فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ 
يقول الله تبارك وتعالى مصنّفاً الناس في الآخرة تحت عناوين رئيسية إلى ثلاثة أصناف : المقربين ثم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، ثم أهل الفسوق.
يقول عزّ شأنه عن الصنف الأول ، بعد آية السجدة مباشرة :
﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ {16} فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {17}﴾. سورة السجدة 16 و 17 .
ففي الآية الأولى وصف مختصر جداً لهؤلاء المقربين هو أنهم ، لا ينامون نوماً عميقاً ، علماً أن النوم العميق هو مطلب عند الناس العاديين يعتقدون أن معه تحصل الراحة النفسية والراحة البدنية ، فإذاً هؤلاء الذين ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ لا يبالون بما يقال و لا يطمعون بالراحة النفسية ولا البدنية المدّعاة ، وهم إذا عقِلوا أكثر فأكثر ، فهم سيجدون مع تجافي جنوبهم عن المضاجع ودعائهم ربهم خوفاً وطمعاً ، سيجدون الراحة النفسية والبدنية ، أكثر من بقية الناس لأنهم سيكونون مصاديق لقول الله عز وجل ﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾   وهم تتجافى جنوبهم عن المضاجع ، أي لاينامون نوماً عميقاً خشية أن يفوتهم ذكر الله سواء أثناء نومهم ، أو أثناء ترقبهم لوقت صلاة الليل ، التي كذلك أثنى على القائمين بها الله جلَّ جلاله : حيث قال : ﴿ يَا أَيُّهَاالْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً {2} نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلا {3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً {4}﴾ وكذلك في سورة المدثر ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ {1} قُمْ فَأَنذِرْ {2} وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ {3} وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4} وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ {5} وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ {6} وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ {7}… الآيات من 1 إلى 7 أما قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَاالْمُزَّمِّلُ ﴾ فمعناه المتلحِّف بلحاف أو عباءة أو ما شابه يقي بذلك نفسه من البرد أو غيره أثناء النوم ، وكل شيء لُــفّف قد زُمّل . والآية فيها تخصيص لرسول الله محمد (ص) وفيها إطلاق ، أي لكل مسلم وكل إنسان عاقل ، وفي قوله تعالى ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾ إشارة الى ذكر الله تعالى سواء في صلاة الليل أو في الدعاء أو في قراءة القرآن خاصة .
وكذلك في سورة المدثر ، تخصيص لرسول الله محمد(ص) وإطلاق لعامة العقلاء . والمدثر المتغطي بالدثار والدثار أي شيء يتغطى به النائم يعتبر دثاراً له أي غطاءً .
ورجوعاً إلى آيات سورة السجدة ، نجد في قوله تعالى ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ عدم الاستقرار في النوم لئلا يفوتهم وقت الدعاء المندوب في صلوات الليل وذكر الله بشكل عام أثناء الليل ، وقد أثنى سبحانه أو وصف صلاة الليل بأنها أصفى من حيث إدراك المعنى والمضمون للدعاء أو في الآيات وغيرها بقوله سبحانه ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً ﴾ و ﴿ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ معناها ساعات الليل لأنها تنشأ ساعة بعد ساعة ، والتقدير إن ساعات الليل الناشئة والمتفق عليه عامة أن أهمها بعد منتصف الليل حتى الفجر ، وقوله تعالى ﴿ أَقْوَمُ قِيلاً ﴾ أي أصوب للقراءة وأثبت للقول لفراغ البال  وانقطاع ما يشغل القلب . حيث أن الإنسان يقوم عن  فراشه لا يريد بذلك إلا الله تعالى .
أما زبدة القول والأمر الخطير في هذه الآيات الشريفة فهي قوله تعالى : ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {17} ﴾ وكلمة (أُخْفِيَ ) فيها قراءتان الأولى أن يكون الفعل مبني للمجهول فتُقرأ (أُخْفِيَ ) أي بفتح على الياء ، والثانية أن يكون معلوم الفاعل فتُقرأ : ( أُخفي) وواضح أن الفاعل هو الله تعالى ولا فرق إعتماداً على القرائن في القراءتين من حيث المعنى ، فالمعنى أن الفاعل هو الله سبحانه على كل حال .
ومعنى ﴿ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ أي منتهى السعادة وراحة البال وتمام الإنشراح ، وبالتالي جميع المعاني التي تُوصف بها السعادة في أحلى وأجلى المشاعر التي تنـتاب السعداء وفي العربية الأدبية : تدعو لمن تحب : أقرّ الله عينيك أو جعلك الله قرير العين . أو تقول لابنك أو تكتب إليه أو تناديه فتقول : قرّة عيني .
والعرب انتزعوها للحر من البرد.
أما السر الأعظم في الآية الشريفة هذه ، فهو أولاً : ما هي السعادات المفترضة في قوله  ﴿ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾   وثانياً لماذا أخفاها سبحانه عن نفوس جميع خلقه ، طبعاً بجميع مراتبهم وصفاتهم وأجناسهم .
ما نعتقده ، أنه تجاوزٌ للصور والأشياء الملموسة التي ادّخرها سبحانه لعباده المؤمنين والتي هي في ﴿ جَنَّاتُ الْمَأْوَى ﴾ كما عبَّر عنها سبحانه في الآية اللاحقة لهذه .فالصور والأشياء الملموسة أشياء وأمور تخص العيون وأدوات الحس واللمس عند البشر، وتنتج عندهم أنواع المتع واللذائذ.
وهذه أشياء ظاهرة غير مخفية، وقد كثرت أوصافها في القرآن الكريم، أما الأمور التي هي فوق مستوى السمع والبصر وبقية الأحاسيس ، فهي أمور تسعد بها فقط العقول المتقدمة التي بلغت مراتب السمو، أي تجاوزت حتى مراحل التسامي البشري وهي أمور – إذا وصفت – لا يفهمها أهل الأرض الدنيا ما زالوا في الدنيا. بلى يدركها أهل خاصة الله تعالى بعد أن يكشف عنهم الغطاء ويصبحوا في علّــيين حول سدرة المنتهى. ولذلك قرر تبارك وتعالى في الأية الكريمة قوله : ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
ونحن ندرك ذلك ببعض المقارنات مما في الحياة الدنيا. فنرى القليلين من الناس الذين يتذوقون الشعر ويستمتعون بسماعه أو بقراءته أو بحفظه، وكذلك الإستمتاع باللوحات الفنية والرسوم الجميلة، ومثل ذلك سماع الموسيقى غير المبتذلة والوقوف أمام منحوتة موفقه إلى أخر ما هنالك مما هدى الله الفنانين إليه مما تحتاج ملاحظته إلى حس مرهف وعقل متقدم وفطرة صافية مكتسبة من النشأة الأولى.
وقد كتبنا في ذلك هذه الأبيات من الشعر نناجي الله تعالى:

