أن الخطاب لشخصين فقط ، هما آدم وحواء ، دون غيرهما من الأبناء والذرية.

        وهذا مردود أيضاً ، لأنه سبحانه استعمل صيغة المثنى  { اهبطا } ثم أتبعها بصيغة الجمع { يأتينكم } . وصحيح أنه يجوز خطاب الإثنين ، لغة ، بصيغة الجمع للتوقير والإحترام ، ولكن المورد هنا ليس كذلك ، بل هو مورد العقوبة . فلو كانا في هذا المورد اثنين فقط ، لكان قال سبحانه  { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـما مِّنِّي هُدًى … } .

        فنخلص من ذلك كله ، إلى حقيقة أن الخطاب كان لجمعين: آدم وزوجه، أي الذكور والإناث ، ومثله قوله تعالى :

      { … فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }(سورة فصلت  ، الآية  11).

        علماً أن الأرض سبعة أجرام . وكذلك قوله عز وجل :      

{..وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا..}( سورة البقرة  ،  الآية  255) .

       وهما جمعان ، فقال ( حفظهما ) بصيغة الإثنين .

        على أن هذه الآية التي بدأت بصيغة المثنى ( قال اهبطا ) يقابلها ثلاث ، بخصوص نفس الموضوع ، بصيغة الجمع  ( اهبطوا ) كما سنرى وقبل أن يتسرب للظن ، أنهما اثنان وإبليس معهما فإصبحوا جمعاً ، نعود فنذكّر ، بأن قوله تعالى في الآية :

        { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـم مِّنِّي هُدًى …} .

        لا يمكن أن يشمل إبليس ، وهو قد أبلس (َئِسَ ) من رحمة الله تعالى ، ولو كان موجهاً لآدم وزوجه حواء ، فقط ، لكان قال سبحانه  { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُـماَ مِّنِّي هُدًى …} مستثنياً إبليس ، باعتبار ثبوت اللعنة عليه ، وهي الإخراج من رحمة الله ،  ووعده بتخليده بالعذاب .

        ثم نعود ، فنقول إنهم بعد الإهباط ، وعـدهم  سبحانه بأن يأتينّهم بهدىً من عنده :

        { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ } …

       ـ قبل الإهباط ، وبعده ـ وهذا الإستنتاج ، سيصدم الفهم التقليدي ، ولكن مع تحرير الفكر مستعيناً بالله .

        { فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى … } .

        ومن أعرض عن الذكر ـ الذي هو الهدى ـ في السابق ، فله تجربة الحياة الدنيا ، وباب التوبة مفتوح أبداً ، وباب الرحمة أوسع .

        ومن أعرض عن الذكر ، في النشأة الأولى وفي النشأة الثانية ، فقد  حرم هو نفسـه  من  رحمـة الله تعـالى ، وفوّت على  نفسـه  فرصـة  التوبـة ،متفلسفاً ، أو مقلداً ، بدون علم ولا هدى ولا كتاب منير .  مما ينتج عنه المعيشة الضنك ، والعمى يوم القيامـة ، يعني عيـش الغفلة والبهيميـة والتـأزم ، ويوم النشـور يحجبه صدوده عن الرحمـة ، وآثامه وكفره ، وعدم توبته ، عن مصدر العفو والعافية الأبدية ، فيسقط في الظلام الأبدي ، هكذا ، مختاراً ، جهاراً نهاراً :

       { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }(سورة آل عمران ، الآية  117) .( صدق الله العظيم ).

        وفوق ذلك كله ، يبدو أن الأمر أبلـغ وأعمـق ، فالذين آمنوا قبـل الإهباط ، وكأنه محسوم أمر هدايتهم بعد الإهباط . أما العكس فصحيح . ولعل هذا يلقي ضـوءاً  على قول رسول الله صلى الله عليه وآله  ، الذي ، بسبب من عدم فهمـه ، حـاول الكثيرون  ردّه  أو تضعيفـه ، أو في أحسن  الحالات تجميده . والحديث  الشريف هو قوله صلى الله عليه وآله : ” السعيدُ سعيدٌ في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه ” .

        وهنا  ، ينبغي لجلاء الأمر ، إعطاء فكرة كافية مقنعة بما نشير إليه ، أن نذكِّر بالأحد عشرة آية من بداية سورة ( يس ) ، وهي السورة التي أَلْفَتَ رسولُ الله صلى الله عليه وآله إلى تميـزها بقوله ” لكل شيء قلب وقلب القرآن سورة ( يس ) ” .

