تفسير الآية 53 من سورة فصِّلت

بسم الله الرحمن الرحيم

 

﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾

قوله تبارك وتعالى : ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ … ﴾ أي حتى يتبين لهم أن ما جاء في هذا القرآن هو الحق ، وأن الله هو الحق المبين .

وأما قوله تعالى : ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا … ﴾  ففيها تعميم لجميع الناس ، حيث إن الله تعالى أرسل رسوله محمداً ( ص ) رحمة للعالمين ، وفيها حصر الخطاب بالمسلمين وإلقاء الحجة عليهم ، حيث سيتبين لهم ، إذا كانوا قرآنيين ، أنهم خاصة الله دون جميع خلقه ، كما سيتضح من هذه الآية الشريفة .

وجملة قوله تعالى ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ … ﴾ فمعناها أننا سنريهم رأي العين ، الحقائق الكبرى ، التي كانت عندهم نظرية أو مخفية ، او مشكوكاً فيها ، سنعرضها عليهم بالتفصيل ، في الآفاق والآفاق جمع أفق ، والأفق هو آخر ما ينتهي إليه البصر ، والمقصود هنا أبعاد السماء وكواكبها ونجومها ، وأبعاد الأرض وما فيها من أجناس الإنسان والملل والنحل والعادات والحضارات . وكذلك أنواع الوحش والطير وكل ما يدبُّ على الأرض أو يطير  في الفضاء أو يمخر عباب البحار والأنهار ، إلى أنواع النبات من عمالقة الأشجار في غاباتها ، في الجبال العتيِّة والوديان العميقة  والسهول الفسيحة ، إلى أنواع الثمار والخضار التي لا تكاد تحصى ، وأنواع الورود والزهور والرياحين .

كل هذه الآيات ، هذه الحقائق التي ذكرتها والموجودة بين السماء والأرض ، كلها جعلها الله لك في بيتك يعرضها لك  .  تارة بالجملة وتارة بالتفصيل ، وأطواراً كما تحب أنت في آناء الليل والنهار . على صفحة مضاءة في زاوية من زوايا دارك ، هي صندوق عجائب  الدنيا ، أو البلُّورة السحرية التي كانت تتحدث عنها الأساطير ، والتي أصبحت من الحقائق الكبرى والآيات البينات والتي قد عرفتها أنت قبل أن أسميها وأقول هي التلفزيون .

فعن هذا التلفزيون يقول الله تعالى : ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ .. ﴾ علَّم تصنيعه للبشر، وأخذ سبحانه يعرض عليهم  فيه آياته في الآفاق وفي أنفسهم . أما نحن فقد تبين لنا أنه هو الله الحق المبين  ، وأن ما في قرآنه المجيد هو الحق المبين ، فماذا يقول في ذلك بقية البشر .

وماذا رأينا في أبعاد السماء أو في أبعاد الأرض ؟ !

رأينا المدهشات المذهلات ، رأينا ما لم يكن يحلم برؤيته أهل الأرض : هذا القمر الذي هو محط أنظارالشعراء والحالمين والسمّار ، رأيناه كرة صخرية رملية تحط عليها مركبة ذات عجلات تتدحرج عليه هنيهة ، ثم يخرج منها رائدان رائعان ، يتمشيان عليه وكل منهما يكتشف ويدقق ويبحث من الزاوية العلمية التي أنيط بها . ثم رأينا من على القمر أرضنا ، هذه التي ظلت ألف واربعمائة سنة تقريباً يحدثنا القرآن عن كرويتها وسبحها في الفضاء حديثاً إلـٰهياً نظرياً ، إلى أن قضى سبحانه في هذا العصر  الذي هو آخر العصور  أن يتم تأويل قرآنه المجيد ، وأن يرينا الحقائق  ملموسة  بعد أن كانت مجردة  . واشهدنا سبحانه  مجموعتنا الشمسية ، ومجرة درب التبانة  التي تنتسب إليها هذه المجموعة وتقع في طرفها  الجنوبي وأشهدنا مجرات عجيبة تندفع في الفضاء  : قطعاناً من الشموس والنجوم العملاقة . ولا ينتهي الكلام عما في آفاق السماء . فهل ينتهي الكلام عما في آفاق الأرض وآفاق البحار والمحيطات ؟!

