الدماغ علم العقل وعلم النفس

الخلايا العصبية أو المفاعل النشاط البشري      

في تحقيق عن الدماغ تحت عنوان ” رحلة العلماء في كشف أسرار الدماغ والعقل ” ورد فيه : ” ولكن الأساس في ذلك هو ( خلية عصبية ) تستطيع أن تتخاطب مع أنواعها بلغتها الخاصة ، ولغة هذه النبضات  الكترونية ، تسري في داخل الكائنات الحية ، دون أن تشعر بسريانها . وبهذه اللغة الغريبة التي تسجلها أجهزتها الإلكترونية الحساسة على هيئة خطوط ترتفع وتنخفض ، يكون التخاطب والتفاهم ، بين هذا المجتمع الخلوي العظيم ، الذي تضمه أجسام الكائنات الحيًة ” .

        ” إن  ” الخلية العصبية ” واحدة في جميع الكائنات الحية ” .

        ” إن أعصاب الدماغ تطلق مادة  قادحة عند المحور ” .

        ” عدد خلايا الدماغ 12 مليون خلية هي بمثابة 12 مليون بطارية “( العربي ـ العدد 269 أبريل  1981 ).

        نستنتج ،  أولاً : ما هي هذه اللغة التي تتخاطب بها الخلايا العصبية ، بثاً وتلقياً ، وشعوراً وإحساساً ، وتفكراً وتخيلاً ، ونوماً ويقظة ، ونشاطاً وهـدوءاً و … إلى ما لا يمكن حصره من نشاطات الإنسان ولو بموسوعات ، ما هي هذه اللغة الثـرية البسيطة علـى تعقيـدها ، الواسعة  التـي تكـاد تسع  العالم ،ومن وضع رموزها وشيفرتها ، منذ دبت الحياة على هذا الكوكب . هذه اللغة التي تستوعـب كل اللغـات ولكن كل اللغـات الأرضيـة لا تستوعبها ولا تفهمها :

       { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ .. }(سورة لقمان  ، الآية  11). صدق الله العظيم .

        ثانياً : ما دامت الخلية واحدة في جميع الكائنات الحية ، فلماذا لم يكن الفيل والجمل ، أو الشمبانزي أو الأورانج من القردة العليا ، هي صاحبة الحضارة المسلطة على الإنسان  ، وهي التي تقود السيارة والطيارة والباخرة ، وتنظم الشعر ، وترتل  الكتب المقدسة ؟

        وما دام الإنسان عينه لم يخلق هو دماغه ولا خلاياه ، ولا أدمغة غيره ولا خلاياها من الكائنات الحية ، وهو كذلك لم يضع لغة هذه الخلايا ولا يفهم لغتها الباطنية ولا أسرارها منذ وجد وحتى الآن ؟ فمن ذا الذي سوّده على الأرض والفضاء والبحار وبالتـالي على الكائنات الحية ، من ذا الذي سخر له ما في الأرض وما في السماء جميعاً منه ، ومن أعطاه هذه القدرات الهائلة التي بنى بها المجتمعات والحضارات  وتجول في أجواء الكرة  السماوية وغزا القمر  وراود الكواكب الدّوارة ، يستكشفها  وقد يهبط عليها يوماً ما ، وهو ما زال يطلق مركباته الفضائية ، يرصد كوكبنا الأرض  من جميع جهاته كما يرصد الشموس والأقمار والمجرات  . من جعل هذا الإنسان سيداً ومكّنه  على هذا الكوكب  في وقت ما زال فيه  عاجزاً عن فهم لغة خلاياه العصبية وغير العصبية حيث تحافظ الأولى ( العصبية ) على عددها ( 14 مليار خلية عند الإنسان : دماغه وجملة جهازه العصبي ) يكتمل عددها قبل الولادة بأربعة أشهر بدون أي تغيير أو نقص أو تكاثر ( كتاب ( الطب محراب العلوم ) للدكتور خالص جلبي ) ، أما غير العصبية  ، فتتغير وتنشطر،  ويموت البدن كله بموتها كل عشر سنوات ، ليحل محله بدن جديد .

الادراك بين النوع والدرجة

في المعركة العلمية  التي ما زالت قائمة بين الدينيين الذين يقولون إن الإنسان خلق رأساً خلقاً مستقلاً عن بقية  المخلوقات  لا سيما عن الحيوان ، وبين أصحاب النظريات التي تعتبره تحول وتطور عن القردة ، أقول في هذه المعركة كان للإدراك الحيّز الأكبر والأهم في مجالي المقارنة والاستنتاج .

        واستدلَّ أصحاب نظرية النشوء والتطور على أن الإنسان تحول من القرد بعدة أمور أبرزها تشابه القرد مع الإنسان من حيث الفهم والإدراك ، حيث يقـولون إن إدراك القردة العليا وتصرفاتها الواعية تفوق جميع الحيوانات الأخرى ، وأنها قريبـة في ذلك من الإنسان وأن الإنسان لا يفوقها إلاّ في الدرجة .

        يقول الدكتور  مقداد يالجن (مجلة الهادي . السنة الخامسة  ، العدد الرابع) : ” والقرود الشبيهة بالإنسان أكبر الحيوانات دماغاً ، ومعدل وزنه المتوسط فيها 360 غراماً وغاية ما بلغه في الأورانج 420 غراماً ويعدون ذلك من الشواذ “.

        ثم يذكر يالجن ميزات كثيرة للإدراك عند الإنسان ليست موجودة لدى القردة العليا ، , وأظهر هذه الميزات ، الحقيقة الدينية ، يقول : ” من هنا صدق الذين قالوا أن الدين نشأ مع نشأة الإنسان ،  ووجد مع وجوده ، لأن الشعور الديني والتفكير الديني ،  ظاهرة ٌ لواقعٍ مخلوق في الإنسان ، ومن هنا لا نجد أية ظاهرة للتدين لدى أي كائن حيواني غير الإنسان ، ولهذا كان التدين من المميزات الخاصة للإنسان .

        وهكذا يحاول يالجن أن يثبت بردوده واستدلالاته أن الفارق بين الإنسان وبين الحيوانات بشكل عام والقردة بشكل خاص هو فارق بالنوع وليس بالدرجـة ((مجلة الهادي . السنة الخامسة  ، العدد الرابع)) .

        في الحقيقة إن رأي يَاْلْجِنْ  هو نصف الحقيقة ، والحقيقة هي : صحيح أنه فارق بالنوع في أصل الخلقة ولكن هذا الأصل  ينتكس في قطاعات كبيرة من البشر فيصبح فارقاً بالدرجة،  وتفصيل ذلك فيما يلي :

هل وزن الدماغ عند الإنسان دليل على سلامة تفكيره ؟

         قبل أن نجيب على السؤال ، لا بدَّ من التنبيه ، إلى أننا عندما نتكلم عن وزن الدماغ والفوارق فيه بين الإنسان والحيوانات ، فإنما نعني دائماً الوزن النسبي ، أي المتناسب مع أوزان الأبدان ( فالفيل مثلاً يزن دماغه ثلاثة أضعاف وزن دماغ الإنسان ، والحوت الكبير يزن دماغه خمسة أضعاف دماغ الإنسان . ( ولكن النسبة  ما بين وزن الكائن ووزن دماغه هي أرقى وأكبر شيء عند الإنسان فقط ، حيث  تعادل النسبة تقريباً 2,73 % بينما هي عند الحيوانات القاضمة 0,2 % )(( الطب محراب العلوم )  للدكتور الجلبي).

        وهكذا على صعيد النوع الإنساني ، فقد يكون وزن دماغ إنسان نحيل بالنسبة لجسمه،  هو أرجح وزناً من دماغ إنسان ضخم  أو يعادله أو تنعكس القضية ، فالأمر متعلق بأمور متداخلة بين النشأة الأولى والنشأة الثانية .

        إلاّ أن الأهم في الموضوع ، هو أن رجحان الوزن ، وإن كان دليلاً على السعة ، إلاّ أنه ليس دليلاً على العقل المؤمن الفعال ولا على سلامة التفكير واتباع الحق .

