ـ 5 ـ وليُّ اللـه، حليق الذقن ببذلة أنيقة وربطة عنق ؟!

ـ 5 ـ
وليُّ اللـه،
حليق الذقن ببذلة أنيقة وربطة عنق ؟!
 
أثر التربية ، أم ما كتب الله ، أم الإختيار ؟
 
          كانوا ثلاثة أصدقاء من ضيعة واحدة ، رامز وفريد وغانم ، وتفرقوا في الحياة مع من تفرق من رفقائهم الكثيرين .
          أما رامز ، فكان ربما مقسوماً له أن يكون روحانياً ، وذلك بسبب نشأته في بيت كانت أمه فيه شيخة ، لا من حيث العمر ، بل من حيث المكانة الإجتماعية ، تتقن القراءة والكتابة ، بين جميع النسوة في بلدتها اللواتي كنَّ أميات ، وكذلك أكثر الرجال ، وكانت فنانة في خياطة الثياب وتطريزها . وإلى ذلك تقرأ القصص الديني والتاريخي في النهار ، لتقصَّه في الليل على أكثر من عشر نسوة يجتمعن كل ليلة تقريباً عندها في الشتاء ، بعضهن حول الموقد وبعضهن قاعدات ، كل واحدة نصفها الأعلى مغطى بشال صوفي من نسج يديها ، ونصفها الأسفل مغطى بلحاف محشو بالصوف يطرحنه على أرجلهن ضماناً للدفء في تلك الليالي الممطرة ، المبرقة والمرعدة ، والمكسوة بالثلج أحياناً في الأزقة وأمام الأبواب .
          وهكذا ، كانت تتوالى الليالي على رامز وهو صبي ، إبن خمس أو ست سنوات ، قبل أن يدخل مدرسة الضيعة ، وحتى بعد أن دخل المدرسة وحتى حوالي الثانية عشرة من عمره ، يستمع كل ليلة تقريباً إلى هذه المعلمة الصالحة ، الملهمة ، بما كانت تضيفه على حكاياها ، أو تخترعه لأبطـال حكاياها من شيم وقيم ، وشهامة وشجاعة في الحق أمام أهل الباطل ، والذين كانوا دائماً ( أبطال حكاياها ) ينصرون الضعيف المظلوم على القوي الظالم ، وتمتدح فيهم الإيمان والصدق وتنسب إلى خصومهم الكذب والدسيسة والخديعة ، فكان النسوة يتحمسن لأخلاق أبطال وبطلات هذه القصص ، وكذلك هذا الصبي ، الذي حفظ من والدته تلك ، إضافة إلى صفات الإيمان بالله والرجولة الحقة ، كثيراً من الشعر ، الذي كان كلما أتى والده من بيروت يسمِّعه له ، فيبكي الوالد من فرحته بولده من جهة ، وبمضامين الأشعار من جهة ثانية ، وكان رجلاً صالحاً يعلِّم في مدارس تلك الأيام في أكثر من قرية ، حيث كانت مواد التعليم بمعظمها تدور حول القرآن الكريم .
          هكذا ، وبين هذين الوالدين الصالحين نما ونشأ رامز ، معبَّأ بالفضائل ، وبالرفض لأنواع الظلم والإستبداد والخيانة بكل أنواعها ، وخصوصاً خيانة الله وتعاليم الله جل جلاله .
          أما فريد ، فكذلك كان أبوه رجلاً شيخاً صالحاً ، أدركه في صباه متقدماً في السن ، أكثر أوقاته قارئاً للقرآن الكريم ، كان يسمعه المارة في الطريق ويتباركون بهذه القراءات ، وكان له ثلاثة رفقاء لا يكاد يفارقهن ، زوجته والنرجيلة وإبريق الشاي . أما زوجته التي هي أم فريد ، فكانت آية من آيات الله في دينها وأخلاقها ، أجمع على الإعتراف لها بذلك أهل البلدة وخاصة الأقارب . قليلة الكلام ، لم تؤذ أحداً أبداً ، لا قولا ولا عملاً ، عاقلة حكيمة ، وفي ظلها وظل أبيه الشيخ ، نشأ وكبر فريد وضمن عائلة كبيرة ، معظمها من البنيات الصالحات.
          وكان بين رامز وفريد ، قرابة وصداقة عميقة ، ربيا عليها طفلين ، وشبَّا عليها وشابا . وبقدر ما كان رامز عصابياً ثائراً ، كان فريد هادئاً طيب المعشر ، مسالماً .
