بين يدي القيامتين

 

رسالة إلى قادة الغرب والشرق ومن بينهما

   بسم الله وبالله ، الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى (سورة النمل ، الآية  59 ) .

        حضراتُ القادةِ والسادةِ  ـ طبعاً بما فيهم العلماء ـ الغربيـين والشرقيين،  وأشياعهم .

        السلام على من اتبع الهدى ، وبعد ،

        تقرّباً إلى الله تعالى ، وبداعي الأخوة الإنسانية ، والإشفاق وأن نحب لكم ما نحب لأنفسنا عملاً بوصية نبينا محمّد صلى الله عليه وآله ، أدعوكم إلى الله ـ كما أمرنا سبحانه ـ بالحكمة والموعظة الحسنة ، لعلكم تهتدون ، فنسعد وإياكم  بعفوه وغفرانه ، وننعم وإياكم برحمته الغامرة في الدارين  .

        ولذلك بلغة النذير المشفق ، أخاطبكم ، قبيل وقوع الحرب العامة الآتية، رغم اتفاقات السلام الظاهرية ، لأنها القيامة الصغرى ـ نتاج أيديكم ـ على كوكبنا هذا الملغّم بما تعملون،  وبعدها ـ لمن يبقى ـ قبيل قيام الساعة على مستوى الكون ، القيامة الكبرى ، التي بدأت أشراطها ـ المرسومة عندنا في كتاب الله والواقعة عملياً تحت أبصاركم ولكنكم لا تعلمون أنها أشراط الساعة ـ تظهر بقوة مرعبة ، يواكب بعضها بعضاً .

        ولأنه بقي لدينا بعض الوقت للدعوة إلى الله سبحانه ، وبهدوء ، قبل بدء الإرتجاجات تحت سمائنا الدنيا ، فنؤجل الآن  ـ موضوع أشراط الساعة وتبعاً لها ترادف القيامتين ـ  إلى فصل بعد هذه الرسالة حيث نفرد له باباً مستقلاً لأهميته القصوى .

        فاستفادة من الحالة العالمية الراهنة ، والتي ما زال ممكناً معها ، التفكير المسؤول ، والتأمّل ، ومحاسبة النفس ، بادروا إلى تقوى الله ، وحاولوا مخلصين فهم الإسلام الحقيقي ، ولو بخطوطه العريضة ، وهذا أمر يسير لمن آمن بالله بعمق وصفاء ، فالإسلام الحقيقي بسيط،   غير معقّد ، فضلاً عن أن الله عزّ وجلّ يوجـب عليكم وجـوباً قطعيّاً أن تدينوا به ، إذ {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ..}(سورة آل عمران ،  الآية 19) { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ..}(سورة آل عمران  ، الآية  85)  هذا أمر الله وقضاؤه . { ..فَإِذَا جَاء أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}(سورة غافر ، الآية  78).

        بادروا لإعمال العقل ، لا النفس الأمّارة ، بادروا قبل التورط ،  والحساب ، والعذاب الذي لا تنفع معه الندامة .

        فيا أهل المغرب ويا أهل المشرق ، الله عزّ وجلّ هو الذي شاء وقدّر ، وقضى فأبرم لمحمّد صلى الله عليه وآله ، كما شاء  وقدّر وقضى فأبرم  لموسى وعيسى  عليهما السلام ، فأين تذهبون .

        فانتهزوا الفرصة ، وتأمّلوا مليّاً  في ( العقل الإسلامي وعلم الفلك )  حيث سنقدم  لكم عنهما في هذه الرسالة ، عجالة ، لعلكم تعتبرون ، ولعلكم  تفقهون أن السبـق الظاهـري الذي اغتررتم به ، إنما هو سبـق السلحفاة للبراق ، إذ إن أعظم علمائكم اليوم في علم الفلك ، مـع أضخـم مراصدكم وسفنكم الفضائية  ، ما توصـل من الكشف إلى  بعض بعض ما يتوصـل إليه عبد من عباد الله الصالحين وهو قائم في مناجاة ، أو ساجد في مصلاه لله ربّ العالمين .  والعاقبة للتقوى . وَأَمَامَنَا الحصاد :

       { .. لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ . فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ . يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ }(سورة الرحمن ، الآيات  33 ـ 34 ـ 35) .

       قد يغضب من هذا الكلام  ، من حيث لا تغضبون ، أتباع لكم تتلمذوا عليكم من قريب أو بعيد ، وكانوا مسلمين ، ولكن لما غشيهم مـوج حضارتكم الزنديقة بهر منهـم القلـوب والأدمغة والأبصـار فارتدوا عـن إسلامهم  ، دين العقل ، دين التوحيد ، ليدخلوا في شرك الآلة ومادية الآلة وأرباب الآلة ، مكذبين بالآيات البينات ، مرعوبين من الموعظة  ، فرحين بما عندكم  ، وربما عندهم من لعب العلم وأقول ( لعب ) قياساً على أسرار وابعاد السموات والأرض  ، هؤلاء أيضاً  تحملون من أوزارهم وبالنتيجـة معكـم يحشرون.  

        في وقت كان لزاماً  على من ابتلاهم  الله بالكشوف العلمية أن يزدادوا إيماناً وصلاحا،ً وإصلاحاً وعدلاً ، ورأفة بالشعـوب ورحمة بالناس وتقرّباً إلى الله لما يفتح عليهم من أسـرار علمه ـ وقد أوجب على الناس طلبه ـ  فيزيدهم علماً نافعاً ويسعدهـم به ، بدل أن يدمّر عليهم بعد أن عزموا هـم على تدمير أنفسهم .