        ولتفصيل ذلك ، فإنه ما من شك أن لفارق الوزن بين دماغ إنسان ودماغ إنسان آخر دلالة أكيدة على الفارق بالطاقة والكفاءة ، والقدرة  على الإنتاج  والفاعلية ، ولكن يتضح لنا من القرآن المجيد ، أنه مع كل رجحان ، تكون هناك زيادة في التكليف وحمل المسؤولية قوله عز وجل :

 { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا }(سورة البقرة ،  الآية  286 ).

        وقوله تعالى :

       { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ }(سورة التوبة  ،  الآية  105) .

       وقد ضرب الله مثلاً  على سعة وأوزان الأدمغة وأصحابها ، ومقادير ما تنتج ونوعية ما تنتج ، وما ينفع من نتاجها وما يضر ، والمحق  منها والمبطل ، والسقيم منها والصحيح بقوله عزّ شأنه :

{ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ اْلْأَمْثَالَ }(سورة الرعد  ،  الآية  17) .

وفي الآية التي تليها ينقلنا تبارك وتعالى من روعة المَثَل البليغ وجمـال رموزه ، إلى ما يترتب على هذا المثل من واقع الحال وخطر المسؤولية ، بسبب ما تحمله هذه الأدمغة من حريات عامة وحرية خاصة ، هي حرية الاختيار ، وبخصوص انقيادها للعقل المهتدي بالله ، أو انقيادها لهوى النفس وأهواء الآخرين وبكيفية تفاعلها مع ما تحمل ، وأيضاً بخصوص ما تترك من آثار .. ونتيجة كل ذلك .. بقوله سبحانه :

       { لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَـئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }(سورة الرعد  ،   الآية  18).

        ثم هذا النص المدهش ، في كتاب الله الكريـم  ، وفيه حوار  بين التابعين الضالين ويسميهم الله ( المستضعفين ) ، وبين الذين ركبوا رؤوسهم  عناداً وبهيمية من أصحاب الأدمغة الوازنة ، ويسميهم  الله ( المستكبرين ) يقول عز شأنه :

       { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ . وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }(سورة سبأ – الآية 31-32-33).

الإنسان ليس أفضل خلق الله :

قوله عز وجل:

       { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً }(سورة الاسراء-70).

        فيستفاد من هذه الآية الكريمة  أن الإنسان ليس هو أفضل مخلوق في خلق الله ، ومن الأدلة على ذلك ، قوله عز وجل مخاطباً إبليس لعنه الله عندمـا امتنـع  عن السجود لله سبحانه  ، باتجاه  آدم ، بعـدما أمره الله بهـذا الإتجـاه  :

       { .. أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ }(سورة ص  ،  الآية   75 ) .

        إذ إن ( العـالين ) خَلْقٌ لم  يدخـل في الملائـكة  الذيـن أمرهـم الله بالسجود لآدم عليه السلام  .

        يبقى أن الخَلْقَ الكثيـر الذي فضل الله بني آدم عليه ، هـو المدرج فـي الآية الكريمة :

       { وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ..}(سورة الجاثية -13).

        وقوله تعالى :

      {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}(سورة لقمان – الآية -20).

        مع الالتفات إلى لفظة ( ما ) في الآيتين  ، حيث تستعمل في اللغة عامة لأصناف الحيوان وللأشياء .

أدمغتهم كبيرة ولكنهم مجرمون :

أما ذووا الأدمغة  الكبيرة ، الذين ضلوا وأضلوا ، فمن شأنهم على اختلاف درجاتهم وحقول نشاطهم ، أن يبرزوا وينشهروا ، ويتصدروا المواقع  في المجتمعات والأمم ، ويكون لهم  من ذوي الأدمغة الأدنى وزناً ، أو من ذوي النفوس الضعيفة  ، أتباع وأتباع ، كان فرضاً عليهم وبالحد الأدنى من التفكير السليم ، أن يتبعوا أولي الألباب من الأنبياء والأولياء والصديقين ، وقد أوجب الله عليهم ذلك ويسّرهم لهم إلى قيام الساعة ، أما وقد هانوا وانقادوا لذوي الأدمغة الكبيرة الشاردة والنفوس المجرمة بين الحاد وعلمنة ونرجسية ، أو قوة مال وجاهلية  في شتى  نشاطات الحياة من سياسة وعلم ظني ، وشعـر وأدب وفن ، وأخلاق،  كل ذلك مما تمارسه أبالسة الأقلام وأبالسة الإعلام ، فسيكون لهم مصير لا تنفع معه ندامة : والله عز وجل يصور مصيرهم بقوله :

       { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ، وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا }(سورة الأحزاب ، الآيتان  66 و  67).      

وهكذا الإنسان .  الإنسان الذي سخرت له مُقَـدَّرَات السماوات والأرض ، ودماغ الإنسان ، هذه الميزة الكبـرى والآية الكبـرى . فمن حيث الخصوص كل دماغ  يكون لصاحبه إما الخلاص وإما الكارثة ما دام لا يعقل به كما ينبغي له ، ومن حيث العموم فإن الذين يقودون  المجتمعات إما أن يكونوا سبباً في خلاص مجتمعاتهم وإما سبباً في كوارثها . ويهون الأمر إذا انتهت الكوارث في حدود الأرض ، ولكن الأمر شديد الخطورة رهيب ، ما دام متعلقاً بحياة بعد الموت ، وبحياة طويلة .. طويلة .. خالدة …

        وأنت إما أن تكون قائداً ، وإما أن تكون تابعاً .. وبحث التبعية عندي أهم في بلادنا هذه التي يكثر فيها الأتباع والأزلام  والطبالون والزمارون . وما أكفر  القادة ـ إلاَّ من رحم ربك ـ وما أسفه الأتباع الإمعات ! … فالعجب العجب ، من أناس يتبعون الكفرة والفجرة والظلمة من اللادينيين ، ويتخلون عن عباد الرحمان  أهل اليقين أولي الألباب . ويقذفون بأنفسهم مختارين ، إلى خزي الدنيا وعذاب الآخرة .

الدماغ يزيد وينقص :

   كما رأينا بخصوص المفاعل الذي هو المخ ، فإن الفارق التقريبي بين وزن  دماغ الإنسان ومتوسط دماغ القردة العليا هو 1360 ـ 360 = 1000 غراما لمصلحة الإنسان، أي بنسبة واحد عند القردة العليا إلى أربعة أمثال عند الإنسان المتوسط .

بشر تحولوا إلى قرود :

         العجيب في أنصار نظرية النشوء والتطور ، أنهم انطلقوا من الإصرار على فكرة أن التحول يكون دائماً إلى الأرقى ، والحقيقة أنه ليس دائماً كذلك إذ يقابله ـ وهو تحويل وليس تحولاً ـ أن يكون أيضاً من الأرقى إلى الأدنى . والكون كله يديره ربه رب العالمين ، ويدبره بنواميس ، أحدها هو هذا التحويل من الأدنى إلـى الأرقـى ومـن الأرقـى إلى الأدنـى  ( يتضمنـه  نامـوس   آخر هو ناموس الجزاء ) أما الأمثلة عن التحول  من الأدنى إلى الأرقى فقد اهتم  بها اهتماماً بالغاً أصحاب نظرية النشوء والتطور . فكفونا مؤونتها ، على أنهم رأوا بالعين الواحدة ، ولا نقول نصف الحقيقة ، لأن رؤيتهم بالأساس ظنية . وقد تبين لدى العلماء الذين لهم نفس الاختصاصات ، أن هذا الظن ـ دارونP(1)P ومدرسته ـ خاطىء.  والقاعـدة في علـم المنطـق : إن الانطـلاق من نقطـة خطأ ، وإن هي مرّت بحيثيات صحيحـة ، إلا أنها تنتهي إلى الخطأ ، إلى نتيجة خطأ .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) داروين Darwin ) )  ( 1809 ـ 1882 )  عالم طبيعي إنكليزي أسس نظرية التطور   التاريخي للعالم العضوي . له كتاب ” أصل الأنواع .. ” فصَّلَ فيه القضايا الأساسية لنظرية التطور . له كتاب ” سلالة الإنسان والانتخاب بالنسبة للجنس ” ( 1871 ) عرض فيه انحدار الإنسان من الأسلاف الحيوانية  ( الموسوعة الفلسفية ص 175 ) .