        فلنرجع إلى المرجع ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولنتأمل بخشوع وتدبر وروية هذه الآيات ، ولا نكوننّ ممن عناهـم سبحانه بقوله :

       { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }( سورة محمد ،  الآية 24) .

 

        ولا من الذين قال تعالى فيهم :

       { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ } (سورة لقمان، الآية  21) .

       وآيات ( يس ) التي ندعـو للتأمل فيها ، تشهد لنفسها ، لغناها عن البيان . ولعلنا في ضوئها نفهم نسبة صحة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وآله  قوله : ” السعيد سعيد في بطن أمه والشقي شقي في بطن أمه ” .

        وتزول غرابة ما نرمي إليه ، إذا تأملنا ضمن هذه الآيات الكريمة خاصة في قوله تبارك وتعالى :

       { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } (سورة يس، الآية  7).

       وقولُه عز شأنه :

       {وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }(سورة يس،  الآية  10) .

2)     ـ قوله تبارك وتعالى :

   { ..وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ .. } (سورة البقرة، الآية  36). { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً ..}(سورة البقرة،  الآية  38) .

        تكرار هذه الصيغة تجده في بضع آيات تتعلق بنفس الواقعة ، وفيه لغة الجمع ومبدأ العداوة .

        ومصداق ذلك ما نراه مستمراً بين ولد آدم في تواريخ الأمم ، والتاريخ المعاصر ، وطبعاً إلى قيام الساعة .

        والذي يحلم منا ، بمرحلة من الزمان يكون فيها النعيم على هذه الأرض ، فهو مشتغـل بروايـات ما أنـزل الله  بها من  سلطـان ، منسوبـة زوراً إلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأئمة الهدى عليهم السلام ، وبينما القرآن  يردها وينفيها ، نراهم ، إما يفسرون القرآن بموجبها ، والعكس هو المطلوب ، وإما يخوضون فيها خوضاً شنيعاً ويجعلون القرآن وراء ظهورهم .

        ونعود لنقول إن النشأة الثانية هذه ، في الأرض  الدنيا ، هي من حيث العداوة بين فريق الخير وفريق  الشر ، يبدو أنها صورة مكررة عن النشـأة الأولى.

        وهذه العداوة كانت عبر نوح وإبراهيم ولوط وهود وصالح عليهم السلام وأقوامهم ، ثم موسى  وعيسى عليهما السلام ، ثم الخاتم محمد صلى الله عليه وآله ، وفي ذلك قول الله عز وجل :

       { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ }(سورة الفرقان  ،  الآية   31).

        والملاحظ بشكل مدهش  ، عبر القصص القرآني  ، دائماً ، القلة النوعية من المؤمنين ، المنتصرة بالله عز شأنه ، والكثرة الكاثرة من الكافرين ، المخذولة من الله عز وجل .

        ويستمر صراع النقيضين : المؤمنين والكفرة ، في المحطة الثانية أرضنـا  هذه :

       { .. لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً.. }(سورة الأنفال  ،  الآية  42 ).

3)     ـ  قول الله عزّ وجل :

       { قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون . وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }( سورة البقرة  ، الآيتان ( 38 ـ 39 )) .

 

        كذلك ، بخصوص أن الناس كانوا قبل الحياة الدنيا ، أيضاً نلاحظ عبـارة :

        { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } .

التي قلنا إنها تحمل معنى الماضي . وكذلك عبارة :

        { وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } .

        والقرآن كما هو معلوم  له ظهور وبطون .

        وقد حمّلهما سبحانه معنى ( الماضي ) قبل هذه الدنيا ، إرشاداً لواقع الحـال . وأما المستقبل الذي هو بعد الإهباط ، فجلّيٌ في قوله تعالى :

        { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } .

        وكلا الأمرين الإهباط وتجديد الهداية ، ما هما إلاّ تفضل منه وتكرم وحجة على رحمته الواسعة التي هي الغايةُ من خلقه ، والتي صدّ عنها من صدّ ، وكفر بها من كفر ، وما أراد بها سبحانه إلاّ إسعادهم ، وهو تبارك وتعالى بغنىً عنهم وعن عباداتهم وعن طاعاتهم وعن جميع ما خلق ومن خلق ، قوله  سبحانه الكبير المتعال :

       وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }(سورة الرعد ، الآية  13).

