(2) خذله الناس . . ونصره مولاه،

(2)
خذله الناس . . ونصره مولاه،
استفاق وهو في حوالي الثلاثين من عمره ، إلى أنه يحب الله حباً مختلفاً عما كان يحب وعمن كان يحب . كان معروفاً بأناقته ولياقته ، أحبه  الناس وكادوا يجمعون على حبه ، ولا سيما أن الحياة الحلوة كانت ملء بُردَيه ، مالاً وشباباً ، وسيادة في تملك وإدارة مؤسسة إجتماعية كان جميع موظفيها رهن إشارته ، وكذلك روّادها …
ولكن سليم تغير فجأة ، ولوحظ أنه أخذ يعتزل الناس ، ويغلق عليه مكتبه ، وانكمش عن الموظفات بشكل خاص ، وكنَّ يتساءَلن فيما بينهن ، بشيء من الإشفاق عليه : ماذا جرى لهذا الشاب المكلل بالنجاح وأسباب السعادة . والرجال أيضاً أخذوا يتداولون الكلام عن تغيّره ، ولا يجدون جواباً إلا بمط الشفاه .
واندلعت نيران الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975 م ، و وجد نفسه ومؤسسته في منطقة معادية ، واضطـر الى مغادرة المنطقـة إلى قريته رافضاً عروضـاً مغرية ببيع استثمار المؤسسة أو إيجارها ، زاهداً بالمال ، مبرراً ذلك بعدم شرعيته …
 
أَنَفَة من الناس ومن عهر الحكّام
 
كان قبل ذلك قد أنف من الفكر العادي ، الذي يلوكه أصحابه وزملاؤه في المهنة ، حيث استولت عليهم مادية الحياة والفراغ الروحي ، والفقر البِّين المُدقع من دين الله . وكان كثيراً ما يتذكر ويذكر لمن يسمع ، وصلة من خطبة لرسول الله محمّد (ص) يقـول فيها : ” أيها الناس ، وأخشى ما أخشاه عليكم ، الفقر غداَ ، وقد تكالبت عليكم الأمم كاجتمـاع الكلاب على قصعتها ” فقام أعرابي يسأل عما يقصد بالفقر : الفقر من الدينار والدرهم يا رسـول الله ؟ قال : لا ، أنتم يومئذٍ أغنى الناس وساداتكم موقرون بالذهب ، ولكن الفقر الذي أخشاه عليكم هو الفقر من الدين ، دين رب العالمين . وقام بدوي آخر وقال : يوم تتكالب علينا الأمم ، أمن قلّة نحن يومذاك يا رسول الله ، قال : لا ، بل  من كثرة ، ولكن كثرة كغثاء السيل(1).
 
أنف من فقر أصحابه – على غناهم – ومن سطحيتهم وماديتهم وتلهِّيهم بسفاسف الحياة ، وقد أغرقوا في نوم ذليل عن أعداء الله وأعدائهم الذين يذبحون فريقاً منهم في جانب ، ويشحذون  لهم السكاكين لذبحهم حين يأتي دورهم .
كان هؤلاء الأصحاب ممزقين ، فريقاً في اللامبالاة ، وفريقاً كان يبدو في الظاهر أحسن حالاً وكرامة ، إنما كان تمزقه – بعيداً عن دين الله – بين القوميات : العربية – والسورية ، والشيوعية والرأسمالية … إلى آخر ما هنالك من بدع ، ابتدعها لهم أعداؤهم ، أو اخترعوا  هم بعضها ، لتكون النتيجة : وداوني بالتي كانت هي الداء . ومثال على سوء حظهم وجبنهم في مواجهة الحقائق :
بعدما هاجمت إسرائيل الطائرات المصرية في مطاراتها ، ودمرت بذلك سلاح الجو الذي ينتخي به ويعربد أهل القومية العربية والاشتراكية في مصر، أنَّ به سيحسمون أمر إسرائيل ويُلقون بها في البحر ، بعد هذه الهزيمة النكراء للأمة والتي سميت تاريخياً ( بعام النكسة ) ، اجتمع قادة الأحزاب القومية والتقدمية ، ليتدارسوا هذه النكسة الفظيعة التي لم تكن بالحسبان .
فوجدوا بعد نقاش جديّ طال أياماً ، أن القومية العربية باءت بالفشل الذريع ، ومثلها السورية ، ومثلها الإشتراكية التي هي مرحلة متقدمة من مراحل الشيوعية ، ولما وجدوا أن حلفاءَهم السوفيات ما أفادوهم على مستوى الأحداث المتفاقمة في إذلالهم وسحقهم ، وأن أعداءَهم الأمريكان والأوروبيين – فرنسا وانكلترا – ازدادوا نصراً لإسرائيل ، يزيدونها مالاً وسلاحاً وإمداداً في البر والبحر والجو ، وأن دول الخليج العربي ظلت هامشية ، تتثاءَب كأن الامر لا يعنيها ، – ولعلها شمتت بعبد الناصر –  لأنه كان بطلاً في نكاياتٍ لأمريكا وانكلترا وفرنسا ولا سيما : إسرائيل في تأميم قناة السويس وغير ذلك من الإنجازات الكبيرة – انطلاقاً من المفهوم القومي – .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) غثاء السيل : ما يحمله السيل من قش وزبالة .
 
 
الإسلام . . بديل عن القوميات؟!
 
نعم ، لما رأى القـادة ، قادة   الأحـزاب والتنظيمـات كل ذلك ، وفي مقابلـه فشـل ايديولوجيتهم واستراتيجيتهم طرحوا الإسلام ، إيديولوجية بديلة ، على أساس أن الإسلام يستقطب دولاً وشعوباً فيها أكثر من ألف مليون ونصف من المسلمين ( أي مليار ونصف ) بدلاً من مائة وخمسين مليون عربي ، معظمهم ما زال على دين الجاهلية وليس على دين الإسلام ، وأنهم أي القوميـين العرب ، إذا ظلوا مصِّرين على قوميتهم فإنهم يستعْدون بذلك دولاً إسلامية كبيرة مثل إيران وتركيا وباكستان واندونيسيا وغيرها من الدول والشعوب الإسلامية.
 
ولقيت الفكرة حماساً شديداً عند بعضهم ، وخاصة أنهم كانوا يعانون من جراح الهزيمة التي ما زالت تنزف وتؤلم . إلا أن اعتراضاً قوياً جاء من بعض القادة ، وهو أن المسيحيـين قد ينزعجون من هذا المشروع . – وكم هو عدد المسيحيـين الذين خافوا أن يمـسُّـوا مشاعرهم ؟ إن عددهم لا يتجاوز العشرة ملايـين في جميع الأقطار العربية ، علماً أن المسيحيـين الأصليـيّن الذين أوصى بهم القرآن الكريم يفضلون الإسلام على القومية التي تتقاذفها الرياح الجاهلية من كل جانب . المهم أن مشروع الإسلام سقط بضيق أفق القادة وجبنهم وخيانتهم لله ولرسوله ولأمة المليار مسلم ونصف المليار في العالم .
 