        أما التحويل من الأرقى إلى الأدنى ، فأمثلته كثيرة ، وهي أيضاً من أفواه أهل الاختصاص وتحقيقاتهم ، ويكفي هنا أن نورد بعضها ونوجز ، إذ الأمر يقتضي إذا أسهبنا ، تخصيص بحث مستقل ومستفيض ، في هذه النظرية المعاكسة التي نحن بصددها .

         ففي المجال العلمي ، إن علماء النبات لديهم الكثير من الوقائع التي تثبت حالة التراجع في شتى أنواع النباتات ، إذا تركت بدون عناية في الاستنبات ، وإضافة إلى ذلك فإن أجيـال النبات تختلـف كلما بعـدت عن الجيـل الأول ( السوي العملاق ) حتى ليخرج منها المتناقضات بين عمالقة النبات وأقزامه ، من الفصيلة الواحدة ، وكذلك عند علماء التناسل ، وعلماء الوراثة ، فعندهم تقارير ودراسات مفصلة في مجالي التراجع والتقدم النوعيين . ثم أخيراً وليس آخراً ، في مجال الفلك والأجرام السماوية ، والحديث الحامي عن القانون الثاني للحرارة الديناميكية Second law of thermo dynamics  ، وموجـزه  أن  الحـرارة  تنتقـل  مـن   وجـود  حـراري  ،  إلى  عـدم حراري . وهذا معناه أن توهج النجوم يتراجع حتى الإنطفاء ، وحتى تتساوى حرارة جميع الموجودات ، وبذلك تنعدم كفاءة عمل الكون ، وتنعدم معها كل مظاهـر الحياة . فهل هذا التراجع المتدرج من حيث الكفاءة ثم الانطفاء العام ـ طبعاً البحث في العالم المرئي في حال إيصال هذا القانون  إلى غايته القصوى ـ  هل هذا يعني سوى التحويل من الأرقى إلى الأدنى.  

وواجبة هنا، وقفة تصحيحية ، فبعض العلماء ، ومعهم كثيرون ، يربطون قيام الساعة بهذه القاعدة العلمية ، وهم يقدرون لهذا الأمر الذي فيه الإنطفاء والدمار الكوني ـ حسب تعبيرهم ـ ملايين السنين .  وهذا ما يرده  القرآن المجيد  ، رداً دامغاً ـ وهو الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه  ـ متبوعاً بفضل الله ، بتأييدات الكشوف الحديثة في كتاب الكون ، والبراهين العقلية .  وخلاصة القول  فيه أن علم الساعة غيب له مقدمات يظهرها الله سبحانه لخاصة أوليائه ، ليظهروها بدورهم للناس في وقتها ، وقد سماها أشراطاً ، وهي إذا بدأت بالتحقق ، وجب على الناس الاستنفار توقعاً لتكاملها ومباغتة الساعة تبعاً لهذه الأشراط .  وواقع الحال أن النذر الأولى قد ظهرت بقوة ووضوح في هذا العقد الأخير من هذا القرن العشرين ، وهي راهنة جلية لكل من ألقى السمع وهو شهيد :

        { بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا }(سورة الفرقان  ، الآية  11) .

        وسنفـرد لها فصـلاً خاصـاً في هذا الكتـاب ، إن شاء الله الحليم الكريم .

        ثم عوداً على بدء فإن العقل الإسلامي يتلو في القرآن الكـريم قولـه تعالى :

{ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمين}(سورة النحل ، الآية  89).

       هذا العقل يمر على المجلدات التي صنفت في نظرية  ( النشوء والتطور التي تقول إن الإنسان كان قرداً ) وأحدثت ثورة تشكيكية في أكثر من نصف العالم ولأكثر من مائة سنة وما زالت .. هذا العقل يمر بها موقناً بما آتاه الله سبحانه مطمئناً ، غير عابىء بلغوهم وتزويرهم للحقيقة ،  ويرتـل قـول الله تعالى :

{  وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا }(سورة الفرقان ،  الآية  72).

ثم يتلو قول الله عز شأنه مخاطباً بني إسرائيل :

{ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ  فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفـَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ }(سورة البقرة  ،  الآيتان  65 و 66).

وأيضاً :

{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ }(سورة المائدة  ،  الآية  60).

وكذلك :

{ فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ }( سورة الأعراف  ،  الآية 166 ) .

 من هنا من مضمون هذه الآيات الثلاث ، نجد أن الإنسان الواردة صفاته في هذه الآيـات يحـول من الأرقـى إلـى الأدنـى ،  من واقعـه الإنساني إلى واقع آخر بهيمي ، يعني أن هذا الإنسان يخرج من النوع ويدخـل في الدرجـة .

        فمن المعاني الجليلة  المتقدمة في الآيات الكريمـة ، نستنتـج حقيقـة أن يخرج الإنسان من أصـل النوع خروجـاً اختيارياً يترتب عليه التحويل ونوع الجزاء :

       { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا }(سورة الكهف  ،  الآية  57) .

       فمن قوله تعالى ( ذكر … فأعرض … ) نفهم أن خروج الإنسـان الذي أعرض عن آيات الله ، يعني رفض أن يعْقـل ، وهـو  خروج اختيـاري عن أصل نوعه العـاقل ، وإنما يترتب عليه أن يجعـل الله تعالـى ، على قلب الخارج المعرض ، كِناً وفي أذنيه وقراً . وبقية الآية الكريمة : { وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } فيها الخطر الأكبـر : يبـدأ بالإعـراض عن آيات الله تبـارك وتعـالى ، ثم يتدرج  سفـراً في البهيميـة إلى غير رجعة  ، والعقل في هكذا حـال يأخـذ بالتراجع حاملاً معـه النورانية ، حيث تظلم النفس في المقابل تدريجياً ، إلى أن تنقطـع عن المدد الإلهي وتصبح  مقفلـة مثقلة  بأرجاسها .

        والواقع الملموس انطلاقاً من فكر التوحيد  ، أن الناس فريقان : فريقُ كُفْرٍ  على درجات ،  وفريقُ إيمانٍ على درجات .

        والكلام عن العقل ، فيما كتبه أهل الفكـر ، كثير ، ولأنه ظني وافتراضي فمعظمه مردود ، وعن فرضية أن الدماغ هو العقل ، أو أن الدمـاغ وحده هو مركزالعقل ، مردود كذلك ، وسنفند ذلك بالحجة والبرهان في موضعه المناسب من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى .

        أما الدماغ  وكلية الجهاز العصبي  في مجال التشريح ، فقد بذلوا فيه  جهوداً رائعة ، وكشفوا عن آيات مجيدة ، وحيث تشعبت فيه حقـول الاختصاص ، ففي كل حقل نشطت مختبرات علمية ، وكتب مختلفة  الأحجام  تتلقف منها الموسوعـات  العلمية أهم ما فيها ، وسنذكر أيضاً في الموضع المناسب إن شاء الله أحدث وأهم  اكتشاف في مجال الغيبيات ،  على يد جراح شهير مختص بجراحة الدماغ والكتلة العصبية .

        أما ما يجب أن يقال ، هو أن كل فقرة علميـة في هـذه البحـوث هي مدهشة مذهلة  ، ليس عجيباً إذا أدركها الصخر الأصم  ، أن يخر ساجـداً لعظمة الله ، خاشعاً خاضعاً هاتفاً من أعماقـه : أشهد أن لا إله إلاّ الله ، والله أكبر ، وتبـارك الله الخلاق العظيم،  والحمد لله حمداً لا ينقطع ، حمداً خالداً بخلوده ، وأن  يتلو قول الله جلت قدرته :

       { هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ }(سورة لقمان  ، الآية  11).

       هذا مع خبر يكشف رائعة من روائع  الخلق ، بخصـوص الدمـاغ والجهاز العصبي أو في مجال الإنسان كله ظاهراً وباطناً ، ونفساً وبدنـاً فضلاً عن مجـالات الأرض الدوارة ، والكواكـب المسـافرة أبداً في مداراتهـا كالمغازل الهائلـة  وعليها حضـارات جميلـة كريمـة ، وعليها شقاء وبقاء في الشقاء .