الجواب على هذا يحتاج إلى موسوعات ضخمة ، إذا استعرضنـاها، كذلك نجـد أنها من جملـة مصاديـق قوله تعالى : ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ .. ﴾ أي الآية التي نحن بصددها . ولكن نكتفي  بشيء مما تنقله إلينا بالصوت والصورة  ، تلك البلُّورة السحرية التي اسمها التلفزيون . التي أرادها الله تعالى  نعمة عظيمة للبشرية ، فحوَّلها التجار والفحََّاش والفجرة ، إلى  نقمة عظيمة ، كم دمَّرت وتدمِّر من ضعاف النفوس وسفلة البشر . وخَيارك أيها  المسلم بين يديك فإمَّا إلى رضا الله تعالى  ورضوانه ، وإما إلى  نار الكفرة  والفجرة .

فماذا في الأرض  مما نستطيع أن نتحدث عنه  ونستفيد منه ؟! كانوا يحدثوننا عن أن في الأرض كفرة لا يؤمنون بالله العظيم ، وأن بعضهم بالرغم  من الكشوف وظهور الآيات  المعجزات في حركة الأفلاك والهندسة الإلـٰهية لجميع ما خلق الله تعالى  من جزيئات الذَّرة التي ما زالت تحيِّر علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات إلى أضخم  ما في الكون من موجودات ، تبدو شمسنا معها كهباءَة في هذه الأكوان اللانهائية . قلنا إن بعض سكان هذا الكوكب الأرضي ما زالوا يعبدون الشمس ، ويسجدون لها ، نراهم على متن الشاشة السحرية بأم أعيننا ، ونرى شعوباً  يعبدون بقرة ، ونرى أقواماً آخرين يعبدون تماثيل حجرية نحتوها بأيديهـم ، كما ما زلنا نقرأ عن أهل الشرك في الجاهلية ، ونرى ملايين العراة يغطسون في نهر الغانج وهو مليء بالقذارات ويقولون أنه مقدَّس . ونرى أقواماً ما زالوا يسجدون لملوكهم على أن ملوكهم آلهة ويقدمون لهم الأموال الطائلة والضحايا ، يذكروننا بالفراعنة القدماء . ونرى إلحاداً كلياً في بعض الدول  ، ونرى الشرك بالله العظيم يعمُّ اهل الأرض  ، إلاَّ قلَّة قليلة جداً رحمها الله . ونرى التفلت الهائل من التوراة والإنجيل حتى ومن القرآن العظيم ، ونرى .. ونرى .. ونقرأ قوله تبارك وتعالى : ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ .. ﴾ فتقشعر جلودنا ونحن نرى ونستعرض مرامي ومصاديق هذه الآية في الآفاق كما قال الله تبارك وتعالى . فنزداد تبيناً له سبحانه أنه هو الله الحق المبين ، ونزداد كذلك تبيناً لكتابه العظيم ، قرآنه المجيد ، أنه وكل ما فيه هو الحق المبين ، فنسعد بالله الحبيب ، الذي هو معنا ، وهو أقرب إلينا من دمائنا سعادة الدارين .

يبقى معنى قوله تعالى : ﴿ .. وَفِي أَنفُسِهِمْ .. ﴾

عن هذه العبارة  ﴿ .. وَفِي أَنفُسِهِمْ .. ﴾ الواردة في الآية الكريمة ، وعن أسرارها وأنواع الأنفس عند كل إنسان ووظائفها ومصائرها ، نحيل القارىء الكريم ، إلى كتابنا ” العقل الإسلامي ” الطبعة الثانية  ، تحت هذين العنوانين : بين العقل والنفس والدماغ : ص 102 ـ 105 وحقيقة الإنسان هي نفسه ، والبدن عنصر ثانوي ص 121. والكتاب المذكور هو كذلك على هذا الموقع على الإنترنت:

                                           www.Islamicbrain.org

سبحانك اللهم وبحمدك ، اغفر لنا وتب علينا .

اللهمّ لك الحمد ولك الشكر أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وعلى كل حال . وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .

                              الشيخ عبد الكريم آل شمس الدين

                              لبنان الجنوبي ـ عربصاليم