سليم كان يستعرض كل هذا ويحتقن ويتألم ، فأعلن إسلامه وأخذ يدعو لله الذي لا إله إلا هو ، ولنفي جميع أنواع الشرك الظاهر والخفي عنه سبحانه ، ويدعو لدينه الحنيف وليس للدين السخيف الذي مسخه عرب الجاهلية ، ومازال يعينهم على ذلك الطواغيت في كل أنحاء العالم ، ويغرونهم بالإباحية تحت عنوان الديموقراطية ، مما استدعى لعنة الله وغضبه على جميع أهل الأرض إلا من رحم الله عزت عزته .
 
…. ما هذه اللغة التي يتكلم بها هذا الشاب ، الذي لا هو ملتحٍ ولا على رأسه عمامة ولا كوفيّـة وعقال . ونحن لم نسمع حتى رجال الدين يتكلمون مثل هذا الكلام ، يهاجم ، يتّهم الأكابر ، أصحاب العمائم . . عُصابي . . انفعالي . .
 
السفر وحكاية الإستغفار:
 
بعد أن ترك سليم مؤسسته الاجتماعية في المنطقة الشرقية في بيروت ، ولم يستفد منها ولا من بيعها ولا من إيجارها بشيء . . قلَّ ماله ، فباع السيارات التي كانت للمؤسسة ، وأنفق أثمانها . ثم إنه بعد أن كان يُدْخِل سيارة مستعملة ويُخْرج سيارة جديدة عتقت سيارته ، وأصبح مدعاة لِـلـوم أهله وأحبائه بالسر والعلن ، وكانت قد كبرت أسرته ، . . وإنفاقه ولا إنتاج . . فسافر ، تحت ضغط الحرب الأهلية وضيق ذات اليد إلى إحدى دول الخليج ، وحيث أن الله تعالى وليـُّه ، وأنه مبتليه ، فقد ابتلاه وضيَّق عليه سبحانه . . وضيّق . . مما دفعه للإستغفار والإنابة والإكثار من ذكر الله عز وجل على شاطىء الخليج ، بعد أن ينتهي من عمل النهار ويدخل في هدأة الليل ، وفي حساباته وتأملاته .
كان يستأنس بتذكر حكاية حكاها له احد إخوانه في الله ، قال : كنت في بلد عربي ، أعمل في شركة ، ثم أفلست الشركة ، وأصبحتُ بلا عمل ، وأنفقت ما كان معي خلال أسابيع كنت أبحث فيها عن عمل آخر ، وذات يوم فوجئت بأن دراهمي نفدت ، وداهمني الجوع وليس معي ثمن طعام . فأخذت أتمشى في الشارع ، ثم في زقاق ، وخطر لي خاطر استحييت منه في البداية ، ثم ألحّ علي الجوع ، فاستسغت هذا الخاطر ، وهو أن أسأل عن أقرب رجل دين في المحلة على أساس أن رجال الدين أرقُّ  قلباً  وأكثر فهماً لحاجتي ، وهم يؤتون المحتاج مما آتاهم الله وجعلهم  أمناء عليه . فسألت أحد المارة ، فأشار إلى بيت قريب هو بيت الشيخ فلان . قرعت الباب ، فُتح لي ، وأطل الشـيخ وهو ذو هيبة ووقار ، واستقبلني بوجه طلق ومريح ، فاستبشرت خيراً كثيراً ، وسألني عما أبغي ، فأبديت له أمري وذكرت حاجتي . سكت الشيخ هنيهة ، وتأمل ملياً في وجهي ، ثم قال لي تبدو عليك الطهارة والإيمـان ، وأصدقك القول ، أن حاجتك مقضية إن شاء الله وإنما ليست عندي ، ولكن أقول لك ، إذهب وامشِ ما استطعت ، ثلاثة كيلومترات ، أربعة ، خمسة ، وخلال ذلك ردِّد عبارة استغفر الله . ثم سكت وطال سكوته ، قلت : وماذا بعد ، قال هذا كل ما عندي .
وخرجت ، غاضباً ؟ ناقماً ؟ لا ، غلب عليَّ ألا اتَّهم الرجل في عقله ولا في دينه ، لأني لست أدري لماذا أحببته ، وإنما مع كل ذلك لم أفهم جدوى ما قال لي ولا ما طلب مني . إنما وجدت نفسي – وليس لدي ما أفعله ولا من أتصل به لعلاج حالتي  –  هائماً في الشارع أستغفر الله . . والجوع قد أخذ مني مأخذه . وأستغفر الله وأستغفر . . وفجأة إلتفت إلى أن جوعي قد توقف ، إحساسي بوطأة الجوع انقطع كلياً ، أنا الآن لست جائعاً  ، أنا شبعان   وريّان . وأخذني العجب ، وكنت قد تعبت من السير ، فقفلت إلى  بيتي ،  وأويت  إلى فراشي ، ونمت عميقاً . . ولكن ، ربما بعد سويعات ، يُدق  بابي  وأنا  وحدي  في  المنزل ، فنهضت  وإذا برجل في الباب صورته ليست غريبة  علي ، قال بعد  التحية ، كأنك لم تعرفني ، قلت تقريباً  .  قال   أنا   فلان  ،  فتذكرته . . [ كان يوماً ما شريكاً لي عابراً في تجارة. وأني  اتهمته بأنه أكل عليَّ  مـالاً محترماً ، وانكره . فابتعدت عنه وعن  التعامل  معه ] قال ، لم  استطع  النوم  هذه  الليلة  لأن  المال  الذي  لك بذمتي ، أرَّقني ، وضيَّق عليَّ أنفاسي ، وأحسست بسببه بوخز في خاصرتي لم أعهده من قبل ، فهذا مالك – وكان مئتا دينار – هو حلال عليك  حرام عليَّ ،  و أرجوك  رجاءً  حاراً  أن  تسامحني . .  فأخذت المال ، وقلت له : سامحك  الله ، وانصرف شاكراً ، ووقفت أنا مذهولاً ، من عفو الله وغفرانه ، وجوده وكرمه ، وأسراره في خلقه . .
انتبه سليم إلى أنه مهما ذكر الله تعالى وأكْـثر وإستغفر وتعبد لله واصلاً الليل بالنهار ، فإنه لن يستطيع أن يفيَ الله تعالى حقه ، حتى و لا حق نعمة بسيطة من نعمه التي لا تحصى ولاتعد ، وانتبه أكثر خلال ذكر الله تعالى وتسبيحه كأنما تفتح أمامه آفاق من العلم والفهم وعرفان الله ، لم يكن له عهد بها فيما مضى . وفطن إلى أن الله جلـت عظمته أعظم وأكبر وأنه لا يحد ولا يقاس عليه ، وأنه كما قـال في كتابه الكريم : هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ . …وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ … . سورة الحديد الآيات ( 3 – 4 ) } وهو أقرب إلينا من أنفسنا ودمائنا ، قال جل وعلا : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . سورة ق الآية 16 } ، وانتبه سليم أكثر فأكثر أنه ما قدر الله حق قدره ، وأنه مازال على سواحل بحر الإسلام ، هذا الدين العظيم الذي أنزله الله من علياء سماواته على رسوله ونبيه محمد (ص) . هكذا قرر سليم أن يرتحل طلباً لهذا العلم وأن يبحر في أعماقه ولججه ، فهذا علم قال عنه أحد الأئمة الأطهار : العرفان بالله وبحقيقة دينه ومضامين كتابه ، ليس كثيراً أن تخاض إليه اللجج وأن تسفك دونه المهج ، وهو علم لا يفتحه الله إلا على ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد محّص الله قلبه للايمان .
ومن هنا بدأت الفتوحات ، حيث أبحر سليم في كتاب الله تعالى وفي عرفانه وفي دينه الحنيف .
وبدأ الصراع بل والصدام مع الناس : يؤتيه الله من لدنه أسراراً وإيضاحات لآيات وكشوف كانت غامضة أو مستترة ، فيبلِّغ ذلك قولاً أو كتابـة .. ويتفاجأ ، بالمناداة عليه بأنه مجنون . .
وأخذ يتأمل . . فوجد الناس مصاديق لآيات عجيبات ، منها قول الله تعالى :
 