       { .. وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }(سورة النحل  ، الآية 33) .

       على أي حال بإخلاص الناصح ، ورفق الأخ الإنسان ، المنيب إلى ربّه تعالـى ، أدعوكم لتأمّـل هذه الآيات التـي طالما أفزعـت العقـلاء المستنيرين ، والتي تكشف ضآلـة الذين يفرحـون بما عندهم مـن العلـم ، مستهزئين بكل بشير ونذير ، شرقياً كان  أم غربياً ، فتضعهم هذه الآيات ـ إذا أصرّوا على عتوهم ـ في مهب الحسرات ، ولات ساعة مندم  ، بعـد دمار  الحضارة وأهلها  : قال تعالى  :

       { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ . وَتَتَّخِذُونَ مَصَـانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ . وَإِذَا بَطَشْتُم بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ }(سورة الشعراء ،  الآيات  128 ـ 130) .

       وقال عزّ شأنه :

       { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ . فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون . فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ . فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ }(سورة غافر ،  الايات  82  ـ  85).

        ألا  ، وإن بأس الله لآتٍ ، فهل تنتظرون  انتظار العاجز عن اتخاذ القرار حتى يدهمكم بأس الله غاضباً مدمراً في خسف وقصف وأعاصير وزلازل وطوفانات أو قيامة ، أو غير ذلك  من الآيات ، ومقدمات كل ذلك في عصرنا هذا ،  هي للمستنيرين أظهر من الشمس في رائعة النهار ، اقرأوا الآية التالية وأنظروا ، ثم خذوا طريق الحق الذي هو الخير والذي هو الجمال . قبـل أن يتحقق شيء من هذه الآية ، قوله تعالى :

       { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ }(سورة الأنعام ، الآية  158) .

* * * *

والآن  ، بعد هذه المقدمة ، نبدأ بعرض ما وعدنا به آنفاً ، بخصوص لمعات  عن القرآن الكريم  والذي أنزل  عليه  القرآن صلى الله عليه وآله  وعن الفلك . حيث سيكون تركيزنا إن شاء الله  على ما نعتقد أن فيه الفائدة  للمجتمع الإنساني  كله ، إذا أعمل قادته عقولهم وأخذوا بحكم الله وبما أنزل الله ، ناظرين  بتجرد وموضوعية ، إلى بحوثنا الآتية ضمن هذا الكتاب نظر المؤتمن على أغلى أمانة حملها الإنسان : نفسِهِ وشرفِهِ ، وشرفِ الإنسانية ، وباختصار دينِ الله القيم الذي أشار إليه سبحانه بقوله تعالى :

       { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ }(سورة الروم ،  الآيات  30 ـ 32) .

        وقوله تعالى مخاطباً رسوله محمّداً صلى الله عليه وآله والبشرية كلَّها مع رسوله محمّد صلى الله عليه وآله ، ليعقلوا ما شرع لهم من الدين ، وليعقلوا حقيقة الإسلام .  الإسلام الذي كان منذ آدم  ، شرائع متناسبة مع كل عصر من العصور السالفة : فكمّل نوح ما كان قبله ، وما نقضه ، وجاء إبراهيم شيعةً لنوح ، مكملاً ما جاء به  وما نقضه ، وكمل موسى ما كان قبله ، وما نقضه ،  وكمل عيسى ما جاء به موسى  ، وما نقضه ، إلى أن جاء محمّدٌ صلى الله عليه وآله  خاتَماً للنبيين عليه وعليهم أزكى الصلاة والسلام  ، مكمِلاً بوحي  الله ما أتى به الرسل من قبله ، وإنما جعل الله الشريعة التي أرسله  بها نظام دولة مؤمنة تقية  ثريَّة عادلة ، دولة واحدة موحِّدة ، يحكمها الله الواحد الأحد بتعاليمه ، وما ناسها إلاَّ منفذون . وذلك منهاج عمل عقلي ونفسي ومادي ، ملزِم ، منقذ للبشرية إلى قيام الساعة ، أفراداً ومجتمعات،  وذلك لقصر الزمان  الواقع بين بعثة  محمّد الميمونة ، وبين القيامة الكبرى ، التي في أيامنا هذه  تطل أشراطها برؤوسها بين بر وبحار وأنهار ، ودرع غيوم  حـرارية تلف الأرض  وتعقد  لهـا المؤتمرات ،ناهيك عمّا في الفلك من مفاجآت داخت حيالها المراصد ،فكيف يكون حال  الراصدين .أما الآية التي عنيت فهي قوله سبحانه مخاطباً رسوله محمد صلى الله عليه وسلم:

 { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ . وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ }( سورة الشورى ، الآيات 13 ـ 14) .      

{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا }(سورة محمد الآية 24). ( قرآن كريم ).

من أين القرآن ؟ وقفة قصيرة مع الكمبيوتر ..هل في القرآن أسرار حسابية ؟

إذا ثبت أن القرآن منزل من عند الله سبحانه ـ وهو لا يمكن إلاَّ أن يكون كذلك كما سنرى ـ فسيكون أعظـم  حجة على أهل الأرض منذ  تنـزيله .

فالمطلوب في هذه العجالة  ، إثبات أنه من لدن رب العالمين .

معلوم أن وجوه الإعجاز في القرآن كثيرة وكثيرة جـداً ، منها ما هو  باطني ومنه الإعجاز التركيبـي  المولّد للطاقة  الفاعلة ، وبه تحدّى الله الإنس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله . ومنها ما هو رقمي معقّد يعتمد البسملة الرقم (19) قاسماً مشتركاً لما يسمّى بالأحرف النورانية ، وهي الأحرف الموجودة في مفاتيح السور ، مثل كهيعص وحمعسق وغيرها . وهو  اكتشاف مدهش  ، كشف عن سرّ واحد من الأسرار الكثيرة  العجيبة  لهذه المفاتيح النورانية  ، التي  هي بمثابة ( الشيفرة ) بين الله عزّ وجلّ وبين أهل الزلفى من عباده .

وقد قام بإزاحة الستار عن سرِّها الحسابي ، الدكتور _ رشاد خليفة  المصري ، أثناء وجوده في الأمم المتحدة مندوبـاً عن حكومته . ولمـا  كان  قد عزم على ترجمة القرآن المجيد إلى اللغة الإنكليزية  ، بادئـاً بسورة البقرة ، كان لا بدَّ  له  من وقفة طويلة محيّرة أمـام ” بسم الله الرحمن الرحيم   ألـم ” ما هو معناها ؟ وماذا يقول لقراء الإنكليزية في ترجمتها ؟

        وبتكرارها.. فتح الله عليه ، وَأَلجـأه إلى العقل الإلكتروني ، وقد آن آوانه لعرض هذا التحدّي الجديد، في بناء القرآن ، إضافة للتحدّيات السابقـة ، في ظاهره وباطنه، وتفسيره وتأويله، وجَرْسِهِ وبيانِهِ ، وعجيب كنوزه وأسراره .

   الأحرف النورانية ( شيفرة ). .   الأحرف النورانية من  الأسرار المطلسمة  بسسبها و بغيره اتهم رسول الله (ص) لا عرافة ولا كهانة

*  الأحرف النورانية ( شيفرة ) يفتح الله ببعضها على أوليائه أبواب السموات والأرض .

*  الأحرف النورانية من  الأسرار المطلسمة ، ما حاولها طامع معاند إلاَّ لفح أو هوى أو احترق .

*  بسببها وبغيره اتهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن به جُنَّة .

   فداء عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وآله .

لقد كانت هذه المفاتيح أو الأحرف النورانيـة  التي لا معنى لها في الظاهر ، من الأمور المهمة  جداً التي امتحن  بها الله الإنس والجن ، فالذين  انخلعوا من الدنيا ، ونذروا أنفسهم بدون شرك ظاهر أو خفي لرب السموات والأرض رب العرش العظيم . الذي بيده ملكوت  كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، أعطاهم هيبة هذه ( الشيفرة ) فخشعوا وخضعوا له وأخذوا  بمزيد مـن التقوى ، وقد أكرمهم الله تعالى فأسماهم الراسخين في العلم ، لما ذكرناه في بحث سابق( كتاب ( الحكمة الإسلامية ـ بحوث من مقتضيات العصر ) .)، ولخشيتهم من كشف أسرارها بدون إذن أو مؤشر، وهو قال سبحانه :

       { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }(سورة طـه ، الآية 7).

         ومدحهم بقوله تبارك وتعالى  :

       {..وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا..}(سورة آل عمران ،  الآية 7 ).

       وبنسبة درجاتهم في مفهوم التوحيد أفاض عليهم أسرار هذه المفاتيح ، أو من أسرارها،  في مجالات تطهير النفس وتقرّبها من بارئها ، أو في دفع الأذى عن النفس وعن المؤمنين ، بشرط كتمانها ، حيث إن النفوس العادية وما دون العادية غير مؤهلة لها ، على أن فاعليتها وآثارها العجيبـة وإن كانت تخصُّ أهل العرفان :

       { لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ }(سورة الحج ،  الآية  67) . إلاَّ أنها تنفع وتعمُّ جميع المؤمنين .

        أما أهل الشرك في زمن محمّد صلى اله عليه وآله فقد زعم فريق منهم أنه رجل به جِنَّةٌ  قياساً من جهة على ما كان سائداً في أيامهم من العرافة والكهانة ، اللتين تعتمدان الجن ، ومن جهة لزعمهم  أن الحروف المقطعة ، ربما كانت من لغة الجن  وكلامهم ، لا سيّما  وأنهم كانوا يعتبرون الجن خلقاً أعقل وأقوى من الإنسان ، وأنهم يعلمون غيب السموات والأرض ، لذلك كان بعض الناس آنذاك يلجأون إلى الجن يسألونهم عن الغيب ، فكانت شياطينهم تكذب على الناس ، بما لم ينزل الله به من سلطان .

        أما حكاية شق وسطيح وأوصافهما وأخبارهما فمطعون بها ومعتبرة من جملة الأساطير .

        وأما قضية عبد المطلب وولده عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه لجأ إلى امرأة  قيل إنها عرافة تستعين بالجن ، فهذا الأمر أيضاً تجنَّى فيه بعض المؤرخين على الحقيقة ، والواقع أن هذه المرأة اشتهرت بتقواها وبالحصافة والحكمة ، وكان يقصـدها الناس لشهرتـها ، فكانـت تشير عليهـم بالرأي السديد ، والسلوك  الرشيد . وعندما  منع العرب عبد المطلب من ذبح إبنه عبد الله وفاء لنذره ، قصدها مع رهط من قومه ليرى رأيها  في هذا الأمر الخطير ، وكان لله  سبحانه شأن عظيم ، حيث شاء أن يكون صفوة الله في خلقه محمّد صلى الله عليه وآله إبناً للذبيحين : إسماعيل الذي فداه الله بكبش عظيم  ، وعبد الله الذي فداه عزّ وجلّ بمائة ناقة  ، وقد أوحى سبحانه  إلى تلك المرأة ، كما أوحى من قبل إلى أم موسى عليه السلام . وذلك لأن الأمر يتعلق برجل في صلبه أعظم رجل في تاريخ البشرية محمّد رسول الله وخاتم النبيين ، وقد جعل الله هذه المقدمات ، إعزازاً وتكريماً له ولبيته الكريم ، بسبب دورهم  الجهادي التاريخي العظيم.

