الحرب الثالثة … والفتح المبين

 

حقائق قرآنية تقرر مصير الاسرائيليين ومصير العرب

 

 المبلغون العاملون بدين الله ، اثنان : قرآني وروائي ، ونحن لكي لا نكون في حرج شديد أمام الله يوم القيامة  ، اخترنا القرآن الكريم ، لأن فيه رسالات الله ، ولقول الله تبارك وتعالى :

       { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا }(سورة الأحزاب ،  الآية 39).

       ثم يكون كلاهما ، والناس ممن يقرأ أو يسمع معهما في مواجهة هذه الآية المفزعة : قوله تبارك وتعالى :

       { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ ،أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } (سورة الزمر ،  الآية  60).

        من هنا وجدنا أنفسنا ملزمين بإبلاغ ما آتانا الله ويؤتينا من فضله ، من تفسير آية كانت مغلقة لحكمة إلـهية ، أو آيات لم تفسر في الماضي ، لأن تفسيرها  مرهون بمواقيت ، أو ظروف أو أحداث مستقبلية ، مثل آيات أشراط الساعة وغيرها ، أو الإلمام ببواطن آيات أو تأويل آيات أُخَرُ ، وكل ذلك بتوفيق وتسديد منه تبارك وتعالى .

        والحقيقة أن الأمر صعب من جهة ، وميسّر  من جهة ثانية ، فصعوبته من حيث أن الناس بصورة عامة  ، كأنهم في قوالـب ، غالباً ما تكون جامدة ، وعلى شتى مراتبهم  ، تعلّقاً بتراث متراكم موروث  عبر مئات السنين ،  عن الآباء والأجداد ، وفيه الكثير مـّما لم ينـزل الله به من سلطان  ، ولذلك نبّه سبحانه الأولين والآخرين من العباد بقوله في بضع آيات في القرآن الكريم :

       { .. قالوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا .. }(سورة المائدة  ،  الآية  104) .

       {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا..}(سورة الأعراف  ، الآية 28).

       { قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا ..}(سورة يونس  ، الآية 78) .

       {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ }(سورة الشعراء  ، الآية 74) .

        وكذلك يذكرهم تبارك وتعالى بوجوب لزوم القرآن تحت طائلة أنواع رهيبة من العذاب في حال الإعراض عن القرآن ، والتوقّف  عند غيره ، قولـه تعالى :

       { تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ . وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ . وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ. مِن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ . هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَـاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ }(سورة الجاثية ،  الآيات  ( 6 ـ 11 ) .

        ولفهم ما نرمي إليه   ، نضرب مثلاً  من ألوف الأمثلة  ، على  إدخـال الروايات التي ما أنزل الله بها من سلطان في تفسير بعض  الآيات الكريمة ، هذا المثل  ، يتعلق بقصة ياجوج وماجوج الواردة مرتين في القرآن الكريم (سورة الكهف  ، الآية 94  .   وسورة  الأنبياء  ، الآية  96) . وسنلاحظ كيف تختلف الروايات، أحياناً وفي الواقعة الواحدة  أو الموضوع الواحد  ، اختلافاً منكراً . فقد جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي ( رضي ) ، بين المتن والحاشية، ما يلي(ج 13 . ص 372 ـ 373 ـ الطبعة  الثانية ـ مؤسسة الأعلمي )  :

        ” …  ومن ذلك اختلافهـا (يعني الروايات) في وصف ياجوج وماجوج فروى ( عن الدر المنثور عن ابن المنذر عن علي عليه السلام  وعن ابن أبي حاتم عن قتادة ، وفي نور الثقلين عن علل الشرائع عن العسكري ( أنهم من الترك ومن ولد يافث بن نوح كانوا يفسدون في الأرض فضرب السدّ دونهم . وروى في ( نور الثقلين عن روضة الكافي عن ابن عباس ) أنهم من غير  ولد آدم . وفي ( الطبري عن عبد الله بن عمير وعن عبد الله بن سلام وفي الدر المنثور عن النسائي وابن مردويه عن أوس عن النبي صلى الله عليه وآله  وفيه عن ابن حاتم عن السدي عن علي عليه السلام ، عدة من الروايات أنهم قوم ولود لا يموت الواحد منهم من ذكر أو أنثى حتى يولد له ألف من الأولاد وأنهم أكثر عدداً من سائر البشر ، حتى عدّوا  في ( الدر المنثور عن عبد الرزاق وغيره عن عبد الله بن عمر ) في بعض الروايات تسعة أضعاف البشر ، وروى في ( الدر المنثور عن ابن إسحاق وغيره عن وهب ) أنهم من الشدة والبأس  بحيث لا يمرون ببهيمة أو سبع أو إنسان إلاَّ  افترسوه وأكلوه ولا على زرع  أو شجر إلاَّ رعوه ولا على ماء نهرٍ إلاَّ شربوه ونشفوه ، وروى في [ الدر المنثور عن ابن أبي المنذر وأبي الشيخ عن حسان بن عطية وعن أبي حاتم  وغيره عن حذيفة عن النببي صلى الله عليه وآله  وقد بلغ من مبالغة الروايات في عددهم  أنه روى عن النبي صلى الله عليه وآله أن  يأجـوج وماجـوج  يعـدل  ألـف  ضعـف  للمسلميـن

(البداية والنهاية عن الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله ) وهو ذا يقال : إن المسلمين  خمس أهل الأرض ولازمه أن يكون  يأجوج وماجوج مائتا ضعف أهل الأرض] إنهم أمتان  كل منهما أربعمائة ألف أمة كل أمة لا يحصي عددهم إلاَّ الله سبحانه . وروى في  (الدر المنثور عن ابن المنذر وابن أبي حاتم عن كعب الأحبار ) أنهم طوائف ثلاث فطائفة كالأرز وهو شجر طوال ، وطائفة يستوي طولهم وعرضهم  : أربعة أذرع في أربعة أذرع ، وطائفة هم أشدّهم للواحد منهم أذنان يفترش إحداهما ويلتحف بالأخرى  يشتو في إحداهما لا بساله وهي وبرة ظهرها وبطنها ويصيف في الأخرى وهي زغبة ظهرها وبطنها، وهم صلب على أجسادهم  من الشعر  ما يواريها ، وروى أن الواحد في ( الدر المنثور عن ابن المنذر والحاكم وغيرهما عن ابن عباس )  منهم شِبْر أَوْ  شبران أو ثلاثة  ، وروى في ( الدر المنثور  عن عدة عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وآله أن الذين كانوا يقاتلونهم كأن وجوههم وجوه كلاب ) .

        ثم توفيراً على أعصاب القارىء ووقتنا ووقته ، نكتفي بمثل آخر فقط ، على الروايات المتعلقة بتركيب الكون ، ونختار تلك الرواية المشهورة التي نقلتها مصادر الفريقين  المسلمين، والتي  أكثر ما يهمنا فيها ، أنها تنسب زوراً وكذباً إلى رسول الله  صلى الله عليه وآله وإلى أئمة آل البيت الأبرار الأطهار ، بينما هي في الواقع من جملة الإسرائيليات التي كانوا يعتقدونها في علم الهيئة والكـون . عنيت بها التي تقول إن الأرض على قرن ثور ، والثور  على حوت … إلى آخر الرواية ، ومن عجيب ما فيها أن الأرض عندما يضربها زلزال ، فإنما يكون ذلك بسبب أن الثور  تعب قرنه ، فنقلها إلى القرن الآخر .

        أما أنه لا بدّ من خارج القرآن من مصادر للتشريع ، يدخل فيها الإجماع والعقل والحديث والسنّة ، وبعض القياس ، فهذا مـّما لا شكّ فيه ولا يماري فيه إلاَّ جاهل معاند ، ونحن إذ نعمل على ذلك ، نسأل الله أن يري المسلمين حقيقة القرآن القلعة  الشامخة والحصن الحصين  الذي يتضمن كل هذه المصادر ، إما تفصيلاً وإما تنويهاً وإما تأويلاًً  .