{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ . سورة الأعراف الآية 179 } ، فإذاً ، أكثر الناس ، عند الله ، أضلُّ من البقر والغنم والمعزى والجـِمال المحملة بالهوادج والأثقال ، التي يتسابقون عليها في هذه الأيام في دول الخليج .
ثم يجد فريقاً آخر من الناس ، بدَّلوا آيات الله وتعاليمه بالبدع النافرة ، وبطقوس ٍ من العبادة ما أنزل الله بها من سلطان ، لا في كتابه ولا في سنة نبيه (ص) . فهؤلاء هم من المقصودين بقوله جل وعلا : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ . وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . سورة الأعراف الآيات ( 175 – 176 ) . }.
أحد أصدقائه – وكان ذا وظيفة مرموقة في الخليج –  أقبل عليه ذات يوم وكأنما يوبخه ، بغضب ولكن بمحبة ، لأجل ما تصور أنه نصح له وهداية . وبعض ما قال له : تترك الدنيا وقد أقبلت عليك مرة ثانية ، لم يمضِ عليك هنا في الخليج بضعة أشهر وأصبح راتبك أفضل من راتبي بعدما كدحت إليه بضعة عشر عاماً . وتريد أن تكون رجل دين ، وماذا يفعل رجال الدين إلا أنهم يزيدون من بلاءات هذه الأمة ، فقط الزيادة في العدد والكمية ، ولا كيفية ، إلا اذا كنت تريد أن تكون داعية إصلاحياً ، من نمط فلان وفلان من الذين اشتهروا بعلمهم ونظرياتهم الاعتراضية لهذا الموت البطيء الذي تموته الأمة .
وأنت لا إمكان لديك للوصول إلى هذا المستوى ، فهذا الأمر يتطلب مالاً وظروفاً غير ظروفك . .
كان سليم يسمع ، ويتأمل في أقوال قريبه المثقف والعاقل ، وقد التفت إلى أنه بالفعل لم يكن لديه أية خطة أو طموح لأن يصبح من الإصلاحيـين أو من المشاهير . ولكن كل ما كان يشعر به من الدوافع للإستزادة من أسـرار الدين والتعمق في ظواهر آيات الكتاب المقدس وبواطنها ،  هو لم يستطيع أن يجد له تعريفاً ، إلا أنه الغضب لله جل جلاله . فهو في أعماقه جريح ، كأنما جرح الأمة الإسلامية كلها ينزف في قلبه . الأمة التاريخية التي أعزها الله وآتاها من القيم والشيم والمناقب ما لم يؤت غيرها من الأمم – الأمة التي هو قال فيها سبحانه –  يخاطب أهلها يوم كانوا أسياداً وأشرافاً ذوي نخوة وكرامات  أو يحثّّهم في قوله لأن يبقوا أسياداً وأشرافاً ذوي نخوة وكرامات، قال لهم في كتابه المنزل المقدس { كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ … . سورة آل عمران الآية 110 } فأين أصبحت هذه الأمة الكريمة ، الغنية بالموارد ، وأغنى الأمم  بالذهبين  الأسود والأصفر ، أصبحت يتقاذفها أعداؤها بينهم كتقاذف الكرة ، ويتضاحكون على ملوكها وقادتها الذين في ركابهم ، والذين يزعمون أنهم لهم أصدقاء ، وهم في الحقيقة التي أصبحت مكشوفة ، ألدُّ الأعداء لله ولتعاليمه ،لأنهم خانوه جهاراً بخيانة توراته ، وخانوه جهاراً بخيانة إنجيله ، وهم قد أجمعوا في هذه الأيام أن يمحقوا القرآن وأمة القرآن ، هذه الأمة التي قال عنها إنها خير أمة أخرجت للناس .
لم يناقش قريبه في الأمر ، أي فيما هو عقلاني ظاهرياً ، ولكن الهاجس الذي في داخله ، والذي هو الغضب لله تعالى كان أكبر من العقل ؟ كان فوق العقل ، بمعنى أن الدافع الداخلي عنده هو الذي يوجه عقله وقلبه وجميع جوارحه وأحاسيسه ، فلا هو طموح لشهرة ، ولا منهجية لنيل مكاسب ، كان يستحي من الله ومن نفسه عندما يذكر له ذلك .
بين العراق وإيران . . ثم لبنان .
 
رجع سليم من الخليج إلى موطنـه في لبنان مصممـاً على أن  يلتحق  بالحوزات الدينية ،  وكانت منذ أزمنة سحيقة قد استقرت في العراق ، وخاصة في النجف الأشرف حول مرقد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، فاصطحب أسرته وفيها عياله وأربعة أولاد أكبرهم في حوالي العاشرة من عمره ، وفي طريق البر ، في سيارتهم الخاصة .
وإذ وصلوا إلى النجف قرر النزول في فندق ، بالرغم من وجود أقارب له وأصدقاء في هذا البلد المطَّيب بمرقد الإمام عليه السلام .
وكان العراق ، زمن أحمد حسن البكر التكريتي ، يحكُمُـه حزب البعث العراقي المعروف – تمييزاً عن البعث السوري وكانا على طرفي نقيض –  وكان أحد أقاربه لحّـاً ، هناك ، في سلك المتعممين البعثيـين ، ساكناً دارة جميلة لها حديقة رحبة ظليلة ، يتصدَّرها قفص كبير لأنواع العصافير، انطبعت في ذاكرته عميقاً – لأسباب سنذكرها بعد – . عندما رجع من الفندق زائراً ذاك المنزل ، الذي فيه قريبه ، طبعاً مع أسرته ، وإذ خرج لاستقباله فرحاً بقدومه ، تعانقا ملياً ، وألـحَّ الشيخ عليه للنزول عنده بدلاً من الفندق ، آمراً كبير أولاده أن ينزل الحقيبة التي ما زالت على ظهْر سيارة سليم ، بنخوة ربما حرّكتها الذكريات الحلوة ، إضافة إلى الرحم الذي بينهما ، ورفض سليم ، طبعاً شاكراً ، شاعراً بهذه الحميمية التي كان لا بد من عفويّتها آنذاك .
ثم استأجر سليم منزلاً ، ودفع قسمـاً من الإيجار ، ثم تعقدت الأمور بشكل متسارع وغريب ، غرابة العراق آنذاك ، وربما قبل وبعد ذاك .
 
