الشاعر في سطور

بسم الله الرحمن الرحيم   

      بقلم الدكتور محمد بيضون

باسمه تعالى

           هو الشيخ ( مُعَمَّم ) عبد الكريم  بن الشيخ محمود بن الشيخ محمد أمين بن الشيخ أمين بن الشيخ جواد .. بن الشهيد الأول .

  وأمه الحاجة الزهراء ابنة الشيخ عبد اللطيف بن الشيخ علي بن الشيخ حسن .. بن الشهيد الأوَّل . ولد في بلدته عربصاليم  سنة 1938 / .

         وعربصاليم قرية عاملية ، من قرى إقليم التفاح على الكتف الغربي  لنهر وادي  الزهراني  قبل أن ينعطف باتجاه البحر ، ماراً بينها ـ وهي على هضبة في مواجهة جبلي الريحان ـ الجرمق ـ  وبين بداية السلسلة الجنوبية ـ التي تشكل المنطلقات العليا لجبال عامل في أرض لبنان .

       اشتهرت  بالعلم ، ووفرة المياه المعدنية ، ومواطن الجمال الطبيعي ، وبوجود عائلات عريقة فيها ، وبكرم أهلها ونجدتهم وحبهم للضيف .

       وتقع عربصاليم  بين النبطية جنوباً  ، وجزين شمالاً ، وتبعد عن النبطية اثني عشر كيلومترأ . وهي واقعة  تحت مرمى الرصاص الإسرائيلي من جهتين : جهة كفررمان جنوباً ، وسجد شرقاً .

       إذا كان الوسط ، هو أحد دعائم بناء الشخصية ، فالشيخ عبد الكريم  نشأ في وسط الإسلامي علمائي كما هو واضح . هذا الوسط أهّله لكي ينهل العلم من مصادره الأساسية ، مع ميزة اختصه الله بها ، هي حبه للأدب الذي كان مولعاً به منذ صباه .  وجرت الرياح بما اشتهى الشيخ ، فكان عالماً ، وأديباً  شاعراً ، ذا شعور مرهف .  فهو يصور لنا على سبيل المثال ، حالة لبنان ، والعالم وسريان الفساد فيه .

فيقول :

       كوكبنا اللغم بكفر الناس متى يُفْجَرْ

       زمن لا نوح ولا لوط الزمن المنكر

     إن كان هنالك كفار فهنا أكفر( [1]).

       ويحدد الشيخ العلة التي تقف خلف الفساد وخلف الحرمان الذي يتعرض له الشعب ، فيقول مخاطباً الطواغيت :

      وكن السجان كن الزنزان وكن أنكر

      حبل الجلاد صليباً من عهد البربر

     … سنظل رصاصات في صدرك أو خنجر ([2])

 ويأتي الرد المشبع بالعنفوان ، ويحدد الشيخ طريقة ضد الطغاة معلناً الحرب عليهم باليد وبالكلمة ، فيقول :

لا … لا … للطاغوت 

بملء فمي ويديّ بملء حديد البأس

ويا شلال اهدر إيماناً حتى الرمس ([3])

لا …لا … للطاغوت

ويصف الشيخ مأساة  الجنوب ، والاعتداءات الاسرائيلية ضد شعبه ، وخاصة اجتياح 1978 ، بعد أن قلَّ الناصر ، من دعاة الاسلام ، هذا الجنوب المطعون بأيديهم شأنه شأن الامة كلها . أما حال الحكام فهو كحال الخصية بين النساء ، وأخيراً يدعو الشيخ المسلمين لإسقاط هؤلاء الحكام ، وسلوك طريق الثورة المحمدية  ، فيقول  ، مصوراً وجهاً من الوجوه المأساوية : حالة الأطفال أثناء القصف وبعد الاجتياح :

في البراري شردوا لم يجدوا

 

  غير وجه الله رحماناً وليا

 

زرعوا الأكبـاد أماً غرقـت

 

  فـي دماها  وأباً مات أبيا

 