        وإذا كانت هذه الدهشة ، مع كل خبر يكشف عن سر أو لغز أو رقـم يدخل بحسبان  و  { الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }(سورة الرحمن  ، الآية   5). فكيف يكون الحال أمام كلية أسرار الدماغ والقلب ، وهذا أمير البدن ، وأكرم وأنبل عضو فيه ، وذاك عرشه وعاصمته ورافد مؤسساته . كيف يكون الحال مع كشف الإنسان المتكامل  ،  روحاً وأنفساً  في ذات واحدة  ،  وبَدَناً هو بيت النفس يظلم إذا أظلمت ويشرق إذا أشرقت  ، ولا استقلال أبداً عن عناية الله وحكمته . هذا الإنسان الذي حمّله ربّه الأمانة جملة وتفصيلاً ، وجعله كنز معارف وعلوم ،  وحثه  على سبر أعماق هذا الكون  وأبعاده والإلمام بحقائقه وروائعه ، التي هي آثار عظمته سبحانه ، فاطر السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن  رب العرش العظيم  :

       {  قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولـُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، قُـلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبـْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ  سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ،قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ،  سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ }(سورة المؤمنون ، الآيات  84  ـ  89  )  صدق الله العظيم  .

العبرة في كيفية استعمال  الدماغ :

في الدماغ بصائر ، هكذا أثبت التشريح المتقدم الرائع ـ دائماً بفضل الله وبإذن الله  ـ ففي كل خلية ذاكرة ذات فاعلية وإضاءة ونشاط عجيب . وهذه الذاكرات تعمل منفردة ومجتمعة بتنسيق إلـهي ، لم يستطع العلماء ومعهم الأجهزة الألكترونية ، أن يكتشفوا إلا جزءاً يسيراً من  أسرارها ، ويقولون ما زال  الدرب أمامنا طويلاً طويلاً  .

        وهذه الخلايا ـ البصائر ، إذا تركت على فطرتها متفتحة على بارئها  سبحانه ،  تتغذى بنعمته وتعاليمه طائعة وفيّة شاكرة ، رفع الله صاحبها درجة درجة حتى يؤتيه اليقين ، فيبلغ به ذروة الإنسانية ، حكمة  وعلماً حقيقياً نافعاً ، وحضارة مؤيدة برضى الله مباركة ، أما بخصوص تساميه ، مرحلة  مرحلة  فلأن الإسلام درجات حدّها اليقين  ، واليقين درجات،  حـدها أن يغدو الإنسـان مصداقاً  لقوله تعالى :     

{ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا }(سورة الأحزاب ، الآية  39).

       أما تعاليمه في هذا المجال فهي كثيرة . منها قوله تعالى :

       { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } (سورة طه ، الآية  14 ) .

        وقوله سبحانه :

       { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ  وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ }(سورة الحجر  ،   الآية   99 ) 

       وقوله عز وجل  ، إشارة إلى ابتلاء الإنسان  وامتحانه مرة بعد مرة لرفعه درجة درجة:  

       { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا .. }(سورة البقرة  ، الآية  124) 

       أما إذا لُوّثت هذه الخلايا بوحول المادية ،  وبنـزعات النفس الأمارة ، وبهلوسات الفكر المنفلت من ضوابط الجد والاعتدال ، ووقع الإنسان في الإفراط أو التفريط في مجال نيته واعتقاده وسلوكه ، أخذت هذه البصائر في خلايا الدماغ ، تخبو شيئاً فشيئاً  حتى تصل إلى درجة الإنطفاء .

        وهكذا تعمى بصيرة الخلية ، بينما تبقى عاديةً نشاطاتها الفيزيولوجية بتعقيداتها العجيبة،  كما يبقى عادياً غذاؤها الذي هو أرقى نوع في السكَّر ، وهو المادة المعروفة بالكليكوز ، حيث لا تتقبل غيرها ، باعتبارها أكرم خلايا البدن  ، وتتحمل مسؤولية إدارته ، كما أراد لها ذلك مسبب الأسباب .

        وبنقص المسـاحة النظيفـة ، المستنيـرة في الخلايا ، يلحـق النقـص بعمليات الضبط والربط ، ومن ثم القدرة على الذكر الحق  والتذكر ، والتفكر في خلق السماوات والأرض  ، ويصبح التفكير في درجات من الفوضى ، التي تُجْهِدْ  صاحبها في محاولة تنظيمها  ، ولا يلاحظها في أصحابها إلاّ المستنيرون  . وقد يصل الأمر معها إلى أن تصبح فوضى كاملة ، فتؤدي بالدماغ إما إلى الإنفجار ، وإما إلى الإصابة  ببعض أنواع السرطان حيث تتكاثر خلايا الدماغ بشكل فوضوي ، ثم تقع الكارثة .

        ثم يأتي في الموضع المناسب  من هذا الكتاب إن شاء الله ، بحث تأثر هذه الخلايا إما بالعقل فتكون النجاة ، وإما بالنفس الأمّارة فتكون الهلكة . وبذلك يتضح الأمر وينجلي أكثر فأكثر .

بين العقل والنفس والدماغ

إن لفظة ( العقل )  هي لفظة عربية مشتقة  من المجرد الثلاثي ( عقل  ) على دعوى أن الفعل المجرد هو أصل الإشتقاق ، أو هي مصدر مشتقاتها حسب من يقول أن المصدر هو الأصل في الإشتقاق ، ولذلك  سمي مصدراً  . ومن معانيها في اللغة :  فهم  وفقه ، وربط وقيّد  ، وهي معان متقاربة .

        أما في القرآن الكريم  الذي هو المعيار الأعلى في دراسة المعاني  وقوالبها ، فإن هذه اللفظة ( العقل ) لم ترد فيه إطلاقاً بصيغة المصدر أو الإسم ،  وإنما وردت فقط بصيغة الأفعال  المضارعة ( تعقلون )  24 مرة  و  ( يعقلون ) 22 مرة  ، و ( نعقل ) مرة واحدة في قوله تعالى  :

       { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ }(سورة الملك ،  الآية  10).

        ومرة واحدة ( يعقلها ) في قوله تعالى :

       { وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }(سورة العنكبوت  ،  الآية    43).

ومرة واحدة بصيغة الفعل الماضي ( عقلوه )  في قوله تعالى :

       { .. يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ .. }(سورة البقرة  ، الآية   75).

       ومن مرادفاتها  ،  فَكَّر ، وَفَهِمَ  ، وَدَرى  ، وجميعها كذلك لم ترد إلا بصيغة  الفعل  .

        فمن هذه الصيغ الفعلية : عقل وفهم وفكر ودرى ، التي جاءت في القرآن الكريم  مختصة بالإنسان ، فهمنا أن الله تبارك  وتعالى هكذا  شاءه  يعقل ويفكر ويفهم ويدري ، وذلك بعد أن نفخ فيه  من روحه سبحانه ، مستنتجين بالضرورة ، وربطاً بالنصوص ، أن الإنسان قبل أن ينفخ الله فيه من روحه ، لم يكن يعقل ولا يفهم  ولا يفكر  ولا يعلم ولا يدري  .

        فإذن  إن ما نسميه نحن ( العقل ) إنما هو بالضرورة  الروح التي ذكرها سبحانه وتعالى في قوله :

       { ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ  ، الذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ،  ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ }(سورة السجدة  ، الآيات   6  ـ  9) .

        وقوله تبارك وتعالى :

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } (سورة  الحِجْر   ،  الآيتان  28 ـ  29) .

وخلاصة القول حول العقل والنفس والدماغ ،  إن الدماغ ليس هو العقل ، وإنما هو من المراكز الأساسية للعقل ،  وهو مع القلب  من  ( الألباب )

المشار إليها في 16 ـ  ست عشرة آية من القرآن الكريم  ، اخترنا ثلاثـة للإيجاز  : قوله تعالى :

* { ..وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }(سورة إبراهيم ، الآية 52 ) .

* {.. أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ  }(سورة الزمر ، الآية 18).