          إنتحى رامز منتحىً دينياً ، إلى جانب مؤسسة إجتماعية محترمة ، تألق فيها معنوياً ومادياً ، وناشطاً شعراً وأدباً ، فكان خطيب منابر ولقاءات شعرية بشكل خاص طويلة وعريضة .
          وراح فريد ينجح في وظيفة محترمة ليترقى فيها درجات مرموقة ، فنجح وظيفياً ونجح مالياً ، فبنى وعمَّر وثمَّر ، ثم انفتح على تحقيق بعض الكتب التي كانت مغمورة لبعض المشاهير من المربين والفلاسفة .
          وبقي هذان الصديقان رامز وفريد على إنسجام ومودة ، وتواصل على القرب والبعد ، حيث أن فريد كان إنتقل بوظيفته خارج لبنان لبضع عشر سنة .
مسلم تقدمي بين الشيوعيين :
         
          في عز شبابه ، كان رامز قد أصبح ولياً من أولياء الله ، وإنما بشكل مختلف تماماً عن الملتزمين دينياً ، وكانوا ما أقلهم عدداً في جيله . إلاَّ أن العادة ، كانت أو المنهاج ، لكي تكون مؤمناً ، أو متديناً أصيلاً ، فأول شرط أن تخشن ذقنك . أي أن لا تحلقها على الصفر . والشرط الثاني . أن لا تلبس ربطة عنق ، والثالث أن تزرِّر ياقة القميص . والرابع أن تحمل سبحـة تسبح بها وتذكر الله عز شأنه . وبعض الفرق كانت زايدت على هذا الشكل ، فالمتدين السَّلفي المقبول عندهم يجب أن يلتحي ويترك كلياً لبس البذلة ، التي هي ( بنطلون وجاكيت ) ، ويلبس قميصاً ، لا طويلاً ولا قصيراً ، أي بمعنى أن لا يصل إلى الكعبين .
          وكان بعض المتزمتين من أقارب رامز ، يسرُّون إليه ، أن تزيَّ بزي المؤمنين ، ودع عنك هذه الأناقة التي هي مظهر من مظاهر الحضارة الغربية .
          وكان يضحك رامز من هذا النقد والملاحظـات ، ولم يستطع أن يتخلى عن أناقته فإذا ترسَّم ، يلبس البذلة الجميلة السوداء أو الكحلية ، أو .. ويلبس معها ربطة العنق المناسبة المحترمة ، وإذا تخفَّف ، يلبس بنطالاً مكوياً وقميصاً جميلاً مفتوح الياقة وإنما بزر واحد .
          وكان لرامز أصدقاء شيوعيين أو تقدميين ، ينفرون من الناس الدينيين ويتهمونهم بالرجعية ، وربما يحملونهم مسؤولية تراجع الشعوب وسقوط الأمة تحت أقدام الدول الرأسمالية التي تستعمر وتستنزف دول العالم الثالث ، لتبني حضارتها ومدنها على حساب فقراء العالم . وكان رامز ، يعتقد هذا الإعتقاد ، ويرى أن الدول الرأسمالية دولاً عدوة تماماً ، ولكن كان شديد الأسف لأن مناوئي هؤلاء التماسيح ، كانوا قد أطرحوا الدين جانباً وأكثر من هذا كفروا برب العالمين .. حيث أطلق بعض كبار قادتهم مقولة : ” الدين أفيون الشعوب ” . أي أن الدين ، أي دين يؤمن بالله جل شأنه ، هو مخدِّر يمنع الناس ، ولا سيما الفقراء منهم ، عن الثورة على أسيادهم الطواغيت المستبدين بالحكم ، والذين هم أدوات تنفيذية للطواغيت الكبار حكام الدول الظالمة القوية.
 
          وجد رامز بين هؤلاء الشباب ، حقلاً خصباً لمناقشتهم والإحتجاج عليهم بالدين الإسلامي وبتعاليمه التي تتوافق عموماً مع مطالبهم وأهدافهم الثورية ، لولا أنهم لا يؤمنون بعزة الله . وهو أصل الأصول في التعاليم الإسلامية .
          وفي الحقيقة ، كانت هذه الجماعات ، كزهاد المسلمين ، قد أقلعت عن التعلق بالدنيا ، وعن الإنقياد لغيلانها وسارقيها من أفواه الفقراء . ولأن رامز كان نموذجاً أخلاقياً عندهم ، فكانوا يقبلون منه فكرة الإيمان ، حيث أنه أثبت لهم مراراً ، أنها لا تتناقض أبداً مع العدالة الإجتماعية التي يسعون إليها . بل هي ، أي فكرة الإيمان ، لبّ العدل ، وفوقه الرحمة للمضطهدين والمظلومين . وأن الله تعالى هو عدوُّ الطواغيت والظلمة وسُرَّاق ثروات الشعوب .