والاسلامـاه  ،  شُلَّت  دول

 

  تدَّعيـه وهو مطعوناً دميا

 

وولاة خصيـت نخـوتهـم

 

  والعلى ما  خطبت الا نخيا

 

فانتعـل نعليك من  هاماتهم

 

  وارمهم للموت مشويا ونيا

 

كبِّرنْ ، واشرب حميا  ثورة
  واندفع فيها اندفاعاً احمديا([4])

 

   

    ومع نجاح الثورة الاسلامية في إيران ، بقيادة الامام الخميني ، سارع الشيخ ،  صاحب النفس الثوري والعنفوان الأصيل والدعوى الإيمانية ، سارع إلى إعلان الولاء لسفينة  الإيمان التي أبحرت بقيادة الإمام الخميني ،  السفينة التي فيها جبرائيل قبطان ، فيقول :

الشرق يبحث عن مفتاح يقظته
والغرب في عهره .. والعزم سهران([5])

 

الفتح آتٍ ، إمام  الفتح رايتـه
تمشي على الموج والثوار  طوفـان
الحق ؟‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍! من قال نار الحق قد خمدت
وثـورة الحـق في إيـران بركـان
المائجـون وروح الله  قائـدهـم
عبر الخضـم  وجبرائيـل قبطـان
الزحف دمدم ..لا فرس ولا عرب
بل مسلمون وسر النصـر إيمـان
بوابة القدس حان الوقت واقتربت
تكبيرة الفجر.. قولي: كان قرصان([6])

 

  

   هذه ومضة سريعة عن مواقف الشيخ قبيل الاجتياح الأخير عام 1982 ، فهل كان في مواجهة العدو المحتل ، عملياً ، وهل طبق ما كان يعتقده ويقوله ؟

     الاجتياح ومواقف الشيخ منه

       الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 م كان صدمة مؤلمة للجميع . خاصة أن الجيش المحتل هو جيش عنصري ، بالإضافة إلى العداء التاريخي الذي تربى عليه كلا الفريقين : المسلمين  واليهود . فالجنوبيون قرآنيون يؤمنون بما في كتابهم الكريم ، ومن جملة ما فيه أن اليهود أشد أعدائهم بغضاً لهم وقسوة عليهم ، وأنهم المفسدون في الأرض ، وأنهم قتلة الأنبياء والأولياء . من هذا المنطلق قرر الجميع ، المقاومة  ومن الطبيعي أن يكون رجل الدين في الطليعة. ففي الليلة الأولى  للإجتياح ، يطلب البعض من الشيخ تعليمهم صلاة الشهادة . فلبى النداء ، وطلب السلاح لينضم إلى ركب المقاومين . فاعترضه البعض ، ومن بينهم والده ، فرفض الانصياع ، وقرر النزول إلى الميدان ، ومن أرض المعركة ، شاهد الشيخ هزال المواجهة ، وضعضعتها ، وكانت النتيجة أن عمَّ الإحتلال الجنوب ، وبدأ الشيخ يفكر ، وهو ومن معه بالمقاومة ،  وكانت مقاومتهم في البدء تقتضي بتذكير المؤمنين بحرمة التعامل ، التي كان يطلقها من على المنابر ، كذلك عبأ الشيخ أهالي البلدة ضد سياسة التطبيع ، التي  تجلت بأوضح صورها بالعلاقات التجارية ، فحرَّم السلع ، حتى بات الأطفال يسألون عن مصدر صناعة هذا النوع من الحلوى أو ذاك . وكانت إسرائيل سريعة في الرد على محاولات الشيخ . فأخذت تداهم بيوت أعوانه واعتقلت العديد منهم . فما كان من الشيخ إلا أن نزل إلى ساحة القرية مهدداً العملاء ، ومندداً بهذه الأعمال الجبانة ، فاضحاً وبأسلوب قاسٍ المخططات الإسرائيلية ، معلناً مواقفه المحمدية الإيمانية . واستمر الحال على هذا المنوال : اعتقال ، وإفراج ، إلى أن حدثت العملية الجريئة ، التي نفذها أبطال المقاومة على طريق  ” الوادي الأخضر ” المدخل الجنوبي لبلدة عربصاليم . هذه العملية التي أودت بحياة ثمانية من الضباط الإسرائيليين . مما ولَّد عند الإسرائيليين غضباً عارماً ، وعلى الفور أقدمت قواتهم على محاصرة البلدة ، متهمة أبناءها بمسؤوليتهم عن هذه العملية . وشاهد أهالي البلدة أعداداً كثيفة من جنود العدو ، بمدفعيتهم وآلياتهم الثقيلة ، سدّوا منافذ البلدة وهم يحملون مكبرات الصوت التي تدعو الأهالي للدخول إلى منازلهم ، تحت طائلة اطلاق النار على كل من يخرج من منزله ، كل ذلك في ظل  زخات من الرصاص .