        وقوله عز شأنه :

       { فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوا وَّاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }(سورة التغابن ، الآية  6 ).

4)     ـ قوله عزّ شأنه :

    { قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}(سورة الأعراف ، الاية  24).

  

        إن إهباط الكفرة للأرض  كان إمعاناً في إلقاء الحجة عليهم  .

        ولماذا  لم يُنْزِلْ بهم العقوبة سبحانه قبل الإهباط ؟ لأن القضية قضيـة تخليد في  العذاب ، والأمر جلل . ولأن رحمته سبحانه تسبق غضبه .

        أما إذا كان الإصرار على استدعاء غضبه ، والإعـراض عن رحمتـه ، والتعرض لنقمته  ، فالكافر هو يستعجل العذاب في هكذا حال. والله عـز وجل يعطيه فكرة عملية ، عن العذاب والآلام  ، سواء عبر العداوة  لأهـل الحق ، وما يتعرض له الكفار  من خزي وعنـت وخذلان  ، أو عـبر شتى  الإبتلاءات  التي تلحق بالمؤمنين  ، ثم  مقارنة ذلك كله ، بتذوق ألوان المتع والسعادات  .

        والإنسان ملزم في ذلك بالإستنتاج عقلاً ، أن عذاب الله عز شأنه ، في الآخرة  هو العذاب الأكبر الأبدي ، وأن نعيم  الله تبارك وتعـالى ، في دار البقاء ، هو النعيم الأبهى والأشهى والأرغد والأخلد  .

        ونستفيد استعجال الكافر العذاب ، وتأكيده سبحانه أن وعده الحق آت ولو بعد حين، رغم تأجيله النقمة بالرحمة  ، مع النذير بشدة العذاب ، لعلّ الكافر  يرعوي  ، أو يثوب إلى رحمة ربه ، من قوله تبارك وتعالى :

       { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } (سورة الحج  ،  الآية  47 ) .

       وإشـارة إلى طـول العـذاب  لمن أعرض عن رحمة الله تبارك وتعالى ، وجه من وجوه قوله عز شأنه :

        { وَإِنَّ يَوْمًا } .

        معنى ذلك أنه يوم من أيام عديدة . أبو عبد الله الصادق عليه السلام ألقى عليها الضوء في حديث :  ألا فحاسبوا  أنفسكم  قبـل أن  تحاسبـوا فإن

 

في القيامة خمسين موقفاً كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ثم تلا هذه  الآية :

       { …  فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ }(سورة المعارج ، الآية  4 ).

        وفي المجمع  روى أبو سعيد الخدري قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله : ما أطول هذا اليوم  ! فقال : ” والذي نفس محمد بيده أنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا “(الميزان ، المجلد العشرون  ، ص  12).

        والفرق العظيم الهائـل ، بين حـال من يعرض عن ربه وعن رحمة ربه ، وبين  من يقبل عليه سبحانه ، وعلى رحمته عابداً ساجداً شاكراً ! …

        ذلك هو الفرق بين أقصى درجات الشقاء  وأعلى درجات السعادة .

*   ولماذا أمرنا بدعوة الكفار إلى الله وإلى دينه الحنيف ؟

*   كذلك لإلقاء الحجة وإبراء الذمة .

*   ولماذا كان إهباط  المؤمنين ؟

*   لاستكمال التوبة ، وللأخذ بأسباب القوة على أساس دين  التوحيد ، لضبط

     المجتمعات ، وعمارة  الأرض ، وتحقيقاً لوعده سبحانه بالإستخلاف. وزيادة

    في أجر المؤمنين في المجاهدة ، وحمل الأمانة ….

        ثم نظرة في قوله عز وجل :

       { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }(سورة الذاريات ، الآية  55 ) .

        تفيد أن غير المؤمنين مستثنون .

        أما إلقاء الحجة وإبراء الذمة ، فيجعلنا غير قادرين  غالباً على ضبطهم ، حيث إنهم في حال تمكن المؤمنين ، يتسترون بالإيمان ، ويلبسون لباس التقوى وهم ألدّ الخصام .

      

فإلقاء الحجة عليهم يكون من المؤمنين من جانب ، ومن اللباس الذي هم 

        تلبسوا فيه من جانب آخر .

        أما إبراء الذمة ، فتلبية لأمره . عز وجل ، قوله تعالى  :

       { ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }P(1) P.