        وهنا نكتفي بالكلام  عن صعوبة التبليغ  ، مضيفين  ما لا بـدّ  من التنويه  به ، وهو أن المُبَلِّغَ  ، برغم أن شعاره العملي ، هو قوله سبحانه :

       { ..قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ }(سورة الأنعام  ،  الآية  90) .

        وقوله تعالى :

       { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ ، أَمْ عِندَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ }(سورة القلم ، الآيات ( 46 ـ 47 ) 

       { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ  أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }(سورة الطور ،  الآيات ( 42 ـ 43 ) .

        برغم ذلك ،  فإنه يتعرض إلى أذى كثير ، أقلّه التعجّل بالحكم عليه إنطلاقاً  من القوالب ومن الموروثات الدخيلة على الدين وعلى العقيدة  وعلى كتاب الله المجيد . حتى أن العوام غالباً ما يديرون دَفَّةَ التدخّل ، ويعتبرون الرواية أية رواية ، وحتى الملفقة ، بمنزلة الآية وربما أكثر قدسية .

        ومن هنا كانت جسيمة مسؤولية  العلماء ، العلماء الحقيقيين ، لكن أجرهم في حال نجاحهم وصدقهم  عند الله عظيم ، وأول درجة في مدارج النجاح أن يكونوا مقبولين عند رب العالمين ، ولكي يكونوا كذلك ، ينبغي أن يكونوا صديقين ، يعني  أن لا يرتابوا بكتاب الله وأن يوقنوا به ويبلّغوه ، تلك وظيفتهم  ما داموا تصدّوا للعمل باسم الله  ودين الله كل ذلك على أساس  التّوحيـد وعدم السقوط في ألوان الشرك الظّاهر أو الخفي التي يسقط فيها العوام ، والتي تأخذ صاحبها بعيداً عن صراط الله المستقيم ، وتوقعه في خبط عشواء ، فيصبح  شأنه شأن الغوغاء ، والهمج الرعاع ، الذين ينعقون مع كل ناعق ، ويميلون مع كل ريح . ففي الذين آتاهم الله نعمة القرآن وهيَّأ لهم فهمه وتدبّره والعمل به ، ثم هم اعتمدوا غيره من دونه ،  أو ارتابوا به أو ببعضه ، وجه من وجوه  قوله سبحانه :

       { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث، ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(سورة الأعراف ، الآيات ( 175 ـ 176) .

        وقوله تعالى في الغوغاء :

       { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ،إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا }(سورة الفرقان ، الآية 44) .

       وبرغم الأذى ، والتحكّم على طريقة محاكم التفتيش  في تاريخ الكنيسة الأسود ، تلك المحاكم التي كانت تدين العلمـاء الأفـذاذ وغالباً ما تحكـم عليهم بالإعدام ، ودائماً بالهرطقة ، لا لشيء  إلاَّ لأنهـم اكتشفوا حقائـق أبداها لهم الله سبحانه فأبدوهـا للناس  .  فغضب لذلك رجال الديـن  المسيحيون لأنـها لا توافق أوهام الكنيسة وموروثـات رجـال الديـن من التخيّلات التي كان أودعها لهم في الكتب الصفراء كهنة سابقون ، فاحتلّت في أذهانهم موقعاً متحجراً و  …  مقدساً . برغم ذلك ينبغـي على العـالم الصبر الجميـل والتسامح ، وعدم الحقد والضغينـة والحسـد ، وعدم الوقوع في التزاحم على الجاه أو المال أو أي شأن من شؤون الدّنيا والآخـرة  ، وأن يطلب كل ما يبغيه ويرتجيه من الله وحده وحده ، فإذا هو أحسن الثقة بالله وأحسـن التوكّل على الله كفاه ما يهمه في دنياه وآخرته ، قوله تعالى :

       { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ . وَمَن يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَامٍ . وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَـاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ . قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ }(سورة الزمر ، الآيات ( 36 ـ 40 ).

        إلاَّ أن مشكلتنا مع الناس أقل استعصاء ، لأن بين أيدينا كتاب الله كما أنـزل وكما قال فيه عزّ شأنه :

       { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }(سورة الحجر ، الآية  9).

        ونحن على استعداد دائماً أن نقارع بمضامين آياته أهل الدنيا قاطبة ، ونجاهد أعداء الله، ما مدنا الله بالقوة واذن لنا بالتبليغ قولاً وكتابةً ، ونتترس به ونحتجب عن الذين لا يؤمنون بالآخرة ، وذلك تلبية لأمره تبارك وتعالى وعزّ وجلّ :

       { .. وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا }(سورة الفرقان ، الآية 52) .

        وقوله تبارك وتعالى :

       { وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا . وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا }(سورة الإسراء ، الآيات (45ـ46 ).

       { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }(سورة الجاثية ، الآية 23) .

       وهكذا فإنَّ الله عزَّ وجلَّ يَنصُر أنصارهُ ، ويُمِدُّهُم من لدنه بقوة ، وينير قلوبهم ودروبهم ويؤيّدهم  بانشراح الصدر وإنزال السّكينة ، والتدبير العجيب ، والتيسير المدهـش من قبلـه جـلّ جلالـه وبـهر جمالـه وعليـه التوكّـل وإليه  الإنابة وبه التوفيق ، وفي سبيل رضاه  وحبّه تهون المشقات وتسهل المستصعبات ، وكيف لا ، وهو وليّ الأمر وصاحب الأمر من قبل ومن بعد وفي كل حال :

       { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا }(سورة الطلاق  ، الآية  3 ) .

       والآن ، وبعد أن كانت هذه الصفحات ، مقدمة ضرورية لموضوع “الحرب الثالثة أو القيامة الأولى” وذلك لحساسيـة الموضوع ، وخطره ـ كتبليغ ـ على من يبلغه ، استعداداً لمواجهة المتغيرات الآتية ، في الأفراد وفي الشعوب ، وفي البلدان والدول ، وفي الكون ، ننتقل، إلى مجريات ـ بالعناوين والخطوط العريضة ـ ما سيحصل ، بإذن الله ، أو بتدبير الله ، ودائماً  في سلطان الله وفي ملكه في السماء والأرض ، وصولاً إلى تحقيقه لقوله سبحانه :

       { ..لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ }(سورة غافر  ،  الآية  16) .

       ونصل إلى تحقّق الآيات المنوطة بهذا الزمان ، العقد الخامس عشر الهجري والعشرين الميلادي ، الذي تجري فيه الأحداث الكبرى ، بخطوطها الرئيسة ، مواكبة لأشراط الساعة ، التي هي بدورها ناشطة في الملائكة والجن والإنس والأرض والسماء :

       { ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ }(سورة الأنعام ،  الآية   102) .

       ونبدأ بسم الله بالخبر الذي في سورة الإسراء : قوله تعالى :

{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا . فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً }(سورة الإسراء  ، الآيات  ( 4 ـ 5 )).

وقد شرحنـا هاتين الآيتين الكريمتين ـ عدا قوله تعالى : ولتعلن علواً كبيراً ـ في سياق بحثنا تحت عنوان : القيامة الأولى أو الصّغرى وبقي أن  نربط بهما بقية الخبر الإلـهي المقدس ، فيما يليهما من الآيات ، قوله تعالى :

{ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا}(سورة الإسراء ، الآية 6).