         وفي اليوم الثاني للحصار ، خرج الشيخ قاصداً النادي الحسيني ، فإذا بأصغر أولاده ، وكان آنذاك ابن سنتين ، يتعلق بعباءته ودموعه تنهمر من عينيه ، لكن الشيخ كبح جماع عاطفته ، وبرفق خلّص العباءة من اليدين الصغيرتين ، وقبّل طفله مودعاً ، وودّع الباقين ، وهو يوصيهم بحسن التوكل على الله ، ويأمرهم بالتمسك  بالاسلام ، دينه الحنيـف ، الذي هو وديعته عندهم .

        كان يخيم على البلدة صمت كصمت القبور ، تقطعه زخة رصاص هنا ، وزخة هناك ، عندما تسلل الشيخ ميمماً النادي الحسيني ، وهو لحسن الحظ قريب نسبياً من منزله ، وعندما وصل إليه ، وجد أبوابه مشرعة لأن القوات الإسرائيلية استخدمت مكبر الصوت التابع للنادي الحسيني لتوجه النداءات إلى أهالي البلدة :

       اعتلى الشيخ المنبر ووجه النداء بادئاً بالآية القرآنية التالية :

      ” لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ “([7]).

       وطبعاً استمع اليهود الكلام وفهموا فحواه ، ولكن قبل أن يستفيقوا من الصدمة ، كان النادي الحسيني يغص بالوافدين ، شباباً وشيوخاً ونساءً وأطفالاً ، بعضهم يسيل الدم على وجهه ، لآن اليهود كانوا يمنعونهم من الوصول إلى النادي الحسيني ، باطلاق النار حيناً وبضربهم بأعقاب البنادق حيناً آخر ، وما يزيدهم ذلك إلا تحدياً لليهود واصراراً على الوصول إلى ناديهم . وكم من موقف بطولي ، حدث في ذلك اليوم التاريخي لهذه البلدة البطلة المجاهدة المؤمنة ، من الرجال والنساء والصبيان وحتى الأطفال والشيوخ الطاعنين في السن .

       ومما خاطب الشيخ به أهل بلدته : يا أهلي انكم تـنتظرون كل سنة لقاء عاشوراء، لتقولوا : ” ليتنا كنا معك سيدي أبا عبد الله ([8]) لنفوز فوزا عظيما “. فها هي اليوم عاشوراء ، جاءت إليكم بنفسها ، وهذا جيش فيه أكثر من ألف شمر  وألف يزيد ، وها هم يطوقون البلدة ويقتحمون المنازل ليعتقلوا أبطالها ويذلوا أهلها ، فلنكن جميعاً في مواجهتهم حسينيين …

  وبعد التداول ، قرر الجميع وعلى رأسهم الشيخ ، القيام بمسيرة باتجـاه الحواجز الإسرائيلية لفك الحصار ، فما كان من العدو إلاّ أن أخذ يطلق النار على المسيرة فور خروجها من النادي الحسيني ، وكان يومها أصيب سبعة مواطنين بجروح سقطوا أرضاً ، تقدم الشيخ من أحد الجنود ، فصفعه وطلب منه أن يطلق النار على صدره بدل إطلاقها نحو الأطفال والنساء . هذا الصمود البطولي  والكربلائي من الشيخ والجمهور المؤمن الغاضب ، الذي بدا مصراً على المواجهة ، دفع إسرائيل إلى فك الحصار وبذلك  سجل أهالي البلدة المسلمون ، نصراً رائعاً على المعتدي المحتل ، بعد أن تعالوا فوق الخلافات الحزبية والعائلية التي كانت تتخبط بها البلدة قبل الاجتياح .