       فلحكمة منه سبحانه في جعلنا أيضاً غير قادرين غالباً على التمييز ، بين من هو مؤمن ومن هو كافر أو منافق .

        ومن وجوه حكمته في ذلك ، الرحمة بالفريقين ، لأنه إذا رفع الغطاء عن الكفرة ، انكشفت حقائقهم عن قردة وكلاب وخنازير ، منها من يحكم ، ومنها من يساكنك ويؤاكلك ، وتعالج معه شؤون الساح وشؤون المجتمع ، فكيف تكون الحالة والعيش معهم إذا أطلوا بهذه الحقائق من تحت الجلود ؟! …

        لذلك سبحانه احتفظ بعلم ذلك وحجبه عنا ـ إلاّ لمَََـَاماً  ـ حيث يتفضل تعالى بشيء من ذلك إذا كان فيه مصلحة للعباد . أما القاعدة العامة في هذا الصدد فهي قوله تبارك وتعالى :

{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}( سورة النحل ، الآية  125)   ً        

*ولماذا ،أيضاً،كان اهباط المؤمنين؟

        *فوق ما ذكرناه مختصراً : للتزود بالباقيات الصالحات ، استعداداً لتلبية أمره سبحانه وتعالى في قوله عز شأنه :

       { يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ  ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً  فَادْخُلِي فِي عِبَادِي  وَادْخُلِي جَنَّتِي }(سورة الفجر ، الآيات ( 27 ـ 30 ) ).

 

 {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}(سورة الأحقاف ،  الآية  19).

5)     ـ وأخيراً وليس آخراً ، من أدلة القرآن الكريم على ما نحن في صدده

_ إذ ما يزال في القرآن الكثير من الأدلة الدامغة على ما نقول _ هذه الآية المدهشة ، قوله عز شأنه :

       { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ . وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ . أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا …}(سورة القصص ، الآيات  ( 52 ـ 54 )) .

        قبل أن نرصد في هذه الآيات الكريمة ، نشأة أولى قبل نشأة الحياة الدنيا هذه ، يجب أن نحل عقدة في آية مشهورة هي قوله عز وجل :

       {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }(سورة النحل  ، الآية  78).

        وشهرة هذه الآية الكريمة عائدة إلى كون كثير من الكتاب الإسلاميين في مجال التفسير عامة ، وفي مجال الفلسفة خاصة ، كثيراً ما يعتمدون عليها كدليل قوي يستدلون به على كون الإنسان لا يملك أية معلومات سابقة قبل خلقه على هذه الأرض .

        ومن هنا كان إسقاط نظرية المُثُل عند أفلاطون (1)، وكذلك مقولات (كانت)(2) و (ديكارت) وغيرهمـا في هـذا المجال ، ومقاربـة آراء  الحسيـين مثل ( بيكون )  ، والخروج بنظرية الانتزاع  وما شاكلها .

  (1)      أفلاطون ( 427 ـ 347 ق.م.) فيلسوف  مثالي  يوناني  وتلميذ لسقراط  ومؤسس  المثالية   الموضوعية . حارب التعاليم المادية  ولكي يتمكن من تفسير الوجود  أنشأ  نظرية  عن وجود    الصور الخالدة للأشياء سماها ( المُثُل ) أو الأفكار ، ووحَّدَ  بينها وبين الوجود  ،  ووضع  في    مقابل ( المُثُل ) العدم الذي هو المادة والمكان  …   ( المراجع )  .

(2)      اعتبر أرسطو المقولات  Categories  أنها  الأحوال  الرئيسية  للوجود  إذ  رصد عشر 

        على أنه في معزل عن الفلسفة التي لا نتحمس لها لا من قريب ولا من بعيد ، نبقى مع القرآن المجيد ، لنتابع القول ،  أنه في مجال تعارض الأدلة القرآنية إذا رجح المحكم على المتشابه أخذ بالمحكم  ، ثم وجوب النظر في عدد الأدلة الصريحة ، من حيث الكثرة في مقابل دليل واحد ، أو أدلة قليلة يكتنفها الغموض  .

        ويظهر الغموض في آية :

        { وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا..} .

        كلما أمعنا النظر في الآيات السابقات ـ  مما ذكرنا ومما لم نذكر كثير ـ ولكن الغموض ينجلي بقليل من التأمل والمقارنة :

        فعوداً إلى قوله تعالى في آية الإشهاد :

       {.. أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } .

        يبدو أنها الغفلة الطبيعية، بسبب رحلة ما بعد الإشهاد ، وصدمـة الإهباط :

       {.. قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً } .

        والسفر في الأصلاب والأرحام عبر ظلمات ثلاث ، والظاهر أنه بديهي أن يخرجوا من بطون أمهاتهم لا يعلمون  شيئاً ، وهم في حالة ما يشبه فقد الذاكرة ، إلاّ أنه لا بدَّ من تذكر الحقائق العليـا ، التي نـوه عنها سبحـانه في آية الإشهاد وآية الفطرة وآية  إقرار الأنبياء والآيات التي فصلنا في هـذا البحث ، سيّما الدليل الخامس .  والمتأمل في سياقات القرآن الكريم يجد الكثير من المدهشات ، التي يصبح معها خبر :

        { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا } .

 ــــــــــــــــــــــــــــــ

          مقولات ( الجوهر الكيف الكم … إلخ ) أما المقولات عند كانت الذي طوَّر  المذهب المثالي ،     فهي أشياء  قَبْلية للتأمل والعقل . ونظر هيغل Hegel إلى المقولات في تطورها الجدلي ولكنها    في مذهبه أشكال ومراحل مثالية في تطور  الفكرة المطلقة التي تخلق العالم الواقعي  ، ويجـري   تجاهل المقولات في الفلسفة المثالية  المعاصرة .. ( تراجع  الموسوعة الفلسفية … بإشراف م .  روزنتال و ب . يودين … دار الطليعة بيروت ، 1967 ص 449 ) .

        قضية مرحلية في بداية العمر ، بعد السفر الطويل في الزمان والمكان ،  والصدمات بين إهباط وتحويل وولادة .

        نعم ، لا بد من تذكر الحقائق العليا ، ولكن لكي يتم التذكر ، لا بدّ من مثيرات ، تماماً كما يحصل للناس الأسوياء في حياتنا العادية ، حيث إنهم يتعلمون أموراً عقلية وبراهين ثم ينسونها فإذا هم سمعوا ، أو رأوا ، أو شعروا ، أو فكروا بما يذكرهم بها ، تذكروها . والأمثلة على ذلك أكثر  من أن تحصى .

        وعلى ذلك نبّه الله سبحانه في آية  { لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئَاً } بقولـه عز شأنه  :

        { وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } .

        وهذه الجوارح خلقها عز وجل ، لغايات ومصالح وفوائد ، تكاد لا تحصى ولكن لعل أهمها وأبرزها ، التذكر .  إذ لولا التذكر ، والذكر ، والذاكرة ، لما صمد علم  ولا فقه  ولا دين عند الإنسان ، ولضلّ الإنسان حتى عن نفسه ، وعمن وعما حوله ، فضلاً عن بقية الضلالات  .

        من هنا أصبحت الآيات الثلاث في الدليل رقم (5)  أبلغ حجة ، وحقيقة النشأة الأولى قبل نشأتنا في هذه الحياة الدنيا ، أكثر إشراقاً .

        فمن يدعي في معنى قوله عز وجل :

 

       { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ }(سورة القصص  ، الآية  52 ) .

       

والكلام عن القرآن المجيد ،  والخبر فيه تعميم ، من يدعي أن المقصود بذلك هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ؟ وهل يزعم عاقل  تدبر القرآن الكريم والتاريخ  الإسلامي ، أن أهل الكتاب هؤلاء ، آمنوا بالقرآن المجيد ؟ إذن ما قضية جدال اليهود ومعاندتهم وكذبهم،  وتحريفهم الكلم عن مواضعه ، ثم مساعدتهم لأهل الشرك ومؤامراتهم ، وبعد ذلك كله كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وآله وللمسلمين .

        وما قضية حرب المسلمين لبني القينقاع وبني النضير  وبني قريظة واجتياح حصونهم .

        ثم النصارى ووفدهم الرئيسي وجدالهم الذي تعنتوا فيه حتى كانت قضية المباهلة .

        وبعد ذلك كله كيف يقال إن هذه الآية الكريمة تعني اليهود والنصارى وإنهم آمنوا بالقرآن الكريم ؟ إذن هم أسلموا وهذا خلاف الواقع التاريخي والواقع الراهن .