وقد تحققت هذه الآية كذلك . فمعروف تماماً ، أن اليهود قبل الثلاثينات من هذا القرن ، لم تكن لهم دولة ، حتى ولا كيان يذكر ، ثم أخذ نجمهم يتألق ، وهم لو اتبعوا العدل في سلوكهم وأحسنوا التّصرف كما يقتضيه الدين الإلـهي، لبقي نجمهم كذلك يتألق ، لوعده تعالى لهم بالعلو الكبير ، ولكن علمه كذلك بإفسادهم المرة الثانية كان أمراً مقضياً ، فاتبعوا أسوأ السبل وأفظع الجرائم . وهكذا كانت الكرة التي ردّها الله لهم على المسلمين ، بعد أن كان سلّط المسلمين عليهم ، فأخرجوهم من المدينة المنورة وجميع الجزيرة العربية .

وبحبـل منه تعالى ، أمدّهم بأمـوال طائلـة وأعداد متزايـدة من الأبناء  (وأمددناكم بأموال وبنين ـ الآية ) وبحبـل من الناس جعلهم أكثر نفيراً ( الآية ) والنفير كما هو معلوم لغة : كثرة الأنصار  . وهذا الأمر تحقيق أيضاً لقول الله تبارك وتعالى فيهم :

{ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ  بِمَا عَصَـوا وَّكَانُواْ يعتدون }(سورة آل عمران ،  الآية 112)

والحبل من الله  والحبل من الناس ، كلاهما ، الحاكم فيهما الله سبحانه ، لأن الأول بأمره ، وهو تيسير الأموال وزيادة العدد ( بأموال وبنين ـ الآية السابقة ) والثاني بإذنه ، وهو كثرة النفير ، لأنه في سلطانه ، إذ يستحيل الخروج من سلطانه ، وهو تبارك وتعالى لو لم يأذن بالمعاضدة البريطانية المجرمة لهم في البداية ، ثم معها أميركا التي كانت وما زالت لهم الحاضنة وولية الأمر ، ثم بقيـة ( النفير ) الذي يعني جميع دول الغرب المتعادية والمتحالفة ، التي أجمعت على نصرتهم وإمدادهم بالمال والسلاح ،  والمواقف المعادية للمسلمين ، وحتى مساعدتهم على الإنتقال من جميع بلاد  الدنيا براً وبحراً وجوّاً وفي كل سبيل .

        وهكذا ، فبعد شتاتهم في الأرض ، أخذوا يتجمعون في فلسطين ، فطردوا معظم شعبها بالغدر والخديعة تارةً وبالمذابح الجماعية تارةً أخرى . أما معجزة قوله تبارك وتعالى :

        { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ ..}(سورة الإسراء  ، الآية  6 ) .

        فهي في كونهم  أصبحوا ، على قلة من العدد في البداية ، لا تتجاوز المليون نسمة ، في محيط من المسلمين  ودولهم وأعدادهم  البالغة آنذاك مائة مليون تقريباً ، وهم  يحيطون  بهذه  الشراذم إحاطة السوار بالمعصم ، ومع ذلك بقي نجم بني إسرائيل يتألق ويتصاعد ، مصداقاً لوعده تعالى ،  على زيادة في القوة والعدد والعدة ، في حين  كان خصومهم  المسلمون عامة في المقابل ، يتقهقرون في جميع مجالات الحياة ، بعد حضارة سادت العالم بالدّين الحنيف ، ردحاً طويلاً من الزمن ، وما كانت هزائمهم المتلاحقة ، والمخازي التي أوقعهم الله فيها ، إلاَّ لأنهم تخلّوا عن الإسلام العملي ، وركبوا مراكب شتى ليست من صنع أيديهم ، وإنما هي دائماً من صنع أبالسة  الإلحـاد أو العلمنة ،  وما بينهما من تيارات عصفت بأهل الأرض  جميعاً ، وما زالت تعصف وتدمر ، وستبقى تعصف وتدمر حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً :

       { .. وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }( سورة النحل ،  الآية 118) .

        وفي جملة معاني ( حبل من الله ) في الآية الكريمة ، أنه سبحانه هيّأ لهم في فلسطين دولة ً قوية ، من وجوه الحكمة فيها ، أنه تعالى  سلّطها على العرب ، بين تأديب لهم وعقوبة ، حتى ينهضوا ويستيقظوا :

       { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ..}( سورة البقرة  ،  الآية  179).

       ونبقى مع آيات سورة الإسراء التي فيها قضاء الله تعالى ، فبعد أن رأينا الآيات الرابعة والخامسة والسادسة واستعرضنا الخطوط العريضة فيها ، بقي أمامنا ، بخصوص قضاء الله تعالى فينا وفيهم ، السابعة والأخيرة من الآيات الكريمة المتعلقة بموضوع الفتح ونهاية دولة بني إسرائيل . ففي الآية السابعـة هذه ، قال تعالى ، كذلك مخاطباً بني إسرائيل :

       { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا، فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُاْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا}(سورة الإسراء  ،  الآية  7) .

       وواضح تماماً بصدد قوله تعالى : { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} أنهم أساؤوا  وما أحسنوا ، فسابق علم الله عزّ وجلّ بإفسادهم في المرة الثانية وخصوصاً انطلاقاً من دولتهم التي أقاموها على أشلاء الفلسطينيين وأشلاء القيم والمناقب الأخلاقية  المتعارفة في الشرائع حتى الأرضية منها .  اقول إن سابق علم الله تعـالى بإفسادهم في هذا  الزمان هو الحسـم وهـو  القضاء المحتوم ، لأنه سبحانه صدّر كلامه في الموضوع ، بقوله تعالى :

       {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ ..}(سورة الإسراء الآية -4).

        والذي ذكرناه  عن إفسادهم تاريخياً ، إنما هو في ضوء الآيات  الكريمة ، من الواقع الحيّ الذي  لا ينكره إلاَّ أصم  أعمى ومكابر .

        وإذ نكتفي بهذا القليل الذي ذكرناه من طغيانهم وإفسادهم للبشرية ، لمعشر بني آدم الذين كرّمهم الله سبحانه في الأصل ، ويستحيل أن يرضى بعبوديتهم لغيره من خلقه ، فكيف بعبوديتهم لقوم غَضِبَ الله عليهم وجعل منهم القردة والخنازير ، وهم مع ذلك كله مصرّون على ادّعاء كونهم شعبَ الله المختار وأن بقية الشعوب من دونهم أميّون من حقّهم أن يبيدوهم ويبقوا منهم بقية يستعبدونها ويستخدمونها ويتخذون منها رقيقاً لقضاء حاجاتهم ، هكذا في كتبهم ، وهكذا يتعلمون في مدارسهم ،  وهكذا عقيدتهم الهجينة التي ابتدعوها وما أنزل الله بها من سلطان .

        ثم نتابع قوله تبارك وتعالى في الآية التي نحن بصددها :

       { .. فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُاْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا }(سورة الاسراء الآية -7).

السقوط الكبير بعد العلو الكبير :

  وقبل أن نتحدث  عن السقوط الكبير  وهو حتم على بني إسرائيل ، في آخر دولة لهم  هذه التي في فلسطين ، ينبغي أن نلفت إلى أمر هو غاية في الأهمية في هذه الآية ، وهو قوله سبحانه  :

{ .. فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ .. }((سورة الاسراء الآية -7)).

        فهو سبحانه لم يقل ” وعد الثانية  ولم يقل  كذلك وعد الأخرى ” ، ونحن كان يمكن أن لا نلتفت إلى هذا الفارق ، إلاَّ أنه في الواقع له أهمية كبيرة ، تتضح أكثر إذا ربطناها بالآية التي تتعلق بنفس موضوع نهاية الدولة العبرية هذه . وسنعتبرها ، أي الآية رديفاً  لآيات سورة الإسراء ، والآية هي قوله تبارك وتعالى في سورة الحشر :

       {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }(سورة الحشر  ، الآية  2).