تبرأ الحسن بأعماق الظنونْ

تخلق الأروع في أفق الخيالْ

تبتدي الأجمل أن كن فيكونْ

دون جهد وعلى غير مثالْ

ثَـمَّ … راحت بك تستهدي الفنونْ

في حين ترى أكثر الناس يمرون باللوحة أو المنحوتة أو القصيدة الجميلة أو .. أو .. دون أي مبالاة، ودون أية إلتفاتة بالعقل أو بالبصر.
لذلك جاءت الآية التالية بعد قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ …﴾ ليقول سبحانه، ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ {18} أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {19} ﴾ وواضح هنا أن جَنَّاتُ الْمَأْوَى هي غير عليين. أي غير الأمكنة التي أشار إليها سبحانه بقوله: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾ أي أنه سبحانه فرّق تفريقا كبيراً بين الذين أخفيت لهم قرة الأعين، أي أهل خاصة الله جل شأنه, وبين المؤمنين العاديين الذي لم يبلغوا حدَّ التسامي والعبادة الصافية لله تعالى،وظلّوا – مغفوراً لهم – في شتات أهل الدنيا وإنما رصيدهم هو الإيمان بالله تعالى وعمل الصالحات والتصديق بقيام الساعة والحياة الأخرة.
ثم إنه تبارك وتعالى يشمل أنواع الكفار، بقوله سبحانه: ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ 
وهذه الآية والآية التي فيها ﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لَّا يَسْتَوُونَ ﴾ تحلّان مشكلة الذين يدَّعون أنهم من الناجين ، كونهم يتذوقون الفنون وأنهم على الجَّادة ، ولو كانوا غير مؤمنين بالله واليوم الأخر ولا يعملون الصالحات التي أمر بها سبحانه تعالى عما يشركون.