        فسألت المرأة القوم : كم فدية الرجل عندكم ؟ فقالوا : عشر نياق ، فقالت ، ضعوا عبد الله في جانب ، وضعوا في جانب آخر عشر نياق ، ثم أرسلوا القداح ، فإذا اختارت عبد الله فزيدوا عشراً ، وهكذا حتى تتحول القداح عن عبد الله . وتمّت مشيئة الله ، إذ ظلّت القداح تختار عبد الله عشر مرات ، في كل مرة تزاد معها الإبل عشراً ، وعندما أصبح عدد الإبل مائة ، تحولت  القداح إلى الإبل ، وهو فداء ما عرفه تاريخ العرب ، تحدّث به القوم طويلاً في أنديتهم ، وتحدّثت به الركبان ، وتحدّثت به الأجيال  وما زالت . وما أروع عبد المطلب ، وما أصدق إيمانه وما أعمقه ، حيث إنه أصرّ على إرسال القداح ، بعد ذلك ثلاث مرات تباعاً وفي جميعها تقع القداح على النياق ، وعندها تنفّس الصعداء لا حرصاً على عاطفته ولا حرصاً على ولده ، ولا حرصاً على مشاعر العرب ، وإنما حرصاً على رضى الله عزّ شـأنه ، ربّه وربّ عبد الله ، وربّ العرب والعجم ، ربّ العالمين ،  وهكذا  أصبح على يقين  لا يعتوره أدنى شك أن الأمر كله ، إنما هو بتدبير من الله سبحانه وبعنايته ورحمته ، وأنه سبحانه  ابتلاه فنجح في الإبتلاء فجزاه خير الجزاء .

        أعلـى  يد امرأة ؟! هي كلمته سبحانه يجريها على يد من يشاء  من عباده ،  رجلاً كان أم امرأة ، ولشدّ  ما يجرح  مفهوم التوحيد والفكر الإسلامي  فيما بعد ، أن ينسب ذلك إلى الكهانة أو العرافة أو الجن . إنما هي  الحنيفية ، حنيفية إبراهيم  ، التي كان ما زال عبد المطلب محافظاً حريصاً  عليها ،  وهو الذي يعرف بيقينية عظيمة ، أن الله وحده تبارك وتعالى  هو الذي هيّأ له ولإبنه من أمرهما فرجاً ومخرجاً . وكلمته لأبرهة الأشرم الذي قاد جيشاً لهدم الكعبة  ، ما زالت تدوي في سمع البشرية : ( أما الشياه فأنا ربّها وللبيت ربّ يحميه ) .

        وصدق عبد المطلب إذ حمى رب البيت بيته ، واللائذين ببيته ، ومزّق أبرهة وجيشه شرّ ممزق . فلو كان عبد المطلب يؤمن بالعرافة وبأن الجن  تأتي بالغيب ، لكان لجأ للعرافة وللجن  ليدفعا عن البيت العتيق الذي يتولّى هو سدانته .

        وأما الأواخر ، وخاصة في قرننا هذا العشرين ، فهم أيضاً ، وفي سياق ما اتهموا به جميع الأنبياء ، ومبدأ النبوة أصلاً ، فقد اتهموا محمّداً صلى الله عليه وآله بحالة من الجنون ، ولكن بصياغات وعبارات مستحدثة ، أبرزها أن ما تركه هو حالة من الهذيان ، هي من نتاج العقل الباطن ، مع تأكيدهم أن صاحب هكذا حالة  ، يكون حديثه فوضى لا يقرّه عقل ولا علم ولا منطق ،  وحيث إنهم لم يجدوا ثغرة لينفذوا منها سواء في شخصية محمّد صلى الله عليه وآله  أو في القرآن  الكريم ، فقد تمسكوا بهذه الأحرف المقطعة ، واعتبروها مصداقاً لنظريتهم واتهامهم ، إذ إنها لا تعني لأحد شيئاً ، متوقفين عندها ، متعامين  عن البناء الشامخ للقرآن العظيم ، كمن لا يرى من الكعبة إلاّ مزرابها الذي من ذهب ، ثم يقف عند ظاهر بريقه ، ناسياً حقيقة معدنه فضلاً عن سرّ الرحمة الذي فيه .

        وأصحاب هذا الزعم ، هم من الغربيين خاصة ، الذين اشتغلوا بعلم النفس وبعض أتباعهم من المسلمين ، الذين ، وبدون أدنى مسؤولية في حمل أمانة العقل والخلق والبحث العلمي ، اطرحوا القرآن ، ولم يكلفوا أنفسهم  في حالات كثيرة  حتى مجرد قراءته ، في وقت يجهدون فيه أبصارهم وأعصابهم وكواهلهم ، بقراءة  أحمال من الكتب ، فقط لأنها مكتوبة بلغة المتفوقين  في حقل الحضارة الآلية ، أو مترجمة عنها . ولو كان أكثر هذه الكتب محشوّاً بالضلالات والبدع المهلكات ، ولو كان في جملة الحضارة آلة دمارها وهدمها على نفسها .