المفاجأة الأولى :
 
قبل أن ينتقل سليم إلى الدار التي استأجرها . كان لا بد – إلزامياً – مقابلة  مدير الأمن الذي في النجف ، وبناءً على موعد ، ذهب وقابله ، وهو رجل  عليه سمة رجال الأمن ، والدَّفائن التي   تظهر على وجوههـم ، ولا سيما في العـراق آنذاك . وحيث أن سليم في الحقيقة ، عِقَدُهُ قليله جداً لدرجة أنه أقرب إلى البساطة ، حتى والسذاجة المليحة ، فقد أجاب على أسئلة مدير الأمن بهذه الروحية .
ـ         ماذا جئت تفعل في العراق .
ـ         جئت لأتلقى العلم في الحوزات الدينية .
ـ         ماذا كنت تعمل في لبنان .
ـ         كنت صاحـب ومدير مؤسسة إجتماعية ومعروفة ، واشتعلت عندنا الحرب الأهلية ، فاصطحبت أسرتي لنقيم في بلدنا العربي هذا ، بعيداً عن الحرب ونارها .
ـ         هل ستتعاطى شيئاً هنا غير التعلُّـم .
ـ         طبعاً لا ، وسأبقى بعيداً جداً عن السياسة ، منشغلاً بالدروس ، مع رجاء أن لا يحرجني أحد بالنسبة لحزب البعث ، فإني غير مستعد إطلاقاً أن أكون بعثياً .
( فضحك الرجل ضحكاً حقيقياً أخرجه عن صنميته ) .
ثم تجهَّم .. ( وقد تعجب بعض الإخوان الذين ذكر لهم سليم ما قاله له وأنه ضحك ، وكادوا لايصدقون .. أنه ضحك ) .
وبعبوس وجدّية خارقة ، قال :
          عد إلينا صباح الإثنين ، الساعة العاشرة .
كانت هذه المقابلة ، يوم السبت . بعض الإخـوان قال ، وهو ملـم ببعض الأمور هناك :
أجّل إعطاءَك الإذن بالإقامة ، ليتحرَّوا عن نشاطاتك في لبنان .
 
• كيف ؟! هذه مشكـلة ، وأنا لم أكن صديقاً ، لهم ، وأكثر كان لي في لبنان نشاطات دينية
معروفة ، وهي لا تلائمهم ، ويعتبرونها – أي الدعوة إلى الله – عداوة لهم .
 
قال : برقياً ، أو بالتلفون ، يسألـون عنك جماعتهم  في بلدتك أو في المنطقة ، التي أنت منها ،
فيقيناً لك عندهم ملف مفصل .
حَدَسَ سليم ، أنه قد – ربما وقعـت الواقعة – فباختصار شديد عن العراق ، في ظل البعث ، إذا لم تكن بعثياً ، أو عميلاً للبعث ، أو إمَّعة ، فأنت ممن قيل فيهم : الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود .
اتصل ببيت قريبه بالهاتف ، فقالت زوجته إنه ذهب إلى لبنان ليأتي بموظف بديل عن آخر ترك العمل – ( وكان الشيخ يستثمر محلاً – للأطعمة “شاورما” )  وأن الذي ترك منذ أيام  هو المختص ( بالشاورما ) فدفعت سليم الريبة – وكان لها دوافعها الشديدة أن يتصل بالمحل إياه ، فسأل عن عامل ( الشاورما ) ، وهل هو ترك ؟ قيل له ، لا إنه هنا . ثم اتصل ثانية بالسيدة زوجته :
•   لماذا لم يخبرني ، وهذا عجب ، وأنا بأمس الحاجة كما تعلمون ، أن يخبرني أحد ما بذهابه إلى لبنان ، لأطمئن أهلي وإخواني عن  حالتي  في العراق ، والأفضل  و الأولى  أن  يكون  الذاهب  إلى  لبنان  قريباً  أو صديقاً لنا . .
•   إنه كان على عجلٍ من أمره ، لأنه خشي أن يتعطل البيع في المحل . . سكت سليم . .
 
•   قال لعياله نزورهم في البيت ، زيادة في الإستعلام . و دخلا وسلَّما ، وقال سليم : أنتم النساء خذوا راحتَكم ، وأنا أريد أن أتمشى قليلاً في الحديقة . فوجد نفسه متوجهاً تواً إلى قفص العصافير الكبير وفوجىء بمجوعة منها  يُحدِقْن  بعصفور واحد ينقرنه بقسوة ويسيل الدم خاصة من رأسه ، وهو يكاد يتلاشى  أو يموت بين هذه العصابة .  هاجه المنظر ، وتألم جداً لهذا العصفور المستضعف ، وراح مسرعاً ينادي السيدة إياها : أعطني مفتاح القفص ، لأن عصفوراً يكاد يقتله رفاقه . . فضحكت بهدوء وبغير اكتراث ، وقالت إن المفتاح مع الشيخ ، أخذه معه ، وهذه العصافير تفعل برفيقها ما رأيت ، لأنه غريب ..
انتاب سليم مثل الصدمـة ، وتحركت هواجسه بقوة ، وأخذ يقارن نفسه بهذا الطائر الصغير ، الذي يعذَّّب هكذا بعنف وقسوة ، بالرغم من براءَته الواضحة . . هكذا بدون بيِّنة ، ولا محاكمة ، ولا شهود عدول . وأصحاب السلطة يمارسون هذا التعذيب أو يرونه أو يسمعون به بدم بارد ، وبِضحك العابثين ..
ثم تبادر لذهن سليم ، وبقوة ، ما يلي : أن قريبه علم أن سليم سيعتقله الأمن البعثي العراقي ، بناءً على ما يعلمـه هو ، أي الشيخ  من  نشاطات سليم الدينية ، وقد كانت له معه في  لبنـان  أكثر من تجربة غير ناجحة لِزَجِّهِ معهم في دين البعث العراقي المتداخل يومذاك مع منظمة فتح ، التي تركب كل المطايا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، قبل تشرذمها إبان الإجتياح الإسرائيلي سنة 1982 . فإذاً سارع الشيخ ( البعثي – الفتحاوي ) إلى لبنان حتى لا يقال إنه كان له يد في اعتقال  صديقه اللَّـدود أو إعدامه .
 