        وكذلك قوله تبارك وتعالى في الآية الثانية :

       { وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} (سورة القصص ،  الآية 53).   

        وهذا المعنى قطعاً لا ينطبق لا على اليهود ولا على النصارى ، ولا على أي أهل كتاب غيرهم في حياتنا الدنيا هذه .  ونعود لنلفت النظر إلى أن الكلام فيه تعميم .

        ثم الآية الثالثة وهي الأعجب ، قوله عز وجل :

       { أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } …

        أي اليهـود والنصـارى  ، حسب التفسير التقليدي ، وعلى ذلك فإن الكافر الأصلي يؤتى أجره مرة واحدة ، إذا هو صدّق بالقرآن وأسلم ، وهو لا  يملك أية مقومات دينية أو إيمانية ، بينما الذي يملك مقومات ، وهو المفروض به أن يسارع إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وما أنزل الله  عليه من القرآن ، نراه يؤجر مرة زائدة على الكافر الأصلي . وهذا خلاف منطق العقل السويّ . وشرع الله عزّ وجل ، فُصِّل كفاية للعقول السوية ، فإذن هذا يخالف شرع الله تبارك وتعالى .

        إذن ما معنى هذه الآيات الثلاث الكريمة ؟

        لم يبق هناك مجال لأي افتراض . إذن الحقيقة هي نشأة أولى قبل نشأة الحياة الدنيا هذه،  والمقصود بالآيات الثلاث ، أولئك الذين أوتوا الكتاب في النشأة السابقة فصدَّقوا به وآمنوا ، ثم صدَّقوا بالقرآن الكريم وآمنوا ، أولئك يؤتون أجرهم مرتين ، والحمد لله رب العالمين .

        أما النصوص الثلاثة التي كنت وعدت بها فـي مطلـع هـذا البحث فهي :

* في ( دعاء الصباح ) لأمير المؤمنين قوله عليه السلام  ، مصلياً على محمد وآل محمد :

ـ صـلّ اللهم على الدليل إليك في الليل الأليل ، والماسك  من أسبابك بحبل الشرف الأطول ، والناصع الحسب في ذروة الكاهل الأعبل ، والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول  …

 * ( دعاء عرفه ) للإمام الحسين عليه السلام  ، وهو من الأدعية الطوال ، وشهرته  عائده لكونه كنـز لا يثمّن ، من شفيف المعاني ، وحرارة التوجه ، وصدق التبتل وصفاء العبرة ، ورقة النبرة ، إلى معان يشعر معها الإنسان المؤمن ، بمدى حبه العظيم لخالقه العظيم عز شأنه وجلت قدرته، وبشوق إلى رحمة الله ونعيمه تصغر معه هذه الأرض ، حتى لتغدو لعباد الله الأحرار ، سجناً  مُمِضّاً ، مُمِلاًّ خانقاً يحنون فيه لفك القيد والانعتاق.  

وفي هذا الدعاء ، دليل على المطلب الذي نعالجه منذ بداية البحث ، وهو قول الإمام  الحسين عليه السلام :

ـ … لكنك أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الذي له يسـرتني ، وفيـه أنشأتني ومن قبل ذلك رأفت بي بجميل صنعك وسوابغ نعمك ، فابتدعت خلقي من منيٍّ يمنى ، وأسكنتني في ظلمات ثلاث من لحم ودم وجلد ، لم تُشهدني خلقي ، ولم تجعل لي شيئاً من أمري ، ثم أخرجتني للذي سبق لي من الهدى إلى الدنيا تاماً سوياً ، وحفظتني في المهد صبياً …

 * أما النص الثالث للإمام زين العابدين عليه السلام ، فهو أيضاً ( دعاء عرفه ) الخاص به ، وهو الإمام السجاد ، علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، عليهم السلام ، من  دوحة طيبة زكية طاهرة مطهرة ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها . وهذا الدعاء في الصحيفة السجادية ، التي ما زالت تكتب فيها الشروح والتعليقات ، وهي على كثرتها ، لم تف بعد ببعض بعض فضل الله تبارك وتعالى على العباد فيها .

                والدليل الذي نريد ، هو قول الإمام السجاد عليه السلام :

ـ اللهم وأنا عبدك الذي أنعمت عليه قبل خلقك له ، وبعد خلقك إياه ، فجعلته ممن هديته لدينك …

        ونحن  لم نعلق على النصوص الثلاثة لوضوح المطلب ، وآخـر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .