(3) وبشر الصابرين .. برحمته

(3)
وبشر الصابرين .. برحمته
         
نشأت جمانة في بيت متواضع في قرية جبلية جميلة ، ولما بلغت السادسة عشرة من عمرها ، ملأتها العافية بالجمال الريفي ، الذي لا تصنُّع فيه ولا أصباغ ، فالعينان صافيتان ،كحيلتان ، ولفتات عفوية قليلة ، إذا شملتك تذكرك بالحور العين ، غضيضة الطرف ، بيضاء مشربة بحمرة ، تطفر على خديها حمرة كشقائق النعمان كلما تعرض لها أحد الشباب ولو بالتحية ، ممتلئة بضَّة ، على قد أهيف ، قلت لصاحبي يوماً – وقد مرت كعادتها في زاروبنا – هذه من اللواتي قال فيهن سبحانه : قاصرات الطرف كأنهن بيض مكنون .
          ومضت سنون ، وعرفت أنها تزوجت ، من شاب قميء من بني عمومتها ، ذهبا إلى الكويت ، وعاشا عيشة طبيعية في بيت هو طبقة أرضية مركونة في بناية متوسطة الحال ، وللبيت باحة من بضعة أمتار مربعة وباب حديدي يوصد من الداخل ، فلا يستطيع الدخول إلى هذه الدار إلاَّ العصافير .
          وأنجبت من ديب الذي هو زوجها ، أربعة أولاد ملاح ، ثلاثة منهم أدخلوهم في المدرسة ، أطفال ، وبقي في البيت أصغرهم كالخشف(1) يلهو ويمرح سعيداً ، بين أمه التي أصبحت متعلمة مثقفة ، ملتزمة ببيتها ، معتبرة أن الإهتمام بأسرتها هو عمل تعبُّدي ، وبين أبيه الذي يطل عليه وعلى أمه بين ساعات النهار ، جالباً له الهدايا ويلاعبه لأنه يحبه بشكل مميز .
          كانت سعيـدة بزوجها .. وكان هو عطوفاً عليهاً وعلى أولاده ، فكان ينسيها بذلك دمامته .. وكانت تحبه وكثيراً ما تصرّح بذلك إذا سئلت – ولم لا ، هو ابن عمي ووالد أولادي ، وتاج راسي .
          مرة أرسلت إليها إستاذتها التي كانت تدرِّسها الأدب العربي في الثانوية أنها ستزورها ، وقد أصبحت صديقة لها حميمة بعد زواجها ، وكانت جمانة ساعة الزيارة تسرِّح شعرها ، ورنَّ الجرس ، فهرعت إلى الباب تنظر من ثقبه البلوري ، وما زالت الفرشاة بيدها ، فلما عرفتها ، فتحت وهي فرحانة تكاد تصيح ، لولا أنها تعلم ، أن الصياح لا يليق بالمتأدبات ، وتعانقتا . ولاحظت المعلمـة الصديقة شعر جمانة الكستنائي السبط المتهدِّل ، يزيدها بهاءً ونضارة .. وكانت المعلمة تعرف ديب زوج جمانة ، ولاحظت الفرشاة في يدها ، قالت :
ـ         كنت تسرحين شعرك أمام المرآة ؟!
ـ         نعم والآن إنتهيت ، فألف أهلاً وسهلاً .
ـ         ذكرت حالة في تاريخ الأدب والإجتماع ، شبيهة من بعض جوانبها بحالتك .
ـ         أَسمَعُها ..
ـ         كان الحجاج ابن يوسف الثقفي ، أميراً على العراق من قِبَل الخليفة عبد الملك بن مروان . وكان أهل العراق من الصعوبة والعناد والعداء للسلطان أنهم كلما أتاهم أمير من قبل الخليفة ، ينفِّرونه ويعجِّزونه ، فيذهب إلى الخليفة معتذراً عن حكم هؤلاء القوم . كانوا يرمون أميرهم إذا صعد المنبر ليخطب فيهم ، بالحصى يأتون به ، أو يتناولونه من أرض المسجد . فتأزم من ذلك عبد الملك ، وغضب غضباً شديداً ، وأخذ يسأل وزراءهوخاصته ومستشاريه ، إلى أن هدوه إلى رجل كان معلِّم أولاد في “كتَّاب” يدعى الحجاج بن يوسف الثقفي . فاستدعاه ، فجاءه ، وهو يعلم ما مراده . فطلب الحجاج لذلك ما يريده : جيشاً ومالاً . وإطلاق يد بالتصرف دون محاسبة ، فقال له عبد الملك لك كل ذلك وفوق ذلك ما تطلبه ساعة تشاء ، والبريد بيني وبينك بين الشام والعراق لا يتوقف .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)      الخشف ولد الغزالة .
 