* { هُدَىً وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ }(سورة غافر ، الآية 54) .

       وبين الدماغ والقلب مشاركة فعليـة  في مجالات العقـل  والفكـر والعواطف ، تترتب عليها المشاركة  الفيزيولوجية المعروفة في علم التشريح . على أن  معظم النشاطات سَنَنْسِبُها بعد قليل إلى الدماغ لأن الله عز وجل  أراده هكذا : رأساً  وقائـداً للإنسان ، ومعه القلب في جميع  مياديـن النشـاط البشري  .

        أما دليلنا القرآني على أن القلب هو من مراكـز  العقـل أو الأعضاء  المتفاعلة مع العقل ،  وأن  المعني به هذا الذي بين الضلوع  ، فقوله تعالى :

       { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُـونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }(سورة الحج ، الآية 46).

        وقوله تعالى :

       { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ..}(سورة الأعراف ، الآية 179) .

       وآمل  من القارىء أن يعتبر أن ما سينسب إلى الدماغ من علاقـة  بالعقل  كذلك نسبتها إلى القلب ، وأهمها تقريرنا أن الدماغ  يعقل فينجو بصاحبه ، أو لا يعقل فيهوي بصاحبه ، وكذلك القلب وبقية الجوارح .

العلاقات الوظيفية بين العقل والنفس والدماغ :

ولكن الدماغ  هو ( اللب ) الأوسع نشاطاً ، أو هو المفاعل الأعلى خطراً في عالم الجواهر المادية . فهو مركز التبليغ والترجمة والتفسير ، إضافة إلى الإحساس والذاكرة ، والعواطف والقدرة على الحركة  ، فإن ضاق عن العقل تحول إلى الآلية والغريزية  بنسبة ما يضيق ، وبقيت له هذه الأمور كما هي  للدماغ الإلكتروني أو المخلوقات الغريزية  الراقية .

        أما العقل ، فهو الروح المؤيد بعلم الفطرة ،  السابقة على البدن ،  ومن ميزاته إدراك الحقائق المجردة ، البسيطة والمركبة  ،  غير مستقل  عن ربه تبارك وتعالى ، خالد ، يغضب ويتأذى ، ولكنه لا يتعب ولا يتعذب ،  تأخذ منه  خلايا الدماغ  توجـيهاً وتعـليماً وهداية حسـب استعـدادها  ، يرجـع إلى ربه ، والنفس هي التي تسعد أو تشقى  ، ووظيفته دعـوة النفـس  إلى خالقهـا الله الذي  لا إلـه  إلاّ هو ، ومقاضاتهـا بتعاليمه سبحانه مبيناً لها الحق من الباطل ، والمطلوب من السـلوك في معراج العبـادة ، موصلاً  إياهـا إلى أعلى درجات اليقين والعلم ـ  في حدود العقل الإنساني ـ والسعادة الحقيقية في الدارين ـ قول أحد العارفين  : لو عرف الملوك سعادتنا لقاتلونا عليها بالسيـوف ـ كل ذلك برموز تفهمها جميع لغات  البشر ولهجاتهم ، هذه الرموز يقوم  الدماغ بترجمتها بناء على ما عُلِّم ولُقِّن ، ليقدمها للنفس باللغة التي  ترتاح إليها ، وذلك أثناء إلتـزام  النفس بكلية البدن  والجهاز العصبي . أما إذا تحررت النفس ، فلا تعود بحاجة إلى الدمـاغ ، ولكنـها تحتفظ بأدائـه ، وتفهم لغـة  الرموز  الكونية بدون ترجمة ، فضلاً عـن إمكانيـة  تعبيرها بأيـة لغـة شاءت لم تكن تعلمتها في حال الإرتهان .

        وإن العلاقة بين العقل والدماغ ،  هي علاقـة الطاقـة الغيبية الموجّهـة لبرمجة مفاعلها الأرقى  في جواهـر المادة . والنفـس هي التي تسبب انفتـاح الدماغ على العقل أو انغلاقه دونـه ، أو جعلـه في حـالات بين الحـالتين . يعني يكون هذا الـواقع المتكيـف ، رهن بمـدى إقبال الإنسان على ربه ،  أو  تباعده عنه جلّت عظمته .

        وفي حال تلبس النفس بكفر أو شرك أو استكبار ، أو  الوقوع في هوى  أو إثم ، ينشغل الدماغ والنفس بالحدث منصرفين عن العقـل ، فتفقد النفـس بذلك الهـداية والسـداد والرشـاد  ، وتحاول الإستئثار ضالـة ظالمـة بموقع القيادة ، مأذوناً لها بذلك تبعاً لاختيارها وتنكرها لولاية الله ورعايته ، فيتخلى  عنها الله  امتهاناً وإمهـالاً وتحجيمـاً ، وليس إهمـالاً أو تفويضاً ، وفيها قـال سبحانه :

       { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا  ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ،قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا  }(سورة الشمس  ، الآيات  7 ـ 10).

        ومن حيث رعايته سبحانه ، للأنفس البارة  النقية المجاهـدة ، وخذلانه للأنفس الجاحدة المعاندة البهيميـة في الحيـاة الدنيـا وعند المـوت ، وحين الانتقال من محطـة الأنفس  ، هذه الأرض  الدنيـا إلى الأرض العليـا على اختلاف درجاتها ، قوله تبارك وتعالى  في الأبرار :

       { الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ ..}(سورة النحل  ، الآية  32) .

       { يَا أَيَّتُهَا النَّفـْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعـِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيـَةً مَّرْضِيَّةً ، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ،وَادْخُلِي جَنَّتِي }(سورة الفجر  ،  الآيات  27 ـ 28 ـ 29 ـ 30) .

        وقوله سبحانه في أهل الضلالة :

       {.. وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ }(سورة الأنعام  ،  الآية  93) .

        هنا يخطر سؤال مهم ، هـو كيف يكـون مستوى الإنسـان الفكري والإنساني عامة ،  إذا هو لم يقلع عن غيِّـه ولم يعقل ؟ والجواب ، ولو أنه قد مر موزعاً خلال البحث ، إلاّ  أنه ينبغي إيجازه بالقـول  : يكون  شأنـه كشـأن حيوان راق متحضر  ، متعلم ، أمثال الأنواع العليا  من القـردة ، إنما يميزه شكله الإنساني وذلاقة لسانه وقلمه ، وكثرة الأرقام  التي يتعامل معها ، والمهارات التي يباشرها  في شتى حقوله ، وكذلك  حجم دماغه المتناسب مع بدنه ، وقد تتراوح هذه الحالة  بين التضيّق في التعامل مع العقل  ، مع رحمة الله وسمائه وأسمائه ، وبين تجافي الإنسان وتباعده عنها ، ثم انقطاعه بشكل نهائي ، حيث لا يفلح بعد ذلك كيد في إذهاب غيظ  . قوله تعالى :

       { مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }(سورة الحج ، الآية 15) .

       للعقل تفتح أبواب الملكوت

علماء تحرروا بالعقل، فسجدوا لعزة الله ، فانفتحت لهم أبواب الملكوت:

        في سلسلة عالم المعرفة  ، التي تصدر في الكـويت . صدر مترجمـاً للعربية ، كتاب  “العلم في منظوره جديد  ” تاريخ جمادى الآخرة  1409 هـ / شباط 1989 م  أوجزوا مباحثه بما يلي :

        يدور البحث في الكتاب  في شكل  موازنة بين مقولات النظرة العلمية القديمة والنظرة العلمية الجديدة  ، وقد عرض المؤلفان ـ مؤلفا الكتاب : روبرت م . أغروس وجورج ن . ستانسيو ـ للنظرة التي نشأت في ظلها النظرة العلمية القديمة  التي اصطبغت بصبغة مادية كرد فعـل إزاء هيمنة الفلسـفة المدرسية المسيحية على العقـول ، والتي  وصلـت إلى حالـة من التحجر العقلي ، والتخبـط الفكـري  ، وقـد انتـهت  النظرة القديمة إلى  الإلحـاد والاستهتار بكل القيم الأخلاقية والروحية ، وفسرت السلوك تفسيراً غريزياً فسيولوجياً .