          ولكن المشكلة عند هؤلاء الأصدقاء ، كانت ، هي لماذا لا ينتقم الله من أعدائه هؤلاء وأعداء عباده المقهورين . فيردد رامز ، ويفنِّد مثل قوله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلاَلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا . سورة مريم الآية 75 } . ومثل قوله تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُـم مِّن قُـوَّةٍ … . سورة الأنفال الآية 60 } . وغيرها وغيرها من الآيات الدامغات .
          وكان بين هؤلاء التقدميين . شاب إسمه حسيب .. كان له من الشهامة والكرامة ، والصدق والإستقامة ، والصفاء النفسي ، والزهد في الدنيا وتجارتها وعمارتها ، الكثير الكثير ، حتى إن رامز ، وقد تجاوز الستين من عمره ، ما زال يعتبره ، أصفى وأتقى شخصية عرفها في حياته ، بين المتدينين وغير المتدينين – عدا أهل اليقين وأهل خاصة الله – . لذلك ، ولهذه الثقة الكبيرة بهذا الصديق ، الإنسان ، وللحميمية التي تربطه به ، ولتجاربه الكثيرة معه ، قرر رامز بعد فورة من فورات دمه ، على الوضع السياسي والإجتماعي والعسكري في لبنان ، في مقابل ، تصاعد إسرائيل فتكاً بالعرب وإرهاباً ودموية ، تعاونها على ذلك ، التركيبة اللبنانية آنذاك – في السبعينات – وكل طواقم الدول العربية والإسلامية وحكامها .
          قرر رامز أن يلتحق بالفدائيين آنذاك وكانوا ما زالوا مجموعات مبعثرة ، ينالهم من الإضطهاد في لبنان ومن القمع والقتل ، والملاحقة ، والتهم الملفقة المؤدية إلى إعتقالهم وإقتيادهم إلى سجون العتم والتعذيب والتجويع ، والضياع في النهاية . أي الإعدام .
          ماذا يفعل رامز بالمؤسسة التي هو صاحبها ومديرها ، وفي المؤسسة الإجتماعية هذه ما ينوف عن عشرين موظف وموظفة ، عدا المئات من المستفيدين منها والمتعاملين معها ؟
          لا بأس ، فليس له من الناس إلاَّ صديقه حسيب ، لا سيما وأنه أعلن أكثر من مرة أنه يؤمن بالله تعالى حتى العظم ، ولكن الفرائض والواجبـات الدينية ، لا يستطيع القيام بها لأنه لم يعتد عليها .
          ولكن هذه مشكلة بالنسبة للشروط الدينية عند رامز ، فإن الحاكم هو الله تعالى وهل يرضى سبحانه ، لتولية مثل حسيب على المؤسسة ؟ أما بإعتبار أخلاقه ، فرامز لا يعرف أحداً أفضل ولا أولى منه ، وهل الأخلاق عند الله مقبولة كبديل عن كلية الدين ؟
          وهنا تذكر رامز ، أمرين مهمين فتحا أمامه الباب واسعاً لإستخلاف هذا الرجل على ماله ومؤسسته . الأول حديث صحيح لإجماع الأمة عليه لرسول الله محمّد ( ص ) قوله : “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” . والأمر الآخر ، هو من صلب الفقه الإسلامي ، ومفاده ، أنك إذا أردت أن تنجز معاملة ما تحتاج إلى شاهدين عدلين ( يعني يقيمان الصلاة ويؤتيان الزكاة و … ومستقيمان بشكل عام ، فتتم بذلك المعاملة شرعاً . ولكنك ، في ظرف ما ، ولضرورة ما ، إذا وجدت شاهداً عدلاً واحداً ولم تجد الآخر ، فيجوز كذلك شرعاً أن يقوم مقامه “الثقة” والرجل الثقة لا يشترط فيه الإسلام ، بل يشترط فيه الإستقامة والصدق والأمانة والأخلاق الحميدة والسمعة الطيبة . وكل هذه الشيم موجودة في حسيب وفوقها الكثير من المناقب والقيم . ثم إن حسيب محامٍ محترم ، يستطيع إلى ذلك كله أن ينجز بنفسه المعاملات القانونية ، فيريح رامز من مشقة إتمامها .