          كان من عادة أي والٍ إذا كلِّف الإمارة في أي بلد ، أن يصل إلى المسجد العام فيها ، فينادى في الناس ، قبيل الصلاة ، فيجتمعون ، فيخطب فيهم ليعرفوه ثم يصلي بهم الجماعة ، ثم ينصرفون بعد التعارف راضين أو ساخطين .
          الحجاج لم يخالف العادة ، دخل المسجد الجامع ، نودي بالناس فاجتمعوا للصلاة وسماع الخطبة ، ولكن هؤلاء العراقيين ، كذلك لم يخالفوا العادة . فقد أتوا ناوين أن يرحِّلوا هذا الأمير كسابقيه .
          جلس الناس وهم مئات . صعد الحجاج المنبر ، وهو متعمم وملثم ، وهم لا يعرفون اسمه ولا نسبه ولا أصله وفصله . فجلس ينظر إليهم ويجيل فيهم بصره ، دون أن يتكلم ، ومضت سويعة ، ولم يتجرأ أحد منهم برفع يده ليرميه بحصاة ، فقد أدخل الهلع في قلوبهم . وعندما تأكد من رعبهم منه ، خلع لثامه ، وقال بيتاً من الشعر لأحد شعراء الجاهلية ، ولكن البيت بعد ذلك إشتهر نسبة للحجاج : قال :
 
                    أنا ابن جلاد طلاع الثنايا  متى أضع العمامة تعرفوني .
          وتابع خطبته الشهيرة ، التي سميت البتراء ، لأنها بدون بسملة(1) ، والتي فيها : “إني أرى الدماء تترقرق بين العمائم واللحى …” وكان قد أمر زبانية(2) له أن يقفوا أمام باب المسجد وأن يضربوا رؤوس بضعة أشخاص من أول الخارجين . ثم أمر الناس بالخروج ، ففعل الزبانية ، فأخذ بقية من كان في المسجد يتعثرون بالرؤوس المقطوعة والدماء المسفوكة .
          وانصاعت العراق لهذا الحجاج ، بضعة أعوام لاقى فيها أهلها الأمرين من كفره وعتوه ، وظلمه وطغيانه . وكان قصيراً دميماً حقوداً ولئيماً . وعلى العكس من هذه الصفات كانت له زوجة تسمى هند ، وهي حفيدة لإبن الملك النعمان . ومن هنا وجه الشبه بينك وبين هند والذي روينا القصة كلها لأجله . ولا تنزعجي مني ، فأنا أعرف دينكِ وأخلاقكِ وتقواك ِ ، فأنتم غير هؤلاء القوم ، ولكن في التاريخ والأدب ، متعة كما ترين وتعرفين ، طبعاً إضافة إلى الفوائد الـجُلَّى والعبر العميقة ، من حيث التفريق بين أهل الحق واهل الباطل ، “اللهم فأرنا الحق حقاً وأتبعناه ، وأرنا الباطل باطلاً وجنبناه ، ولا تجعل الأمر علينا متشابهاً حتى لا نضل فيه” .
          ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)      نسبة إلى الحديث الشريف : كل أمر لا يذكر إسم عليه فهو أبتر أي مقطوع .
(2)      الزبانية في القرآن ملآئكة العذاب .
كانت هند لها دالَّة على الحجاج ، بإعتبار نسبها ، وإحترام أهل الخاصة لها ومنهم الخليفة ، الذي هو ولي أمر الحجاج ، يثبته أو يعزله أو يأمره بما يشاء ساعة يشاء ، وكان الحجاج لا يخاف من أحد إلاَّ من الخليفة عبد الملك ولا يطيع أحداً الطاعة العمياء إلاَّ عبد الملك .
          وكانت هند تحتقر الحجاج لفظاظته وشغفه بسفك الدماء ، دون أية بينة شرعية ، لأنه ثبت في الحقيقة ، أنه كان لا يتقي الله وإنما يتقي فقط الخليفة عبد الملك بن مروان ، فهي كانت تدرك بفطنتها وذكائها الحاد ، أن زوجها رغم كونه أميراً على العراق ، مطاعاً من حاشيته وجيشه ، مرهوب الجانب من عامة الناس ، لم يكن حراً سيداً في نفسه ، ولا عبداً صالحاً لله تعالى ، يأتمر بأمره ويعمل بسنة رسوله محمَّد (ص) ، وإنما كان عبداً ذليلاً لعبد الملك الخليفة الأموي . من هنا كـان يضطهد شيعة علي بن أبي طالب (ع ) إضطهاداً شديداً فقتل أصحاب علي (ع ) صبراً وبدون جريرة ، وبالرغم من أن هند لم تكن شيعية ، إلاَّ أنها تكره الظلم والجور ، والخروج على القوانين والتعاليم الإسلامية التي أنزلها الله تعالى مصالح للبشرية ، ولم يخترعها الناس من عندهم . لذلك .. وقد وصلنا يا جمانة إلى الشاهد من كل هذه الحكاية ..
          جلست هند يوماً أمام المرآة ( وضحكت المعلمة ضحكة هادئة ) كما كنت تفعلين ، فأعجبها حسنها وجمالها ولا سيما جمال شعرها الذي ليس أجمل من شعرك ، وأخذت تقارن بينها وبين هذا الطاغية الفاسق ، زوجها الحجاج ، فاندفعت تقول شعراً ، لم يذكر لنا التاريخ مقدماته وإنما ذكر لنا هذا البيت الذي سمعه الحجاج وذاع صيته ، فقد دخل عليها فجأة وسمعها تقول :
                   وما هند إلاَّ مهرةٌ عربيةٌ               سليلة أفراسٍ تحلَّلها بغلُ
          فضحكت جمانة وهي تقول ، انا أحتج ، لا أقبل ، أنا أرفض المقارنة ، فلا أنا حفيدة الملك النعمان ولا زوجي يمتُّ بصلة إلى ذلك الطاغية ..  يا أستاذتي الحبيبة .. على كل حال أرجو أن تتابعي لأنك أمتـعتيني بهذا التاريخ – السياسي والإجتماعي والأدبي ، يا أحلى أستاذه للأدب العربي ، الذي ما زلت أتنفَّس منه الحكمة والأخلاق العالية التي علمتِنا إياها ، في دروسك .. الشريفة . ثقي بما أقول ، كانت دروسك – مقارنة مع ما كنا نعرف عن غيرك – كانت شريفة وموجهة إلى العفاف والطهارة وتقوى الله .
          تابعي يا أحلى أم وأحلى أخت ، فقد شوقتيني إلى بقية الحكاية .
ـ         هنا يا جمانة ، عندما سمع الحجاج هذا البيت من الشعر ، وصلته الرسالة ، طازجة تصفعه على عينيه وسمعه .. وقلبه ، ولكنه أراد أن يتأكد ، شأن من يرى رؤيا مزعجة جداً ، ويريد أن يتحقق من تأويلها . قال : من تعنين يا هند . فصمتت ولم تجب . ثم ألحَّ بغضب العاجز – لقيمة هند الإجتماعية ولا سيما عند الخليفة – .
 