        إزاء هذه النظرة ظهرت ، في مطلع القرن العشرين ، نظرة علميـة منافسة كان من ألمع روادها أينشتاين  ، وهايز نبرغ ، وبور ، وغيرهم  ، وقـد أجمعت آراء كبار علماء الفيزياء النووية والكوزمولوجيا في هذا القرن على أن المادة ليست أزلية ، وأن الكون في تطوُّر وتمدد مستمرين . فدعوا إلى الإيمان بعقل أزلي الوجود  ، يدبر هذا الكون ويرعى شؤونه .

        ثم جاء جيل من العلماء  المتخصصين في مبحث الأعصاب ، من أمثال شرنغتون ، وأكلس ، وسبري ، فخلصوا ـ بعد بحوث مضنية ـ  إلى أن الإنسان  مكون من عنصرين  جوهريين : جسد فانٍ وروح باقية لا ينالها الفناء ، وأن الإدراك والتفكير  ليسا من صنع المادة،   بل يؤثران تأثيراً مباشراً في العمليات الفسيولوجية ذاتها  .

        وفي أعقـاب الحرب العالمية الثانية ، ظهرت حركة جديدة في علم  النفس ، اعترف روادها بالعقل ، ورفضوا تفسير السلوك البشري بلغة الدوافع والغرائز الحيوانية ، وآمنوا بدلاً من ذلك بالقيم  الأخلاقية  والجمالية ،  والجوانب الروحية  والفكرية  والفلسفة .

        صحيح أن هذا مهم  ومهم جداً بالنسبة لهؤلاء  العلماء وبالنسبة إلى أقوامهم . أقصد التوصل إلى أن الإنسان مكون من جسد فانٍ  وروح باقية ـ حسب تعبيرهم ـ لا يدركها الفناء ، وصحيح أن هذا يؤنسنا  ويريحنا في مجال دعوتنا إياهـم إلى الله وإلى التصـديق بوحدانيته ، وبأنه الخالـق  ، وبأنـه المدير والمدبّر لهذا الكون  ، آمنوا  بذلك كله حين اكتشفوا جزئيات من عالم  الجواهر الغيبية  ، وبشكل ما زال نسبياً متردداً وخجولاً ، ولكن بعد أن باد من أقوامهم من باد جاحـداً ، وهلك ملحداً ، وهم على بيّنـة من أننا على حق،  وعلى بيّنة من علمائهم هؤلاء المهديين من أن النظريات والفلسفات الماديـة على باطل ، وليس غربـهم فقط عانى من هذا الخسـران المبين وإنما قطاعـات  كبيرة من شرقنا مبهورة بالفقاقيع وبريق المادة ، هي أيضاً ـ نتيجة لانبهارها ـ وقعت في الخسران المبين :

       { .. وَلَـكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ .. }(  سورة الأنفال  ، الآية  42 ) .

       فبينما علماء الغرب ، في شغـل شاغـل بحثاً عن النفس ، بحثـاً عـن العقل ، بحثاً عن الروح ، علّهم يتوصـلون  عبر ذلك كله لوجـود الخالـق ، باذلين أعمارهم في هذه التحقيقات  ومختبراتهـم  ،  ترانا ولله الحمد ـ  عنيت علماء المسلمين ـ في عافية من الشك والتردد ، والإلحاد والشرك ، شغلنا الشاغل  العلم العملي  الذي يقيم جسراً بين الأرض والسماء ، سبباً بين الدنيـا والآخرة  .

        علّمنا الله تبارك وتعالى ، عبر قرآنه المجيد ، وآثار  أنبيائه وأوليائه . وبقبولـنا ما علمنا إياه وتمسكنا به عن يقين هو يقين الصديقين ، وفّر علينا الله اللغو والخوض والتجريب ، فكلما ضج علماء الغرب في مجال النفس  أو التربية أو الفلسفة أو التشريح أو الفلك أو الذرة أو الروح باكتشاف أو أكثر ، ترانا نبتسم هادئين ابتسامة المطمئن  إلى ما علّمـه عـلام الغيـوب مقـررين أن أمامهم  الكثير ليتوصلـوا إلى ما آتانا الله من فضلـه وأن أمامنـا الكثير ، في جميع درجاتنا ، ليتدرج كل من موقعه العلمي والعرفـاني في معـراج الإيمـان وفهم التوحيد ، وصولاً إلى  الإنسان الكامل الذي أراده الله ، وأحب الله وأحبه الله سبحانه له الحمد .

        ولفهم العلم الذي أعنيه ، والذي هو شغلنا الشاغل ، والذي هو العلم الأشرف بين سائر العلوم ـ على شرف الكثير منها ـ  أعطي نبذة عن هذا العلم  الذي هو علم التوحيد وفكرة عن أهله الذين هم أهل العرفان وأولياء  الله  الصالحين .

كلمة في العقل في القلب

إن لفكر التوحيد عند أهل العرفان  شرائط وضوابط ، يرفع الله تعالى بها وبنسبها ، كلاًّ حسب جهاده ، وأهليته ،  ويجعل له نوراً  يمشي به في الناس ، ويؤتيه أسراراً من الذكر ، تقيه شر ما يُرَى وما لا يُرى ، وتكون له عوناً على دنياه وكنوزاً من الباقيات الصالحات في دار الخلود .

        وليقر في الأذهان أن التوحيد مسؤولية عظيمة ، وأنه أسمى معرفة يتشرف بها العقل البشري ، لذلك  نلمح وبإيجاز إلى بعض الرموز الخاصة  بركني الطهارة والصلاة .

        ففي ركن الطهارة نرى معراجاً  يبدأ بسر التخلية ، وسرُّ سرِّها التجريدُ ، وسِرُّها المستسر التنـزيهُ ، والسِرُّ المُقَنَّع بالسرَّ التنـزيهُ من التنـزيه والتقييدُ.

        أما الركن الثاني  وهو الأعظمُ ، فهو محصور بالصلاة  ، وسرُّه التجليةُ ، وسرُّ  سره التفريدُ ، وسره المستسر التوحيد ، وسره المقَّنَّعُ بالسر التنـزيهُ عن التوحيد والتقييد .

        وهنا نفهم بعضاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وآله ـ الصلاة  معراج المؤمن ـ ولكل ذلك شروح تُطْلبُ من مظانها ، وخاصة من أهل  العرفان ، زاد الله بهم الأمة نفعاً وعرفاناً . مع أهمية الإشارة  إلى أنه يبقى عندهم من الأسرار ما لا يذاع . ومن هنا ، المعروف  عن الإمام زين العابدين  عليه السلام أنه كان يقول (*) :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 

(*)      عن كتاب الحقايق في محاسن الأخلاق للفيض الكاشاني قدس سره أورد الأبيات كما ذكرناها، ولكن في كتاب التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق للدكتور زكي مبارك أوردها مسقطاً البيت الثاني  هكذا :

             يا رب جوهر علم لو أبوح به           لقيـل لي أنت ممن يعبـد الوثنا

            ولاستحل رجال مسلمون دمي          يرون أقبح ما  يأتونـه حسنـا

            إني  لأكتم من علمي جواهره          كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

إنـي لأكتـمُ من علمي جـواهـرَه     كــي لا يَرى  الحقَّ  ذو جهـل فيفتتنـا

وقد تقـدم فـي هـذا أبو حسن          إلى الحسـين ووصى قبـله  الحسنا

يا رب جوهـر علمٍ لو أبوحُ بـه         لقيـل لـي أنت ممن  يعبدُ الوثنـا

ولاستحل رجـال مسلمون  دمي               يـرون أقبـح ما يأتونـه حسنـا

        وفي كتاب الحقايق للفيض الكاشاني (ص 12 / دار الكتاب العربي ) أورد ما يلي :

        ـ وعن السجاد عليه السلام أنه قال : والله لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله ، ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بينهما ، فما ظنكم  بسائر الخلق . إن علم العلماء صعب مستصعب ، لا يحتمله  ( يتحمله خ ) إلاّ ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان . قال وإنما صار سلمـان من العلمـاء لأنه امرؤ منـا  أهـل البيت،  فلذلك نسبتـه إلى العلماء .