       فما يعنينا الآن ، قبل ربط التفاصيل ، قوله تعالى : { لِأَوَّلِ الْحَشْرِ } والحشر هو أول الآخرة  ، ولا بأس هنا أن ننوّه أن المفسرين عامة لم يلتفتوا إلى هذه المعاني في آيات الإسراء ، ولا إلى كونها تترادف مع آية الحشر هذه ، ولا إلى أن آية الحشر هذه هي متعلقة أيضاً بملحمة سقوط الدولة العبرية في آخر الزمان ، ونحن في مواجهة هذا الآخر ، مقتربين من الحشر  المنوّه عنه في الآية  ، مقتربين من الآخرة ، بدلالاتٍ كثيرةٍ ، يواكب بعضها بعضاً ، من أهمها أشراط الساعة  ، التي قلنا إن كثيراً منها متحقق عملياً في زماننا هذا ، والتي سنبحثها إن شاء الله فور نهايتنا من موضوع قضاء الله عزّ شأنه بيننا وبين الذين كفروا من أهل الكتاب  وهم اليهود ، الذين أفسدوا  في الأرض فحاربوا محمّداً صلى الله عليه وآله ومن أسلم معه لله الواحد القهار، وكفروا بما أنزل عليه وهو الحق من ربّه سبحانه ، كتاباً عزيزاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، مصدقاً لما بين يديه ومهيمناً عليه .

        فمن بشائر الفتح ومقوماته لمصلحة المسلمين ، هو ما نجده في مضامين  الآيات  التالية: قوله تبارك وتعالى :

{  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُـواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }( سورة المائدة  ، الآية  51) .

ولماذا تكون هذه الآية من البشائر للذين آمنوا والمقصود بها في القرآن الكريم ـ وحيث وقعت ـ المسلمون الحقيقيون ، مع أن مضمونها هو التحالف بين اليهود والنصارى ، والتحذير منهم جميعاً يؤكّد  عداوتهم الشديدة لأهل الإيمان . فكيف تكون من البشائر ؟

في الواقع هذه الآية ، هي من الآيات التي اختلف فيها المفسّرون في الماضي اختلافاً شديداً ، ولم يتوصلوا إلى حقيقة ما ترمي إليه ، وهم معذورون في عدم تدبّرها ، لأنها تذكر خبراً أو حقيقة هي خلاف ما كانوا يرونه في القرون الأربعة عشر الماضية من تاريخ الهجرة الميمونة .فما كان يتم في الحقبة الماضية من التاريخ ، هو ما ذكرنا بعضه في سياق هذا الكتاب، من خلاف مسعور بين اليهود والنصارى ، حيثما اجتمع الفريقان ، وهذا أمر بديهي، حيث أنَّ اليهود ما توقفوا لحظة عن التشنيع على النصارى وحتى على أقدس مقدساتهم المسيح وأمّه عليهما السلام . وكذلك كان هذا الخلاف الذي دام  منذ البعثة الشريفة للمسيح عليه السلام  وحتى ثلاثينات القرن العشرين الميلادي ، كان خلافاً حاقداً في المناظرات  قولاً وكتابة ً ، شرساً دامياً في المواجهات ، كما كان مصداقاً كذلك لمعجزات القرآن الكريم  الذي نصَّ في أكثر من آية عن حتمية وقوعه  في تاريخ الفريقين وصولاً إلى هذا الزمان ،  زمان مصداقية الآية التي تذكر تحالفهم  من جديد ، خلافاً للعداوة المريرة التي كانوا عاشوها كما ذكرنا حوالي أكثر من تسعة عشر قرناً من الزمان ، وإذا بهم يتحوّلون فجأة إلى جبهةٍ واحدةٍ  عالمية في معاداةٍ رعناءَ للإسلام الحقيقي ، وما زال السؤال ، وكيف تكون الآية بشارة  ؟

        الحقيقة أن البشارة  فيها مرتبطة بآيات بعدها ، واحدة تمحّص المسلمين ، وتذكر أن الذين يوالون اليهود والنصارى هم من أهل الردّة ، وأنهم سيحشرون معهم على خزي في الدنيا وعذاب الجحيم في الآخرة .

        فالآية التي تفصل بين المسلمين الحقيقيين  وبين الذين في قلوبهم  مرض  الموالين لليهود والنصارى ، هي بعد الآية التي ذكرت مباشرة : قوله تعالى :

{ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ }(سورة المائدة ، الآية 52) .

فواضح أن البشرى هي في وعده تعالى بالفتح لمصلحة المسلمين ، وحيث أن ظواهر  الأمور ، من حيث تركيبة الدول ، وفارق القوة بين المسلمين وبين من يعاندونهم ، لا لشيء إلاَّ لأنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد ، هذا الواقع المتفاوت وغير المتكافىء بيننا وبينهم ، حيث أن الفوارق المادية ـ وليس الروحية ـ  هي لصالحهم في جميع مناحي الحياة ، سياسة وعسكراً ، واقتصاداً وتقنية مدهشة ، حتى لكأن الصورة التي يرسمونها للمقارنة بيننا وبينهم ، قد اعتبرها أكثر مفكري أمتنا وكتّابها ، أنها صحيحة ، وأنها نهائية ، وهي أننا في منزلة الإنسان البدائي في مقابل ” السوبرمان ” أي الإنسان المتفوق الذي في أعلى درجات الحضارة والرقي ، والذي هو أنموذج ينبغي أن يحتذى به ، حسب فريق من المبهورين ، الذين نسوا أن للعباد ربّ يعبد  كما يريد هو ، لا كما يريد عباده .

وعلى كل حال ، هذه المقارنة التي يخيّل أنها واقعية في ظاهرها هي التي حَدَتْ أيضاً بفريق آخر أقل انبهاراً ، من العلماء والمفكرين المسلمين وكتّابهم ، إلى عصر أدمغتهم للبحث عن مخرج للأمة العربية  ،  من هـذا المأزق ، وهـم للأسف ـ رغم إخلاصهم ـ كلما كتبوا ، زادوا  الأمور تعقيـداً ، ووقـعوا وأوقعوا الناس أكثر فأكثر  في حيرة ، وهم في كتاباتهم  ، التي يبحثون فيها بحثاً موضوعياً كما يزعمون ، إنما يحاولون المستحيل ، لأننا كلما تقدمنا شبراً تقدم الغرب باعاً ، ويزيد الفارق بحكم النسبيـة ما دمنـا وإياهـم في الزمان الواحد .

        فعلى هذا ، آن لمفكري المسلمين وكتّابهم ، أن يحوّلوا وجوههم إلى الذي يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض  ، والذي هو إلـه في الأرض وإلـه في السماء ، والذي هو معكم أينما كنتم ، يدبّر الأمر  يفصّل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون . وأن يتدبروا كتابه الكريم، وأن يدعوا الناس إلى الله عاملين جادين متوكلين عليه لا متواكلين ، وأن يصدقوا بوعد الله ووعيـده الَّذَيْنِ بين دفتي القرآن الكريم ، فالذين يظنّون بالحضارة هذه الزنديقـة ظَنَّ الخير ويظنون بالله ظنّ السوء .

       { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا }(سورة الفتح  ، الآية  6 ) .

       وكل آت قريب  .

        ثم عوداً إلى الآية الكريمة الواعدة بالفتح وإلى البشرى التي تتضح فيها ثم تتجلى أكثر فأكثر ، بآية بعدها ، قوله تعالى ، مُنَوِّهاً بعاقبة المرتدين عن دينهم الذين يوالون أو يوآدُّوْنَ أو يطمئنون للتحالف اليهودي ـ النصراني ، كما ينوّه سبحانه بأنصاره الآتين وبصفاتهم قوله تعالى :

       { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }(سورة المائدة  ،  الآية  54) .