ـ         قولي يا هند من تعنين بهذا الشعر . أعيديه وعليك الأمان .
 
          فأعادته هند ، دون أن ترتجف ، وكأنها بإعادته أفرغت مخزوناً ضاغطاً من الصبر الطويل والغضب المكبـوت من سفـك زوجها لدماء الأبرار الأخيار من الشيعة وأصناف البشر . قال : ( وقد ملأته رسالتها إليه حتى جمام دماغه ) ومن تعنين بهذا ؟! قالت كمن يلقي عن منكبيه حملاً كبيراً من الهم والغم والشوق إلى الخلاص من هذا الجلف ، هذا الشيطان الذي هو بثياب أمير ، أمير العراق . قالت وهي تعرف سلفاً نتيجة ما ستقول ، قالت : إياك أعني ، وآن لك أن تفهم . قال ، وقد جحظت عيناه واحمر أنفه :
          أنت طالق ..    قالت : الحمد لله .
 
          يا جمانة ، تذكِّرينني بدروس الأدب ، التي كنت – بتوفيق من الله – أقدمها لكم ، فأصارحك بأنني كنت حريصة دائما على أن أخرج من كل درس بنتيجة أخلاقية ، أو روحية ترضي رب العالمين ، وتبني بناءً صالحاً الزهرات اللاتي خلقهن لكي يشربن خمير الماء ، الصافي ، ويتنفسن الهواء الطاهر النظيف ، أنت واحدة مميزة منهن يا جمانة . لذلك هنا لا بد أن أقول عملاً بمنهجيتي المسؤولة أمام الله تعالى ، إن الحجاج ابن يوسف – تلقىَّ من زوجته هند جرعة من الخزيّ الذي خزاه الله به في الدنيا قبل الآخرة ، جزاءً لما كانت تقدم يداه ، وكان هذا الطاغية كجميع الطغاة في تاريخ البشرية ، يعاقب من الله عقوباتٍ شتى ، دون أن يتقي ، أو يرعوي ، أو حتى يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه جبار السماوات والأرض و { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ . إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ . سورة البروج الآيات ( 12 – 13 ) }، واسمعي يا جمانة بقية الحكاية التاريخية وما فيها من الخزي في الحياة الدنيا للظلمة الجبارين ، فإن بقيتها أدعى للإعجاب بلطف الله وإنتقامه ، لطفه بمن يحب ، وإنتقامه ممن يبغض من سفلة عباده . ولا تظني أن عبد الملك بن مروان كان ممن يحبهم الله تعالى ، لأنه كان خليفة وكان الحجاج يعبده ، ولكن تأملي .. فستجدين بإذن الله ، أن له سبحانه في خلقه شؤون ، وهو أسرع الحاسبين .
 