        ـ أراد عليه السلام (هذا التعليق للفيض الكاشاني في نفس السياق)  ، أهل التوحيد والعلم ، والمعرفة  والحكمة  لا أهل بيت النسـوان والصبيان ، والأهل والأولاد  ، وفي الحديث النبـوي أيضاً : ” لو علم أبو ذر ما في بطن سلمـان من الحكمة لَكَفَّرهُ وفـي روايـة لقتلـه ” .

        وفي أكثر من مصدر ، عن أمير المؤمنين عليّ عليه السـلام  ، سألـه كميل بن زياد  عن الحقيقة ، فقال  عليٌّ عليه السلام  : مالـك والحقيقة ؟ قـال : أولست صاحب سرِّك ؟ قـال بلـى ،  ولكن يرشـح عليـك ما يطفح مني ، ثم أجابه عمّا سأل .

        وفي رواية أخرى عنه عليه السلام :

        ـ الناس ثلاثة : فعالم رباني ،  ومتعلم على سبيل نجاة  ، وهمج رعاع  ، أتباع كل ناعق ، يميلون مع كل ريح  … إلى أن قال : هاه ! إنَّ ههنا لعلمـاً جمَّاً ـ وأشار إلى صدره ـ لو أصبت له حملة ..  بلى  ، أصيب  :

  

* لَقِنَـاً غيرَ  مأمون عليه ..

* أو منقاداً لحَمَلَةِ الحق ليس له بصيرة في أحنائه (*) ، ينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهه . لا  ذا ، ولا ذاك .

* أو منهوماً باللذة ، سلس القياد للشهوة ..

* أو مُغْرَى بالجمع والادخار ..

        أقرب شبهاً بهما الأنعام السائمة ، كذلك يموت العلم بموت حامليه .

الادراك نسبي في مراتب الخلق .. والعقل هو الأقدس

        لا شك أن العقل هو الميزة الكبرى  ، التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات إلاّ أن هذا  لا يعني عدم الوعي  أو الادراك النسبي لدى المخلوقات غير العاقلة من الجمادات ، إلى النبات إلى الحيوان ، إلى الإنسان الذي سخر له الله ما في السماوات والأرض جميعاً منه سبحانه .

        والحقيقة  أنه ثبت بوضوح  ، أن لا شيء في الكون  المعروف ، له صفة  الجمود الحقيقي ، من الذرة إلى المجرة ، بل  الأشياء كلها في حركة دائمة  دائبة . حتى تماسك الحديد الظاهري ، ليس هو كما نحسه ونفهمه ، بل هو ربما بالنسبة لمخلوق  أرقى من الإنسان  وأكثر إحاطة وأبصر ، سيبدو  مختلف  المظهر والملمس ، وقد تظهر ذرات الحديد لهذا المخلوق الأعلى من الإنسان كما تظهر لنا نحن ، عبر التلسكوب المجموعة الكوكبية في أبعادها عن بعضها في حركتها المتصلة .

  ــــــــــــــــــــــــــــ

(*) هكذا في النسخ وفي نهج البلاغة  : أو منقاداً لحملة الحق لا بصيرة له في أحنائه  إلخ .. والظاهر ان المراد منهم  هو المقلِّد إذ لا بصيرة له في دقايق الحق وخفاياه ، لعدم علمه بالبرهان والحجة فينقدح الشك . ( هذا التعليق في هذه الحاشية للفيض الكاشاني ) قدس سره .

       

        المناظير المكبِّرة  والمقرِّبة العجيبة  التي علّمها الله للعلماء  ، تحكي  حكايا من هذا القبيل . ومن هنا أيضاً  ، إن لهذه الأشياء  نِسَبٌ  من الوعـي ، درّجها فيها خالق كل شيء،   المحيط بكل شيء  ، الله العليّ القدير .

        ومن الأهمية بمكان  ، معرفة أن الإنسان  مجرداً من العقل  ، هو أرقى  وعياً وإدراكاً وغرائز ،  من جميع الكائنات المحسوسة  . أمَّا بالعقل ، فهو  أقدس من ذلك  ، إذ إن بالعقل صلته مع خالق الأكوان الملك القدوس  السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر .  فأرضنا هذه  التي نحن عليها  ، والصخور التي فيها  ، والجمادات ( ظاهرياً )  لها نسبة من الوعي  ـ إلاّ أن النبات أظهر حياة وإحساساً ، كما أن الحيوان  درجته وميزاته  على النبات  واضحة .  وهكذا ترجحُ  المعطيات التي عند الإنسان على الجميع  ، وعياً وإدراكاً وغرائز ، وإرادة ومنهجية . وكل ذلك بدون العقل  فالعقل شيء أقدس من كل ذلك .

        وهكذا ، فلم يعد عبثاً ، أو  مجازاً ، فهمنا لقول الله عز وجل ، للسموات والأرض  :

        { .. اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }(سورة فصلت  ، الآية  11) .

        وقوله تعالى :

       {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ،إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا }(سورة الإسراء ، الآية  44).

        ثم قوله عز وجل :

       { .. وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }(سورة  يونس ، الآية  61) .

        

        فإذاً نستنتج  من الآية الأولى أن الأشياء واعية  والحقيقة  أنه لا معنى لتسبيح الأشياء  وهي لا تعي ما تفعل .

        حتى الحياة  ، هي مفهوم  نسبي أيضاً ، فكما نفهم  الحياة للإنسان وللحيوان والنبات بدلالة الحركـة وردود الفعـل  ، فكذلك هي للجمـادات ( الظاهرية ) وحتى  لأرضنا هذه وللشمس والقمر  وبقية الأجرام السماوية ،  وذلك أيضاً  في صريح قول الله عز وجل  في الآية الثانية .

        فكل هذه المجسمات  ، من الإنسان إلى المجرات  إلى بقية الكائنات  الأرضية والسماوية ، مبنية على الذرة  ، أو النظام الذري ، وأصبح معلوماً وببساطة  أن في الذرة حركةً لأجزائها  لا تهدأ . و ( الكتاب المبين )  المذيلة به الآية الكريمة  ، هو الحقائق الباطنية للأشياء  ، فضلاً  عن حقائقها الظاهرية ، ومن قبيل ذلك ، التركيب الذري للكون وأجزائه ، بما في ذلك أسرار  الذرة وأسرار أجزائها .

        وهكذا فإن جميع ما في هذا الكون  متناغماً ، متناسقاً ، يسبح بحمد ربه ، واعياً مدركاً  حقيقةً لا مجازاً .  إلاّ البشر فإنهم انقسموا فريقين : فريقاً للجنة  وفريقاً للسعير .

        إن درجات الوعي في الكائنات ، هي حقائق مرهونة بالألوان والأشكـال .  والجواهر هي معاني الحقائق ، وتفاعلها ونتائجها وتوجهاتها ضمن النواميس الإلـهية . ندرك  أن فيها من وجوه الحكمة  ، وإظهار سلطان  العقـل ، وقوة النفس إذا انقادت إليه وانعتقت به  ، فتحررت من حبس ما  تحت السماوات السبع إلى سدرة المنتهى  ، مرتمسة بنوره ، منغمرة برحمته ،  على أنفاس  مشتاق إلى الله  الحبيب الأبدي  ، في صعوده يخترق السماوات بصوته يقول : لا إلـه إلاّ الله .

        بلى ، هكذا فإن من خصائص العقل ، أن تنفتح  له السماوات بإذن  الله الحبيب الأبـدي . وهذا لا يقال عن النبـات أو الحيـوان  أو الإنسـان اللارباني ، فالنبات ليـس له  قدرة  علـى فهـم الحيوان  ، أو الإفـادة منه ، والحيوان يفهم النبات ومنافع النبات فيقبل عليه وكذلك يتفاعـل مع أبناء جنسه ،  ولكن دائماً  موجهاً بدافع الغرائز ، توجهاً  لا يخالفه مختـاراً أبداً ، وذلك لأنه ليس لديه الملكة التي تحدد له المسار والهدف ، يعني ليس عنده خيارات ، لأن ذلك يحتاج إلى نفس فيها قابلية أن تستلهم وتختار ، كم هي الحال عند إنسان النوع قبل أن يصبح ربانياً فإذا أصبح ربانياً ، تصنف درجة عليا دونها درجة إنسان النوع وما دونه نزولاً في سلّم الخلق .