        وصحيح  أن الثقافة العالية  والتوسّع فيها مطلب رئيسي ، وهو عندنا واجب ديني  ، ينبغي الحثّ عليه واعتباره في جملة العبادات ، إلاَّ أنَّ شرطه أن يكون بالعقل المستنير ، وليس بالنفس التابعـة والعينين الضيقتين . والمؤسف جداً أن هؤلاء الأتباع ، أهملوا حتى العين الضيقة واستناموا إلى طريقة التلقين : أسيادهـم ، في فوضاهـم الفكريـة يقولـون ويكتبـون ، وهم  يردّدون وينسخـون .

        وهذا هدر لكرامة الإنسان ونعمة العقل ، والعقل والكرامة ، يعاقـب الله سبحانه على التفريط بهما ، فساداً وإفساداً ، وضلالاً وإضلالاً ، ويعذب على ذلك في الدنيا والآخرة.

        بلى لِعِلْمِ ما في الذرة والمجرّة وما بينهما ، وعِلْمِ  ما كان أدق وأعظم ، بَلَى لِفُتُوحَات العلم في الأفاق وفي الأنفس حتى يتبين لهم أنه الحق ،  بلى للفكر المقارن والثقافات المقارنة النافعة المؤدية إلى رضى الله ورضوانه ، بلى للتفاعل وتلقيح جميع معطيات الإنسان بالأفضل والأحسن حسب مقاييس الشريعة الإلـهية ، أخذاً وعطاء ، وتمثلاً للنافع  ، وتجنباً للضار ، وتحذيراً من الخطر . وبالنتيجة  فإن الحكمة ضالة المؤمن  يطلبها أين يجدها ، كما جاء في الحديث الشريف .

        ولكن لا لمصنفي  الكتب  التي بلا موازين ولا معايير ولا تستند إلى علم ولا كتاب مبين ، ومكدسي الأوراق تحت عنوان  أنهم من أهل الفكر ، ولا يفكرون ، إنتاج على طريقة الآلة  بدون إِعْمال عقل ورويّة ولا مسؤولية أمام الله فأين يذهبون والله يقول  :

      {.. سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ . وَأُمْلِـي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ }(سورة القلم  ، الآيات  44 ـ  45 ) .

        لا لتجار الفكـر ، والمرابين  بالكلمة الماكرة ، وأثوابها المستعارة ،  الذين يخونون الله ورسـوله ويخونون أماناتهم زحفاً وراء مال أو شهرة أو كليهما مجتمعين .

        ويا ويلهم يوم يطالبهم الله بقوله سبحانه :

       { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}(سورة  الأنفال  ، الآية  27) .

        وأخيراً وليس آخراً ، لا للمقلدين على طريقة القرد والإسكافي الذي سنّ السكين ومرّرها على عنقه فقلّده القرد ، فذبح نفسه ، إلاَّ أن مقلدي أهل الباطل والفكر الباطل ، إضافة إلى أنفسهم  ، أدموا الإنسانية وتهجموا على رسالة السماء  التي هي الإسلام  والذي هو سفينة نجاة البشرية وما زالوا يحاولونه طعناً وتجريحاً ، ولولا  أنَّ الله  بعزّته سبحانه وعد بنصرته وإظهاره على الدين كله إلى قيام الساعة  لكان في ذبائحهم منذ زمن طويـل . قوله تبارك وتعالى :

       { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ }(سورة التوبة ، الآية  33).

        ومن هو الخاسر ومن الرابح  ، آنياً ومستقبلاً ، على كوكبنا هذا ، وغداً بعد الموت والإنبعاث عليه وعلى غيره من الكواكب ، التي يقول العلم  إن منها الرائع جمالاً ولطافة مناخ،  وهناءة  جاذبية يستطيع الإنسان  معها الطيران ،ومنها الموحش المفزع ، حيث تصل درجة الجذب إلى ثقل مرهق ، بالكاد يستطيع الإنسان معهـا قلـع قدميـه من الأرض ، وتصل درجـة الحرارة إلى درجة غليان  المـاء كما هو في الزهرة  ، وذوبان الحديد كما في عطارد ، وهذه الأمثلة ليست للحصر والتحديد ، وإنما لأخذ فكرة أولية ، عن حكاية الخلود في نعيم أو الخلود في جحيم .

تقدم  بلا غاية  :

الحقيقة أن كثيراً من الناس  ، من الذين يدهشهم التقدم العلمي في الكون  وفي ذات الإنسان ، نراهم يتعاملون مع هذه المدهشات ، بدون غاية ، يرتبطون بها ويبذلـون الجهـود  للحصـول عليـها أو الوصول إليها ،  ونجـد أنهـم مثـلاً  يعتقدون بإمكان أن يغـزوا  الكـون ، ويسكنـوا الفلك ،  اعتمـاداً على التقنية العلمية .