          شاع خبر طلاق هند من الحجاج في العراق ، وطبعاً تناهى إلى الخليفة عبد الملك عبر عيونه(1) الذين في العراق وحاشيته التي معه في الشام . وحين عرف القصة كاملة ، ضحك منشرح الصدر لصفقة رابحة مع هند حفيدة الملك النعمان التي كان معجباً بها، وها هي الآن أصبحت حرة . ولا حرج بالنسبة لصنيعته الحجاج ، فهو يعرف طاعته وخِسَّته . فأرسل إليها بعض وزرائه يخطبها لنفسه ، فوجئت هند بهذا الأمر ، وطلبت من الوفد مهلة لتفكر بأمرها . ووجدت هند ، أنها وهي الصابرة العاقلة ، والتقية الرصينة ، قد أراد الله لها الخلاص من سجنها مع هذا الملأمان ، وأن يرفع درجتها من دار عبدٍ زنيم إلى دار سيده المبسوط اليد والسلطان ، ولكنها وقد وجدت نفسها وقد أصبحت هي سيدة القصر المطاعة مدفوعة بدافع عميق وخفيّ ، لأن تكيد لهذا الرجل ، الوحش ، الدامية أظفاره ، وأن تنتقم لنفسها ولمئات الأبرياء الذين قتلهم الحجاج بدمٍ بارد وجفن لا يرفّ ،
وكذلك مئات آخرين زج بهم في أعماق السجون ، فقط لإشتباهه بعدائهم له . فقررت هند أمراً ضحكت له بينها وبين نفسها عندما أبرمته وقررت مواجهة الوفد به .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)      جواسيسه .
 
          بعد إنتهاء المهلة ، إستدعت هند الجماعة ، وقالت لهم :
          الحقيقة ، إن لي الشرف العظيم ، أن أجيب الخليفة دام حفظه ، وقد قررت ذلك سعيدة راضية ، إلاَّ أن لي شرطاً ، وأعتقد أن لمثلي أن تشترط ، كما أعتقد أن سيدي الخليفة وهو صاحب السلطان ، لا يتردد في إصدار أوامره لتنفيذ رغبتي ، أما شروطي ، فهي كذا وكذا من المال ، وكذا من الجواري ، وكذا وكذا ..  وأهم شرط فيها أن يقود الحجاج بزمام جملي الذي سيكون عليه هودجي (1) . من هنا من العراق وحتى مدخل قصر الخليفة في الشام .
          فخرج الوفد .. . وإلى الشام ، حيث أبلغوا الخليفة عبد الملك . فابتهج لذلك وبدا عليه الإرتياح ، ولا مشكلة مع الحجاج ، فهو عبد من عبيده .. وأصدر عبد الملك أوامره بتنفيذ شروط هند …
          والآن يا عزيزتي عليَّ أن أذهب فإن إبنتي وزوجها بإنتظاري على الغداء في بيتهم ، وقد حان الوقت لذلك . أما بقية الحكاية ، فأتابعها عليك عندما نلتقي قريباً إن شاء الله . قالت جمانة: شرفتِني بزيارتك وملأتِ رأسي بالعبر بحكايتك ، جزاكِ الله خيراً ..
 
          في المساء جاء ديب كعادته ، يحمل ما تيسر من الأغراض التي أوصته عليها جمانة وبعض الفاكهة ، تناولوا طعام العشاء . صلُّوا ، وصلىَّ الأولاد ، ثم جلسوا يدرسون دروسهم تحت إشراف ومساعدة أمهم ، وفي هذه الأثناء كان ديب يلاعب فتاه الصغير، ثم ينام الصغير ، وينام إخوته ، باكراً ، لأن ديب وجمانة على موعد سهرة مع إخوتها وبعض الأقارب .
          قرع الجرس ، ألف أهلاً وسهلاً ، ودخل القوم الأحبة .
          كانت جمانة قد أعدَّت الشاي وما يرافقه من الطيبات ، وجلس الجميع يتسامرون ..
          كانت جمانة كعادتها ، مشرقة ، متهلِّلة ، ولكنها الليلة أكثر إشراقاً وإنشراحاً ، إذ كانت ما زالت تتحرك عندها معاني القصة التي سمعتها من أستاذتها الصديقة. واندفعت تحكي لهم الحكاية . وقد حفظتها بحذافيرها ، وهم يصغون مشدودين للتاريخ وللعبر التي فيه ، وما إن أتت جمانة على آخر القصة ، وأن الخليفة أمر أمير العراق أن يقود بزمام الجمل الذي تقعد عليه في هودجها مطلَّقته التي كانت أغلى الناس على قلبه ، ليقدمها راكعاً ذليلاً مهاناً لسيده الخليفة ، صاحب الكرسي ، الأعلى في ذلك الزمان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)            الهودج خيمة صغيرة تحزم على ظهر الجمل ولها ستائر تجلس وتحتجب بها المرأة الحرة .
 