المفاجأة الثانية :
 
في الفندق الذي كان نزل فيه سليم ، مطعم كان  أحياناً  يتناول فيه الطعام ، وفي المطعم نادل ، كان يناوله سليم ما ييسره الله من بقية الحساب ، فتعاطف هذا الرجل معه ، ولاسيما أنه لبناني عاملي ، وإنما بحذر شديد تفاهم عليه معه سليم ، وفي اليوم الذي سافر فيه الشيخ ، وكان سليم يتناول طعاماً في ذاك المطعم ، جلبه إليه النادل إياه ، وبوجه ممتقع همس له ، محاذراً أن يراه أحد : اطلع من العراق .. و بسرعة .
وصلت أول رسالة ..  فالرجل في مخابراتهم ، ولكن ما زال عنده بقية من وفاء . . ومن شرف ..
بادر سليم للخروج مع أسرته من الفندق ، وحملوا حقائبهم ، إلى بيت أحد أبناء البلدة ، كذلك من المشايخ ، ليبيتوا عندهم تلك الليلة .. على أن النادل إياه ، كان قد حذَّره كذلك من أن يخبر أحداً عن خروجه السريع من العراق .
كان أحد أبناء هذا الشيـخ الذي يدّعي البساطة ، يحلو له في الظاهر ، أن يعالج سيارة سليم ، أن يقـودها في الحديقة العامة أمام منزلهم وأن يغسلها ، وأن يتأمل ويداعب بعض القطع في ( موتيرها ) ، وهو كأبيه تبدو عليه الطيبة والبساطة . ولكن في ذاك اليوم ، وبقدرة قادر ، علم سليم أن ذاك الشاب هو منهم ، بعثي أصيل .
سليم وزوجته أوصيا زوجة الشيخ البسيط – وكانت امرأة محبة لعائلتهم وطيبة – أنهم نووا الخروج من عندهم في منتصف الليل ، ورجوها أن لا تخبر أحداً من أولادها .. حتى زوجها . وبعد صلاة العشاءَين ، وبعد أن أوى الجميع إلى مضاجعهم ، وكانت السيارة في الدار ، حملوا حقائبهم ، تساعدهم بصمت ، تلك المرأة الطيبة . ثم نقلوا من كان نام من الأطفال إلى السيارة . ثم انطلقوا متوكلين على الله إلى بغداد ، ثم إلى الكاظمية ، حيث مرقد الإمام موسى الكاظم عليه السلام ، فصلُّوا الفجر والصبح في المقام الشريف ..
 
إلى إيران :
من أين الطريق إلى خانقين ؟ – حيث مركز الحدود من جهة العراق للدخول إلى إيران – سألنا أحد المارة ، على أننا ذاهبون إلى إيران لزيارة العتبات المقدسة ، وهذا أمر مألوف ، لا يستدعي شبهه ولا ريبة ، فأرشدنا إلى الطريق .
 
ولدى وصولهم تماماً إلى خانقين ، إلى مركز الحدود ، انطفأت السيارة ، ما هذه المصيبة ؟! وهم في أمسِّ الحاجة لتوفير الوقت من أجل الخروج بأقصى السرعة من الحدود العراقية ، فاليوم ، تماماً عند العاشرة ، وهو يوم الإثنين ، وهو موعد المقابلة الذي حدده لهم مدير الأمن في النجف ، ويا ويل من يتجاوز الأوامر هناك أو المواعيد .. فما قضية السيارة ، وقد توقفت عن السير ؟ بعض الخبراء هناك قال : البطارية ، معطلة ، فرغت من الطاقة ، ويبدو أن الدينمو الذي يشحن البطارية كذلك معطل ! … إذاً لا بد من شراء بطارية ، لكسب الوقت ، ومن أين من مدينة خانقين التي مرّوا بها من نصف ساعة ، لابد من العود إليها ، وكان ذلك .. ثم قفلوا إلى الحدود ، إلى مركز الأمن وتخريج الجوازات . تجاوزت الساعة الحادية عشرة . –  مدير الأمن الآن غاضب في النجف ، وماذا إذا طال الوقت وطال غضبه ؟! سيعمم في النجف بحثاً عن سليم ، وسرعان ما سيكتشف أنه غادر النجف ، إذاً سيعمم فوراً على مراكز الحدود . وها سليم في باب أحد مراكز الحدود ، خانقين … ومن قلبه :
” اللهـَّم إني عليك توكلت وإليك أنبت وإليك المصير. وأنت وحدك ربي وأنت وحدك حسبي “… وصوت من فوق أحد المكاتب :
أهلاً وسهلاً ..
     •   السلام عليكم ،
     •   وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته . ( هو لا يتصنع ويبدو صادقاً وطيباً )- هات الجوازات : قدَّمَها إليه . نظر فيها ؟! ختَّمها .. –  في أمان الله .
     •   جزاك الله خيراً ، في أمان الله .
         خرج سليم وهو لا يكاد يصدِّق ، لولا أن الله برحمته ورأفته وعنايته، وأمره الذي هو أسرع من لمح البصر ، ربط على قلبه بالعافية والطمأنينة ، واستبشرت عائلته ، بعد إذ كانت كذلك على أعصابها تنتظر ، وتابعوا عبر الحدود . . إلى قصر شيرين ، مركز الحدود المقابل في إيران .
 
في قصر شيرين ليلة تاريخية :
 
بدأت بنفاد الطاقة من البطارية ، يضاف إلى ذلك أنه منع من إدخال السيارة ، إحتجزها الجمرك ، لأنها كذلك تحتاج إلى رخصة للدخول إلى إيران . وإذاً سينتقلون بالأجـرة ، وكيف وأين ، ومن سيترجم لهم وهم يجهلون الفارسية . وإذا برجل كهل يتقدم إليه يلوك بعض الكلمات العربية : فهم منه أن هذا اليوم الذي هم فيه- وقد بقي منه أكثر من ساعتين لغروب الشمس ، لا يوجد فيه سيارات لنقلهم إلاَّ هذه السيارة و أشار إلى ما نسميه في لبنان ” بوسطة” أي سيارة كبيرة تتسع لحوالي أكثر من عشرين راكباً ، يستأجرها عادة وفود الزوار إلى العتبات المقدسة ، واستفهم منه صاحبها الذي كان إلى جانبها ، إلى أين هؤلاء ذاهبون ؟ قلنا إلى مدينة قم – قم المقدسة ، قال تفضلوا .. وفي حوار آخر مع ” السمسار” قال سليم إننا نريد أن ننزل في فندق ، ثم في الصبـاح نذهب .. ففهم كذلك السائـق ، فقال كذلك ، تفضلـوا لأُوصلكم .. فصعد في ” البوسطة ” سليم وأسرته بعد أن نقد السمسار مبلغاً ندم عليه ،  لأنه لا يستحقه ، بل يستحق التوبيخ مع الموعظة ، وذلك بسبب تآمره الواضح عليهم ، وشراكته مع صاحب البوسطة .
 