        صحيح أنه حلم  جميل ، وصحيح أن العلم ما زال يراود الفضاء ، وأن بالإمكان  الوصول إلى غير القمر . ولكن تبقى الحقيقة التي تنغص هـذا الحلم ، وتدعو الإنسان لأن يحترم نفسه  ويكون أكثر واقعية ،  وأبعـد عمقاً . إذ أن الملايين  ماتوا قبل  هذا الإمكان ـ الحلم ـ ، وسيموت ملايين  مثلهم بعد هذا الإمكان  ، إذا أمكن هذا الإمكان ، لأنه سيكون وقفاً  ـ أقلَّه  حتى نهاية العام ألفين ـ على رواد الفضاء وحفنة من أثرياء العالم . فما هي الحصيلة  الدنيوية والأخروية ،  للذين ماتوا قبل هذا الوصول ، والذين سيموتون  بعد هذا الوصول ؟  أم هي مباهاة القرعاء بشعر بنت الخالة ، أو  افتخار الأعمى بزرقاء اليمامة ؟

        فهلاّ سألوا  عن أدوارهم ومسؤولياتهم في الحياة الدنيا هذه  ، أيرضون بالتبعية للقوي يأكلون من فتات خبزه ؟  أم يبحثون عن السبل  التي تجعلهم أقوى منه ، وصولاً إلى الغاية  التي هو شذّ عنها وانحرف على متن صاروخ أو مركبة فضائية ، على حساب  شعوب مقهورة،  وملايين  البطون الغرثى والأفواه الفاغرة ، جوعاً وعجباً ونصباً :

       { أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ  }(سورة غافر ،  الآية  21) .

فما شفعت لهم حضارة  ، قيل فيها ، كحضارة ( أطلس  ) ، أنها  كانت أعظم من حضارتنا اليوم ، ولا شفعت لهم قوّة  ، ناهيك عن إغراقهم  في المعاصي والذنوب . فبأية  قوة يقون أنفسهم ويدفعون عنها عذاب الله ، وقد قضى أن ينزل بهم عذابه وغضبه سبحانه  وتعالى عمّا يشركون . واليوم كالأمس ، والأمس كسابقه .

أُمَمٌ  تتحول إلى قراصنة ودين التوحيد ممنوع :

   نعم ، { إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى }  صدق الله العظيم .

        طغى الإنسان في ميزان الحضارة والله عزّت قدرته يقول له :

       { أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ . وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ }(سورة  الرحمن ، الآيات  8 ـ 9) .

       وهو يعمل كذلك  على مسخ الأرض ، ففي المدن الكبرى من أوروبا  إلى أميركا  إلى الصين إلى اليابان ، تضيّق أنفاس الناس لتناقص الأكسجين في الهواء وتزايد ثاني أوكسيد  الكربون فمن هذه الزاوية فقط يسيرون باتجاه الكارثة ، فكيف سيكون الحال مع بقية الزوايا الفتاكة والأسباب المدمرة ؟

        أما السبب الأساسي في الوجه القبيح للحضارة ، هو نسيان أن الحضارة بإيجابياتها وجمالياتها  ، هي من نعم الله وعطاءاته ورحمته :

       {..وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا..}(سورة إبراهيم  ، الآية  34 ) .

        والله يبشّر الشـاكرين ، بالزيادة من فضله وينذر بالعذاب الشديد الذين يكفرون بنعمه، يعني لا يشكرون الله عليها لا قولاً ولا عملاً ، قوله تعالى:

{..لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }(سورة إبراهيم ، الآية  7) .

   والعذاب  يضرب به أو يصيب به قرى ومدناً وأمماً ، وأفراداً وجماعات بين خسف وقصف،  وحروب وفتن ، وبلاءات وأمراض ،  وخوف ومجاعات :

       { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ }(سورة النحل ،  الآية  112) .

        ونسيان كون النعم  من لدن الله ،  كفر بالنعم ، ونسيان ذلك مدعاة  لعدم شكر الله عليها .  والشكر إنما يكون قولاً وعملاً ، سداداً ورشاداً ، وعدلاً واستقامة .

        نعم السبب الرئيسي في قبح الحضارة ، هو التحوّل عن عبادة الله وحده دون شريك ، إلى عبادة الذات والولاء لمراكز القوى في الناس ، وتعلّق القلوب بمصادر النفع فيما خلق الله  سبحانه ، وهذا الولاء وهذا التعلّق  فيهما شرك خفي وهما عبادة لغير الله . فالإنصراف عن التوجّه التعبّدي لله وحده ، دعاء واستغاثة وجهاداً وثقةً وتوكّلاً ، إنما ينتـج عنه تفريغ الإنسان من الصفاء والعافية ، والحدس المرهف الذي لا يستمر إلاَّ مع الإيمـان المرهف .

        وحيث إن التوحيد ، توحيد الله ،  جلّت عظمته ، هو فطرة وعهد في أعماق الإنسان،  كل إنسان ، فنستطيع أن نقول ببساطة ، إن أهم الأسباب في غرق الإنسان في وحول الحضارة وقباحاتها ،  وخنق جمالياتها وأصالتها التي فيها السعادة ، هو عدم التوحيد ،  وبعبارة أخرى هو فكر التوحيد المزعزع ، نتيجة للتوجّه البهيمي بعيداً عن كمال الحقيقة  الإنسانية ، الذي لا يكون إلاَّ بالله ولله وفي سبيل الله .

من هنا الإنـذار بالدَّمار  ، ومـن هنا قرع الناقـوس بخوف ، ورفع الآذآن  بوجل

إن التوحيد في خطر  :

  وبما أن توحيد الله سبحانه يدعو إلى وحدة المجتمع الإنساني تحت رايات العدل والمساواة والحريـة ، يرفدهـا الحق  ويرفدهـا الخير ، ويرفدهـا الجمـال ، وتلك هي أركان  الشريعـة الإلـهيـة . فما دام التوحيد ، هـذا الأصل ـ الذي هو أصل الدين ـ في خطر ، فإن أهل الأرض  إذن جميعاً فـي خطر ـ إلاَّ من رحم ربّك .