وَجَمَ القوم قليلاً ، وكان كل واحد منهم يدافع في رأسه الكلام الذي يجول في رؤوس الآخرين ، حتى اندفع أحدهم بغضب مكبوت ، قال : كأنما التاريخ يعيد نفسه ، فالخليفة على أعلى كرسي في العالم هو رئيس أمريكا ، وجميع حكام وأمراء وملوك العالم هم عبيد له ، تماماً كعبودية الحجاج للخليفة عبد الملك ، ولا سيما في بلادنا العربية ، حيث نرى الرئيس أو الملك وحشاً ضارياً تقطر أنيابه وأظفاره من دماء شعبه وقومه ، يملك كل أنواع الذهب الأصفر والأبيض والأسود والجيش الذي يحمي سلطانه فقط ، بينما عدوتهم الحقيقية إسرائيل تحيط بهم من كل جانب تدوس رقابهم ومقدساتهم وتهدم جوانب من أمتهم فوق رؤوس أبنائها ، أطفالاً ونساءً ورجالاً ، ويأمرهم الخليفة في أمريكا بالركوع فيركعون ، ويأمرهم بالسجود لإسرائيل فيسجدون ، ويسلِّط عليهم إمرأة تارةً بيضاء وتارة سوداء ، فتربطهم جميعاً بحبل واحد ، وتقودهم وتسومهم الخسف والهوان …
          قالت جمانة : عفواً .. قصدتُ بهذه الحكاية أن أؤنسكم فانقلبت سبباً للغضب .. الذي يبدو أنه شملنا جميعاً .. قال أحدهم ، وهو أكثرهم خبرة بالقرآن الكريم : كم مرة قلت وأقول ، إن حالة الذلة والمهانة ، بل والجبن والعمى ، والغرق في الملذات من جهة والتبعية العمياء لأمريكا وإسرائيل . كل ذلك هو الخزي الذي ورد في أكثر من آية من القرآن الكريم ، يهدد الله بها وينذر الفسقـة والفجرة من عباده ، ولا سيما القادة المسؤولون عن الرعية ، ومن ذلك مثلاً قوله تعالى : { … لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ . سورة المائدة الآية 41 } وقوله جل وعز : { … فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ . سورة الزمر الآية 26} . لهم خزي في الدنيا وخزي في الآخرة .. وقال آخر أراد أن يختم السهرة : الحديث عن فجورهم وطغيانهم طويل ، ونحن كل مرة نحتقن بمحطة من محطاته ، ومهزلة تغضبنا من مهازلهم . ولعل هذا الغضب الذي يتفشى في الأمة . في طولها وعرضها ، أن ينتج ثورات .. وعسى أن تكون مباركة ، كالثورة الإسلامية في إيران ، التي أطاحت بالطاغية الشاه وبأذناب أمريكا وإسرائيل ، الفاسقين الفجار ، والمجرمين الكبار من أعوانه . والساعة قاربت العاشرة .. وكل واحد منا ملزم بالنهوض باكراً لمزاولة عمله ، وقد قال رسـول الله ( ص ) : خير أمتي في القيام عند الفجر .. نهضوا جميعاً : 
          ـ         في أمــان الله .       ـ     في أمــان الله .
 