 
          كان الوقت بعيد صلاة الظهر ، وكان رامز مصطافاً في عاليه ، وما إن نضجت عنده الفكرة تماماً ، حتى قال في نفسه المقولة المشهورة عند أهل الإيمان : { … فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ … . سورة آل عمران الآية 159} ، وامتطى سيارته ، وبسم الله وبالله وفي سبيل الله .. إلى النبطية ، حيث يقيم صديقه الحبيب ، المحامي حسيب .
ـ         السلام عليكم 
ـ         ألف أهلاً ومرحباً
وأنس الصديقان ببعضهما سويعة على فنجان قهوة ، وطلب رامز أن يتمشيا قليلاً في طريق كانوا يرتادونها يقل فيها المرور .
          قال رامز :
ـ         الحقيقة أني جئت أعرض عليك مشروعاً ، فيه فائدة لي بالدرجة الأولى ، ثم فائدة لك .
          وتحدث رامز عن حالته النفسية ، وأنه يكاد يختنق من الجو السياسي الغادر والفاجر عالمياً ، ومحلياً ، وحسيب طبعاً ليس غريباً عن هذه المشاعر ولا عن حالة القهر التي يعاني منها الشباب الوطنيون بشكل عام .
ـ         أريد أن أرتاح من القعود عن الجهاد في سبيل الله ، وأن ألتحق بالعمل الفدائي ، فقد مللت الحياة المتشابهة والوجوه المتشابهة والناس المتشابهين ، وأنت تعلم كل ذلك ، وتعاني ما أعانيه ، ولكن عملك كمحام ، يجعل لك متنفسات تغنيـك عن الهجـرة إلى الله ( وضحك رامز وضحك حسيب ) ، وقال ألم تصدق بعد ، أن إيماني بالله مثل إيمانك وأكبر . فما هو المطلوب مني .
ـ         أن تتسلم إدارة المؤسسة ، وتتحمل مسؤولياتها ..
ـ         هذا بسيط . وسكت حسيب ، وسكت رامز . ( ومرت دقائق )
          قال حسيب :
ـ         ولكنك تكتب ، وتحيي أمسيات شعرية ، ويصفق لك المئات من الناس ولا سيما طلاب الجامعات .
ـ         …
ـ         مجتمعنا بأمس الحاجة للنفس الثوري الذي تملكه ، وللكلام الذي تتكلم به في المناسبات أو في المجالس . أما حمل البندقية ، وأن تكون فدائياً فهذا سهل ، وأن تستشهد فهذا سهل أيضاً ، وإذا ذهب الكتاب والشعراء للجبهة طلباً للشهـادة ، فمن يبقى لتحريض الناس على الثورة ، وعلى القتال وعلى العمل الفدائي . إسمح لي أن أذكر لك أسماءً أنت تعرفها ، من الذين حرضوا الشعوب وتحدوا الطواغيت وكل واحد منهم لولا خطاباته وكتاباته لم تقم الثورات ، وأكثرهم لم يكن يحسن إستعمال السلاح ولا حمل البندقية . الحقيقة أن مثلك ، وما زلنا نسمعك على المنابر تستنهض الناس ، نحن بحاجة إليك ، تقدميين ومسلمين ، وعلمانيين وعرب ، لا أعتقد أن أحداً يرضى لك بذلك ، أو يقتنع بالمبررات التي تقدمها ، فعلى ما أعلم أنت مشروع شهيد كل يوم ، وأنت كنت تقول ، أن يستشهد الإنسان ألف مرة في سبيل الله ، قليل في جنب عظمة الله وحبه سبحانه . فاستشهد ألف مـرة في مواقفك وكتاباتك ( وضحك حسيب ) ولكن ليس مرة واحدة على الحدود ، فهذه المرة الواحدة ، لها أبطالها الذين لا تسمح ظروفهم إلاَّ أن يستشهدوا مرة واحدة . فجزاهم الله خيراً كما تقول أنت . فماذا تقول الآن ؟
ـ         لم أكن أعتقد أنك حكيم وعقلاني لهذه الدرجة ، وأكثر من هذا فقد أصبحت واعظاًَ إسلامياً . ( وبعد تأمُّل لدقيقتين أو ثلاث كان كلا الشابين فيها صامت ) قال حسيب :
ـ         تكلم ، مالك صامت ، أم أني أخذت أنا اليوم مكانك في الوعظ الديني ؟
ـ         إقتنعت ، ولله الحمد ، فكأنما أطلق الله اليوم لسانك يا حسيب بالحكمة والمنطق ، فجزاك الله .. جزاك الله خيراً كثيراً . وتعانق الصديقـان وقد أصبحا قرب سيارة رامز و .. – في أمان الله – في أمان الله .