        ويعتقد أن عدة أسباب تراكمت ، فكان لا بد معها ، من زاوية النظر الإسرائيلي من اعتقال الشيخ ، أولها أنه كان لا يكف عن مهاجمة الاحتلال علناً وعلى المنابر ، محرماً التعامل مع الإسرائيليين بجميع وجوهه ، ثانياً أن الإسرائيليين حاولوا احتواءه بأن قالوا أن الشيخ بكلمة واحدة يستطيع أن يطلق سراح جميع المعتقلين من البلدة ، بل ومن الجنوب كله ، ففرح بذلك بعض البسطاء ، ولكن الشيخ كان أفطن من أن يقع في الفخ الإسرائيلي فرفض أية مداخلة معهم في هذا الشأن لو بكلمة . وثالثاً أنه كان يرفض استقبالهم ، وقد قاموا بمحاولات جاهدة ليحصلوا منه على موعد وعلى لقاء . ثم كانت العمليات الجريئة التي كانت تنفذ بالقرب من البلدة، وعلى الخصوص عملية ( الوادي الأخضر ) ، ثم طريقة الشيخ في تأليب الناس على الصهاينة ، ثم المواجهة المباشرة التي قاد فيها الأهالي ضدهم ، كل ذلك اعتبر من الأسباب المباشرة  وغير المباشرة  التي كانت وراء اعتقاله .

       حرص الشيخ على سلامة أهل البلدة

     كان الشيخ قد تواعد مع بعض المجاهدين  والمجاهدات ، على القيام بعمل محدد ، وإعطاء إشارة معينة ، عند مداهمة بيته ومحاولة اعتقاله .  لاستنفار أهل البلدة ، والحيلولة دون اختطافه ، لكنه فكر طويلاً ..  وطلع بنتيجة ، انه في حال  مواجهة مع العدو من قبل أهل البلدة دفاعاً عنه ، سيسقط قتلى وتنزف دماء . ومهما كانت النتائج فسيبقى العدو مصراً على اعتقاله أو اغتياله .

       والاعتقال إما بسفك دماء شجاعة وطاهرة وبريئة ، وإما بدون ذلك .  والشيخ حريص على الدماء الشجاعة . فليوفرها لبطولات ومواجهات أهم من هذه ، ونحن أحوج ما نكون إلى مثيلاتها .

       ثم انه كان عُرض عليه الذهاب إلى بيروت ,ارسلت اليه مرتين سيارة بإمكانها المرور به دون اشكال ولا أية ملاحظة .. إلى بيروت وكذلك مع أهل بيته . الا أنه كان يرفض في كل مرة ، ويعتبر ذلك خيانة لله ولعباده ، بعد أن كان هو يدعوهم للصمود والثبات ، وعدم تفريغ القرى من سكانها ، وهو مطلب لشد ما كان يتمناه  ويحرص عليه العدو الإسرائيلي .

       والنتيجة ؟ ما النتيجة في الموقف والقرار  ؟

       كان يقول عندما يحشر بمثل هذا السؤال : النتيجة أنني باقٍ هنا في بيتي وبلدتي ووطني ، والعدو المحتل هو الذي يجب أن يرحل .