          مضت الشهور تترى هادئة .. سعيدة .. في بيت ديب . تضفي عليه مسحات من الجمال والبهجة جمانة ، بتغيير ترتيبه بين الحين والآخر ، ذلك برغم صغر مساحته ، فهو غرفتان فقط مع المطبخ وإنما أُصُصُ نباتٍ مما خلق الله تعالى للزينة ، في الدار على يمين الداخل ويساره ، ومزهرية كبيرة في زاوية ، وصغيرة في أخرى ، وكذا لوحة أنيقة وجذابة على هذا الجدار وذلك . كيفما إلتفت تشعر بالرَّوْح والروحانية  لولا أن إبنتها وقد بلغت الثامنة ، جاءت مرة من زيارة بعض صديقاتها القريبات من المبنى ، وهي متجهمة ناقمة .. ماذا بك يا ليلى ، قالت يا ماما . كل البيوت واسعة فيها غرفة نوم خصوصية للبنت وغرفة للصبيان ، وغرفـة للُعـب وصـالون ، صالة ، كبير و … هوِّني عليك يا حلوتي ، هل تشكين من مرض ؟ – لا ! – هل يشكو أحدنا من أية علة ؟ – لا : هل أبوك وإخوتـك بخير  ؟ نعم ، يا بنتي هذه هي النعم الكبرى التي ينعمها الله على من يحب من عباده ، أما البيوت الكبيرة والقصور الفخمة فكثيراً ما تكون نقمة على ساكنيها ، إذا كانوا منحرفين عن دين الله وعن طاعته .. وأخذت تعطيها أمثلة من الواقع الذي تعرف البنية بعضه . آخ .. يا بنتي لو تعرفين كم يحب الله الرضى بما قسم الله . يا ليلى إسمعي ، أُكتبي هذا على دفترك الذي أهديته لك يوم العيد ، إنتظري يا ماما – جلبت ليلى الدفتر وقلماً – أُكتبي : سُمُّ الخياط مع الأحباب ميدانُ . كتبت .. سم الخياط يعني ثقب الإبرة . يعني مهما كانت الأمكنة ضيِّقة ، فهي مع وجود الأحباب ميادين ، والميدان هو الساحة الكبيرة جداً التي تتسابق عليها الخيول . أُكتبي أيضاً ، وبعد قليل عندما أنتهي من إعداد الطعام أُصحِّح لك الإملاء .. أُكتبي هذا الحديث لرسول الله محمّد ( ص ) تفاءَلوا بالخير تجدوه .. وشرحت لها الحديث .. .
          أُكتبي يا ليلى هذه الآية الجميلة جداً ، والتي هي ربما أصل للحديث الذي قلناه عن رسول الله (ص ) وهي كـلام الله الذي ليس فوقـه كـلام لا في الأرض ولا في السمــاوات : قـال سبحانـه : { فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى . وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى . وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى .  وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى . فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى . سورة الليل الآيات ( 5 – 10 ) } ، وشرحت لها الآية . والآن يا ليلى إقرئي ما كتبتِ . قرأَتْ .. وبصوتٍ عالٍ ، وبسعادة المنتصر ، على الدور والقصور ، وبثقة القانع الراضي بما قسم الله .
 
          أقبل فصل الربيع  وأقبلت معه الدنيا على بيت ديب وجمانة والأطفال ، الذين ما زالوا كفراخ الطير ، الأربعة . وفجأة ، مثل سيارة جميلة كانت تنساب بهم كجدول رقراق صافي المياه ، عذب المذاق ، في طريق مستوية ، تحيط بها الرياحين بألوانها الخلابة ، ويهب عليها النسيم العابق بعطر الزهور ، ينعش من فيها ، فجأة توقفت السيارة ، خربت .. وذهب سائقها ديب .. ولم يعد ..
          ما الحكاية ؟! ..
          مضت ليلة ، ثم أخرى ، ثم .. بضعة عشر يوماً ، لم يأت فيها ديب إلى البيت . وانتشر الخبر ضمن العائلة والأقارب . وأخذوا يتقصَّون عنه ولكن عبثاً .. إلى أن جاءهم الخبر اليقين . هرب ديب من البلاد مع خادمة سيريلانكية …
          هكذا بدأ بلاء مركَّـب متداخل الرمـوز والمعاني ، وأخذ يحط بثقله على كاهل المرأة ، الصبية جمانة .
          وتجلَّت المسؤولية كبيرةً جداً على المرأة التي اعتادت أن تكون ريحانة لا كهرمانة (1) .
         