         فإذا ربطنا هذه الآية الكريمة بقوله تعالى في سورة الإسْرَاء :

       {  بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ  }

       ثم قوله تعالى في نفس السياق مخبراً بني إسرائيل عن هؤلاء العباد ، بقوله عزّ من قائل :

       { فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُاْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا }

       أدركنا أن هؤلاء المسلمين المؤمنين  ليسوا من النمط العادي ، الذي يعرّض للأذى وربما لسفك الدماء مسلمين مؤمنين آخرين ، فصفات أنصار الله المرصود على أيديهم الفتح كما رأينا في آية المائدة (54) ، أنهم ” أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين ” ، وكيف يكون المؤمن ذليلاً على المؤمن وهو يكيد له ويتربص به الدوائر حتى إذا تمكن منه سفك دمه ، أو قصف منـزله ، أو أغمض عينيه وأطلق قذائفه وصواريخه على قرى وأحياء مليئة  بالمسلمين وبالمؤمنين العزّل  ، فيقع القتل في النساء والأطفال والشيوخ والشباب ، ولا يطرف للقتلة باسم الإسلام جفن ، ويدّعون أنهم هم أهل الفتح ، وأنهم هم أنصار الله … كل ذلك بدعوى أنهم يريدون فتح الطريق لقتال الأعداء الحقيقيين، والأعداء الحقيقيون فوق الفريقين المتناحرين. يوجهونهم ويشكرونهم على إبادة بعضهم ويباركون النّار التي فيها يحترقون .

        بلى سيخرج من الفريقين هذين وأمثالهما في العالم الإسلامي  رجال ـ كما سنرى ـ يجتمعون على حب الله وطاعته والجهاد في سبيله ، ويكونون مصاديق لما ذكر عنهم سبحانه من صفات الصديقين المجاهدين الذين لا يخافون في الله لومة لائم .

        ومتى يبلغ مداه ، هذا الإجتماع على حب الله ، وطاعته والجهاد في سبيله ؟ بفضل من الله تعالى وبنعمة منه ، سيكون ذلك عبر الحرب العالمية القادمة ، التي ستطيح بجبابرة الأرض . ويبقى الباب مفتوحاً للجوء إلى الله ، انضواءً تحت راية لا إلـه إلاَّ الله ، من  جميع  الملـل ، وسيتم هذا الأمر برحمـة

 منه سبحانه لمن يعلم في قلوبهم خيراً  ، ولمن قال فيهم :

       { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }( سورة البقرة ، الآية 62).

       وسيكون قسمٌ كبيرٌ من النصارى  أوفرَ حظاً عند الله عزّ وجلّ لاتباعهم للمسيح في بعثته الثانية . وهذا الفريق منهم سيجنبهم الحرب وأهوالها ، كما سيجنب جميع الصالحين  من عباده ، وهو على كل شيء قدير .

        لقد قلنا متى يبلغ أمر اجتماع المؤمنين مداه ، وقد أجبنا ، انه بإذنه تعالى سيكون عبر الحرب العالمية ،  بعد أن يجنبنا الله تعالى فظائعها وقيامتها وخاصة في لبنان وبلاد الشام عامة وكذلك إيران ومكة المكرمة ، وكذلك كل بلد إسلامي يكثر فيه الولاء لله وحده دون شريك.

        يبقى أن نقول كيف يكون هذا الإجتماع ، وكيف يتعاضد المسلمون والجواب كذلك، في وعد جاهز بنعمةٍ من الله في آخر آية من سورة  الفتح ، قوله تبارك وتعالى :

       { ..كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }(سورة الفتح ، الآية 29) .

        ثم شباب المسلمين وشيوخهم ، وبكلمة هم الأمة الإسلامية التي سيسلمها الله عزّ وجلّ ، وقد رصدها للفتح المببين ، بعد أن محّص وعاقب وابتلى ودمّر على أقوام منها ، وما زال ملائكته بأمر منه سبحانه يهلكون قرى ومدناً وجماعات وأفراداً ويصطفون بإذنه آخرين :

       { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِـكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ . نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ }(سورة فصلت  ، الآيات ( 30 ـ 31 )) .

       ومن نماذج العقوبات والإبتلاء والتدمير والتشريد والقتل الجماعي وإهلاك أفراد وليس هلاكهم  ، ما حصل لشعب فلسطين في الداخل  والخارج ، وما زال ، ثم في لبنان ، ثم في الكويت ، ثم في العراق ، والله أعلم أين ستكون محطات الغضب التالية قبل الحرب العالمية وفي حُمَيَّاها أو وقوداً لها .

        ومع ذلك كله ، سينجي الله عزّ شأنه ، الأمة الإسلامية  التي قال فيها :

       { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ .. }(سورة آل عمران ،  الآية  110 ) ) .

       سينجيها ، ويجمع شملها على الخير ، وعلى النصر المبين ، بعد أن يصطلي بنيران يأجوج وماْجوج أكثر أهل الأرض .

        وقد آن  لنا أن نحسم القول ـ ودائماً بفضل الله وعنايته ورحمته ـ في معنى يأجوج وماْجوج والإختلاف الشديد حولهما وحول معناهما وماهيتهما سواء عند اليهود أو النصارى أو المسلمين والجميع يعتبرونهما أقواماً من البشر أو ما يشبه البشر، وواقع الحال أنهما كناية عن بشر لأنهما لا يتحركان إلاَّ بمحرك ، وما هما إلاَّ القذائف والصواريخ من كل حجم وهي ما كنَّىْ عنها سبحانه بيأجوج لأنها تؤجّ نيرانها أجّاً ، أما ماْجُوْج ( وبدون همز ) فقد كنَّىْ به سبحانه عن المدافع بجميع عياراتها لأنها تمجّ من أفواهها ما هو معلوم من مواد الفتك والدمار . هذا بلغة القرآن الكريم ، اللغة العربية :

{ بسم ِ الله ِ الرَّحْمَن ِ الرَّحِيمِ . حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }( سورة الزخرف ، الآيات ( 1 ـ 3 ) ) .

ولو أن العرب أسموا القنابل والمدافع منذ البداية يأجوجاً ومَاْجُوجَاً وهو الأصح تعبيراً وكناية وتوافقاً مع كتاب الله ، لما كان هناك مشكلة منذ معرفة هذين النوعين في الزمان المتأخر .

على أن هذه العبارة وردت مرتين في القرآن الكريم : واحدة تتعلق بعصرنا ، وهي التي في سورة الأنبياء والثانية مضت عليها قيامة أرضية سابقة وهي التي في سورة الكهف  ، أما الأولى فقوله تعالى :

{ حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ }(سورة الأنبياء ،  الآيات ( 96 ـ 97 )) .

       وواضح أن الأمر هو كذلك من أشراط الساعة ، أو القيامة الكبرى التي ستكون على مستوى السموات والأرض .

        أما لماذا لا يكون الأمر مرتبطاً كذلك بالحربين الأولى والثانية العالميتين ، وكذلك الحروب الإقليمية التي حصلت بعدهما ، وكذلك الحروب المحلية ، وفي جميع هذه الحروب استعملت الألغام والقنابل والمدافع . فنقول وهو كذلك ، فكل هذه المدة الزمنية ، هي من مقدمات الساعة ، أي القيامة الكبرى ، أي الوعد الحق المنوّه عنه في الآية الكريمة ، على أن تكامل هذا الشرط من أشراط الساعة  أو تكامل هذه العلامة ، أمر مرهون بقوله تعالى :

        { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ … } .

        وقوله سبحانه :

        { وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } .

       وقوله عزّ شأنه :

        { وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } .

       فالقولاَنِ الأوّلانِ ، دلالةٌ على كثرتِهما وكأنما على تدفّق الجيوش معهما ، والعبارة الثالثة كناية عن الإقتراب أكثر فأكثر من وعد الله عزّ وجلّ بقيام الساعة . ثم دلالة الآية الكريمة  بشكل عام على مدى أهوال واتساع هذه الحرب وشمولها لجميع كفار أهل الأرض بدلالة قوله تعالى :

{ … فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ }( الآية 97 من سورة الأنبيَاء) .