ومشت السيارة ، وأخذهم ، بدلاً من الفندق إلى منزل ، وإذ أخذ سليم يعترض : إنه لم يكن كذلك الإتفاق ، فأين الفندق ؟! فتقدم ممن كان  هنالك  من  سكان  البيت ، يتكلم خليطاً من العربية والفارسية .. المهم أنهم فهموا أن الرجل فضل لهم بيته على الفندق ، وهو يريد أن يستضيفهم لوجه الله ، أي مجاناً ، بعد أن كانوا اتفقوا على أجرة نقلهم إلى مدينة قم المقدسة .
 
الليلة الليلاء :
 
هنا بأية لغة يرفض سليم ، هذا الأمر الذي لم يَرُق له ؟ أينفعل ويصيح ، وأطفاله   يراقبون تجهمه ويقرأون في عيونه ما يتوجسون منه غير الخير، وأخذ يتحدث مع زوجته ويتشاوران ، و بينما هما كذلك في  حيرة شديدة ، خرجت بعض النسوة  من المنزل والبسمات على وجوههن ، وأقبلن على زوجة سليم يسلِّمن عليها وحمل بعضهن الطفليـن الصغيرين ، بلطف وحنان ظاهرين ، وتفَّرس سليم في وجوه الرجـال ، وكان التعب قد بلغ منه مبلغاً ، لدرجة أنه تمنى لو يستطيع أن يتكىء على الحائط الصغير الذي يصون درج ذلك المنزل.
قدَّموا لسليم وزوجه بعض الشاي ، وهم لا يفرقون في المجالس بين الرجال والنساء ، ولكن نساءَهم محجبات ، أحدقن بعياله يحدثنها وتحدثهم أكثر ما يكون بالإشارة ، بعد جلوس سويعة مع الرجلين الذين أحدهما سائق السيـارة ، كان سليم قد تنشط نوعا ما وأخذ يستطلع المكان : فإذا هو دار واسعة ، فيها أعمدة وغرف جانبية ، استأذن وقام ليتفرج على صورة معلقة على عمود ، فوجد فيها رجـالاً كأنما تاريخيين ، لا يوحي أي واحد منهم بالإسلام ، بل على العكس ، شعر أن الرموز التي في هذه الصورة هي رموز يهودية . وهو كان قد سمع أن مدينة قصر شيرين فيها خليط عجيب من الأجناس ، منهم اليهود ، منهم الأكراد ، وأنهم ليسوا كلهم شيعة ، وجاء القوم بطعام ، فطعم سليم وأسرته ، وكم سيأكل من تحيط به الريب والتعب والظنون من كل مكان ؟!
أشار سليم للرجل ، أنهم يريدون أن يناموا ، فسارع قائماً ، وعلى بعد خطوات من وسط الدار ، قاده إلى غرفة جانبية ليس لها باب يغلق ، فنظر سليم إلى زوجته و بدون كلام ، فهم أن بها مثل ما به من الريب وعدم الإطمئنان .. إنما حمل هو ولداً وهي آخر من الصغيرين ولحق بهم الولدان الباقيان ، فجعلا الأولاد لجهة الجدار وكذلك الزوجة ، ثم نام هو قريباً من الباب المفتوح . وتوزع القوم ، وخلت الدار .
كل المنزل هادىء . فلماذا الخوف وأنت بحاجة ماسة إلى الإغراق في النوم . هكذا حدّث سليم نفسه ، ولكن ، ما كاد يغفو بعض إغفاءَة ، حتى سمع حركة ، في الدار ؟ ورفع رأسه متخيلاً أن احداً جاء يقصده وعياله ، بشر خطير ، وانتظر .. وترقب ، ولكن الصوت اختفى .. فالتفت إلى زوجته ، فوجدها كذلك رافعة رأسها تترقب فأشار لها أن نامي ثم ألقى برأسه على الوسادة . . وكذلك ما كاد ينعم في إغفاءة ثانية حتى سمع كذلك حركة أقوى من الأولى ، فهبَّ قاعداً ، وكأنما زوجته كانت مرتبطة فيه بسلك حسَّاس ، فما إن ينفعل أو يتوجس خيفة حتى يُلمَّ بها ما ألَمَّ به ، وانتظر أن يبدو الشخص المهاجم .. ولكن لا أحد .. ويعود الهدوء يخيم على المكان ، ثم تتكرر الحركة بين الفينة والفينة ، يتكرر معها شعور الزوجين بالخطر الداهم وهكذا حتى أذَّن المؤذِّن : الله أكبر .. الله أكبر ..
 
وهكذا جاء الفرج ، وارتفع الخطر ، فصليا شاكرين لله تعالى نجاتهما . إضافة إلى الصلاة الواجبة .
 
وأقلعت ” البوسطة ” بعد  أن  ودَّع  النسـوة ، الزوجـة  والأطفـال ، وما إن تجاوزت ” البوسطة ”  قصر شيرين ،  حتى  أقفرت  الطرق  من البيوت ومن الناس ، وشعر سليم  أنه  داخل  في  مجاهل ، لا يدرك منها  إلا هذه الشمس التي  ترافقهم  من  جهة  الشرق . .  وبدأ  يفكر  أفكاراً سوداوية  :  كيف  يتصرف ، وهو أعزل  من  أي  سلاح ، إذا أوقف هذا الرجل “بوستطه ” في مكان  مقفر ، وأنزلهم  جميعاً ، وأعدمهم  بمسدس  فرداً فرداً .. كيف سيهجم عليه  سليم  بمجرد  أن  يشعر منه  بأية حـركة  عدوانية ،  وسينتزع منه المسدس ويقتله  به  لأنه  يهودي ..  ربما .. وبينما سليم  تشغله  هذه   الهواجس  ،  فوجىء  بالرجل  يضع على عينيه  نظارة  سوداء . .  وهنا ، ما كان   تخيلاً  عند  سليم  ، كاد  يصبح  حقيقة ، فهذه النظارة أوحت إليه ،  بالنية المجرمة عند الرجل .. وأخذ سليم يراقب الطريق الذي طال … وكلما لاحظ مكاناً وعراً أو غابة أو رابية على جانب الطريق ، قال في نفسه هنا ، ربما  هنا .. سينزلنا ويفعل فعلته . ويشد سليم من أجل ذلك أعصابه ، ويتهيأ للإنقضاض هو على الرجل لمجرد أن تبدو منه أية بادرة سوء .
وطال الطريق .. وطال .. ومضت ساعات كانت أطول .. وبدا بناء أمامه أشجار ظليلة ، وأبطأ الرجل ثم توقف أمامه ، فعرفوا أنه استراحة ، ينزل بها المسافرون إذا أرادوا ، وخيَّرهم بالنزول وكانوا قد تنفسوا الصعداء ، وشعروا تماماً بزوال الخطر، وتشاوروا ففضلوا الإستمرار بالمسير ، للوصول باكراً إلى المدينة المقدسة .
نزلوا في قم على العنوان الذي عينوه للسائق ، فتقدم هذا وعانق سليم مودعاً .. ثم قفل راجعاً في سبيله .. ذهل سليم عندما عانقه الرجل ، وشعر بمدى طيبته وسلامة قلبه . وانقلبت عنده الحسابات بسرعة ، ثم انشغل بنقل العائلة والحقائب ، إلى بيت أقرباء له وأصدقاء ، تلقوه وعائلته بلهفة وشوق غير عاديين . نساءً ورجالاً من ذوي العمائم .
 