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)      الكهرمانة : المرأة التي تشرف على الإدارة في القصور السلطانية .
          قال أمير المؤمنين علي (ع ) : المرأة ريحانة لا كهرمانة .
أول مظهر من مظاهر هذا البلاء ، كانت تعتقد بما يتجاوز الإيمان إلى اليقين ، أنه لا تجوز الشكوى إلاَّ إلى الله تعالى ، وأول ما أُبتليت به ، النفقة على البيت ، فهي والأولاد لم يكن لهم مورد رزق إلاَّ الزوج والأب الذي هرب .. من شرف المسؤولية ، وشرف الصحبة لآية من آيات الله .
          كانت ، تضع ما يزيد عن ثمن المشتريات لإعداد الطعام وما شابه ، في حصَّالة صغيرة ، بعلم الزوج .. فتحتها عندما أشرفت المؤونة التي كانت في البيت على النفاد . فوجدت ما فيها يكفي فقط لمؤونة جديدة لأقل من إسبوعين ، فإشترت ما هو ضروري ، وأبقت مبلغاً قليلاً لشراء الخبز اليومي بالضرورة .
          ونفد كل المال . وتبدّى المظهر الثاني من مظاهر البلاء ، الإمتحان . الإمتحان ؟! أخذت تفهم أولاً بأول وعملياً ، أن معنى البلاء الذي كانت تسمع به في الآيات والأحاديث ، هو الإمتحان . فأخذت تحسُّ بعمق ، أنها في معرض إمتحان ، وبدأت تتجلىَّ صعوبته ، عندما تبدّى عنصره الثاني ، وهو أنها كذلك تعتقد أن من يسأل غير الله أو يطلب من غير الله مالاً أو رزقاً ، فهو يدخل في الشِّرك . وهي تحفظ آية تعتبرها من أخوف الآيات وأكثرها تعليماً في القرآن الكريم ، قوله تعالى : { إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء … .سورة النساء الآية 48 } وكذلك آية أخرى قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ . سورة لقمان الآية 13 } .
          وكانت سمعت كذلك من أحد أولياء الله الصالحين ، أن من يطلب من غير الله شأنه كشأن المتسوِّل الشحاذ . ولو كان سبحانه قد أمر بالصبر على الشحاذين وعدم إيذائهم : { وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ . سورة الضحى الآية 10 } ، لحكمة شرحها يطول . فجمانة كانت قد قررت من زمان أن لا تكون شحادة . وتذكرت كلاماً عن رسول الله محمّد ( ص ) أنه أتاه جبرائيل عليه السلام بمفاتيح كنوز الأرض على بغلة شهباء ، وقال له : يا رسـول الله هذه مفاتيح كنوز الأرض ، هي لك ، خذها ولن ينقص من حظك عند الله شيئاً . فقال محمّد ( ص ) الذي هو بشر : لا يا أخي يا جبرائيل ، لا حاجة لي بها ، وإنما إذا جعت أسأل الله وإذا شبعت أحمده . وكذلك سمعت منه حديثاً كتبته في مفكرتها ، وقال الشيخ إنه متفق عليه : ” من كان آمناً في سربه ، معافى في بدنه ، وعنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ” .
          فما لها هي أصابها الهلع ، من انقطاع رزق الله وجوع الأطفال وجوعها ؟! كلا ، فالله سميع والله قريب ، والله أعلم بحاجتها ، كلا ! لن تسأل مخلوقاً حتى ولو جبرائيل . وهي قد تذكرت إبراهيم عليه السلام مع عظيم الملائكة جبرائيل .
          حين وضع فرعون البلاد ، إبراهيم في المنجنيق ، بعد أن أشعل له ناراً قال إنها جهنم التي بها يعذب المارقين عن سلطانه ، وضعه في المنجنيق وأمر زبانيته أن يرموه فيها ليشهد إحتراقه ويكون عبره لمن يدعو إلى الله أو إلى إلـٰه غيره حسب زعمه .
          وأخذ ينظر إبراهيـم ( ع ) إلى النار وهي تتلظى بلهيبها ووهجها يلفح وجهه رغم بعدها عنه . ونزل عليه جبرائيل : قل ما تريد مني ؟ وإبراهيم يعلم أن الملاك العظيم يستطيع لو طلب منه أن يطير به في الأجواء إلى أرض فيها السلامة ، أو يستطيع أن يطفىء هذه النار بضربة من جناحه ، أو يستطيع أن يهدم الفسطاط الذي يجلس فيه فرعون على فرعون ومن معه . ولكن إبراهيم ، وبإحساس عميق في عقله وقلبه ، أنِف أن يطلب حتى من جبرائيل ، أنِف أن يطلب من غير ربه سبحانه ، وأحس أنه لو داخـله الرعب أو هول النار وهو يعلم أن ربه الله معه ، يراه ، لسقط من إيمانه العظيم بالله ومن يقينه ، ولدخل بأدهى أنواع الشرك : الشرك الخفي . فكيف إذا طلب من غير الله الغوث أو النجدة ؟! كل هذه الحسابات مرت في باله في لحظة – وقد أكَّد العلم أن ذلك يحصل في مواجهة الخطر الداهم المنذر بالقتل أو الموت – فقال إبراهيم لجبرائيل ، : ليس منك : قال ممن إذاً تريد ؟ قال : من الله . قال إذاً قل ، تكلم ، ادعه واذكر ما تريد منه سبحانـه ، قال . لا ، هو أعلم بحالي غنيٌّ عن سؤالي . وهنا حُسِمَ الأمـر كله ، والله عزت عزته ، طبعاً يبصر ويسمع ، وهو السميع البصير . فكانت الآية التاريخية : { … يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ . سورة الأنبياء الآية 69 } . قيل إن جميع أنواع النار يومها تعطَّلت في أنحاء الأرض وتوقفت عن الإحراق ، كرامة لإبراهيم ، وقوة توحيده ، وقوة يقينه بربه جل جلاله . حتى إذا نجا إبراهيم أعاد الله تعالى قوة الإحراق في نيران الدنيا كلها .
          ظلت جمانة تستذكر هذه المعاني ، تستحضرها على مدار الساعة تقريباً ، وخصوصاً عندما تنبهت إلى أمر هو من العجب العجاب : إنَّ بعض أشقائها وبعض أقاربها هم من الميسورين والأجواد حتى على الغرباء ، فكيف هم لم يذكروها ويذكروا محنتها النافرة التي هي فيها . وهم الذين بحثوا عن ديب وأخبروها مراراً أنهم لم يجدوا له أثراً ، وهم يحبونها ويغارون عليها ويحبون أولادها . فكأن أحداً طمس ذاكرتهم وأغلق عنها عيونهم ..
          بلى، بلغت حدَّ اليقين ، في أن الله عز وجل هو يبتليها بهذا الإمتحان .. الصعب .. ولكن إلى متى ؟!
 