       أرسل اليه العدو الإسرائيلي من ينصحه ويخبره في نفس الوقت ، أنه إذا لم يخرج من البلدة فقد أعدوا له ـ وبالحرف الواحد ـ : ” فيلم مثل فيلم الشيخ راغب ” ـ رضوان الله عليه .  فأجابهم الشيخ : ” أنتم لا تبصرون ولا اليهود يبصرون ، وأنا لست أنا ، أنا من زمان مسافر ( ,اشار  بيده نحو السماء ) ، أما ما ترونه مني ، فهو بدني ، وهذا لا يعوّل عليه ، فليأخذوه ، قتلاً .. أو اعتقالاً .. وأنا في عين الله ، وفي جواره ، ولتكن فيّ مشيئته ، وليكن قضاؤه ، عليه  توكلت وإليه أنبتُ وإليه المصير .

       وكثيراً ما كان يردد هذه الآية الكريمة  :

{ ..  وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا  . سورة الطلاق ، الآية 3  . } .

… واختطِفَ الشيخ

الاعداد النفسي : ألطاف من الله .. لمن يرضاه

         في عصر ذلك اليوم ، من أيام شهر رمضان المبارك ، وفي قاعة في بيته،  كان يدرِّس فيها الشيخ يومين في الاسبوع للشباب ، ويوماً للشابات ، وحسب البرنامج كان ذلك اليوم للبنات . وحيث اكتمل اجتماعهن ، جاء الشيخ كعادته ، فلاحظ وجوماً غريباً غير عادي ، كما لاحظت الفتيات على الشيخ كذلك، سحنة غير عادية ، دون اي استيضاح من الفريقين ، شعر الشيخ بعدم أية امكانية للشروع في الدرس . فسألهن رأيهن في التأجيل ، وبوجوه ممتقعة ، وأحاسيس مبهمة . أجبن إلى وجوب التأجيل .

        بعيد انصراف الفتيات ، زاره رجل كان يعتبره صديقاً ، واذ تحدث معه قليلاً ، لاحظ أنه يتلوى ويتنفس كتنفس الثعبان ..  لماذا هذه الغرابة  ، وهذا الكشف ؟ وماذا به ؟ . لا يدري .

       ذهب الرجل ، ومن غير عادة في ذلك الوقت ،  أقبلت والدة الشيخ من بيتها الملاصق لبيته ، أقبلت مع أخواته وهن حاجّات متزوجات ، وطلبن اليه أن يجلس اليهن ، لأنهن اليوم اشتقن اليه ، وطبيعي أن ينضم إلى المجلس أهله وأولاده .. الجميع يتأملونه .. هو لا يدري لماذا ، وقد تبين فيما بعد  أنهم هم كذلك كانوا لا يدرون . وكان ظنَّ في البداية أن في الأمر موضوعاً ما عائلياً ، فما وجد شيئاً من ذلك .. بل وجد نفسه مندفعاً معهم في حديث عن السجن والاعتقال ، مستشهداً بقصة سجن يوسف عليه السلام ، جاعلاً محور حديثه ، قول الله تعالى على لسان يوسف : ” رب السجن احب إليّ مما يدعونني إليه ” مقارناً بذلك وضعه مع اليهود وأوضاع جميع الأباة  المجاهدين الشرفاء ، الذين فضلوا شرف السجن على الجبن والسفالة والعمالة . على أن من يختار السجن في سبيل الله ، يحفظه الله وينجيه ، كما حفظ يوسف (ع) وأنجاه من القوم الظالمين .

        وإذ شرح الله صدر الشيخ بهذه الآية الكريمة ، وشرح هو ما تفضل الله عليه به ، وهو لا يدري لماذا قال ما قال . رفع المؤذن صوته بالآذان . فذهب  كل إلى منزله ، وكانت الصلاة فالإفطار ، وإذا بهدير مزعج يحطم صمت البلدة : طائرة فانتوم شديدة الإنخفاض ، تمر فوق عربصاليم ، لأول مرة بهذه الطريقة المنخفضة والمدوية . كان ذلك عند الغروب  . ثم في نفس الوقت تأتي ، أيضاً والدة الشيخ ، فتجده على الشرفة ، وعلى الشرفة حوض زهور، فتمد يدها وتأخذ حفنة من التراب ( لترقيها ) أي تقرأ عليها بعض التعاويذ ( لتطوق بها البيت كعادتها ) وهي المعروفة بعلمها وتقواها ،  الا أنها هذه المرة تلقيها من يدها ، فما استطاعت القراءة .. لماذا ؟ لا تدري ، ولا هو يدري . لعلّ في الأمر قضاء من الله ، ولا رادَّ لقضائه .