وليس من شروط علامات ِ الساعة أن تكون جميعاً في يوم أو سنة  أو حتى عقد من الزمان ، فسنرى عند وصولنا إلى هذا المبحث إن شاء الله ، كيف أن بعض العلامات قد تمتد وتتفاعل خلال ربما أكثر من عقدين من السنين . وعلى سبيل المثال :

{ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ . ( سورة التكوير ، الآية 6 ) } .

وتسجير البحار حاصل بمعنييه وهما الإحتراق والإمتلاء ، وهو أمر مستمر منذ أكثر من ثلاثة عقود ، أي منذ بدء التجارب النووية في عمق المحيطات وما يتبع ذلك من احتراق بالغ الشِدَّة يسبب مزيداً من ذوبان الجليد في قطبي الأرض شمالها وجنوبها ، مـمّا ينتج عنه زيادة تسجير البحار بالمياه ، أي امتلائها ، أضف إلى ذلك حرائق النفط وبقع النفط التي أقلّها حصل في حرب الخليج ، وأكثرها واقع بإذن الله في الحرب الكبرى الآتية ، عندما تصل هذه العلامة من علامات الساعة إلى أَوْجِهَا أو تكاد ، مواكبة ومتساندة مع علامة ثانية قوله تعالى عن الأرض  :

{ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ . ( سورة الإنشقاق ، الآية 4 ) } .

 وإذ نكتفي الآن بهذا المثل ، نعود إلى حكاية يأجوج وماْجوج ، التي في سورة الكهف ، والتي هي قوله تعالى :

{ قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا }(سورة الكهف ، الآية  94) .

إلى آيات أخر قبلها وبعدها تلقي الضوء على مجمل القصة ، إلى أن يقول سبحانه على لسان ذي القرنين بعد بناء السد :

{ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا}(سورة الكهف ، الآية 98) .

وواضح أن هذا السد اليوم لا أثر له ، ربطاً بالصفات التي ذكرت في القرآن المجيد فيما بين الآيتين ، وهي كونه سد هائل يستحيل على القوم اختراقه أو ارتقاؤه ، وتدل الآية على أنه دمّر تماماً :

{ جَعَلَهُ دَكَّاءَ } .

ثم من بليغ الدلالة على هذه الحقيقة ، أنهم دمروا ، وأنهم في برزخ عرضوا على جهنم بانتظار القيامة الكبرى ، يوم يردّون إلى ربِّهم فيعذّبهم عذاباً نكراً ـ كما ورد في آية في بداية السياق ، قوله تعالى :

{ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا }(سورة الكهف ، الآيات  ( 99 ـ 100 )) .

ولن نتوقف عند قول من قالوا ، إن استعمال صيغة الماضي في الآيات ، تدل على تحقّق هذا الأمر في القيامة الكبرى النهائية ، صحيح أن بعض الاستعمال لصيغ الماضي يدل على التحقّق في المستقبل ، إلاَّ  أنه  ليس جميع صيغ الماضي ، وإلاَّ  لكان جميع الحديث والقصص القرآنـي يشير فقط إلى المستقبل ، وهذا مردود بالبديهة  .

        على أن القصة ، باختصار شديد ، هي أنها كانت حضارة حديدية ـ نحاسية كما يستنتج من الآيات الكريمة ، ليست بعيدة عن حضارتنا هذه التدميرية ، فأقام الله عزّ وجلّ القيامة على رؤوس أهلها الَّذين أفسدوا في فترة من الزمـان امتـدت بعد ذي القرنيـن المذكور في القرآن الكريم إلى ما شاء الله .

        ولا بأس  أبداً عندنا ، فيما كتبه بعض المحققين من علماء الآثار ، عن حضارة راقية ، سبقت حضارتنا هذه ، ثم كان تدميرها تدميراً كاملاً ، بحيث لم يبق على وجه اليابسة  من آثارهـا إلاَّ اللمم ، ومنه فيما يلي القشرة الأرضية الحالية ، كميـات من غبـار النجوم إلى غير ذلك من آثار وكأنها ـ كما يقولون ـ آثار قصف سماوي للأرض ، على أن بقايا هذه الحضارة ، أحصوهـا  ـ وما زالوا ـ في أعماق البحار .

        وبخصوص القول  :

        { .. إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ..}(سورة الكهف  ،  الآية 94) .

       وأن ( مفسدون ) للعقلاء ، فكيف وصف بها ما لا يعقل ، فالجواب أنها من باب قوله تعالى :

       { .. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ.. }(سورة الإسراء  ،  الآية 64) .

       يقصد بها فرساناً وراجلين . وكذلك قوله تعالى للسموات والأرض :

       { .. اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }(سورة فصلت  ،  الآية  11) .

غرق الدولة العبرية في المحيط العربي ـ الإسلامي :

بعد استعراضنا  لوعد الله تبارك وتعالى في آيات كريمة ، بخصوص السقوط الكبير بعد العلو  الكبير لدولة بني إسرائيل . فقد  بات حقاً علينا وواجباً أن نقرأ الآتي القريب على الأرض أو على الخارطة العالمية ثم الإقليمية .

        فبعد أن قلنا إنه ، ولعله ليس شرفاً لنا أن نلحق بالحضارة  الزنديقة وأن هذا الشرف بعدم اللحاق ، هو مـمّا اختصّ سبحانه به هذه الأمة ، التي هي عنده تعالى خير أمة أخرجت للناس ، لكي لا تغرق في الزندقة وبعد أن قلنا بوجوب التحوّل عن هذا المطلب الذي  وكأن الله جعله علينا مستحيلاً  لكي لا نكون وقوداً للنارين في الدنيا والآخرة ، فله الشكر سبحانه وله الحمد كما ينبغي لكرم وجهه ، وبعد أن قلنا بوجوب العمل بجد ضمن إمكاناتنا التي مكّننا منها سبحانه ، دون أن نستعطي أو نتوسل ، متوكلين غير متواكلين ، فهو الناصر سبحانه وهو الكافي ، وأن الأمر أمره والخطة خطته وعليه عاقبة الأمور ، وبعد أن قلنا إِنَّه  بعد هدم وتمزيق دولة الإلحاد في الإتحاد السوفياتي  وبقية الدول الشيوعيّة آتية القيامة الصغرى على إسرائيل وأميركا وأوروبا والصين وأحلافهم، حيث بين يأجوج وماجوج وحرائق عالمية ستسقط حضارة الغرب الزنديقة ، حضارة الجنس والفلتان ، وظلم الشعوب المستضعفة ، حضارة التعبّد للآلة والدولار والمظاهر الكرتونية . حضارة الكفر بالله والشرك بالله ومعصية الله عن سابق تصوّر وتصميم . وبسقوط هذه الحضارة طبعاً تسقط معها القوى العسكرية ، وتصبح الدول والمدن بين طعام للنيران وبين عرضة للطوفان الذي سيكتسح معظم شواطىء أوروبا وأميركا وبعض شطآن آسيا مغرقاً عواصم ومدنا ً ومعها حضاراتها الفولكلورية وكرنفالاتها العربيدة ، الموعودة بوعيد الله جلّ جلاله ، قوله تعالى  :

       {ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ. ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}(سورة غافـر ،  الآيات ( 75 ـ 76 )).

         بعد هذه النهاية المرسومة قدراً وقضاءً من الله سبحانه  لتساقط الدول العظمى والدول الأعظم والتابعين من المغرورين بمظاهر القوة من جميع الدول وجميـع الملل ، والذين سيكـونون مع أسيـادهم مصـاديق لقول  الله عزّ  شأنه :

       { الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ . فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ . فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ . إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ }(سورة الفجر  ،  الآيات  ( 11 ـ 14 ).