        التوحيد في خطر ؟  نعم ، وقد أُلغِيَ من القـارات الخمس ، لولا بعض البقاع القليلة  جداً ، والضيقة جداً ، حيث حوصر فيها  وضيّق عليـه ، تحت وطأة القمع الشرس والملاحقة الموتورة والتعذيب وسفك الدماء  ، بقيادة حلف إسلامي ـ  نصراني ـ يهودي  ـ تحت شعار الديمقراطية .

        إذن باسم الديمقراطية  تشنّ بلا هوادة ، الحرب  على الإسلام الحقيقي ، لأنه رسالة السماء التي فيها خلاص البشرية ، لأنه دين الله .

        فالتوحيد ممنوع  ، بموجب قرار دولي صادر عن هذا الحلف الشيطاني المثلث ، الذي يمثل  أعداء الله في القرن العشرين على هذا الكوكب :

        دين الله ممنوع  ، إذن أعداء الله في خطر ، يقيناً هم على حافة الهاوية .  وإذا كانوا منعوا العدالة في الأرض ، فليمنعوا  عدالة السماء .

اللاأخلاقية  … شعار حضاري  عالميٌّ معلن :

   إذا احتاج الإنسان  إلى أي لون من ألوان العون أو المساعدة  ، فمن البديهي أن يحكم العقل باللجوء إلى الأقوى يعني إلى المهيمن على مراكز القـوى ، الذي هو الله سبحانه ، تارة من الله إلى الأسباب  ، وتارة من الأسباب إلى الله ، والأُولى أولى وأرقى وأكثر عدلاً ، وأعزّ وأزكى ، وأشرف وأعلى ، وأبلغ  قرباً وأكثر حباً أما مع الثانية فينبغي العمل ضبطاً وربطاً مع مراكز   القوى ومتفرعاتها ، على أساس أنها وسائل يُتَوَسَلُ  بها إليه سبحانه يَسَّرَهَا للعوام ، الذين  يرتاحون إلى الوسيلة والواسطة ما دامتا توصلان إلى الغاية ،  أما شرف الوصول إلى الغاية بدون وسيلة ولا واسطة  ، فليس للعوام ، وإنما هو لمن يجتبيهم الله ويختصهم بعلمه  وبفضله وبرحمته ، على أن يتمَّ نشاط الفريقين ، في ظلّ شريعته ، وفي ظّل كلمته ، فإذا كانت كلمة الله  هي العليا ، استراح الناس وسعدوا بربّهم ، وسعد الإنسان بأخيه الإنسان .

        ولكن الشائع  بين الأفراد ، وبين الدول ، في حضارة هذا العصر ، هو التنافس الشديد ، من أجل الوصول إلى أهل الحل والربط ، من الساسة والعسكر ، وأرباب المال ، وطواغيت الثقافة التبنية ، والتراث المكرور ، الموميائي ، المحنّط ، مـمّا يؤدّي  إلى التنافر والتزاحم  والحسد، من جانب ، وإلى تكاثر النماذج المفرغـة من المناقـب  والقيم  والتجدّد النورانـي ، من جانب آخر .

        وهكذا يبذل الوصوليون ، على درج المادية ، مالاً وعرقـاً ، وهدايا وتزلفاً ، وجهوداً كبيرة ورياء ، بين زحف وركوع وهدر كرامات .

        والله يغضب من ذلك  . وغضبه عقوبته .

        فعلى صعيد الأفراد ، من لو استطاع  أن يكون مطية ، أو حتى أسيراً عند حاكم ، أو متسلط ، أو نافذ من أكلة الجبنة  ، وحظي منه بحاجته ، فذلك هو الذكي  ذو العقل الكبير المفلح المنجح . ومن لم يستطع يتدرج على الهرم الحضاري ، وكم تَدْمَى على هذا الـهرم الأقدام والركـب ، للوصول إلى أهـل ( السرايات ) .

        والله يسخط على ذلك . وسخطه عذابه .

        وتبقى في صدور  الطموحين على صعيد الدنيا ، غصص لا تبـرأ ، إلاَّ عند جنـرال،  أو أيّ ضابط أو حتى شرطيّ . هـذا في بلاد الأمـان . أما في بلاد الفلتان ، وانقلاب المقاييس وفوضى القيم ،  فعند زعيم الميليشيا

  اللادينية واللاأخلاقية أو عنصرٍ من عناصره المسلحين ، أو السفاحين  … باسم الدين  .

        وباسم الدين  قتلوا ونهبوا واعتدوا وروّعوا الشيخ والصبي والمرأة والطفل الرضيع ، ولقد لفحتكم نارها يا قادة الغرب والشرق ، أفلا تتّقون الله فيهم وفي شعوبهم المقهورة بديمقراطياتكم العجيبة . والعين الطماحة ،  أبداً على السدة ، حيث منها  ” الشطار ” يشمّون ويضمّون زهرة الحياة الدنيا .وهكذا ضحاياكم بين التآمر السياسي والخلق الحضاري الهجين .

        والله يمقت كل ذلك .

        لذلك  القيامة الصغرى وأهوالها على الأبواب .

        ولغة ( الشطار ) نجدها منطقاً مقبولاً جدّاً تحت راية العلمنة  ، أو الشعوب التي أعلنت استقلالها كليّاً أو جزئياً عن الله جلَّت عظمته وعزَّ شأنه ، وعن رسالته التي تقرأ في الإذاعات كما يقرأ النشيد الوطني في لبنان أو في حيّ هارلم في الولايات المتحدة ” والله أعلم حيث يضع رسالته ” .