        ثم وبعد حوالي ساعتين ، تأتي الوالدة وللمرة الثالثة وتبادر الشيخ ابنها:

 ـ     أريد أن أنام في حجرتك

ـ     ألف أهلاً وبركة ، ولكن لماذا اليوم ، ومن غير عادة

ـ     لست أدري ، ولا حول ولا قوة الا بالله ” فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين ” سورة يوسف ، الآية  64  .

        بعض الاخوان يأتون للسهرة .. وحوالي الساعة الحادية عشرة ، يأتي أحد العملاء ، لأول مرة ربما في حياته ، يدّعي أنه أتى ليسأل سؤالاً فقهياً . أفي هذا الوقت من الليل ، وعلى تفاهة السؤال ؟ ..

 “مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ” ([9])

       انصرف الاخوان ، وانصرف الرجل ، وبقي الشيخ .. يتوقع .. يترقب .. وإنما بغير توتر .. وعبر كل ذلك يسبح الله ويحمده سبحانه وتعالى عما يشركون .

       البلدة نائمة .. جميع من في البيت غلبهم النوم .. واحساس بالخطر ، غائم ، مبهم .. أصوات دبابات ، وحركة آليات .. تتوقف .. دقائق .. يقرع الباب .. رجل معروف من الشيخ يقول وإنما بصوت شبه مختنق ، من وراء الباب :

ـ     مولانا .. ( ويرد الشيخ من الداخل )

ـ     نعم .. لحظة ( وضع العمامة على رأسه ) ، وفتح الباب ، فإذا الزبانية .. وخطف  خطفاً ..

       اقتيد الشيخ بعد اعتقاله إلى ثكنة مرجعيون . ثم  لم يعرف مكانه طيلة أكثر من شهر . إلى أن جيء به إلى ( مبنى الريجي ) ([10]) . وتبين فيما بعد ، أنه في فترة إخفائه ، كان في زنزانة انفراد ، في ثكنة بلدة كفريا البقاعية ، في لبنان .

       هذه الزنزانة كان يقال عنها أن الداخل فيها مفقود والخارج مولود .

       في هذه الزنزانة الرهيبة ، بقي مدة أربعة عشر يوماً لقي فيها ألواناً مستحدثة من التعذيب النفسي ، حتى أصبحت مشهورة فيما بعد ، لما كان يتم فيها من تحطيم المعتقل نفسياً وجسدياً باسماعه أصواتاً وحركات في لياليها الكالحة المظلمة وقد استنتج فيما بعد أن هذه الأصوات كانت مسجلة بطريقة تقنية ، كل ذلك اضافة إلى مبدأ السجن وما يرافقه على الطريقة الإسرائيلية من مشاعر تقتضي أكثر من كتاب على حد قول الشيخ . وكثيراً ما سمع الشيخ مُصَرِحاً ، أنه لولا عناية الله وحده ومشيئته وحده ، وحفظه وتدبيره وحده ، لما خرج حياً ولا سالماً ، لأن نوايا العدو الإسرائيلي كانت أكثر فظاعة وأشد خطراً .

       من هذه الزنزانة الملعونة ، نقل ثانية إلى ثكنة مرجعيون ، ودائماً مصفداً معصوبَ العينين ، ثم من مرجعيون إلى مبنى الريجي في كفررمان ، حيث احتجز ما يقارب العشرين يوماً جالساً على كرسي ليلاً ونهاراً غير مميز بين الليل والنهار بسبب ( الكيس ) الذي كان لا يزال بطريقة خبيثة ، بحيث يرغم السجيـن على نزعـه بسرعة في  مواجهة  الشمس ،  مما تسبب بالعمى أو ما يقارب منه لكثير من المعتقلين . وفي الريجي أصيب الشيخ بحالة انهيارٍ تام ، وغياب عن الوعي شبه يومي .