        بلى إنه عزّت قدرته كان وما زال وسيبقى بالمرصاد لجميع الطغاة والمجرمين المفسدين في الأرض ، فإنه لا يحب المفسدين ولا يحب المعتدين ولا يحب الكافرين .

        بعد هذه النهاية المقرّرة  من ربّ العزّة والجبروت ، ماذا يبقى على صعيد القوى في الأرض ، بعد أن يذهب أهل الشمال بهيبتهم وغطرستهم وقواهم المادّية والعسكرية وإعلامهم المنافق ، وبعد أن يذهب ترفهم الذي يعتزّون به وما زالوا لغاية كتابة هذه السطور ، وهم يقولون إن هذا الترف من حقّهم وحق شعوبهم وإنهم لن يتخلوا عن شيء منه لأهل الجنوب ، ويقولون ولماذا لا يشدّ أهل الجنوب أحزمتهم ، ليستطيعوا تسديد الديون لأهل الشمال  ، حيث أن هذه الديون تتراكم يوماً بعد يوم وتتضخم بفعل الربا المتزايد كذلك ، الربا الذي جعلوه أسلوباً مقدساً من أساليب هذه الحضارة الزنديقة ، رغم أن الله تعالى جعله من أعظم المحرمات .

        وهؤلاء ، أي الدول الغنية ، هم أسْمَوا أنفسهم ، أهل الشمال وأسموا الدول الفقيرة أهل الجنوب ، إلاَّ أننا نحن نقول أصحاب الشمال وأصحاب اليمين ، لأن القرآن الكريم  يسمّيهم كذلك، وليس  في القرآن لفظة جنوب،

         علماً أنه ورد فيه شرق وغرب وشمال ، فما عنوه هم بأهل الجنوب رمز إليه القرآن الكريم  بعبارة  { أصحاب اليمين }  .

ولماذا أسموا أنفسهم أهل الشمال ، هذا من العَجَب ، إذ أن التسمية  هي رمزية كما أرادها الله سبحانه ، فهو تعالى قهرهم عليها وألزمهم بها ، والعجب فيها أنهم أخذوا يتداولونها رغم أنها لا تدل على وجودهم جميعاً شمال الكرة الأرضية ، كما لا تدل عبارة { أهل الجنوب } على وجود جميع الدول الفقيرة جنوب هذه الكرة . ولكنه هو السر الإلـهي الذي أراده الله تعالى تحقيقاً لوعده لأهل اليمين المؤمنين المستضعفين ، ووعيده للآخرين ، وذلك في عمرالبشرية ماضيـها وحاضرها ومستقبلها ـ مع حسبان الإستثناء من كل قبيل ـ قوله تعالى :

      { وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ . فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ . وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ . وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ . وَمَاء مَّسْكُوبٍ . وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ . لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ . وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ. إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء . فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا . عُرُبًا أَتْرَابًا . لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ . ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ . وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ }(سورة الواقعة  ، الآيات (  27 ـ 40 ) .

        وأما وعيدُهُ ، فقوله عزّ شأنه :

       { وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ . فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ . وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ . لَّا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ . إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ . وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ }(سورة الواقعة  ، الآيات ( 41 ـ 46  ).

       والحِنْثِ العظيم هو كل ذنبٍ عظيم ، وما أكثر ما يخالفون تعاليم الله ، وما أكثر ما يذنبون ، وما أكثر ما يجرمون ، وحسبنا أغداقهم العون والمساعدات وآلات الموت ضدنا على أفسد أهل الأرض  في هذا الزمان ،  دولة بني إسرائيل ، لتزيد طغياناً وغطرسة وتجبراً ، وهي في نفس الوقت تكفرهم وتزدريهم ، وتدوس قراراتهم وقرارات مجالسهم : الأمن  والأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات العالميـة ، ومـع ذلك كلـه كأنمـا شملهـم  العمـى ، وصدق الله العظيم:

       { .. فَإِنَّهَا لَا تَعْـمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (سورة الحج  ، الآية  46) .

       إسرائيل هذه  ، ستغرق في المحيط العربي ـ الإسلامي  في السنة اللاحقة للحرب العالمية الثالثة . بعد أن تصبح القوّة الباقية والفاعلة على الأرض ، هي القوة العربية ـ الإسلامية .

        أما كيف يتلاءم ذلك مع وعد الله تبارك وتعالى من حيث أن الفتح لن يتم إلاَّ بأيدي المؤمنين ذوي الصفات التي ذكرنا آنفاً ، والتي أبرزها أن يكونوا أنصاراً حقيقيين لله وحده دون شريك . وأن تكون شعاراتهم وهتافاتهم ، ونداءاتهم ودعاؤهم لله وحده ، واستغاثاتهم  بالله وحده وأن لا يجعلوه مع أحد من خلقه على طاولة مستديرة واحدة ، ذلك بأنه لا يجوز أن يقاس بأحد من خلقه ، ولا قياس ، فسبحانه وتعالى عن جميع من خلق وما خلق .

       { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }(سورة لقمان  ،  الآية   30) .

       أما كيف يتلاءم الفتح المرتقب مع حالة الأمة الراهنة  ، حيث أنها بدولها العربية وغير العربية ، أكثرها علماني أو متوجه نحو العلمنة ، وأكثرها يتلبس بإسلام شكلي ، رؤساء ومرؤوسين ، فضلاً عن البؤر الواسعة  التي تناضل فيها بعداوة مريرة ضد الإسلام ، إما لأنها منحرفة عن صراط الله العزيز الحميد ، وإما لأنها عاشت حالات رعب من ممارسات مدّعاة أنها إسلامية ، في سياق حماس موتور ، ما أنزل الله  به  من سلطان . وهذا النوع  الثاني ، هذه  البؤر الخائفـة من الإسـلام ، معـذورة نسبيـاً ، وهي عنـدما تعيـش ممارسـات إسلامية حقيقية ، عادلـة ورحيمـة ، سرعـان ما سترفـع رايـة لا إلـه إلاَّ الله وتهلّـل وتكبّر وتملأ قلوبها بالحب الأقدس للأعـزّ الأجـلّ الأكـرم ، الرحمن الرحيـم.

        ويبقى السؤال كيف التلاؤم بين الأكثرية الجاهلة للإسلام ، أو الأكثرية غير المؤمنة ، في الأمة الإسلامية المرتقبة للفتح المبين ؟

        والجواب هو في  الآية  الكريمة :

       { .. كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ .. }(سورة الفتح  ،   الآية  29) .

       على تفاوت في الدرجات ، على أن الآية في آخرها ذكرت ما سيلحق أنصار الله الحقيقيين قوله تعالى :

{ .. وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا }(سورة الفتح  ،   الآية  29).

وهكذا يكون بقية أفراد الأمة الذين هم من غير الصفوة المجتباة ، مصاديق لقول الله تعالى :

{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }(سورة الحجرات  ،  الآية  14 ) 

وهكذا ستكون الأمة الإسلامية بجميع درجات أبنائها الإيمانية ،  من قادة وعساكر ، جاهزة للإنقضاض على صفـوة  الظلم البشري ، أعـداء الله المفسدين في الأرض ـ  دولة بني إسرائيل . ولا ننسى أن الميزة الأساسية للأمة على أعدائها ستكـون آنذاك ، هي تأييـد الله ، ووعـده  الحـق لأنصـاره الموحدين ، بالفتح المبيـن ، يبشّرنا الله تعالى به ، على أنه حقيقة قائمة ، قوله تعالى عن بني إسرائيل :

       { .. وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ، فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }(سورة الحشر  ، الآية   2) .

       وهذه الآية كما أشرنا من قبل ، مرفودة بآيات سورة الإسراء المتعلقة بهذا الأمر . وهذه الآية أيضاً ، يمتد خبرها ومصداقيتها من طريقة إخراجهم  من المدينة المنورة ،وكل الجزيرة العربية ، إلى إخراجهم الوشيك إن شاء الله تعالى من فلسطين .