        ومعظم الناس مع هذا المنطق فريقان : الأول فريق اللادينيين ، الذين  تعاقدوا مع الدنيا ضد الآخرة ، لمدة في العقد أقصاها مائة سنة ، مع حسبان المفاجآت ، من صدم وبتر وموت ومرض … يحتاطون لها بإحالتها على شركات التأمين .

        والفريق الثاني هم الدهاة بين ملحد ومشرك  ومنافق ، ومنهم دينيو الثوب ، حيث الجوهر يقرئكم السلام ، تجار  فجار ، يتذرعون إلى صيدهم بالتواضع المصطنع والتمسكن والمداهنة :

       { .. يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً }(سورة النساء ، الآية  142 ).

        وقوله سبحانه كذلك فيهم :

{ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ  فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } (سورة البقرة  ،  الآيات  9 ـ 10) .

أو هم من ( الحواريين ) الذين تلبسوا  دور موسى وهارون ، ونسوا كفر فرعون  وهامان  … وشغفوا حبّاً بقارون …

وكل ذلك  يتداخل على سبيل التفصيل ، في اللاأخلاقية الدولية والعالمية التي نتحدث عنها .

وأمثلة  على ما شوّه أهل الحضارة  في الحضارة ، تلك القيم التي هي ركائز الإنسانية ، والتي هي كما أراد الله سبحانه ،  قواسم مشتركة ، بين  الشعوب  على اختلاف الأجناس والملل ، التي هي ثوابت في مفاهيم  البشـر ،  لا تؤثر  في النظر إلى قيمتها الإيجابية ، لا العصور ،  ولا مزاعم الجدلية التاريخية والصراع الطبقي .

وهذه الثوابت ، مثل نصرة الضعفاء ،  ومكافحة الظلم  ، ونشدان الحرية ، والعفة ، والحكمة ، والحشمة ، والكرم  والشجاعة في الحق ، والحلم والتسامح ، والدفاع  المشروع… إلى آخر ما هنالك من أصول وفروع الأخلاق ، التي  بها يكون الإنسان  إنساناً ، والأمم أمماً .

أما إذا طغى فيها الإنسان سقط من إنسانيته ، وإذا طغت فيها الأمم ، تحوّلت إلى عصابات لصوصية وقرصنة ، كما هو واقع الحال ، والشواهد على ذلك ماثلة للعيان ، مدوية في الآذان ، تعبر عنها طرق التهديد والابتزاز الحقيرة السافلة ، كما تنطق بها المدافع والقذائف واستعراضات الأساطيل في البحار والأجواء ، والتي تزرع الحقد حتى في قلوب ملايين الأطفال ، الذين  يحلمون وهمّهم الأعظم  أن يكبروا لينتقموا وهم سيشكلون في المستقبل القريب أكثر من ثلثي العالم ، فكيف  تفهمـون الدين ، وإن  لم  يكن لكم دين فأنتم تزعمـون الديمقراطية ، فأيَّة ديمقراطيـة  تمـارسـونهـا ، وإن لـم يكن ديمقراطيـة ، أفمـا بقية من أخلاق وحكمـة وإنسانيـة  ؟ أيـة سياسـة  تنتهجـونها يا قادة  ويا سادة ويا أتباع.

        وما رأيكم بإبادة هؤلاء الأطفال ، يعني إبادة شعوبهم  لتتخلصـوا من هـذه الورطة،  وهذا مستحيل ، لأن الله عزّ شأنه يحفظهـم  ويحميهـم  حيث قد جعل لهـم شأناً لن يطول الزمان حتى يظهره :

       { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }(سورة الطلاق الآية  3).

        وإن لم يكن خوف من الله  المنتقـم الجبـار  ، أفـما  تخجلـون مـن نسائكم  ؟ إن كنّ ما زلن يقدّرن أخلاق الفروسية  ورجولة الرجـال . وما رأيكن يا نساء العالم  وفيكنّ رئيسات الوزارات ورئيسات الجمهوريات ، وهل أطفالكم  يا نساء العالم  ويا قـادة ويا سادة ، أفضل من هؤلاء الأطفال الذين يرتجفون  كفراخ العصافير إذا بلّلها المطر ، يرتجفون من هداياكم  إليهم ، ومتى كان السم هدية ، متى كانت الصواريخ والقذائف المحرقة المدمرة  هدايا للأطفال تمزّقهـم أو تروعهـم يا نساء العـالم ، ويا رجـال العـالم ، ويا قـادة  ويا سـادة .

        وانحراف الفرد وانحرافات الأمم عن دين الله ، من مستدعيات غضبـه جلّت عظمته،  والعقـوبات بين معجـل ومؤجل ، وكثيراً ما تكـون العقوبـات واقعة على إنسان ما ، أو مجتمع ما ،  ولكن أكثر الناس بحكـم تعاملهـم  بالمعادلات الزمنية  والظاهرية  ، ولعدم حرصهم  على الإيمان ومعرفة  الله سبحانه وتقواه ، تغيّب عنهم الحقائق التي في المعادلات الإلـهية ، والنتائج المترتبة عليها ، والتي قد يكون فيها الخسف والقصف  ، أو الإغراق في الرفاه والنجاح الظاهري المؤقت ، ولكنه الملغـّم بأسباب الدمار والهلكة .

           وهذا واقع الحال في حضارتنا حضارة القرن العشرين ، في شتى بقاع الأرض ، ولكل بقعة حساب  ، والله أسرع الحاسبين .