 
لقاء أبناء الضيعة على الروشة :
 
          في بداية القصة ، وتحت عنوان أثر التربية … تحدثنا عن اثنين من الأصدقاء الثلاثة من أبناء الضيعة الواحدة ، وعن البيئة التي نشأ فيها كل منهما ، والآن نتحدث عن الثالث ، غانم .
          كذلك في بيت متواضع من بيوت الضيعة ، نشأ غانم ، وكان والده جلاَّب بقر ( أي تاجر مواشي بشكل عام ) وكان رجلاً محبباً ، ذكياً ، خفيف الظل ، وإنما كان في حبه للمواقف المحرجة والفريدة ، من الدَّواهي الدهياء ، وكان كلما فعل فعلة من لطائفه ، يضحك لها ويتفكه بها أهل الضيعة ، وغالباً ما تنتقل إلى أهل الجوار ، فهو وإن كانت حكاياه كثيرة ، فنكتفي بثنتين أو بثلاث منها ، حتى لا تقع في كثرة الهزل بعد أن إتخذنا سبيل الجد .
          كان بجانب الضيعة إياها ، قرية ثانية ، وكان أهل القريتين يسلكان طريقاً واحدة إلى بلدة النبطية – التي كان يقام فيها سوق الإثنين وما زال – وكان الناس في تلك الأيام يسافرون على الدواب ، فرادى ، أو قوافل . وكانوا إذا سافروا يبكرون . إما في السحر ، وإما قبيل الفجر بقليل . وذات يوم سوق ، وقبيل الجسر الذي يمرون عليه فوق نهر الزهراني ، يسمع عن يمين الذاهب إلى النبطية خرير النهر ، وتدفُّقه وكان غزيراً في تلك الأيام وعلى اليسار صخور عاليه تكاد تلامس جوانب الدواب والمسافرين . وقبيل فجر ذلك اليوم ، كانت قافلة قد وصلت إلى ما قبيل الجسر بمحاذاة الصخور . وإذا بالدواب تنفر والجمال ترغي والبغال تصهل والمسافرون يولون الأدبار تاركين دوابهم تمضي على وجوهها ، فلقد رأى الجميع مارداً أسوداً ينتصب واقفاً على أعلى صخرة في المكان ، قالوا يوم ذاك ، قدماه في الأرض ورأسه في السماء .
          ومضى صباح ذاك الإثنين ، ولم يتسوَّق أهل تلك البلدة ، ثم مضى صباح اليوم الثاني والثالث ، وبعد التحقيق والتدقيق ، تبين أن المارد المزعوم ، ما هو إلاَّ جناب أبو علي ، الذي هو والد غانم ، والذي كان قد وقف على تلك الصخرة عارياً بعد أن طلى جسمه بوحل أخذه من جانب النهر .
          فأقام عليه أهل تلك القرية دعوى في المحكمة ، ثم رتبت الأمور .
          كان أحد مشايخ البلدة ، كلما أتاه ضيوف ، وأحب أن يكرمهم ، يقيم لهم غداء على شاطىء نهر الزهراني الذي تقع على كتفه تلك الضيعة ، وكان رجل ضرير من قرية قريبة كلما سمع بمأدبة سيقيمها الشيخ على شاطىء النهر يأتي ليشارك المدعوين ، وكانوا يكرمونه ، من جهةٍ لعماه ، ومن جهةٍ ثانية لفهمه وأنه لم يكن من الثقلاء . ولكن المشكلة ، كانت عندما يصلون إلى النهر ، ويريدون أن يجتازوه ، لضرورة قصد المكان المناسب ، والمبصرون كانوا يتنقلون على الصخور ، فلا يعرضون ثيابهم للبلل ، والمصيبة كانت عند هذا الرجل الضرير وكان ضخماً ثقيل الوزن كثير الثياب ، فكان لا بد من رجل قوي يحمله على ظهره ويجتاز به النهر ، وحيث أن أبا علي والد غانم تتوافر فيه الصفات المطلوبة لحمل الرجل ، فكان كل مرة – مكرهاً أخاك لا بطل – يُركب الشيخ الضرير على ظهره ، ويجتاز به النهر وغالباً ما يضطر لثقل الشيخ ، أن يخوض به المياه مبللاً ثيابه . وذات يوم ، وكان في مجرى النهر مرتفع يسمى الشلال ، بعرض أكثر من عشرة أمتار ، ينحدر عنه الماء ليجتمع في “دوَّار” ، واسع عميق ، يغرق فيه الجمل إذا كان لا يعرف السباحة . وكان أبو علي قد احتقن من حمل الشيخ كل مرة ، وفي ذاك اليوم ، ما إن وصل به إلى ظهر الشلال ، وهو يرتفع بضعة أمتار عن الدوار – البحيرة ، حتى قال للشيخ – كما رووا لنا – تمسَّك بي جيداً يا شيخنا ، فتمسك به الشيخ ، فقفز به إلى البحيرة ، وتملص منه فور سقوطهما في الماء ، والشيخ لا يعرف السباحة ، فأخذ يخبط بيديه ورجليه ويبتلع الماء ، وكاد يموت غرقاً ، لولا أن قفز بعض الشباب بثيابهم وسارعوا لإنقاذه .
          عندما سألوا الشيخ الضرير عن شعوره بعد الحادثة ، قال ، عندما قفز بي ، شعرت أن قلبي هوى مني ولم يعد لي قلـب ، وأحسست كانما هوى بي من رأس جبل ، حتى إصطدمت بوجه البحيرة ، وأخذت أغرق ، وأبلع الماء ، وظننت أنها النهاية ، ولكن الله سلَّم .
          ومن بعض حكاياه ، هذه نكتفي بها لأخذ فكرة عن طبيعة الرجل ، ولطائفه الموجعة أحياناً ، ومغامراته :
          كان له صديق حميم من نفس الضيعة ، وهو من أترابه ، وكان هذا الصديق وإسمه حسن ، يتمشى يوماً قرب عين الضيعـة ، التي يجري ماؤها ، في البداية ليملأ حياضاً صخرية محفورة ومنحوته ، يشرب منها الناس والماشية ، لأنها تنبع من سفح جبل وعرٍ ليس فوقه بناء ، ثم ينساب الماء من الحياض، ليملأ بركة ضخمة يسقي المزارعون منها مداورةً ، قطع أرض كثيرة تقع دون مستوى البركة ، وبمرور الزمن كان قد تجمع في أرض البركة وحل كثير أهمله الناس ، لأنهم لا ينتفعون منها بغير السقاية . المهم أن حسن ، كان قد وصل قريباً من حياض العين ، وكان عصر ذاك اليوم ، يلبس ثياباً بيضاء ناصعة وجديدة ، بنطالاً وقميصاً ، فوجد صديقه أبا علي قريباً من العين ، على جدار صخري عتيق ، كان تصوينة لكرم تين ، يعلو حوالي المتر تقريباً عن الأرض ، وكان أبو علي يكسر جوزاً ويأكل لبابه بشهية ، أغرت صديقه حسن ، فطلب هذا أن يشاركه ، فامتنع أبو علي ، وهمس إليه حتى لا يسمعه من كان موجوداً على العين : إن كنت تريد .. فاصعد إلى ذلك السطح ، تجد عليه ” أصَلية ” كومة كبيرة من القش الذي يؤتى به عن البيادر بعد دراسته بالنورج ، وهو قطعة كبيرة مستطيلة بطول مترين وعرض متر ونصف تقريباً ، مطعَّمة على الوجه الأسفل بحجارة سوداء من الغرانيت ، يحطم بها القش والسنابل ، ليذرّى بعد ذلك التبن عن الحب ، وتبقى ” الأصَلية ” يوضع بعضها على السطوح ولها فوائد شتى ، بعض الناس يخبئون فيها الجوز حتى لا يجده الصبيان ، وأمثال أبو علي ورفاقه ، فينهبونه . وعيَّن بدقة ، الجهة التي يوجد فيها الجوز تحت الأصَلية . فراح حسن وإرتقى السطح من جهة لا يراه فيها أحد ، وأخذ يمشي على رؤوس أصابعه ، حتى لا يشعر أهل الدار ، وقصد الجهة التي حددها له أبو علي ومدَّ يديه تحت القش حيث سيجد الجوز ، وإذا ” مدبرة ” أي وكر دبابير يهيج عليه بالمئات ، ويغطي وجهه ورأسه ويديه ، وعضاً ولسعاً ، وصراخاً من حسن ، وهرولة نحو العين ، فسارع إليه بعض الإخوان وكان أسرعهم إليه أبو علي وهو ينصحه : أكثر ما ينفعك أن تلقي بنفسك في بركة العين وقاده إليها ، فألقى بنفسه فيها حتى غمره الماء والوحل ، حتى تركته الدبابير ، ولكن الثياب التي كان يزهو فيها وهي ناصعة البياض ، أصبحت سوداء وأبو علي يهوِّن عليه : لا بأس عليك يا حسن فهذا الوحـل مفيد للسع الدبابير ، ويتضاحك الصديقان ، هذا من وجعه ، وهذا من كيده , وأهل الضيعة من طيبتهم عموماً في تلك الأيام البسيطة الحلوة ، التي لم تكن عقَّدتها بعد ، الحضارة المجنونة ، بعقدها التي تكاد لا تحل .