        واستعمال الأفعال الماضية هنا كذلك يحمل الوجهين  : الوجه الأول وهو الذي تحقق عهد الرسول الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله ، والوجه الثاني الذي هو على سبيل التحقيق في المستقبل القريب بإذن الله تعالى ، ومن أصدق من الله قيلاً ومن أصدق من الله حديثاً .

        واستعمالات القرآن الكريم لصيغ الماضي عن أمور ستتحقق في المستقبل كثـيرة جـداً ، وهـي من باب قول أهل النار لـخازن النار على سبيل  المثال :

       { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ }(سورة الزخرف ،  الآية  77 ) .

        وكذلك الآيات الخمس الأولى من سورة الروم ،  والتي  هي أنـزلت أيضاً تحمل وجهيـن ، مرحلتيـن ، خبرين مستقبليِّين ، أولهما وقع عهد رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله  وهو المعروف تفصيله في كتب التفسير التي لم تتعرض للوجه الآخر المستقبلي والذي هو قيد التَّحقُّق ، وللنظر في الآيات الكريمة قبل أن نعرض تأويلها ، قول الله عزّ وجلّ :

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ  الـم . غُلِبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ . فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ . بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَـاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ }( سورة الروم ،  الآيات  ( 1 ـ 5 ) ) .

وفي الفعلين ( غُلبت )  و ( سيَغلبون ) قراءتان : الأولى هي المشهورة في المصحف الشريف بضم غين الأول وفتح ياء الثاني ، أما القراءة الثانية التي سنقرأها بناء على الخبر المستقبلي الذي نحن بصدده ، والتي تحقق بعضه في حرب الخليج . فسنقرأه هكذا :

        { غَلَبَتِ الرُّومُ . فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْـدِ غَلَبِهـِمْ سَيُغْلَبُونَ … }.

       أي بفتح غين الفعل الأول وبضم ياء الفعل الثاني .

        فيصبح المعنى في القراءة الثانية أن الروم هم الذين تغلبوا على خصومهم في أدنى الأرض ، وذلك أمر وقع كما هو معلوم ، إبان فصل الشتاء من السنة  1411 هـ ـ 1991 م ، حيث اجتمعت الروم وتحالفت رغم خلافات بين كثير منها ، تحالفت في جميع أقطار الأرض لتنتصر في حرب خاطفة طاحنة على خصومها في أدنى الأرض ، وكلمـة أدنى الأرض ، من الشواهد البارزة على ذلك ، فمكان المعركة في العراق والكويت  ونفس الحجاز، أدنى إلى مكان نزول القرآن الكريم على قلب محمّد صلى الله عليه وآله  وأقرب من فلسطين ، ( حيث كانت فلسطين وبلاد الشام عامة هي المقصودة في الوجه الأول من الخبر القرآني ) وهكذا سيطر الغرب أو الروم بالمعنى التقليدي ، على جميع المنطقة  في الشرقين الأدنى والأوسط ، وهو في صدد أن يسيطر على العالم كلّه بنفس إمبريالي يعدّ له الآن العدد  والعدة .

        أما الشاهد البارز الثاني على مصداقية الوجه المستقبلي للآيات الكريمة فهو قوله تعالى:

        { َيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ … الآية } .

      وهكذا يظهر بوضوح أكثر مـمّا يظهر من الوجه الأول لزوم الفرحة للمؤمنين ، حيث أن فرحهم بالنسبة للخبر الذي مضت مصداقيته كان بانتصار الروم على الفرس ، والروم عهد ذاك نصارى والفرس وثنيون .

        وصحيح أنه من الطبيعي أن يفرح  المسلمون بانتصار مسيحيين على وثنيين حيث كان حرص مشركي العرب آنذاك انتصار الوثنيين لمشابهتهم لهم . إلاَّ أنه من الطبيعي أكثر أن يفرح المسلمون أكثر بأن يُغلب على أمرهم جميع الفرقاء الذين نصّبوا أنفسهم أعداءً للإسلام والأمة الإسلامية وأن يهزم بعضهم بعضاً وهم أهل الغرب عامةً ، أصحاب الحضارة الزنديقة، وتكون فرصة المسلمين في هكذا حال أعمّ وأعظم ، حيث تبقى الأمة الإسلامية هي الأسلم والأنقى والأقوى على الأرض ، لأنها كانت وستبقى بإذن الله ، هي الأعبدُ لله والأطوعُ لتعاليمه والأحرصُ على رضاه ، وبكلمة ، لأنه كان في خلاصتها الموحّدون الحقيقيون ، أنصار الله جلّت عظمته ، وتبارك وتعالى عمّا يشركون .

        وبذلك يكون الفصل في الكلام ، أن الروم ، وهو الإسم التقليدي عندنا لأهل الغرب عامة ، النصارى منهم والملاحدة  ، سَيُغْلَبُونَ ، سيغلب بعضهم بعضاً ، وذلك سيكون هو النصر الموعود  في الآية الكريمة ، بزوال القوى المعادية لله تبارك وتعالى وبقاء الأمة الإسلامية التي كانت خير أمةٍ أُخرجت للنّاس بفضل الله ورحمته .

       { .. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ .. }(سورة الاحزاب – الآية 25).

       بخصوص القوى الهائلة التي ستدمر في الحرب  الموعودة ، ثم يؤيّد الله عزّ شأنه أنصاره وينصرهم نصراً عزيزاً على دولة المفسدين في الأرض ، دولة بني إسرائيل  كما أشرنا بإسهاب ونحن بصدد الآيات الملحمية

 الكريمة . ثم  يبقى  من يبقى من أهـل الأرض مصداقـاً لوعده تبـارك وتعالـى  في قوله :

       { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ }(سورة النور ، الآية 55) .

       وواضح أن الشرط الأساسي لهذا الإستخلاف في الأرض وهذه العطاءات المصيرية والعالمية ، التي هي أعلى وأرقى ، وأجمل وأبهى ما يطمح إليه المجتمع البشري في الحياة الدنيا ، أن الشرط الأساسي  للحصول على كل ذلك هو التوحيد  الصافي ، النقي ، وهو الدين المخلَص لله ، المخلَّص من كل شائبة ، والمخلّص من كل شريك ، صنماً كان أو وثناً ، نبياً كان أو إماماً أو ولياً(2). ذلك قوله في الآية الكريمة :

        { يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } .

       أما العبارة الأخيرة من الآية قوله تعالى :

       { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } .

       فتنويه على أن الأرض لن تخلو من فسقة ، لأنها لن تكون الجنة الموعودة ولا بحال من الأحوال . ولعل من وجوه الحكمة ، والدار دار تكليف ، أن يبقى المؤمن يرى الأضداد لتبقى عنده الحوافز على تقوى الله عزّ شأنه . والضدّ يُظْهِرُ حُسْنَهُ الضِدُّ .

        ثم إن التبادر في مجمـل الآيـة يوحي بأن  الفسّاق  الذين سيبقون فـي الأرض.

 سيكونون قلة لا تزاحِم ، ليس لهم حكم ولا قوة .

————– 

(2)      وهذا لا يتنافى مع مفهوم الولاية كما ظنَّ ويظن بعض الذين يتساهلون في الولاء لرسول الله وأهل بيته صلى الله عليه وآله  . فآية الولاية تحسم الأمر حتى لا لبس فيه ، قوله تعالى :

          { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } . سورة المائدة ، الآية 55  .

         والحمد لله ربّ العالمين على ما أولانا وعلى ما أعطانا وعلى ما سيولينا وسيعطينا إن شـاء الله ، من جوده وفضله ، ورأفته ورحمته ، وهو العزيز الوهاب . عليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير   .