       وعن التحقيق معه ، قال الشيخ ان ضباط المخابرات  طلبوا منه تزويدهم بأسماء الشبكة ( الإرهابية )  التي يمولها ، وكانوا يهددون الشيخ بنسف منزله على عياله وأطفاله ، ولكن الشيخ صاحب المواقف المعهودة و المشهورة رد بقوله : ” إن الله ربي وربهم وهو أولى بهم مني ” بعدها نقل الشيخ إلى ( معتقل أنصار ) لينضم إلى قافلة الأحرار الذين نذروا أنفسهم للدين والحرية والكرامة .

       ثم بعد أن ألغى العدو معتقل أنصار ، وأفرج عن المعتقلين عامة نقل الشيخ مع كوكبة ، انتقاها العدو امعاناً في تعذيبها ، الى عتليت داخل الأرض المحتلة ، حيث أفرج عنه مع مجموعة من الأبطال ، في عملية تبادل للأسرى عبر الشقيقة سوريا .

جهاده في المعتقل

            إن دور الشيخ لم يتوقف سواء في المعتقل أو في خارجه ، ولقد رووا لنا كيف استطاع هو وزملاؤه من العلماء ان يشكلوا حوزة علمية ، تدرس اللغة والفقه والمنطق . كذلك كان من أبرز اهتماماته ، أن يجمع المعتقلين ، ويوحد صفوفهم في وجه العدو الإسرائيلي ، الذي كان حريصاً على تغذية خلافاتهم ، التي كان يراقبها الشيخ بمرارة ، إذ كانت تستشري بين صفوف المعتقلين بين مذهبية وحزّبية وغير ذلك . واكثر من كان يثير هذه الخلافات ويستغلها عملاء مندسون ، تستغل إسرائيل فيهم طباعهم الخسيسة ونقاط ضعفهم . كذلك استطاع الشيخ ، بفضل الله ، ان يتغلب على حالة اليأس التي نجمت عند المعتقلين .

       كذلك روى لنا ، كيف حولواالمعتقلين إلى بركان يثور ، عندما يطلب منه الثورة ، ولطالما اقتلع المعتقلون الأشرطة الشائكة التي تفصلهم عن جنود الاحتلال متحدين الحظر المفروض . من هذه الحوادث ، حادثة استدعاء أحد المرضى ، وتفاصيلها ، أن المريض عندما كان يطلب العلاج ، كان يتعرض للضرب قبل وصوله لدى الطبيب . هذه المعـاملة ولدّت عند المرضى قناعة تامة ، بأن الاستسلام للمرض خير من العلاج المقدم من قبل قوات الاحتلال . ففي أحد الأيام أقدمت قوات الاحتلال ، على استدعاء أحد المرضى الذين اتفق أنه كان من قبل قد تناول جرعة من الضرب المبرح . فرفض المريض الاستجابة لطلبهم ، فحاول الجنود أخذه بالقوة ، وإذ أصبح المريض خارج المعسكر ، امتنع من الصعود إلى سيارة الاسعاف ، فطلب الجنود من مختار المعسكر علي الجرمقي أن يقنع المريض . فخرج اليه فلم يقتنع . فأشار عليهم الجرمقي ، أن لا أحد يقنعه إلاّ الشيخ ، وإذ رأى الجرمقي أن في ذلك مصلحة للمريض ، طلب إلى الشيخ ذلك ، وهو يعلم أن الشيخ لن يتردد ما دام هناك مصلحة لأحد المعتقلين ، فخرج الشيخ على مرأى ومسمع من جماهير المعسكر وما إن أصبح في الخارج بين الجنود ومعه المريض والمختار الجرمقي ، حتى اخذ المريض جانباً فوجده في حالة من الرعب مفادها قناعته أنه إذا ذهب معهم سيقتلونه . وبعد هنيهات مرت صعبة متوترة ، كان يستمع فيها الشيخ  إلى المريض، أعلن الشيخ موقفه : وهو التضامن مع المريض في عدم الصعود إلى الإسعاف . وهنا غضب  الضابط ، وغضب الشيخ  ،  وهاج المعسكر ، عندما سمع الشيخ  وقد ارتفع صوته ، وإذا بالتكبير يتصاعد من هذا المعتقل وذاك ، وعلت الهتافات التي كان من أبرزها :