          ذلك هو والد غانم ، أما والدته ، فكانت إمرأة فاضلة . تقية ، هادئة الطباع ، نماها بيت كان والدها فيه ذو وجاهة وشجاعة وكرم . وكان لها ميـزة ، لعلها عبرة من بركات القرآن الكريم . وهي كانت تقرأ هذا القرآن من الدفة إلى الدفة ، قراءة صحيحة ، ولكنها إذا أعطيت أي كتاب غيره أو أية صحيفة ، فهي لم تكن تعرف من ذلك شيئا ً .
          في هذا المناخ ، شبَّ غانم ، معجباً بوالده ، ومهارته في التجارة من جهة ، وبفعلاته التي فيها المقامرة ، وفيها عدم حسبان للنتائج .
          وتعلم غانم ، وأصبح معلماً للرياضة ، وفي هذه الأثناء ، كان يغامر .. ويقامر .. وشدَّه المال وفتنه ، وكان ذكياً ، سريع البديهة ، ووسيماً . تزوج من فتاة أهلها معروفون بالثراء ، ومن المغتربين ، في أفريقيـا . فسافر إلى هذه القـارة السوداء ، وأسس أعمالاً وتجارات ناجحة ، وكازينو .. وأصبح من المشاهير في عالم المال والإستثمار .
          كان يلتقي ، أحياناً بصديقيه فريد ورامز ، ويحدثهما بصراحة عن نشاطاته ومشاريعه ، وعن ميزات وحياة رجال الأعمال الذي أصبح واحداً منهم . من ذلك أنه كثيراً ما كان يتناول وجبات طعامه في الطائرة . متنقلاً في العواصـم . دخلت عليه – كما صرَّح هو – الماسونية ، هو لم ير فيها ، ولم يهمه منها إلاَّ الخدمات . التي كانت توفرها له في جميع الدول بموجب بطاقة خاصة يحملها معه ، فتفتح له كثيراً من الأبواب ..
          نقل غانم ، في سياق هذا النجاح المادي ، بعض نشاطه إلى بيروت ، ففتح مكتباً على الروشة . وذات يومٍ دعا إليه صديقيه رامز وفريد ، إلى فنجان قهوة ..
          المكان ، كان من الفخامة في الحد الأقصى ، اللون الأخضر على إمتداد النظر ، في البهو الكبير ، كأنما أنت ، إذا استعرضته ، في مرج في عز الربيع . حاجب على الباب ، بزي خاص ، سكرتيرة أمام مكتب في أول قاعة ، وإلى يسار الداخل قاعة للمحامين ، ثم صالة ، أجلسهما فيها تطل على البحر .
          طبعاً تعامل معهما ، على أنهما من الأسياد ، فما يستطيع ولو قصد ، أن يرفع كتفه عليهما ولو بأقل مقدار . ولذلك كما عرفاه ، كان متواضعاً محباً أبدى لهما ما يستأهلان من الإحترام . وكان بين الثلاثة أحاديث ، أكثر ما إنصبت على ماله وأعماله .
          وخرجا ، كان رامز أقل تأثراً مما رأى وسمع عن سعة الثروة التي بات يملكها غانم ، ولكن ما إن ودعهما على رأس الدرج – وكان المكتب في الطابق الأول – وما إن وصلا إلى الشارع العام حتى وقفا قبل التوجه إلى سيارتهما ، وكأنما يستعرضان الخلاصة ، ويقوِّمان ، الرجل وثراءَه ، وكثرة عقاراته وسياراته ومدى ما يستطيع أن يحصل عليه بقوة المال ، أوجز فريد كل ذلك بكلمة : ” عرف غانم كيف يدبِّر حالو ” . وهنا تحركت عند رامز المثالية ، والقيم ما زالت تتفاعل وتكبر فيه منذ طفولته ، والمعايير الدينية ، وما يحب الله لعباده ، وما يكره لهم و … وحاور صاحبه . قال وما الفرق بيننا وبينه ؟ وبينك شخصياً وبينه ، عندك صالة محترمة في البيت ، وعنده صالة وتلبس ربطة عنق ، وأمسكها رامز بيده ، ليست أحلى منها ربطة عنقه وبدلته ليست أفضل من بدلتك وكذلك .. وعندك سيارة ، وهو لو كان عنده سبعون ، لا يستطيع أن يركب إلاَّ بواحدة ، ويأكل في الطائـرة وتأكل مرتاحـاً على الطاولة ، ولو كان الأكل على الأرض أروح ، ومن السنَّة المطهرة .. و ..  والتفت رامز فجأة ليرى رجلاً في حوالي الأربعين من عمره ، يدفع أمامه عربة عليها خضار ، يبيع منها أصحاب الحوانيت في تلك المحلة ، ولمعت بذهن رامز فكرة المقارنة .. وتدفقت الأفكار النبيلة عليه ، بينما الحاج صاحب العربة يدفع بها صعداً ، حتى إذا وصل إلى منبسط من الطريـق ، أوقفهـا ، ووقف هو كأنما يرتاح ، ووجهـه نحو البحر ، يستعرضه بعينيه وبقلبه ، ولعله كان يسبح الله ويحمده .. على نعمة العافية ..