        من مهمات العقل وحده إذن  ، المنهجية التي تؤدي إلى الكمـال ، الكمال الذي يتناسب مع العقل ، هذا الذي يسود ما دونه ، ويقود إلى الأبقى والأجمل .

       {..وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ..}(سورة التوبة ، الآية 72) لو كانوا يعلمون  .

*   *   *

        في عام  1975 صدر كتاب  ” لغز العقل ” .  لأحد كبار الاختصاصيين  في الدماغ الدكتور Penfield  ذكر فيه  ما مؤداه أن العقل قوة  غير مادية ،  وجودها خارج الدماغ والبدن ، وأن الدماغ وظيفته تتعلق بآلية البدن  ، بما فيها من الحس والحركـة  والمشاعر  وغير ذلك . فهو إذن ، بزعمه ، اكتشف  العقل ، ونحن إذ نقدر لبنفيلد  جهاده في رحلة  الاستكشاف ، هذه الفائقـة الروعة ، نشير إلى أمر بغاية الأهميـة ، هو أن بنفيلد لم يكتشف العقل  كمـا توهم ، وإنما هو اكتشف الطريق إلى العقل ،  هو اكتشف النفس  ، شأن كريستوف كولومبوس  ، الذي في رحلته المجيدة أيضاً  ، ظن أنه توصل  إلى جزر الهند الشرقية  ، بينما كانت الحقيقة  ، أن ما توصل إليه هو قـارة أميركا ،  وفوق ذلك ترك للعالم  ، أعظم شاهد عملي على كروية الأرض .

        ويبدو أن أبرز الأسباب  التي ساقت  بنفيلد إلى البحث عن العقـل وليس عن النفس أو عن كليهما ، ثلاثة : أولاً ، اختصاصه وتعامله مع الدماغ الذي كان يعني له العقل  ، كما صرح هو شخصياً .  وثانياً ، عدم إدراكه العلاقة  الغيبية  ، بين ماهية مفترضة للعقل ، وبين ماهية النفس ،  وثالثاً ، أنه  ليست لديه فكرة مسبقة عن عدد الأنفس  في الذات الواحدة  ولا عن خصائص هذه الأنفس  ، ودرجـة كل منها في مـراتب خلـق  الله عـز شأنـه ، كما عرفناها  من المشاهدة ، وتبعاً لذلك فهمناها من كتاب الله المجيـد والأحاديث القدسية  .

ذات الإنسان ثلاثية الماهية  :

من هنا ، فإنه  قد ثبت لنا  بفضـل من الله  تبارك وتعالى أن لذات الإنسان ثلاث أنفس ، بينما هي  أربع للرسل والأنبياء والأولياء .

        أما الثلاث فهي : النامية المادية ،  والحسية البهيمية ، والملهمة فجورها وتقواها .

        وأما الرابعة التي هي للرسل والأنبياء والأولياء  إضافة لهذه الثلاث فهي النورانية الملهمة .

        1 –  فالنباتية المادية .  هي البدن بحركاته العضوية ، الداخلية والخارجية . ولها خاصية التنامي  فالتناهي إلى الضعف ، وماهيتها هي المقصودة بقوله تبارك وتعالى :

              {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }( سورة غافر ، الآية  67) .

2 – والحسية البهيمية ، هي الجهاز العصبي  ، من الدماغ إلى النخاع الشوكي إلى أدق تشعباتـه العصبيـة في جسـم الإنسـان . وقد قلنـا عن  الدماغ إنه المفاعل الأعلى خطراً في جـواهر المـادة ، وأنه  هو مركـز التبليغ والترجمة  ، والتفسير ،  إضافة إلى الإحساس  ـ سيما الحواس الخمس ـ  والذاكرة والعواطف المتضادة .

3 –   والملهمة فجورها وتقواها  ، هي حقيقة الإنسان ، وجوهره الباقي ، ووجهه  الذي لا يفنى ،  المقصود بقوله تعالى :

              { .. كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ .. } (سورة القصص ، الآية  88 ) .

        وبقوله تعالى :

              { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا .. }(سورة الروم  ، الآية   30) .

       وهي التي ترى في المنام ، مما يعطي فكرة عن ماهيتها  ، ودرجاتها  وحالاتها في رحلة الإنسان وعمره على هذا الكوكب . وذلك بتوفيق  من الله سبحانه ليرى الإنسان نفسه في أية درجة وأي حال من الأحوال  هي عليه ، ويشاهدها أولياء الله في يقظتهم  على حقيقتها في معراج صلواتهم وعبادتهم .

                كما يشاهدون الحقيقة المجردة للبدن  بلبوس العبادة  رمز الطهارة  والعفة والحشمة  وكما يشاهدون الحقيقة المجردة للجهاز العصبي  بالصورة الآدمية ،وإذا كان أحدهم من الرسل والأنبياء أو الأولياء ،يشاهد فيها النفس الرابعة: نوراً غير الأنوار المعروفة  في الأرض،   يميل إلى الزرقة التي كفيروز شفيف مذاب  لا يمس الأرض ، بشكل إهليلجي وحجم قمر بدر أزرق مداف  في غلالة سحابة ، أكبر قليلاً  من شال حرير . هي من سدرة المنتهى  ، بها بعث الله الأنبياء وعلّمهم الأشياء  ، واصطفى سبحانه من عباده من اصطفى ، قبل ولادتهم في هذه الأرض  ، بين  رسول ونبي وولي . أهبط نفوسهم من عليين ، وإلى عليين  يعيدهم بأرقام معدة  سلفاً ودرجات إلى قيام الساعة .  وهذا من معاني قوله سبحانه :     

       { وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ . كِتَابٌ مَّرْقُومٌ }(سورة المطففين ، الآية : 19و20) .

{ وإذا النُفُوْسُ زُوجَتْ }

ثم إن لكل  إنسان  بالضرورة نفس فلكية نورانية ، ترمز إلى درجة  الإنسان ومقامه ، وهي قابلة وليست فاعلة ، بحيث  تنعكس عليها حالة  الإنسان  ، فهي جرمه الفلكي الذي تبعاً لسلوك صاحبه  ، إما أن ينكدر وينحرف وفي النهاية  يلزم أحدهما الآخر .  وإما أن يوقن فيصفو ويغدو نميـراً جوهره ، ثم هو وصاحبه يتلازمان ويغدوان كنجم متلألىء نوره ، يرسل ومعه سائق وشهيد ، في مسار مستقيم ، إلى سعادة أبدية ، حيث رضى الله ورضوانه ، بلى قوله تعالى :

       { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ }(سورة التكوير  ، الآية 7) .

       هكذا كلمح بالبصر ، تصعد الأنفس الأرضية  الكلية ، منفصلة عن تلك النباتية المادية  ـ حيث بَعْدُ ، ستعود إلى مادتها الأصلية (*)  ـ

(*) { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } ( الأنبياء/104 ) . { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً }  (الأنعام / 2 ) : فيما يسمى بجنة آدم النوع وهو أجل مشروط غير محدد . فَعَصى آدمُ ربَّه فأهبطه ، وبقية الآية : ”  وأجل مسمى عنده ” وهو الأجل المحدد المؤقت المتعلق بقيامة السماوات والأرض : { مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } ( الأحقاف /3 )  .

وبثياب الشهرة والشكل الآدمي ، لتزوّج أنفسها الفلكية  . التي بها  ، إما أن تأتي يوماً عبوساً قمطريراً ، وتهوي شقية في سخط الله وجحيمه  . وإما بها تصعد وتسعـد وتطير مخلّـدة ، في رحمـة الله ونعيمـه ، ناجيـة من عبـوس ذلك اليـوم وعـذاب الأبد  :

 { فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ، وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ، مُتَّكِئِينَ فِيهَـا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَّتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ، وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا . قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ، وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ، عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ، وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ، وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ، عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوآ أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا }(سورة الإنسان  ، الآيات  11 ـ 22) .