الفرج والمحاسبة :
 
أول الغيث في قم المقدسة : كانت هذه الأسر الشريفة ، التي قيضها الله لتصحب سليم وأسرته ويصحبونها ، ولا سيما أنهم كانو ا من صلب الوسط الذي يسعى إليه سليم ، الوسط الديني الإسلامي . وكان بلغهم قبل أن يصل إليهم  سليم ، أنه هرب بأسرته ناجياً من زبانية ” أمن البعث ” في العراق . ثم  بلغه  أن  الشاب  الذي كان  يداعب  سيارة سليم  و يفحص موتيرها .. لئلا يهرب فيها .. ربما .. سليم .. قد اعتقله حزبه وألقاه  في غياهب  سجنه  أكثر  من  ثلاث  سنوات  . اعتقل  يوم  فرَّ  سليم  من  العراق .
 
بعد مرور ثلاثة أيام في مدينة قم ، كان قد استقرَّ نفسياً وعصبياً ولكنه لم يكن مرتاحاً روحيـاً ، وأخذ يستعرض ما جرى له مرحلة مرحلة فوجد أن  التوفيق العجيب من الله تبارك وتعالى ، كان حليفه في جميع التفاصيل التي مرَّ بها ، وهذا بالنسبة إليه أمر بديهي ، إذ أنه يتعامل تعاملاً مع الله تعالى بثقة لا تتزعزع ، وبدون أدنى شك ، على أن الله يراه ويحفظه ويحميه من جميع أعدائه ومن كل شر ومن كل سوء . فسليم على هذا الأساس ، ومنذ عرف الله جلت قدرته ، لا يخاف من شيء ولا من أحد ،  لأنه على يقيـن من كلام الله ومن صدقـه ، حيث قال سبحانـه: { وهو معكم أينما كنتم } وحيث قال : { ألا إنه بكل شيء محيط } وحيث قـال : { أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت } وحيث قال .. وقال .. في كتابه المجيد ، آيات ، وآيات تؤكد قوته التي لا يقاس بها شيء وقدرتـه التي لا يقـوم لها شيء ، وقوة حضوره ، وسرعة نفاذ أمره الذي هو أسرع من لمح البصر، .. كل هذا كان واضحاً عند سليم حتى أصبح على الأراضي الإيرانية … ووقع له ما وقع من الحالات شبه المأساوية .
 
أخذ الأمر خطوة خطوة ، فأدرك السبب وعرف السرَّ : عندما تجاوز الحدود العراقية ، ووصل إلى بلد الثورة الإسلامية ( كانت الثورة في عزها يومذاك ، وكان الإمام الخميني قدس سره قد عاد من فرنسا مظفراً مكللاً بالنصر العظيم ) ، نعم ، عندما أصبح بعد الحدود الإيرانية وقبل مبنى الأمن والجمارك هناك نزل من السيارة ، وحاول أن يخرَّ ساجداً على هذه الأرض المباركة سجدةً .. تذكر أنها لم يكن فيها شيء لله جلت عظمته .إذاً وقع في الشرك الظاهر ، ثم تعقدت الأمور ونسي ذكر الله تعالى . قال سبحانه : {  وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا } إذاً ابتليَ بالضنك ، والضنك في اللغة هو التعب والإرهاق والفزع وليس من مُفزع وتخيَّل العدوّ ولا عدوّ …
 
إذاً ما جرى له منذ الحدود … وصولاً إلى قـم ، هو أنواع من العقوبـات استحقها بعدل الله سبحانه ولعـله برحمته عفـا عـن كثيـر وعندما توصل إلى هذه الحقائق في قم إستغفر الله تعالى وأناب إليه بعد أن أشرك به الأرض وأشرك به الثورة الإسلامية وأشرك به القائد المظفر الذي هو عبدالله ووليـُّـه . مع أن سليم يعلم ، ويجب أن يعلم أن الأوطان إنما تكون مباركة بطاعة أهلها لله سبحانه وبتعبدهم له وحده دون شرك ظاهر ولا خفي ، وأن أي قائد في الدنيا لن يستطيع أن ينتصر إن لم يمكِّن له الله في الأرض ، وأن أية ثورة في التاريخ لاتنجح إلا إذا أذل الله أعداءها وقهر طواغيتها ، وشرَّف أبناءَها بالنصـر وشهداءَها بالعزة وكرامة الدارين : الدنيا والآخرة .
ووجد سليم نفسـه يدعو الله بقول الله جل شـأنه : { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا } هذه الآية الكريمة التي أوَّلها الإمام الصادق عليه السلام بقوله : أي لا تجعلني ممن لا سبيل له إلى مناجاتك ، والتزين بزينة خدمتك وقال عليه السلام : لا تجعلني فرداً عنك ، لا يكون لي سبيل إليك .
 
سليم والحوزات الدينية … وطائر يغِّرد خارج سربه :
 
انخرط سليم في جامعة دار التبليغ في مدينة قم ، وهي جامعة فقط لإعداد رجال الدين ، الذين سيتحملون المسؤولية في قيادة الأمة وتعليمها . وتواصل مع بعض الحوزات الدينية في مبانيها الخاصة ، فوجد المناهج متشابهة كأنما وضعتها يد واحدة : تبحث الحوزات في كل شيء يتعلق بالشيعة – المذهب الجعفري الإثني عشري – إلاَّ في معرفة الله جل شأنه ، كما يعرِّف عن نفسه هو سبحانه في القرآن الكريم ، والقرآن الكريم عندهم  كأنما ليس في المناهج ، ووجد القوم  يتعبدون  بروايات  منسوبة   إلى  الأئمة الأطهار عليهم السلام : كتاب ” البحار ” وهو بضعة وعشرون مجلداً ضخماً  للعلامة المجلسي وكتاب الكافي للكيلاني ، كذلك هو بضعة عشر مجلداً ضخماً .. وغيرها الكثير من الكتب و المناقشات في المذهب . وأخذ سليم يغضب لله تعالى ، ويتفاقم في غضبه ، أما من مرجع ، عالم ، فقيه ، متبحر من أنصار الله وكتاب الله ، يجلو عن الشيعة الإثني عشرية ، هذه الغشـاوات وهذه الحجب التي تحجبهم عن العرفان بعزة الله ، أما من غاضب لله ، جريء ، فدائي يزيل من مناهجهم تلك الزيادات التي تصدم العقل وحتى النص الإلهي المنزل من لدن الله جل جلاله على رسوله محمّد ( ص ) .
 