          أتظل مصرِّة على مبادئها واعتقادها بهذه الحقائق الكبرى عن الله تعالى ، وأنه السميع البصير ، وأنه بكل شيء محيط ، وأنه بكل شيء عليم . وأنه لا يغفر أن يشرك به ، وأنه يحب الموحدين ويبشر الصابرين ، ويحب المتقين ، وفجأة .. كأنما وقفت على باب الفرج . فقد تذكرت مع كلمة المتقين ، قوله هو سبحانه : { … وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ … .سورة الطلاق الآيات ( 2- 3 ) } .
          يا ربي يا ألله ، يا ربنا يا الله ، آمنت وأيقنت وإني لصابرة حتى إذا مت أنا جوعاً . ولكن يا أرحم الراحمين ، ويا أكرم الأكرمين ، ألا أتحمل مسؤولية أن يجوع أطفالي ، وأنت تعلم ، أني ثابتة لن أغير موقفي ولن أسأل أحداً غيرك ، ولن ألجأ إلى أحدٍ سواك . وإني كذلك لأستحي من صاحب ( السوبر ماركت ) أن أستدين منه ربطة الخبز . ووجدت نفسها تبكي إلى جانب صغيرها ، بدموع غزيرة ، وتردِّد : شكواي إليك يا من لا تأخذه سنة ولا نوم ، ففرِّج عنا يا من بيده الخير وهو على كل شيء قدير ، فأنت حسبي ، فاكفني ، يا ربي وأنت قلت في كتابك الكريم ، تعاتب الذين لا يثقون بك ويعتمدون على غيرك قلت لهم : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ … . سورة الزمر الآية 36 } وغلبها على إرهاقها النوم . ربما ساعة أو ساعتين قبل آذان الفجر .
          وقامت إلى الصـلاة ، وما زال في صـدرها شيء ما زالت تتعهده دائماً بالصلاة ، الثقة بالله والحب لله ، وما سمحت لنفسها أبداً أن تعتب عليه سبحانه ولا أن تعاتبه .
          نهضت عن مصلاها ، وتفقدت الأولاد وأغطيتهم ، ثم وجدت كأنما يدفعها في داخلها دافع غير عادي لتخرج وتروِّح عن نفسها في الدار ، فتستروح بنسمات أواخر الربيع ، وترتاح من هذا الضيق الذي أضعفها وصيَّرها نحيلة الجسم بعد تلك النضارة والعافية ، وفتحت الباب المؤدي إلى الدار ، ففوجئت بوجود صناديق كبيرة وأكياس وأشياء كأنما هي بضاعة تاجر جملة ، وأخذها العجب ، وظنت أن أحداً فتح باب الدار الخارجي الذي أوصدته بيدها قبل أن تنام . وتقدمت لتتفقده فوجدته ما زال مقفلاً ، ورجعت تتفقد ما كان قد ملأ الدار وملأ نفسها بالدهشة ، فعثرت قدمها بشيء كأنما هو حجر ، ومن أين الحجارة في الدار النظيفة ، فانحنت لترى ما هو ، فإذا هو مثل أنبوب من مخمل بطول أكثر من شبر ونصف ، فتناولته تتفحَّصه ، وأخذ قلبها يخفق بسرعة ، وفتحته فإذا ملؤه ذهباً … ليرات ذهب مصفوفة فوق بعضها .. ثلاثون .. أربعون ؟!
          هذه العملة ، الدنانير الذهبية ، نادراً ما يتداولها الناس أو يتعاملون بها ، هل انشقت الأرض وأطلعتها ، أم من السماء أُنزلت ؟ ثم أخذت تفتح الصناديق ، لتجد ما هو ضروري وما هو غير ضروري من الكماليات ، حتى اللُّعب للأطفال ، حتى السكاكر التي يحبونها .. ودخلت إلى البيت وهي ترتجف قليلاً .. وتوجهت إلى مصلاها الذي ما زال مبسوطاً على الأرض ، وخرَّت عليه ساجدة . شكراً يا حبيبنا يا ألله ، شكراً يا خير الرازقين ، ويا أجود الأجودين ، ولا قياس . وانهمرت عيناها بالدموع حتى بللت مصلاها .
          ثم قامت وأنهضت الأولاد .. جميعاً .. لكي يتعاملوا مع هذه البضائع كما يشتهون . وهي تعلِّمهم بين الحين والحين ، أثنـاء مساعدتهـا في نقل الثقيـل من الموجـودات ، كيف يشكرون الله ، وكيف ينبغي أن يحبوه ويملأوا قلوبهم بحبه ، ويثبتوا على دينه وتعاليمه ، وحده لا شريك له .