          ووجد رامز في ذلك فرصة ، وإحساساً عميقاً أن الله عز وجل ، إنما أرسل هذا الرجل ، صاحب العربة للمقارنة .
          أنظر يا فريد .. هذا الرجل . الآن الساعة الثانية بعد الظهر ، هو بعد ساعة ، أي حوالي الثالثة ، يكون قد باع جميع ما على عربته غالباً . ثم هو يعود إلى بيته ، على جبينه بعض العرق ، من بعض التعب ، ولكنه عرق العافية ، وهو سعيد بما يحمل في جيب سرواله العربي ، الأسود ، من مال حلال ، وككل يوم سيجد أم أولاده بإنتظاره ، وقد أعدت للأسـرة طعام الغداء . فأولاً هو يسلِّم على أهله بتحية من عند الله طيبة ، ثم يخلع ثياب العمل ، ويتوضأ فينشط بماء الوضوء للصلاة ، ويذهب تعبه ونصبه ، ويجلس على الأرض أمام الطعام الجاهز ، وقربه زوجته تقدم له الخبز لياقة منها وتساعد بقية الأولاد على الطعام ، وعلى عاتقه ، تارة يركب وتارة يشد رأسه وأذنيه ولده الأصغر ، وتنهره أمه ثم تقتاده لجانبها وتجلسه ، ليأكل أبوه بدون إزعاج . ثم باسم الله وبالله وعلى بركات الله ، الجميع يأكلون هنيئاً مريئاً . فبالله عليك من هو الأكثر سعادة منا نحن النازلين اليوم على الروشة ، من يأكل في الطائرة أو على الطاولة أم من يأكل على الأرض . كان محمّد ( ص ) يقول وهو سيـد البشر ، إذا جلس لتناول الطعام : أجلس كما يجلس العبد ، وآكل كما يأكل العبد ، وأنام كما ينام العبد . وأنا قد قيمت هذا الرجل ، بأصغر المقاييس ، التي يقاس بها الإيمان والصلاح والتقوى والسعادة ، ومن أفضلها أي المقاييس ، معرفة الله عزَّ شأنه ، ثم شكره كما ينبغي له ثم أن نحب ما يحب وأن نبغض ما يبغض ، وعندئذٍ نستطيع أن نقول : ” لو عرف الملوك سعادتنا لقاتلونا عليها بالسيوف ” . { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ . سورة الزلزلة الآيات ( 7 – 8 ) } .
          وتمضي سنون ، ويفاجأ أصدقـاء غانم خاصة ، والناس عامة ، بأن غانم أشرف على الإفلاس ، فقد باع جميع الأراضي بمواقعها الجميلة التي كان اشتراها في الضيعة ، والعقارات التي تملكها بين بيروت وأفريقيا ، وصرف جميع الموظفين الذين كانوا عنده في المكتب على الروشة ، وحتى إنه أخلى المكتب ذاته . تماماً كانت حياته كلعبة قمار طويلة ، ورغم أنه كان يتقنها وكان من أبطالها ، إلاَّ أن القمار قمار ، واللعب غير الجدّ ، والإستقامة عين الكرامة ، وعندما أنزلت سـورة هود على رسول الله محمّد ( ص ) قال : قصمت ظهري سورة هود ، قيل : ولم يا رسول الله . قال لأن الله تعالى أنزل فيها : { فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ … الآية 112 } .
          ثم إن الرجل غانم ، توازن ، وحجَّ وإعتمر ، وتاب إلى الله جل شأنه ، توبة عسى أن تكون نصوحا .