وأخذ سليم يناقش . . ويجادل . . حتى تضايق منه الزملاء وحتى بعض الإخوة الأصفياء . وجد أبنيةً فكرية كالدروع يصعب اختراقها ، ولم العجب فقد تجمع فيها تراث متراكم ، تلقيناً وشحناً في مدى أكثر من أربعة عشر قرناً من السنين ، وعصبية كما عصبية الأحزاب والقبائل .
وهداه الله تعالى ذات يوم ، وهو يطـالع كتاب الميزان في تفسيـر القرآن للعلامة الكبير السيد محمد حسين الطبطبائي  قدس  سره ، وهو كلام جريء  جداً ، نوى أن يتوسع فيه سليم فيما بعد كتابةً وتأليفاً وخطابةً ، يقول صاحب الميزان جزاه الله عن الأمة خيراً كثيراً ، في سياق كلامٍ عن الإمامين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق عليهما السلام :
 
“غير أن حديثهما وغيرهما من آبائهما وأبنائهما من أئمة أهل البيت أيضاً لم يسلم من الدخيل ، ولم يخلّص من الدس والوضع ، كحديث رسول الله ( ص ) ، وقد ذكرا ذلك في الصريح من كلامهما ، وعدّا رجالاً من الوضّاعين كمغيرة بن سعيد(1) وابن أبي الخطاب وغيرهما . وانكر بعض الأئمة روايات كثيرة مرويَّة عنهم وعن النبي ( ص ) ، وأمروا أصحابهم وشيعتهم بعرض الأحاديث المنقولة  عنهم على القرآن ، وأخذ ما وافقه وترك ما خالفه(2) ” .
“ولكن القوم ( إلا آحاد منهم ) لم يجروا عليها ( أي نصيحة الأئمة ) عملاً في أحاديث أهل البيت عليهم السلام ، وخاصة في غير الفقه ، وكان السبيل الذي سلكوه في ذلك ، وهو السبيل الذي سلكه الجمهور في أحاديث النبي( ص )(3)“.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)     قال الإمام الصـادق (ع) : لعن الله ابن المغيرة، فقد أدخل في حديثنا خمسة آلاف حديث ونيف .
(2)              الحديث المشهور هو :” ما أتاكم من حديث فاعرضوه على القرآن فإن قَبِلَه فبه ، وإن لم يقبله فاضربوا به عرض الحائط .”
(3)              الميزان في تفسير القرآن ـ ج 5 ص 275.
وقد أفرط في هذا الأمر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجية ظاهر الكتاب ، وحجية مثل مصباح الشريعة وفقه الرضا وجامع الأخبار ! وبلغ الإفراط إلى حيث ذكر بعضهم أن الحديث يفسّر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته . وهذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور : إن الخبر ينسخ الكتاب . ولعل المتراءى من أمر الأمة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم : ” أن أهل السنة أخذو بالكتاب وتركوا العترة ، فآل ذلك إلى ترك الكتاب ، لقـول النـبي ( ص ) :” إنهما لن يفترقا ” ، وأن الشيعة أخذوا بالعتـرة وتركـوا الكتاب ، فآل ذلك منهم إلى ترك العتـرة ، لقوله ( ص ) ” إنهما لن يفترقا ” . فقد تركت الأمة القرآن والعترة ( الكتاب والسنة ) معاً “.
 
العلماء الذين يتخرجون  من الحوزات
لم يقرأوا القرآن ولم يمسَّوا مصحفاً قط:
 
ويتابع صاحب الميزان ( قدس سره ) :
” وهذه الطريقة المسلوكة في الحديث ، أحد العوامل التي عملت في انقطاع رابطة العلوم الإسلامية ، يعني العلوم الدينية والأدبية عن القرآن ، مع أن الجميع كالفروع والثمرات من القرآن الكريم ، هذه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وذلك إنك إن تبصَّرت في أمر هذه العلوم ( في الحوزات ) وجدت أنها نظمت تنظيماً لا حاجة له إلى القرآن أصلاً . حتى إنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعاً : الصرف والنحو والبيان واللغة والحديث والرجال والدراية والفقه والأصول ،  فيأتي آخرها ( أي الأصول ) . ثم يضطلع بها ( الدارس ) ويتمهَّر فيها وهو لم يقرأ القرآن ولم يمسَّ مصحفاً قط . فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة ، إلا التلاوة لكسب الثواب ، أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوارق الحدثان ! فاعتبر إن كنت من أهله(1).” انتهى كلام صاحب الميزان .
 
بعد طول معاناة ، وبحث واستقصاء ، وتركيز لعقله في كتاب الله المجيد ، وبعدما عرف بيقين عالٍ ، وبيِّنات كثيرة من ربّه جل جلاله ، أن علمه ليس من هؤلاء العلماء ، ولا من تلك الكتب الصفراء المشحونة بالعصبية والمحازبة لغير الله، والمليئة بالروايات المنافية لكتاب الله والمنسوبة زوراً لآل بيت النبي الأطهار والأبرار، وإنما علمه هو من لدن الله تبارك وتعالى ، من عين صافية .. ومن كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد . فلا فلسفة ، فالفلسفة بنت العقل ، والعقل لا يقوم وحده ، لا يقوم إلا إذا لجأ لسيده وربه وخالقه ، وإلا لما كان اختلف عقل معاوية بن أبي سفيان مع عقل علي بن أبي طالب عليه السلام ، ولا عقـل كارل ماركس  مع عقل عبدالله بن مسعود مثلاً .. المهم أن سليم ، حمل ما آتاه الله إياه من كنوز كتابه ، ومكنون علمه ، وفي جملته جرأة صاحب الميزان وصدقه وصراحته ، وأهميتة العاليه ، في اصلاح الأمة من داخلها ، فقد آن لها أن تتطهر، وتتوحد بدين التوحيد العظيم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)              الميزان في تفسير القرآن – ج 5 ص 276 .
 
بهذا الزاد الكبير والنظيف ، عاد سليم إلى وطنه لبنان ، ليجعل من ذلك كله أساساً يبني عليه عشرات المؤلفات بين نثر وشعر ، و مقالات ومشاركة في الإنترنت ، هذا الذي علمه الله للناس في آخر الأزمنة ،  ليكون ثورة في إيصال الفكر السليم والصحيح والحقائق الكبرى إلى جميع سكان هذا الكوكب الأرضي ، ولو أن أكثر البشر استعملوه في أكثر جوانبه ، لنشر الكفر والشرور والأضاليل ، ولكن ربك لبالمرصاد ، وهو أسرع الحاسبين .