                                        غضبـاً غضبـاً لهبـاً لهبـاً

                       يجعـل إسرائيـل حريقـاً

 }جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا { ([11]).

        وتطورت المواجهة ، فهاجم  المعتقلون الشريط الشائك ، وتخطوا الخط الأبيض الذي كان يعتبر خط الموت ، والذي طالما جرح أو قتل من تخطَّاه ، فأوعز الضابط إلى جنوده بإطلاق النار فرفضوا ، فهمّ الضابط باطلاق النار من بندقيته التي يحمل ، فما كان من الشيخ الا أن أمسك بالبندقية محاولاً منع الضابط من اطلاق النار ، وبينما هما يتنازعان البندقية ، ارتد المعتقلون إلى الخلف ، وظن الشيخ واليهود أنهم انهزموا ، ولكن ما هي إلاّ لحظات ، حتى شوهدت الخيام تهوي إلى الأرض ، ويخرج من تحتها شباب يحملون أوتادها كالرماح المشرعة ويهاجمون بها الإسرائيليين ، وإذا بهم ينهزمون إلى سياراتهم بأمر من قائد المعسكرات الذي كان وصل للتو في تلك اللحظة ربما بناء لاتصال اجري معه من بعض ضباطه .

       ثم جرت المفاوضات مع الشيخ لعودة المعتقلين إلى خيامهم وعودته هو والمختار والمريض إلى معسكرهم ، وألا يقتادوا أحداً إلى زنزان كعادتهم أو يطلبوا أحداً للتحقيق معه ، وقد تم كل ذلك بفضل الله تعالى ، بعد أن سجل المعتقلـون نصراً على سجّانهم المحتل أرضهم ، بوقفات أعزَّهم بها الله عز وجل .

       ومن المواقف البطولية التي وقفها الشيخ ، إعلانه أنه لن يخرج من معتقل انصـار، حتى يخرج منه جميع المعتقلين . وقد غضب الشيخ غضباً شديداُ ، عندما علم أن هناك من يتفاوض مع العملاء وقوات الاحتلال للإفراج عنه . وحاول بما أمكن من الوسائل ابلاغ المحبين بالكف عن محاولاتهم .

       هذه بعض خصائص الشيخ الذي تربى في مدرسة الاسلام ، فنال من الله التوفيق ليدخل باب الإيمان ليصل إلى اليقين الذي به تهنأ النفوس قبل رحيلها وتطمئن به القلوب قبل نضوب معينها .

[1]  راجع المنطلق ، العدد السابع عشر ، محرم 1402 هـ ، ص  75

[2] راجع المنطلق ، العدد السابع عشر ، محرم 1402 هـ ، ص  76.

[3] راجع مجلة صوت الشبيبة المسلمة ، العدد التاسع 1977 ، ص 40 .

[4] المنطلق ، العدد الخامس عشر ، رمضان 1401 هـ ، ص 77  .

[5] طبعت سهدان والصحيح سهران  .

[6] المنطلق ، العدد التاسع عشر ، ربيع الثاني 1402 هـ ، ص 114 و 115 .

[7]  سورة المائدة  ، الآية  82  .

[8] المقصود الإمام الحسين (ع) سيد شهداء كربلاء  .

[9]  سورة الحديد ، الآية 22  .

[10] ( مبنى الريجي ) في بلدة كفررمان ، كان احتله العدو وحوّله إلى معتقل .

[11] سورة الإسراء ، الآية  81